المدينة

المطران جورج خضر

 

في العصور الوسطى، وما قبلها، المدينة هي ذلك التجمّع المدني المحصّن. في لبنان وجواره المدينة أوسع من القرية وهو تصنيف يختلف بين بلد وبلد. في طفولتي كنا نقول مدن لبنان: بيروت، طرابلس، صيدا، وزحلة. اليوم اتسعت القرى كثيرًا والفرق بين المدينة والقرية تابع لرؤيتك المساحة. فإذا لازمنا المفهوم القديم للمدينة فيحيط بها السور المحصن وبالسور تغلق المدينة. والسور ذو أبواب فتقول باب ادريس في بيروت مثلاً، وباب الرمل، وباب التبانة في طرابلس؛ والمدينة داخل هذه الأبواب. أما وقد اندثر كل هذا، ولم يبقَ من حصن، فلا تعريف حقيقيّا للمدينة إلا الاتساع ووظائف الأسواق. وموضوع تنوع الأسواق استخرجه ماسينيون في كتابته عن المدينة الإسلامية.

لماذا عندك سوق لمهنة واحدة (سوق الصاغة، سوق النحاسين، سوق النجارين) وما إليها؟ لأن السوق لا تقوم على التنافس ولكن على التعاون. روُي لي أنك إذا قصدت محلاً في سوق معيّنة في زحلة قد يقول لك صاحب المحل: اذهب إلى جاري الذي لم يبع اليوم وأنا قد بعت ما فيه الكفاية. التجارة نفسها، إذًا، ليست للربح المفرط ولكن للعيش الكريم مع الزملاء. وقد يُبنى هذا التعاون كثيرًا على النسابة. كنت ترى، مثلاً، في طرابلس، في الثلاثينات، مجموعات أقرباء في سوق الصاغة، ومن الطبيعي ألا يكون بينهم تنافس إلا على مستوى الجمال. وفرة المال لم تكن هي الغاية بل الحذق في المهنة.

المدينة لم تكن فقط مجموعة مهنيين ولكن مجموعة محال وبيوت. فترى العائلة فوق الدكان أو المخزن، فيعمل الرجل في الطابق الأرضي وعائلته فوقه، أي في رعايته. في طور آخر انفصل المسكن عن مكان العمل. ترى هذا أيضًا، أو كنت تراه، في القرى اللبنانية.

الأصل في الاجتماع تنوّع المهن في الأسواق، وتكامل المهن من أجل حياة واحدة تؤمنها المدينة. فلا تجد في المدينة كما في القرية دكان عطار يبيع ورقًا وخيوطًا ومسامير. المهنة الواحدة في مكان واحد هي ما يميّز المدينة عن القرية. والمهن تباعد بين الناس من حيث المعرفة والاختصاص وتقرّب بينهم بسبب من التكامل. فعندك إذًا تفرّد المهن وتوافق بسبب من التفرّد. التكامل والتعدد يضعفان الحزازات والروحية القبلية. ليس لأن المدينة خالية من روحية العشائر، لكن العشائرية فيها قائمة على الافتراق بسبب من تباين الثروات والتباعد بين العائلات الثرية.

* * *

المدينة هي، إذًا، التجمّع الأكمل والمتكامل. وليس خلاف ملحوظ بين العائلات إذ الناس يتعاطون حياة اقتصادية مختلفة، وليس من تناقض في العيش بين الحداد والتاجر أو بين المحامي والطبيب. والتصادم نشأ في العالم كله بين الجماعات الدينية، وضعف كثيرًا حيث التشريع ينص على فصل المؤسسات الدينية عن الدولة. وبنوع أخص، منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى اليوم، في أوروبا نشأ صراع العقائديات السياسية التي اخترقت وحدة المدينة، فلم يبقَ لها استقلال، إذ باتت بسبب الأحزاب جزءًا من البلد. السياسة الايديولوجية بعد الثورة الفرنسية، وحيثما حلت فلسفتها، خلقت اليمين واليسار والوسط، وصرت أنت أقرب إلى فئة من خارج مدينتك، أو واحدًا معها. وبات أهل المدينة تراكم أجساد، ولم تبقَ جماعات تتلاقى في العيش الواحد الهنيء. ولما ضربت العقائديات السياسية وحدة المدينة ووحدة البلد، وعى الناس أن هذا الاختلاف حاصل وحي، وأنه ينبغي خلق نظام يجعل القوم لا يتذابحون ولو اختلفوا، وهذا ما سموه الديموقراطية.

ومع الديموقراطية في أوروبا، ومع التكامل الاقتصادي بين المدن نشأت البلدان. ففي الماضي السحيق لم يكن بلد يسمى فينيقيا بل كانت صور وصيدا وبيروت وجبيل والبترون وإرواد وأوغاريت كلها تتصارع وكل مدينة يحكمها ملك والمصريون يحكمون الكل والاحتلال جعل رؤية واحدة لهذه المجموعة. ودلتنا حفريات تل العمارنة في مصر على التصادم بين هؤلاء الملوك الصغار، وذلك في القرن الخامس عشر قبل الميلاد. والبلدان الأخرى تجمّعت كذلك فخلق بسمارك ألمانيا سنة الـ1870، ونشأت فرنسا بامتداد سيد باريس وضواحيها، وكان لا بد من خنق اللغات القومية، وهي لم تكن لهجات من الفرنسية. ولكن في الأصل كانت المدينة. وخارجًا عنها كانت الوحوش، ولذلك كانت تُغلق البوابات في الليالي، وكان البرابرة ولذلك كانت الحصون التي تحمي أهل المدينة.

ويعرف أهل الداخل، إذا كانوا متعددي الدين، أن كل جماعة تستلهم إلهها أو دينها لتبني المدينة بالعيش الواحد، لأن العيش يقتضي انتاج الخبز والأطعمة الأخرى والكساء والمسكن. وهذا لا بد له من تعاون. وأن الله لازم لهذه الحياة الواحدة، وما كان يخطر على بال أحد أن لا إله. تسمي إلهك كما شئت، وتنعته بما شئت، ولكن تستنزله على الأرض لتسالم الجماعة الأخرى، والسلام كان هو القصد.

ببركات هذا السلام اكتشف الإنسان فوق مدينته مدينة أخرى ينزل عليها نور الله. هكذا رأيت غير حاج مسلم يتوب ويجدّد علاقته بالله. كيف وصل إلى العمق؟ أنا الذي ما كان مأخوذًا بالحج عند المسيحيين زرت القدس للمرة الأولى السنة الـ1947 أي في آخر سنة للانتداب البريطاني، ولما رأيتها من بعيد صلبت وجهي. وعندما ادركتها جثوت على الأرض وقبّلت ترابها. لا اذكر إذا كان ما اختلج في قلبي أن المسيح مشى على هذه الطرقات ولم يكن لي سبيل لتقبيل قدميه إلا هذا السبيل. وكنت أعرف أن العهد الجديد تكلّم على أورشليم السماوية النازلة من عند الله في اليوم الأخير. ولم أفهم حتى اليوم لماذا لا يسمعنا أحد في الغرب عندما نقول، مسيحيين ومسلمين معًا، إننا نريد أن يسكن بعضنا قرب المسجد الأقصى، وبعض إلى كنيسة القيامة، وإن الله يسري بعبده ليلا - أنّى سكن - من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. ولعل الله يقود، روحيًا، بعضاً منا إلى كنيسة القيامة لنذوق آلام المخلص.

* * *

كل شيء في هذا السياق عمارة. الإنسان مدينة فيه من أبنية روحية إذا لم تدمّره خطيئة، وإذا اقتبل زرع الله فيه. وهو مدينة حسبما ينتسب لأن فيه حصنًا يطرد الوحوش والبرابرة ويعرف - إذا تحضّر - أنه يحب الإخوة إذ يتكامل وإياهم لإقامة إنسان جديد يرتقي بالتواضع والتقوى إلى وجه الله.

وعليك - إن كنت من الفاهمين - أن تأخذ الحجارة المبعثرة التي فيك وتبنيها صرحًا جميلاً، وإذا بكل الناس قصور. البهاء الروحي وحده يجعلنا جماعة، أي مدينة تنتظر القيامة من بين الأموات، ليس فقط في اليوم الأخير ولكن كل يوم إذا أحبّت. والغالبون الموت لا يطردون أحدًا من المدينة لأن أحدًا إذا أخرج منها تموت المدينة بعدم الحب.

هل يصير لبناننا مدينة الله، أي هل يصير موطن العطاء الكبير؟ هذا سيتمّ إن نحن أردناه. ماذا يفعل الإنسان لو ربح وجاهة في الدنيا وخسر مدينته في قلبه؟ هل الذين منّ عليهم ربهم بهذه النزعة يتواثقون حتى لا يُقصى أحد من نعمة العطاء؟ هل تصبح المدينة أو الوطن مسكنًا لله في كل من توطن؟ تعالوا نبني مدينة الله اليوم وهنا. هذا شرط دخولنا إلى السماء.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود