التجذُّر 3
سيمون ڤـايل
قتلَ
الرومانُ أرخميدسَ. بعد ذلك بقليل قتلوا اليونانَ، كما كان
الألمانُ سيقتلون فرنسا لولا إنكلترا. لقد اختفى العلْم
اليونانيُّ اختفاءً كاملاً. ولم يبقَ منه شيءٌ في الحضارة
الرومانية. وإذا انتقلَت منه الذكرى إلى القرون الوسطى فكان
ذلك مع الفكرة المسماة غنوصية [عرفانية] في أوساط تعتمد
المسارَرة [التنسيب]. وحتى في هذه الحالة، يبدو أنه كان هناك
فقط حفْظ وليس استمرارية خلاَّقة: ربما باستثناء ما يتعلق
بالخيمياء الذي نعرِف عنه القليلَ القليل.
مهما كان من أمر، في المجال العام، لم يُبعَثِ العلْمُ
اليوناني إلاَّ في بداية القرن السادس عشر (إلاَّ إذا كان هناك
خطأ في التاريخ)، في إيطاليا وفرنسا. وحقَّق بسرعة كبيرة
انطلاقةً مذهلةً فاجتاح الحياةَ كلَّها في أوروبا. اليوم تحمل
جميعُ أفكارنا تقريبًا وعاداتنا وردودِ أفعالنا وتصرُّفاتنا
جميعًا علامةً تطبعها روحُ هذا العلْم أو تطبيقاته.
هذا صحيح بصورة خاصة في نظر المفكرين، حتى وإن لم يكونوا ما
نسميهم "عِلْميين"، وصحيح أكثر أيضًا في نظر العمال الذين
يقضون كلَّ حياتهم في عالَم اصطناعي مؤلف من تطبيقات العلْم.
لكن هذا العلْم، كما في بعض الحكايا، الذي استيقظ بعد سُبات
دام حوالي ألفَي سنة لم يعدْ هو نفسَه. لقد غيروه. فأصبحَ
شيئًا آخر، يتعارض تعارضًا مطلقًا مع أية روح دينية.
لذلك فإن الدين اليوم هو شيء خاص بصباح يوم الأحد. وتسيطر على
باقي الأسبوع روحُ العلْم.
إن غيرَ المؤْمنين الذين يخضعون لروح العلْم طيلةَ أسبوعهم
يشعرون شعورَ انتصارٍ باتِّحاد داخلي. لكنهم مخطئون، لأن
أخلاقهم ليست أقلَّ تعارضًا مع العلْم من دين الآخرين. وقد رأى
هتلرُ ذلك بوضوح. وأراه أيضًا لكثير من الناس، أينما كان وجود
المخابرات
S. S.
أو تهديدهم محسوسًا، وحتى أبعدَ من ذلك. اليومَ قلَّما يكون
هناك إلاَّ الانضمامُ بدون تحفُّظ إلى نظام شمولي أسمر أو أحمر
أو غير ذلك يمكنه أن يعطيَ إن صحَّ القولُ وهمًا متينًا
باتِّحاد داخلي. ولذلك فهو يشكِّل إغواءً قويًا للنفوس
الحائرة.
عند المسيحيين، يقوم التعارضُ المطلق بين روح الدين وروح
العلْم اللتَين لكلٍّ منهما جماعتُها بخَلْق اضطراب صامت وغير
معترَف به في داخل النفس باستمرار. يمكن أن يكون غيرَ محسوس
تقريبًا؛ ويكون بحسب الحالة محسوسًا بدرجة ما؛ ويكاد طبعًا
يكون دائمًا غير معترَف به. فيعيق التماسكَ الداخليَّ.
ويَحُوْلُ دون أنْ تتشرَّبَ جميعُ الأفكار بالنور المسيحي.
وبنتيجة غير مباشرة لحضوره المستمر، يحمل المسيحيون الأكثر
تحمسًا في كل ساعة من حياتهم أحكامًا وآراءً يُطبَّق فيها على
غير علْم منهم معاييرُ تتعارض مع روح المسيحية. لكنَّ النتيجة
الأكثر شؤمًا لهذا الاضطراب هي أن تجعلَ من المستحيل أن
تمارَسَ فضيلةُ النزاهة الفكرية في تمامها.
إن الظاهرة الحديثة المتمثلة بعدم تديُّن الشعب تفسَّر كلُّها
تقريبًا بالتعارض بين العلْم والدين. لقد تطوَّرَت عندما بدأوا
بوضع سكان المدن في عالَم مصطنَع، مما أدى إلى تحديد العلْم.
فما عجَّلَ في التحول في روسيا هو دعاية كانت ترتكز، لكي
تقتلعَ الإيمانَ، على روح العلْم والتقنية ارتكازًا شبه كامل.
وبعد أن أصبحَ سكانُ المدن لادينيين، لحِقَهم في ذلك سكانُ
الأرياف في كل مكان والذين جعلَتْهم عقدةُ النقص لديهم تجاه
المدن قابلين للتأثر، على الرغم من أن ذلك كان بدرجة صغيرة.
حتى بسبب هَجْر الناس للكنائس ولهذا السبب نفسه وُضِعَ الدينُ
أوتوماتيكيًا على اليمين، أصبحَ شيئًا برجوازيًا، شيئًا خاصًا
بتقليديي التفكير. لأن الدين المُـمَـأْسَسَ مجبَرٌ في الواقع
على الاعتماد على الذين يذهبون إلى الكنيسة. فلا يمكن أن يعتمد
على الذين يبقون خارجها. لا شك في أن خنوع رجال الدين للسلطات
الزمنية منذ ما قبل هذا الهجر جعلَهم يرتكبون أخطاءً جسيمة.
لكنْ لولا هذا الهجرُ لكانت قابلةً للإصلاح. وإذا كانت هذه
الأخطاءُ قد أدَّت إلى هذا الهجران بنسبةٍ ما فإن هذه النسبة
ضئيلة جدًا. إنما العلْم وحدَه تقريبًا أفرغَ الكنائسَ.
وإذا كان التأثيرُ السلبي للعلْم على إيمان جزء من البرجوازية
وتقواها أقلَّ منه على الطبقة العاملة فذلك لأن احتكاكَ
البرجوازية بتطبيقات العلْم أقلُّ ديمومة وأقل حسية. ولكنَّ
السبب بصورة خاصة يعود إلى أنه لم يكن لديها إيمان. فمن لا
إيمانَ له لا يفقد الإيمانَ. كانت ممارسةُ الدين في نظرها
نوعًا من المراعاة باستثناء بعض الحالات. والتصور العلمي
للعالَم لا يمنع من مراعاة آداب السلوك.
وهكذا كانت المسيحيةُ في الواقع، باستثناء بعض مراكز النور،
منسجمةً مع مصالح الذين يستغلُّون الشعب.
فمن غير المدهش إذًا أن تُساهِمَ باختصارٍ مساهمةً ضعيفة جدًا
في الوقت الحاضر في الصراع ضد الشكل الحالي للشر.
فضلاً عن أن الحياة الدينية، حتى في الأوساط والقلوب التي تكون
فيها هذه الحياةُ صادقةً وقويةً، تمتلك في الأعمِّ الأغلب وحتى
في مركزها مبدأَ دناسة من جَرَّاء نقصٍ في روح الحقيقة. يعطي
وجودُ العلْم المسيحيين شعورًا بالذنب. فالقليلون منهم يجرؤون
على التيقُّن من أنَّ العقيدة المسيحية ستبدو لهم كأنها
الحقيقة تمامًا وبكل وضوح إذا ما انطلقوا من الصفر ونظروا في
جميع المشاكل بدون أي تفضيل وبروح متفحِّصة وحيادية تمامًا.
من المفروض أن يُضعِفَ هذا التشكيكُ روابطَهم بالدين؛ لكنَّ
الأمر ليس كذلك، وما يمنع من أن يكون الأمرُ كذلك هو أن الحياة
الدينية تقدِّم لهم شيئًا يحتاجون إليه. فهم يشعرون شعورًا
غامضًا إلى حد ما بأنهم هم أنفسهم متعلِّقون بالدين عن حاجة.
إلاَّ أن الحاجة ليست رابطةً شرعية للإنسان بالله. وكما يقول
أفلاطونُ، هناك بَوْنٌ شاسع بين طبيعة الحاجة وطبيعة الخير.
يقدِّم اللهُ نفسَه للإنسان بلا مقابل ويزيد، لكنْ على الإنسان
ألاَّ يرغبَ في التلقِّي. عليه أن يقدِّمَ نفسَه بالكامل وبدون
شرط ولسبب واحد هو يقينه بأنه سيميِّزُ الحقيقةَ عند رجوعه إلى
الله بعد أن يكون قد تاه من وهْمٍ إلى وهْم في بحث متواصل عن
الخير.
لقد ارتكب دوستويـﭭسكي
Dostoïevski
أشنعَ تجديف عندما قال: "إذا لم يكن المسيحُ هو الحق
فأُفَضِّـلُ أن أكونَ مع المسيح خارجَ الحق." والمسيحُ قد قال:
"أنا الحق." وقال أيضًا إنه خبزٌ وشراب؛ لكنه قال: "أنا الخبزُ
الحق والشرابُ الحق"، أيْ: الخبز الذي هو حق وحدَه، والشراب
الذي هو حق وحدَه. يجب أولاً الرغبة فيه بما هو الحق، ثم بما
هو غِذاء فقط.
لا بد أن نكون قد نسيْنا تمامًا هذه الأشياءَ، لأننا وصلنا إلى
اعتبار بيرغسون
Bergson
مسيحيًا؛ وهو الذي كان يظن أنه رأى في طاقة الصوفيين الشكلَ
المكتملَ لاندفاعة الحياة هذه والتي جعلَ منها صنمًا. في حين
أن المعجزة في حالة الصوفيين والقديسين ليست في أنهم يمتلكون
حياةً أكثرَ، حياةً أقوى من الآخرين، بل في أن الحقيقة فيهم
أصبحَتْ حياةً. في هذا العالَم، ليست الحياةُ ولا اندفاعةُ
الحياة الغالية على بيرغسون سوى كذب، والموت وحده هو الحقيقي.
لأن الحياة تجبِر على الاعتقاد بما نحتاج إلى الاعتقاد به من
أجل أن نعيشَ؛ وجعلْنا من هذا الإجبار مذْهبًا تحت اسم
الذرائعية [الـﭙـراغماتية]؛ كانت فلسفةُ بيرغسون شكلاً من
أشكال الـﭙراغماتية. لكنَّ الأشخاصَ الذين اجتازوا داخليًا
حدًا يعادل الموتَ على الرغم من اللحم والدم يتلقَّون من
الناحية الأخرى حياةً أخرى ليست بالدرجة الأولى حياةً، بل هي
بالدرجة الأولى حقيقةٌ. حقيقةٌ أصبحَت حيةً. حقيقيةٌ كالموت
وحيةٌ كالحياة. حياةٌ بيضاء كالثلج وحمراء كالدم كما تقول
حكايات غْريم
Grimm.
إنها هي نفحة الحقيقة، الروح الإلهية.
لقد ارتكبَ باسكالُ أساسًا جريمةَ الإخلال بالنزاهة أثناء
البحث عن الله. وعلى الرغم من الذكاء الذي كوَّنَتْه ممارسةُ
العلْم لديه، لم يجرؤْ على الأمل في أن هذا الذكاء سيقرُّ
بوجود يقين في العقيدة المسيحية عندما يَترِك له حريتَه في
اللعب. كما أنه لم يجرؤْ على المخاطرة بوجوب الاستغناء عن
المسيحية. فشرعَ ببحث فكري مقرِّرًا سلفًا إلى أين يجب أن
يصِلَ به البحثُ. ولتجنُّبِ كلِّ مخاطرة في بلوغ مكان آخر،
أخضعَ نفسَه لنصيحة واعية كان قد أرادها. وبعدَها بحثَ عن
براهينَ. فلمحَ أشياءً قويةً جدًا في مجال الاحتمالات
والإشارات. أما بالنسبة للبراهين بالمعنى الحقيقي لكلمة براهين
فإنه لم يحتجَّ سوى ببراهينَ ضعيفة، بُرْهان الرِّهان،
النبوءات، المعجزات. الخطر بالنسبة له هو أنه لم يبلغِ اليقينَ
قط. لم يحصلْ أبدًا على الإيمان، وذلك لأنه كان قد سعى إلى
الحصول عليه.
إن معظم الذين يذهبون إلى المسيحية، أو الذين يتعلَّقون بها
بحركة صادقة فعلاً ومتحمسة لكونهم وُلِدوا فيها ولم يتركوها
قط، تدفعهم إلى ذلك ومن ثم تبقيهم فيها حاجةُ القلب. فلا
يستطيعون الاستغناءَ عن الدين. أو على الأقل لا يستطيعون
الاستغناءَ عنه بدون أن ينتجَ عن ذلك نوعٌ من الانحطاط لديهم.
إلاَّ أنه لكي ينبثقَ الشعورُ الديني من روح الحقيقة يجب على
المرء أن يكون مستعدًا تمامًا للتخلِّي عن دينه، وهكذا يجب
عليه لذلك أن يفقدَ كلَّ سبب للعيش إذا كان سببًا آخرَ غير
الحقيقة. في هذا الاستعداد الذهني فقط يمكن التمييزُ فيما إذا
كان هناك في الدين حقيقة. وإلاَّ لن يجرؤَ المرءُ حتى على طرح
المشكلة بحرفيتها.
يجب ألاَّ يكونَ اللهُ بالنسبة للقلب البشري سببًا للعيش كما
يكون الكنزُ بالنسبة للبخيل. كان هَرْﭙـاغون
Harpagon
وغرانديه
Grandet
يُحِبَّانِ كنزهما؛ ولا بد أنهما قُتِلا من أجله؛ لا بد أنهما
ماتا هَمَّـًا وغمَّـًا بسببه؛ ولا بد أنهما قدَّما أروعَ
آياتِ الشجاعة والنشاط له. يمكن للمرء أن يحبَّ اللهَ بهذا
الشكل. لكنْ لا ينبغي ذلك. أو بالأحرى يجوز فقط لجزء معيَّن من
النفس أنْ يقومَ بهذا النوع من الحب، لأن هذا الجزء غير قادر
على أي حب آخر، لكن هذا الجزءَ يجب أن يبقى خاضعًا ومتروكًا
للجزء من النفس الذي له قيمة أكثر.
يمكن التأكيد بدون خوف من المبالغة أن روح الحقيقة اليومَ شبهُ
غائبة من الحياة الدينية.
يلاحَظ ذلك من خلال طبيعة البراهين المقدَّمة للدفاع عن
المسيحية كما يلاحَظ في أمور أخرى. فالعديد منها كان من قبيل
الدعاية لأقراص ﭙـِينك
Pink.
وهذه هي الحالة بالنسبة لبرغسون ولكل ما يُستلهَم منه. فعند
بيرغسون يَظهَر الإيمانُ كقرص ﭙـِينك من النوع الراقي الذي
ينقل درجةً مدْهشةً من الحيوية. كذلك الأمر في الأدلة
التاريخية. فهي تقوم على القول: "انظروا كيف كان البشرُ رديئين
قبل المسيح. وانظروا بعدما جاء المسيحُ كيف أن البشر بالمجمل
وعلى الرغم من جوانب الضعف صاروا شيئًا حسنًا!" إن ذلك مخالف
تمامًا للحقيقة. لكنه حتى لو كان ذلك صحيحًا فإنه سيَرُدُّ
الدفاعَ عن الدين إلى مستوى الإعلانات عن المستحضرات الطبية
التي تصف المريضَ قبل استخدامها وبعده. هذا يعني قياسَ فعالية
آلام المسيح التي لا بد أن تكون لانهائيةً، إذا لم تكن
خياليةً، قياسَها بنتيجةٍ تاريخية زمنية بشرية لا بد أن تكون
بالضرورة محدودةً حتى وإن كانت حقيقيةً، وهي ليست كذلك.
لقد اجتاحت البراغماتيةُ المفهومَ نفسَه للإيمان ودنَّسَتْه.
وإذا كانت روحُ الحقيقة شِبْهَ غائبةٍ من الحياة الدينية
فسيكون من الغريب أن تكون حاضرةً في الحياة الدنيوية. سيكون
ذلك قلبًا للتراتبية الأزلية. لكنَّ الأمر ليس على هذا النحو.
يطلب العلماءُ من الناس أن يمنحوا العلْمَ هذا الاحترامَ
الديني الواجبَ منْحَه للحقيقة ويُصَدِّقُهم الناسُ. لكنهم
يُخدَعون. فالعلْم ليس ثمرةَ روح الحقيقة وهذا واضح بمجرَّد
الانتباه له.
لأن جهد البحث العلمي، كما كان مفهومًا منذ القرن السادس عشر
وحتى أيامنا هذه، لا يمكن أن يكون دافعُه هو حب الحقيقة.
إن ثمةَ معيارًا تطبيقُه عامٌّ وآمن؛ ويقوم، من أجل تقييم شيء
ما، على محاولة معرفة نسبة الخير المتضمَّنة في دوافع الجهد
الذي يُنتِج هذا الشيءَ وليس في الشيء نفسه. لأنه كلما كان
هناك خير في الدوافع كان هناك خير في الشيء نفسِه وبالمقدار
نفسه لا أكثر. ويؤكد ذلك كلامُ المسيح عن الأشجار والثمار.
الله وحدَه يعرِف بلا شك الدوافعَ في خفايا القلوب. لكنَّ
المفهومَ الذي يسيطر على نشاط ما، وهو مفهوم لا يكون سرًا
بصورة عامة، يتوافق مع بعض الدوافع ولا يتوافق مع دوافعَ أخرى؛
فيحصل أن يستبعدَ المفهومُ بعضًا منها بالضرورة وبحكم طبيعة
الأشياء.
ينبغي إذًا القيام بتحليلٍ يقود إلى تقييم النِّتاج الخاص
بنشاط بشري معيَّن من خلال فحص الدوافع المتوافقة مع المفهوم
الذي يحكمه.
ينتج عن هذا التحليل طريقةٌ لتحسين البشر - شعوبًا وأفرادًا،
ويبدأ كلُّ فرد بنفسه كنقطة انطلاق – من خلال تعديل المفاهيم
بحيث يتم إعمالُ الدوافع الأكثر نقاءً.
إنَّ اليقينَ بأن كلَّ مفهومٍ متعارضٍ مع دوافعَ نقيةٍ فعلاً
يكون نفسُه مفهومًا مغلوطًا هو أول بند من بنود الإيمان.
فالإيمان قبل كل شيء هو اليقين بأن الخير واحد. والاعتقاد
بوجود عدة خيرات متمايزة وكل خير مستقل عن الآخر، كالحقيقة
والجَمال والأخلاق، هو ما يشكِّل خطيئةَ الشِّرْك [تعدُّد
الألوهة]، وليس ترْك الخيال يلعب مع أﭙولو
Apollon
وديانا
Diane.
عند تطبيق هذه الطريقة على تحليل العلْم في القرون الثلاثة أو
الأربعة الأخيرة لا بد أن نكتشفَ أن اسم الحقيقة الجميل أعلى
منه بكثير جدًا. فالعلماء في الجهد الذي يقدِّمونه يومًا بعد
يوم طيلةَ حياتهم لا يمكنهم أن تدفعَهم رغبةٌ في امتلاك
الحقيقة. لأنَّ ما يكتسبونه هو معارف بكل بساطة، والمعارف ليست
في حد ذاتها موضوعَ رغبة.
يتعلَّم الطفلُ درسًا في الجغرافية بهدف الحصول على علامة جيدة
أو بهدف إطاعة الأوامر المتلَقَّاة أو من أجل إرضاء والدَيه أو
لأنه يحسُّ بشاعريةٍ ما في البلاد البعيدة وفي أسمائها. وإذا
لم يكن هناك أيُّ دافع من هذه الدوافع فلن يتعلَّمَ الطفلُ
درسَه.
إذا كان يجهل، في لحظة ما، ما هي عاصمةُ البرازيل، ثم
تعلَّمَها في اللحظة التالية فإنه يحصل على معرفة إضافية. لكنه
لا يقترب بتاتًا من الحقيقة أكثرَ مما كان سابقًا. فاكتسابُ
معرفةٍ يقرِّب من الحقيقة في بعض الحالات، ولكنه في حالات أخرى
لا يقرِّب منها. فكيف نميِّز هذه الحالات؟
إذا ضَبَطَ رجلٌ ما زوجتَه التي يحبُّها والتي منحَها كلَّ
ثقته متلبِّسةً بجُرْم الخيانة فإنه يَدْخل في تماسٍّ قاسٍ مع
الحقيقة. وإذا علِمَ أنَّ امرأةً لا يعرِفها ويسمع لأول مرة
اسمَها في مدينة لا يعرفها أيضًا قد خانت زوجَها فإن هذا لا
يغيِّر بتاتًا صِلَتَه بالحقيقة.
يقدِّم هذا المثالُ مفتاحًا. فاكتسابُ المعارف يقرِّب من
الحقيقة عندما يتعلق الأمر بمعرفة ما نحب وليس في أية حالة
أخرى.
حُبُّ الحقيقة هو تعبير في غير محلِّه. فالحقيقة ليست موضوعَ
حب. وليست موضوعًا. فما نحبُّ هو شيء موجود، شيء نفكر به،
وبذلك يمكن أن يكون عُرْضةً للحقيقة أو للخطأ. فحقيقةٌ ما هي
دائمًا حقيقةُ شيءٍ ما. الحقيقةُ هي بَريقُ الواقع. وموضوع
الحب ليس الحقيقة، بل الواقع. إن الرغبة في الحقيقة هي الرغبة
في تواصل مباشر مع الواقع. والرغبة في تواصُلٍ مع الواقع هي
حُبُّ هذا الواقع. لا يرغب المرءُ الحقيقةَ إلاَّ من أجل أن
يُحِبَّ في داخل الحقيقة. يرغب المرءُ معرفةَ حقيقةِ ما
يحِبُّ. فبدلاً من الكلام عن حُبِّ الحقيقة، من الأفضل الكلامُ
عن روحِ حقيقةٍ في الحب.
يرغب دائمًا الحُبُّ الحقيقيُّ والصافي وقبل كلِّ شيء أنْ يبقى
بالكامل في الحقيقة، مهما يمكن أن تكون هذه الحقيقةُ، وبدون أي
شرط. وكلُّ أنواع الحب الأخرى ترغب قبل كل شيء في الحصول على
إشباعات لها، وبهذا فهي مصْدرٌ للخطأ وللكذب. الحُبُّ
الحقيقيُّ والصافي هو في حد ذاته روح الحقيقة. إنه الروح
القدس. فالكلمة اليونانية التي نترجمها بـ"روح" تعني حرفيًا:
نفَسًا ناريًا
souffle
igné،
نفَسًا ممزوجًا بنار،
وكانت تشير في العصور القديمة إلى المفهوم الذي يشير إليه
العلْمُ اليومَ بكلمة "طاقة". ما نترجمه بـ"روح الحقيقة" يعني
طاقةَ الحقيقة، الحقيقةَ كقوة فاعلة. والحب الصافي هو هذه
القوة الفاعلة، هو الحب الذي لا يريد بأي ثمن وفي أية حالة لا
كذبًا ولا خطًا.
لكي يكون هذا الحب دافعًا للعالِم في جهده البحثي المضني، يجب
ربما أن يكون لديه شيء يُحِبُّه. يجب على المفهوم الذي يشكِّله
في نفْسه عن موضوع دراسته أن ينطويَ على خير. غير أنَّ الذي
يحصل هو العكس من ذلك. فمنذ النهضة – وبالتحديد أكثر، منذ
النصف الثاني من النهضة – كان المفهومُ نفسُه للعلْم مفهومَ
دراسةٍ يكون موضوعها متوضِّعًا خارج الخير والشر، وخاصةً خارج
الخير، ويُنظَر إليه بدون أية علاقة لا بالخير ولا بالشر، وعلى
الأخص بدون أية علاقة بالخير. العلْم لا يَدْرس إلاَّ الأفعالَ
كما هي، والرياضيون أنفسُهم يرون العلاقاتِ الرياضيةَ أفعالَ
فكْرٍ. الأفعالُ، القوةُ، المادةُ، معزولةً ومعتبَرةً في ذاتها
بدون علاقة مع أي شيء آخر، ليس ثَمَّةَ شيء فيها يمكن للفكر
البشري أنْ يُحبَّه.
وعلى هذا الأساس ليس اكتسابُ معارفَ جديدةٍ حافزًا كافيًا لجهد
العلماء. لا بد من وجود حوافز أخرى.
لديهم أولاً الحافز المتضمَّن في الصيد والرياضة واللعب.
غالبًا ما نسمع علماءَ رياضيات يُشَبِّهون اختصاصَهم بلعب
الشطرنج. والبعض منهم يُشَبِّهه بالنشاطات التي تتطلَّب بصيرةً
وحدْسًا نفسيًا، لأنهم يقولون إنه يجب التنبؤ مسبقًا بالمفاهيم
الرياضية التي نتمسَّك بها أيُّها يكون عقيمًا وأيُّها يكون
خصبًا. بل إنَّ الأمرَ لعبةٌ، ويكاد يكون لعبةَ حظ. ثَمَّ
قليلٌ جدًا من العلماء يَلِجون في العلْم عميقًا بما يكفي لكي
تؤخذَ قلوبُهم بالجَمال. هناك عالِمُ رياضيات يشَبِّه
الرياضياتِ عادةً بنحتٍ في حجر قاسٍ بنوع خاص. إن الأشخاص
الذين يُكَرِّسون أنفسَهم للناس على أنهم كهنةُ الحقيقة
يحطُّون جدًا من قيمة الدَّور الذي يضْطلِعون به عندما يقارنون
أنفسهم بلاعبي الشطرنج؛ التشبيه بنحَّات تشبيه أكثرُ احترامًا.
لكن إذا كان لدى المرء استعداد لأنْ يصبحَ نحَّاتًا فالأفضل له
أن يكون نحَّاتًا من أن يكون عالِمَ رياضيات. بالنظر في ذلك
التشبيه عن كثب، لا يكون له معنىً في المفهوم الحالي للعلْم.
إنه استشعار غامض جدًا بمفهوم آخر.
تساهم التقنيةُ مساهمةً كبيرة في هيبة العلْم إلى درجة أننا قد
نميل إلى افتراض أن فكرة التطبيقات هي حافز قوي للعلماء. في
الواقع، ليست فكرة التطبيقات هي الحافز بل الهيبة نفسها التي
تعطيها التطبيقاتُ للعلْم. فكما أن رجال السياسة يَـنْـتَشون
بصناعة التاريخ، كذلك العلماء يُسْكِرهم الشعورُ بأنهم شيء
عظيم. عظيم بالمعنى المزيَّف للعظَمة؛ العظَمة المستقلة عن كل
اعتبار للخير.
في الوقت نفسه، يفتخر البعضُ منهم، ممن كانت بحوثُهم نظريةً
بصورة خاصة، وهم يتذوَّقون هذه النشوةَ، يفتخرون بادِّعاء
اللامبالاة بالتطبيقات التقنية. وهكذا يتمتعون بفائدتين
متعارضتَين في الواقع، لكنهما متطابقتان في الوهم؛ وهذا وضْع
مقبول جدًا ودائمًا. إنهم يكونون في عِداد من يصنعون مصيرَ
البشر، وعندئذٍ تَختزِل لامبالاتُهم بهذا المصير البشريةَ إلى
أحجام جنس النمل؛ إنه وضْع خاص بالآلهة. فهم لا يدركون أنه لن
يبقى شيء يمكن اعتباره خيرًا إذا استثنينا التطبيقاتِ التقنيةَ
من المفهوم الحالي للعلْم. إذْ ليست المهارةُ في لعبٍ مشابهٍ
للشطرنج شيئًا ذا قيمة تُذْكَر. لولا التقنيةُ لما كان هناك
أحد من الناس اليومَ يهتم بالعلْم؛ ولو لم يهتمَّ الناسُ
بالعلْم لاختارَ مَن امتهنوا مهنةً علمية مهنةً أخرى. ليس لهم
حق في موقف اللامبالاة والترفُّع الذي يتَّخذونه. لكنه يبقى
حافزًا على الرغم من أنه غير شرعي.
على العكس، تفيد فكرةُ التطبيقات كحافز لدى أناس آخرين. لكنهم
لا يتأثروا إلاَّ بالأهمية وليس بالخير والشر. فالعالِمُ الذي
يحسُّ بأنه على وشك القيام باكتشاف يمكنه أن يقلبَ حياةَ البشر
يشدُّ كلَّ قُواه لكي يبلغَ ذلك. يبدو أنه من النادر أن يحصل
أو حتى لا يحصل أبدًا أنْ يتوقَّفَ لِـيُـقَـدِّرَ على أساس
الخير والشر النتائجَ الممكنة لهذا القلْب في حياة البشر،
فيتخلَّى عن أبحاثه إذا بدا الشرُّ أكثرَ رجحانًا. حتى إنَّ
مثلَ هذه البطولة تبدو أمرًا مستحيلاً؛ مع ذلك فمن المفروض أن
يكون ذلك أمرًا بديهيًا. لكنَّ العظَمةَ المزيَّـفة تسيطر هنا
كما في كل مكان آخر، العظَمة التي تتحدَّد على أساس الكمية
وليس على أساس الخير.
أخيرًا يثير العلماءَ على الدوام دوافعُ اجتماعيةٌ تكاد تكون
مخجلةً لفرط ما هي دنيئة، ولا تلعب دورًا كبيرًا واضحًا، لكنها
قوية جدًا. فمن رأى الفرنسيين في شهر حزيران/يونيو من عام 1940
يتخلَّون بسهولة كبيرة عن الوطن ثم بعد عدة أشهر وقبل أن
يلسعَهم الجوعُ فعلاً يصنعون معجزاتٍ في الصبر والجلَد
ويتَـحَـدَّون التعبَ والبردَ خلال ساعات للحصول على بيضة، من
رأى ذلك لا يمكنه أن يتجاهلَ الطاقةَ التي لا تُصَدَّق للدوافع
الدنيئة.
أول دافع اجتماعي للعلماء هو الواجب المهني بلا قيد ولا شرط.
فالعلماء هم أناس يُدفع لهم لكي يَصْنعوا العلْمَ؛ ويُنتظَر
منهم أن يَصْنعوه؛ ويشعرون بأنهم مجبَرون على أن يَصْنعوه.
لكنَّ ذلك غيرُ كافٍ كمثير. فالترقيةُ والكراسيُّ والمكافآتُ
بكل أنواعها والتكريماتُ والمالُ والاستقبالاتُ في الخارج
وتقديرُ الزملاء وإعجابُهم والسمعةُ والشهرةُ والألقابُ، جميعُ
ذلك يحظى بأهمية كبيرة.
وأخلاقُ العلماء خير برهان على ذلك. ففي القرنين الخامس عشر
والسابع عشر زجَّ العلماءُ أنفسَهم في تحدِّيات. وعندما كانوا
ينشرون اكتشافاتِهم كانوا يحذِفون عن عمْدٍ حلقاتٍ من سلسلة
البراهين أو كانوا يَقْـلِبون التسلسلَ رأسًا على عقب لكي
يمنعوا زملاءهم من الفهم أبدًا؛ وبذلك يتَّـقون خطرَ تمَكُّن
منافسٍ من ادِّعاء القيام بالاكتشاف نفسه قبلهم. فـ"ديكارتُ"
نفسُه يعترف بقيامه بذلك في [كتابه] الهندسة
La
Géométrie
[1637]. وهذا يثبت أنه لم يكن فيلسوفًا بالمعنى الذي كانت
تحمله الكلمةُ عند فيثاغورسَ وأفلاطونَ، وهو مُحِبُّ الحكمة
الإلهية؛ فمنذ زوال اليونان لم يكن هناك من فيلسوف.
اليومَ، حالما يَجِدُ عالِمٌ ما شيئًا إذْ به يهرع قبل أن
يُمَحِّصَ قيمتَه ويختبرَه إلى إرسال ما يسمَّى "مذكرة تقرير"
« note au
compte rendu »
بهدف ضمان الأوَّلية. إنَّ حالةً كحالة غاوس
Gauss
هي حالة فريدة في علْمنا؛ فقد نسي في خفايا الدروج مخطوطاتٍ
تتضمن أروعَ الاكتشافات، ثم عندما أخرجَ أحدُهم إلى النور ونشر
شيئًا مثيرًا أشار هو بلامبالاة قائلاً: "كلُّ هذا صحيح، لقد
وجدْتُه منذ خمسَ عشرة سنة؛ لكنْ يمكن أن نذهبَ أبعدَ من ذلك
بكثير في هذا الاتجاه ونضعَ أيضًا نظريةً ما." لكنَّ ذلك كان
أيضًا عبقريةً من الطراز الأول. ربما كان هناك بعضٌ من هذه
العبقريات كهذه، حفنةٌ قليلةٌ جدًا على مر القرون الثلاثة أو
الأربعة الأخيرة؛ وظلَّ ما كان يعنيه العلْمُ بالنسبة لهم
سرًَّا فيما بينهم. فالمثيراتُ الدنيا تأخذ مكانًا كبيرًا جدًا
في الجهد اليومي للآخرين جميعًا.
إنَّ نتيجةَ سهولةِ الاتصالات اليوم عبر العالَم في زمن
السِّـلْم والتخصُّصِ الذي يُدفع به إلى أقصى مدىً له هي أنَّ
العلماءَ من كل اختصاص والذين يشكِّل كلٌّ منهم جمهورَ الآخر
يُكَوِّنون ما يعادل قريةً. وفي هذه القرية ينتشر القيلُ
والقالُ باستمرار؛ فكل واحد يعرف الآخر ويُكِنُّ لكل آخر ودًا
أو نفورًا. وتتصادم فيها الأجيالُ والجنسياتُ؛ وتحتلُّ فيها
الحياةُ الخاصة والسياسةُ ومنافساتُ المهنة مكانًا مهمًا.
عندئذٍ يفسد الرأيُ الجماعي لهذه القرية بالضرورة، إلاَّ أنه
يشكِّل الرقابةَ الوحيدةَ على العالِم، لأنَّ غيرَ العارفين
باختصاصه (profanes)
وعلماءَ الاختصاصات الأخرى لا يمتلكون أيةَ معرفة بأعماله.
وتُخضِع قوةُ المثيرات الاجتماعية فِكْرَ العالِم لهذا الرأي
الجماعي؛ فيسعى العالِمُ إلى إرضاء الرأي الجماعي. وما يوافق
الرأيُ الجماعيُّ على قبوله يكون مقبولاً في العلْم؛ وما لا
يقْبله الرأيُ الجماعي يُستبعَد من العلْم. ليس هناك من حَكَمٍ
متجرِّد، لأنَّ كلَّ مختصٍّ، وبحُكْم كونه مختصًا، هو حَكَمٌ
مَـعْـنيٌّ.
سيقال إن غنى أية نظرية هو معيار موضوعي. لكنَّ هذا المعيارَ
يعملُ فقط في النظريات المقبولة. فالنظرية التي يرفضها الرأيُ
الجماعي لقرية العلماء تكون حكْمًا عقيمة، لأنهم لا يسعون إلى
تطويرها. وهذه حالة الفيزياء بصورة خاصة، حيث تكون الوسائلُ
نفسُها في البحث والرقابة حكرًا على وسط مغلق جدًا. فلولا شغفُ
الناس بنظرية الكَمِّ [النظرية الكوانتية]
quanta
عندما أطلقَها ﭙـلانكُ
Planck
لأول مرة، على الرغم من عبثيتها – أو ربما لأنها عبثية، لأنَّ
الناسَ تعبوا من العقل -، لولا شغفُهم بها لما عرفْنا أبدًا
أنها خصبة. وفي لحظة شغف الناس بها لم يكونوا يمتلكون أيةَ
معطيات تتيح لهم التنبؤَ بأنها ستكون خصبةً. وهكذا هناك عملية
داروينية في العلْم. تنمو النظرياتُ كما لو كانت بالمصادفة،
ويكون البقاءُ للأقدر. يمكن لمثل هذا العلْم أن يكون شكلاً من
اندفاعة الحياة، ولكنْ ليس شكلاً من البحث عن الحقيقة.
لا يستطيع العامَّةُ حتى أن يتجاهلوا ولا يتجاهلون أنَّ
العلْمَ خاضعٌ للمُوضى كأي منتَج من منتجات الرأي الجماعي.
فيكَلِّمهم العلماءُ غالبًا عن نظريات لم تعد دارجةً. ستكون
كارثةً لو أننا لم نكنْ حمقى بما يكفي لكي نتأثَّرَ بأية
فضيحة. كيف يمكن أن نُكِنَّ احترامًا دينيًا لشيء خاضع للموضى؟
إن الزنوج المتعلِّقين بالأوثان أرقى منا؛ فهم أقلُّ شِرْكًا
منا بكثير. إذْ يُكِنُّون احترامًا دينيًا لقطعة خشب منحوتة
جميلة يضفي عليها الجَمالُ صفةً أزلية.
إننا نعاني في الواقع من مرض الشِّرْك؛ فهو عميق إلى درجة أنه
يَنْزِع من المسيحيين ملَكةَ الشهادة من أجل الحقيقة. لا يمكن
لأي حوارٍ للصُـمِّ أنْ يُقرِّبَ بقوة مضحكة نقاشَ الفكر
الحديث والكنيسة. فيختار غيرُ المؤمنين، ليقدِّموا براهينَ ضد
الإيمان المسيحي، وباسم الروح العلمية، حقائقَ تشكِّل بصورة
غير مباشرة أو حتى مباشرة أدلةً واضحةً على الإيمان. فلا
يتنبَّه المسيحيون لذلك، ويبذلون قُصارى جهدهم بصورة ضعيفة
وبشعور بالذنب وبنقص مؤلم في النزاهة الفكرية لكي ينفوا هذه
الحقائقَ. العمى الذي لديهم هو العقاب على جريمة الوثنية.
ليس ارتباكُ عابدي الصنم أقلَّ هزليةً عندما يتمنَّون أن
يُعبِّروا عن حماسهم. فيبحثون عن شيء يمتدحونه ولا يَجِدون. من
السهل امتداح التطبيقات؛ والتطبيقاتُ فقط هي التقنية، وليست
العلْمَ. ماذا يُمتدح في العلْم نفسِه؟ وبالتحديد، ونظرًا لأن
العلْم يكمن في الناس، ماذا يُمتدح في العلماء؟ ليس سهلاً
معرفةُ ذلك. فإذا أردنا اقتراحَ عالِم لينال إعجابَ الجمهور
فإننا نختار دائمًا ﭙـاستورَ، على الأقل في فرنسا. وهو غِطاءٌ
لوثنية العلْم كما أن جان-دارك غطاء للوثنية القومية.
نختاره لأنه فعلَ الكثيرَ من أجل تخفيف آلام البشر الجسدية.
ولكنْ إذا لم تكنِ النيةُ في النجاح في هذا الأمر الدافعَ
المسيطرَ لجهوده فلا بد من اعتبار مسألةِ أنه نجحَ في ذلك
مجرَّدَ مصادفة. فإذا كان ذلك هو الدافع المسيطر فإن الإعجاب
الواجب له ليس له علاقة بعظَمة العلْم؛ فالأمر يتعلق بفضيلة
علمية؛ ولا بد من أن يصنَّف ﭙـاستورُ في هذه الحالة في الفئة
نفسها لممرِّضة متفانية إلى حد البطولة ولن يختلفَ عنها إلاَّ
بمدى اتِّساع النتائج.
لا يمكن لروح الحقيقة، نظرًا لكونها غائبةً عن دوافع العلْم،
أن تكون حاضرةً في العلْم. ولو عزَمْنا بالمقابل على إيجادها
بدرجة عالية في الفلسفة والآداب لخابَ أملُنا.
هل هناك كثير من الكتب أو المقالات التي تعطي انطباعًا بأن
الكاتبَ تساءل بقلق حقيقي قبل أنْ يشرعَ في الكتابة أولاً وقبل
أن يُسَـلِّمَ النسخةَ للطبع ثانيًا: "هل أنا في الحقيقة؟" وهل
هناك كثير من القُرَّاء الذين يتساءلون بقلق حقيقي قبل أن
يفتحوا كتابًا: "هل سأجد فيه حقيقةً؟" ولو عرَضْنا على جميع من
يمتهنون التفكير، من كهنة وقساوسة وفلاسفة وكُتَّابٍ وعلماءَ
وأساتذة من كل صنف، الخيارَ ابتداءً من اللحظة الحالية بين
مصيرين: إما أن يغرقوا مباشرةً ونهائيًا في البلاهة بالمعنى
الحرفي للكلمة وبجميع الإهانات التي يجرُّها مثلُ هذا التدهور
مع الاحتفاظ فقط بما يكفي من الإدراك للإحساس بمرارة ذلك، وإما
أن يحصلوا على تطوير مفاجئ وخارق للملَكات الفكرية يؤَمِّنُ
لهم شهرةً عالمية مباشرةً والمجدَ بعد موتهم بآلاف السنين ولكن
يرافق ذلك تلك السيِّئةُ المتمثلة في أنَّ فكرَهم يبقى دائمًا
خارجَ الحقيقة قليلاً؛ تُرى هل يمكن الاعتقاد بأن كثيرًا من
بين هؤلاء يراوده حتى أدنى تردُّد في خيار كهذا؟
تكاد اليومَ تغيب روحُ الحقيقة من الدين والعلْم وكلِّ الفكر.
ومن ذلك تتأتَّى بالكامل جميعُ الويلات الفظيعة التي نتخبَّط
في وسطها من دون التمكن حتى من الإحساس بمأساويتها. "روح الكذب
والخطأ، - سقوط الملوك القاتل والمنذر"، والتي كان راسينُ
يتكلم عنها، لم تعد اليوم حكرًا على الملوك. فهي تمتدُّ إلى
جميع طبقات الشعب؛ وتسيطر على أمم كاملة فتضعها في حالة من
الهيجان الجنوني.
العلاج هو إعادة إحلال روح الحقيقة فينا؛ وفي الدين والعلْم
أولاً؛ مما يستلزم تصالحهما.
يمكن لروح الحقيقة أن تكمن في العلْم بشرط أن يكون دافعُ
العالِم هو حبَّ الموضوع الذي هو مادة دراسته. وهذا الموضوع هو
الكون الذي نعيش فيه. وماذا يمكن أن نحبَّ فيه غير جَماله؟
التعريف الوحيد للعلْم هو دراسة جَمال العالَم.
ما إن نفكر في ذلك حتى يصبح جليًا. فالمادة والقوة العمياء
ليستا موضوعَ العلْم. لا يمكن للفكر بلوغهما؛ إذْ تهربان منه.
فتفكير العالِم لا يبلغ سوى علاقاتٍ تمسِكُ مادةً وقوةً في
شبكةِ نظامٍ وتناغُمٍ لا تُرى ولا تُحَسُّ ولا تتغيَّر. يقول
لاوْتسِه
Lao-Tseu:
"شبكةُ السماء واسعة؛ ثقوبُها [أو خَصاصاتُها] عريضة؛ مع ذلك
لا شيء يخترقها."
كيف سيكون للفكر البشري من موضوع غير الفكر؟ وهنا تكمن صعوبةٌ
في نظرية المعرفة وهي معروفةٌ إلى درجة أننا تخلَّينا عن النظر
فيها وأهملناها وكأنها فكرة مبتذلة. لكنْ هناك جواب. وهو أن
موضوع الفكر البشري هو الآخر فِكْر. إنَّ غاية العالِم هي
اتِّحاد روحه مع الحكمة الخفية المكتوبة منذ الأزل في العالَم.
فكيف يكون هناك إذًا تعارُضٌ أو حتى فصلٌ بين روح العلْم وروح
الدين؟ إن الاستقصاء العلمي ليس إلاَّ شكلاً من أشكال التأمل
الديني.
كانت هذه هي الحالة في اليونان. فماذا حصل إذًا بعد ذلك؟ وكيف
حصل أنِ استيقظَ هذا العلْمُ من سُباته الطويل ليجد نفسَه قد
أصبح ماديًا بعد أن كانت الروحُ الدينيةُ جوهرَه عندما أدخلَه
السيفُ الروماني في حالة سُبات؟ ما الحدث الذي حصلَ في هذه
الفترة الفاصلة؟
لقد حصل تحوُّلٌ في الدين. ليس المقصود مجيء المسيحية.
فالمسيحية الأصلية، كما هي ما تزال حاضرةً أمامنا في العهد
الجديد وخاصةً في الأناجيل، كانت، شأنُها شأنُ الديانة القديمة
للأسرار، قادرةً تمامًا على أن تكون الإلهامَ الأساسيَّ لعلْم
دقيق جدًا. إلاَّ أن المسيحية خضعَت لتحوُّلٍ مرتبطٍ على
الأرجح بانتقالها إلى مستوى الدين الروماني الرسمي.
بعد هذا التحول، لم يعد الفكرُ المسيحي، باستثناء بعض
المتصوفين النادرين والمعَرَّضين دائمًا لخطر الإدانة، يقْبل
بمفهوم آخر للعناية الإلهية غير مفهوم العناية الشخصية.
هذا المفهوم موجود في الإنجيل، لأن الله يسمَّى فيه الآب. غير
أن مفهوم عناية لاشخصية موجود فيه أيضًا وبمعنىً يشبه الآليةَ
إلى حد ما. "كونوا أبناءَ أبيكم الذي في السماوات؛ فإنه يشرق
شمسَه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين...
فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل."
(متَّى، 5، 45)
وهكذا فإن ما طُرِحَ على النفس البشرية كنموذج للكمال هو
الحيادية العمياء للمادة الجامدة، هو هذا الانتظام الذي لا
يرحم لنظام العالَم، والذي لا يبالي مطلقًا بصنف البشر، والذي
بهذا يُتَّهم غالبًا بالظلم. إنها فكرة عميقة إلى درجة أننا
لسنا قادرين حتى اليوم على إدراكها؛ فالمسيحية المعاصرة
فقدَتْها تمامًا.
إن جميع الأمثال عن البذرة تؤكد مفهومَ عناية لاشخصية.
فالعناية تتنزَّل من لدن الله إلى جميع الكائنات – وما
تُصْبِحه هذه العنايةُ في الكائنات متوقِّفٌ على ما تكون عليه
تلك الكائناتُ؛ وحيثما تدخل العنايةُ بالفعل تكون الثمارُ التي
تحملها نتيجةً لعملية تشبه الآليةَ وتحدث عبر الزمن، شأنُها
كشأن الآلية. ففضيلةُ الصبر
patience،
أو فضيلة الانتظار الثابت إذا ترجمنا الكلمةَ اليونانية ترجمةً
أدق، ترتبط بهذه الضرورة الخاصة بالزمن.
إن عدم تدَخُّـل الله في عملية العناية يُعبَّر عنه بأوضح ما
يمكن: "هكذا ملكوت الله كأنَّ إنسانًا يلقي البذارَ على الأرض
وينام ويقوم ليلاً ونهارًا والبذارُ يطلع وينمو وهو لا
يَعْـلَم كيف. لأن الأرض من ذاتها تأتي بثمر؛ أولاً نباتًا ثم
سنبلاً، ثم قمحًا ملآنَ في السنبل." (مرقس، 4، 26)
وكلُّ ما يتعلَّق بالطلب يستدعي أيضًا شيئًا شبيهًا بالآلية.
فكلُّ رغبةٍ حقيقية في خير محض، ابتداءً من درجة شدة معيَّنة،
تُنَزِّلُ الخيرَ المقابل. إذا لم تحصل النتيجةُ فهذا يعني أن
الرغبة ليست حقيقيةً أو أنها أضعف مما ينبغي أو أن الخير
المرغوب فيه ناقص أو أنه ممزوج بالشر. وعندما تتوفَّر الشروطُ
فالله لا يرفض الطلبَ أبدًا.
الأمر أشبه بإنبات العناية، إنها عملية تتم عبر الزمن. ولذلك
أوصانا المسيح بأنْ نكون مِلْحاحين. والتشبيهاتُ التي استخدمها
حول هذه النقطة تُذَكِّر هي الأخرى بالآلية. إنها آلية
سيكولوجية تُرغِم القاضيَ على إرضاء الأرملة: "فإني لأجل أنَّ
هذه الأرملةَ تزعجني أنصِفُها [لئلاَّ تأتي دائمًا فتقمعَني]"
(لوقا، 18، 5)، وتُرغِم الرجلَ النائمَ على فتح الباب لصديقه:
"وإنْ كان لا يقوم ويعطيه لكونه صديقَه فإنه من أجل لجاجته
يقوم ويعطيه قدْرَ ما يحتاج." (لوقا، 11، 8). إذا مارسْنا
نوعًا من الضغط على الله فإن الأمر لا يمكن أن يتعلَّق إلاَّ
بآلية وضعَها اللهُ. إن الآلياتِ الخارقةَ للطبيعة هي آليات
صارمة تشبه على الأقل في صرامتها قانونَ سقوط الأجسام؛ غير أن
الآلياتِ الطبيعيةَ هي شروط إنتاج أحداث بذاتها، بدون النظر
إلى أي اعتبار للقيمة؛ والآليات فوق الطبيعية هي شروط إنتاج
الخير المحض بذاته.
هذا ما أثبتَتْه خبرةُ القديسين العملية. لقد لاحظوا، كما
يقال، أنهم يستطيعون أحيانًا، لشدة الرغبة، إنزالَ خير على نفس
أكثر مما ترغب. وهذا يؤكد أن الخير يَنْزِل من السماء إلى
الأرض فقط بمقدار ما تتحقق بعضُ الشروط في الواقع على الأرض.
ليست الأعمالُ الكاملة للقديس يوحنا الصليب
saint Jean de la
Croix
إلاَّ دراسةً علمية صارمة للقوانين فوق الطبيعية. كما أن فلسفة
أفلاطون ليست شيئًا آخر.
حتى يومُ الحساب [الدينونة]،في الإنجيل، يَظْهَر كشيء غير
شخصي: "الذي يؤمن به لا يُدان والذي لا يؤمن به قد دِيْنَ.
وهذه هي الدينونة: ... كل من يعمل السيئاتِ يبغضُ النورَ؛ ...
ومن يفعل الحقَّ يُـقْـبِل إلى النور." (يوحنا، 3، 18). "كما
أسمع أُدِينُ ودينونتي عادلة." (يوحنا، 5، 30). "وإنْ سمِعَ
أحدٌ كلامي ولم يؤمنْ به فأنا لا أدينه، لأنني لم آتِ لأدينَ
العالَمَ، بل لأُخَلِّصَ العالَمَ. الذي يرفضني ولا يتلقَّى
كلماتي له دَيَّان؛ الكلامُ الذي قلْتُه هو سيدينه في اليوم
الآخر."
في مِثْلِ عمَّالِ [فَعَلة] الساعةِ الحاديةَ عشرة،
يبدو أن هناك نزوةً من طرف صاحب الكرْم. لكنْ إذا انتبهنا
قليلاً، فإن العكس هو الصحيح. فهو لم يدفعْ سوى أجر واحد لأنه
لا يمتلك سوى أجر واحد. فليس لديه نقود. وقد عرَّفَ القديسُ
بولس الأجرَ بقوله: "سأَعرِفُ كما عُرِفْتُ." هذا لا ينطوي على
درجات. كذلك فليس هناك درجات في الفعل الذي يجعل المرءَ يستحق
الأجرَ. يُنادَى المرءُ؛ فيسارع أو لا يسارع. وليس في مقدور
أحد أن يُسبِّقَ النداءَ، حتى لثانية واحدة. اللحظة لا تؤخذ
بالحسبان؛ ولا يؤخذ بالحسبان أيضًا كميةُ العمل في حقل الكرمة
ولا نوعيته. يقضي المرءُ وقتًا في الأبدية أو لا يقضي وذلك
بحسب ما وافق أو رفض.
"من يرفع نفسَه يتَّضِع ومن يضع نفسَه يرتفع"؛ هذا يُذَكِّر
بالميزان، وكأن الجزء الأرضي من النفس في كفَّة والجزء الإلهي
في الكفة الأخرى. كما يقارن نشيدُ الجمعة العظيمة الصليبَ
بميزان. "... هؤلاء أخذوا أجرَهم." ليس لله إذًا سلطةُ
المكافأة سوى على الجهود التي لم يُجْزَ عليها في الدنيا،
الجهودِ التي أُنجِزَتْ مقابلَ لاشيء، اللاشيءُ يجذِبُ
العنايةَ. إن الجهودَ التي تُبذَل مقابلَ لاشيء تشكِّل
العمليةَ التي يدعوها المسيحُ بـ"كَنْز كنوز في السماء".
قد يمكن للمرء أن يجدَ في الأناجيل، على الرغم من أنها لم
تنقلْ لنا إلاَّ جزءًا ضئيلاً من تعاليم المسيح، أن يجدَ ما
يمكن تسميته بالفيزياء الفوق طبيعية للنفس البشرية. وكأي مذهب
علمي فهي لا تحتوي إلاَّ على أمور يمكن إدراكُها بوضوح عقليًا
ويمكن التحقق منها تجريبيًا. لكنَّ التحقق يتم عبر السير نحو
الكمال، وبالتالي يجب الوثوق بكلام من وصلوا إليه. غير أننا
نثق تمامًا وبدون تدقيق بما يقوله لنا العلماءُ عما يجري في
مختبراتهم على الرغم من أننا نجهل إن كانوا يحبُّون الحقيقةَ.
من الصواب أكثر أن نثق بكلام القديسين، على الأقل الحقيقيين
منهم، لأنه من المؤكَّد أنهم يحبُّون الحقيقةَ كلَّ الحب.
لا تشكِّل مشكلةُ المعجزات عائقًا بين الدين والعلْم إلاَّ
لأنها طُرِحَت طرحًا خاطئًا. لا بد لطرحها طرحًا صحيحًا من
تعريف المعجزة. عندما نقول بأنها حدثٌ مخالف لقوانين الطبيعة
فإننا نقول شيئًا مجرَّدًا تمامًا من المعنى. فنحن لا نعرف
قوانينَ الطبيعة. ولا يمكن أن نصنعَ بشأنها سوى افتراضات. فإذا
كانت الافتراضاتُ التي نفترضها تُكذِّبها وقائعُ فهذا يعني أن
افتراضنا خاطئ على الأقل جزئيًا. والقول بأن المعجزة هي فعلُ
إرادة خاصة لله ليس أقلَّ عبثية. فمن بين الأحداث التي تحصل
ليس لدينا أي سبب يدعونا للتأكيد أن بعضها ينبثق عن إرادة الله
أكثر من البعض الآخر. ما نَعْلمه فقط بصورة عامة هو أن كلَّ ما
يحصل بدون استثناءٍ مطابقٌ لإرادة الله كخالق؛ وأن كل ما يحتوي
على الأقل على جزء صغير من الخير المحض ينبثق عن إلهام فوق
طبيعي لله كخير مطلق. ولكن عندما يفعل القديسُ معجزةً فالخير
هو القداسة لا المعجزة.
المعجزة هي ظاهرة فيزيائية يوجد بين شروطها المسبَّقة استسلام
النفس التام إما للخير وإما للشر.
لا بد من القول بأن الاستسلام يكون إما للخير وإما للشر، لأن
هناك معجزاتٍ شيطانيةً.
"سيقوم مُسَحاءُ كَذَبةٌ وأنبياء كَذَبة ويُعطَون آياتٍ
وعجائبَ لكي يُضِلُّوا لو أمكنَ المختارين أيضًا." (مرقس، 13،
22) "كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب، يا رب، ألم نكنْ
باسمِكَ قد تنبَّأْنا؟ وباسمكَ قد أخرجْنا الشياطينَ وباسمكَ
قد صنعْنا عجائبَ كثيرة؟ فحينئذٍ أُعلِنُ لهم: ما عرفتُكم قط،
ابعدِوا عني، يا فاعلي الإثم." (متى، 7، 22)
ليس أبدًا مخالفًا لقوانين الطبيعة أنْ يرتبطَ باستسلام النفس
التام للخير أو للشر ظواهرُ فيزيائيةٌ لا تحصل إلاَّ في هذه
الحالة. ربما يكون مخالفًا لقوانين الطبيعة أن يحصل عكس ذلك.
لأنَّ كلَّ طريقةِ كينونةٍ للنفس البشرية يقابلُها شيءٌ
فيزيائي. فيقابلُ الحزْنَ ماءٌ مالح في العينين؛ فلماذا لا
تُقابِلُ بعضَ حالات النشوة الصوفية، كما يُروَى، نوعٌ من
ارتفاع الجسم فوق الأرض؟ الأمر صحيح أم لا؛ هذا لا يهمُّ. فما
هو أكيد هو أنه إذا كانت النشوةُ الصوفية شيئًا حقيقيًا في
النفس فلا بد أن يقابلَ ذلك في الجسد ظواهرُ لا تبدو عندما
تكون النفسُ في حالة أخرى. إن الرابطةَ بين النشوة الصوفية
وهذه الظواهر تشكِّلُها آليةٌ مشابهة للآلية التي تربط الحزْنَ
بالدموع. لا نعرف شيئًا عن الآلية الأولى. لكننا لا نعرف
كثيرًا عن الثانية.
الفعل الخارق للطبيعة الوحيد في الدنيا هو القداسة نفسها وما
شابهها؛ وهي أن تصبحَ الوصايا الإلهيةُ لدى الذين يحبُّون
اللهَ دافعًا وقوةً فاعلةً وطاقةً محرِّكة بالمعنى الحرفي
كالوقود في السيارة. فإذا قام المرءُ بثلاث خطوات بدون أي دافع
آخر غير الرغبة في طاعة الله فإن هذه الخطواتِ الثلاثَ معجزةٌ؛
وتكون معجزةً أيضًا سواء تمَّتْ هذه الخطواتُ على الأرض أم على
الماء. لكنها عندما تتم على الأرض لا يبدو أيُّ شيء مدهشًا.
يقال بأن قصص المشي على الماء وقيامة الأموات شائعةٌ في الهند
إلى درجة أنْ لا أحدَ، سوى المتسكعين، يُعطِّل عملَه ويذهب
لرؤية حدث من هذا القبيل.
لا شك على أية حال في أن الرواياتِ عن هذه المواضيع شائعة جدًا
هناك. كما أنها شائعة جدًا في اليونان في العصر الأدنى، كما
يمكن أن نرى عند لوسيان
Lucien.
وهذا يقلِّص جدًا القيمةَ الدفاعية للمعجزات بالنسبة للمسيحية.
تروي طرفة هندوسية أن ناسكًا عاد بعد أربعة عشر عامًا من
الخلوة ليرى عائلتَه. فسأله أخوه ماذا اكتسبَ. فاصطحبَه
الناسكُ إلى نهر وقطعَه سيرًا على قدمَيه أمام عينَي أخيه.
فنادى الأخُ من بعيد إلى الشخص العبَّار صاحب الزورق وطلبَ منه
أن ينقلَه بقارَب إلى الضفة الأخرى ودفعَ له فلسًا، ثم قال
للناسك: "هل يستحق هذا عناءَ قضاء أربع عشرة سنة من الجهد
لاكتساب ما أستطيع الحصول عليه مقابل فلس واحد؟" هذا هو الموقف
السليم.
بخصوص صحة الأحداث الخارقة التي يرويها الإنجيلُ، لا يمكن
إثباتُ شيء أو نفي شيء إلاَّ إذا أرسلنا الكلامَ على عواهنه،
فالمسألة ليست بذات أهمية. لا شك في أن المسيح كان يمتلك
قدراتٍ خاصةً؛ كيف نشكُّ في ذلك، إذْ إننا يمكننا التحقق من أن
قديسين هندوسًا أو تِيْبِـيْـتِيِّين يمتلكون ذلك؟ إن معرفة
درجة صحة كل طرفة خاصة ليست أمرًا مفيدًا لنا.
لم تكن القدراتُ التي قام بها المسيحُ تشكِّل دليلاً بل كانت
تشكِّل حلقةً في سلسلة برهان. كانت هذه القدراتُ الآيةَ
الأكيدة على أن موقع المسيح كان خارج البشر العاديين وبين
هؤلاء الذين ينصرفون إما إلى الشر وإما إلى الخير. ولم تكن هذه
القدراتُ تشير إلي أيٍّ منهما. لكنَّ التمييزَ كان سهلاً
القيام به من خلال الكمال الواضح للمسيح ونقاء حياته والجمال
التام لأقواله وممارسته لقدراته من أجل أفعال رحمة فقط. فينتج
عن ذلك فقط أنه قديس. لكنَّ الذين كانوا متأكدين من أنه قديس
عندما كانوا يسمعونه يؤكد أنه ابن الله ربما كانوا يتوقفون
مترددين عند معنى أقواله، لكنهم كانوا يحرصون على الإيمان
بأنها تشتمل على حقيقة. لأن القديس عندما يقول أشياءً من هذا
القبيل لا يمكن أن يكذب أو يخطئ. كذلك نحن نحرص على تصديق كل
ما قاله المسيحُ، إلاَّ حيثما يمكننا افتراض وجود تدوين خاطئ؛
فما يشكِّل قوةَ الدليل هو الجَمال. عندما يكون الموضوع هو
الخير فإن الجَمال هو دليل قاطع وأكيد؛ حتى إنه لا يمكن أن
يكون هناك دليل آخر غيره. من المستحيل قطعًا وجود أي دليل
غيره.
قال المسيح: "لو لم أكن قد عملْتُ بينهم أعمالاً لم يعملْها
أحدٌ غيري لم تكنْ لهم خطية"، لكنه قال أيضًا: "لو لم أكن قد
جئتُ وكلَّمتُهم لم تكن لهم خطية." وفي موضع آخر يتكلم عن
"أعماله الحسنة". فقد وُضِعَت الأفعالُ والأقوالُ معًا. ولم
تكن غايةُ الصفة الاستثنائية للأفعال سوى لفت الانتباه. وعندما
يُشَدُّ الانتباهُ لا يمكن أن يكون هناك دليل آخر غير الجَمال
والنقاء والكمال.
لا يمكن للكلام الموجَّه إلى توما: "طوبى للذين آمنوا ولم
يروا" [يوحنا، 20، 29] أنْ يخصَّ هؤلاء الذين يُصدِّقون حادثةَ
القيامة دون أن يروها. فسيكون مدحًا للسذاجة لا للإيمان. هناك
في كل مكان نساء عجائز لا يطلبْن سوى الإيمان بدون تمييز بجميع
قصص الأموات القائمين من الموت. والذين قيل عنهم "طوبى لهم" هم
بالتأكيد هؤلاء الذين لا يحتاجون إلى القيامة لكي يؤمنوا
والذين يكفيهم الكمالُ والصليبُ دليلاً.
كذلك فإن المعجزاتِ هي أمر ثانوي من وجهة نظر دينية، وتدخل
بصورة طبيعية في المفهوم العلمي للعالَم من وجهة نظر علمية.
أما فكرة إثبات وجود الله من خلال خَرْق قوانين الطبيعة فإنها
كانت ستبدو بلا شك فكرةً فظيعة في نظر المسيحيين الأوائل. ولا
يمكن أن تظهر إلاَّ في عقولنا المريضة التي تخال أن ثبات نظام
العالَم يمكن أن يقدِّم أدلةً شرعية للملحدين.
كما يبدو أيضًا تعاقُبُ أحداث العالَم في الإنجيل أمرًا
رتَّـبَـتْه العنايةُ الإلهية بمعنىً لاشخصي على الأقل وشبيه
بالآلية. يقول المسيح لتلاميذه: "كونوا كطيور السماء. إنها لا
تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن، وأبوكم السماوي يقوتها...
تأملوا زنابقَ الحقول كيف تنمو؛ فلا تتعب ولا تغزِل، ولكنْ
أقول لكم إنه ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها...
أليس عصفوران يباعان بفلس؟ وواحد منهما لا يسقط على الأرض بدون
أبيكم." هذا يعني أن عناية الله التي يكون القديسون موضوعَها
هي نوع من العناية نفسها التي تغطِّي الطيورَ والزنابقَ.
تنظِّم قوانينُ الطبيعة الطريقةَ التي يصعد بها النسغُ في
النباتات فيتفتَّح أزهارًا تجد بها الطيورُ الطعامَ؛ وقد
أُعِدَّت هذه القوانينُ بحيث ينتج الجَمالُ. كما أن قوانين
الطبيعة قد رُتِّبَتْ بتدبير إلهي بحيث أن عزم البشر على السعي
أولاً وراء مملكة الآب السماوي وعدالته لا يؤدي بصورة آلية إلى
الموت.
يمكن أيضًا، إذا شئنا، القولُ بأن الله يحرِسُ كلَّ طير وكل
زهرة وكل قديس؛ على حد سواء. إن علاقة الكل بالأجزاء تخصُّ
العقلَ البشري. فعلى صعيد الأحداث كما هي عليه، سواءٌ اعتبرْنا
الكونَ كلاً، أم اقتطعْنا أيًا من أجزائه كما نشاء في المكان
والزمان وبأي تصنيف كان؛ أم اقتطعْنا جزءًا آخرَ، أم آخر، أم
مجموعةَ أجزاء؛ باختصار، سواءٌ استخدمْنا مفاهيمَ عن الكل أو
عن الأجزاء كما يحلو لنا فإن الامتثالَ لإرادة الله يبقى
ثابتًا. فهناك امتثال لإرادة الله في ورقة تسقط دون أن تُرى
بمقدار ما هناك امتثال لإرادة الله في الطوفان. على صعيد
الأحداث يتطابق مفهومُ الامتثال لإرادة الله مع مفهوم الواقع.
ترجمة: محمد علي عبد الجليل
*** *** ***
أﭙولو
Apollon:
عند الإغريق هو إله الشمس والتألق والموسيقى والشعر
والرسم والنبوءة والشفاء. (المترجِم)
لاوتسه [لاوزي أو لاوتسي أو لاوتزو]
Lao-Tseu
(Laozi)
(570 ق. م. – 490 ق. م.): فيلسوف وحكيم صيني يُعَـدُّ
مؤسسَ الطاوية
Taoïsme.
ويعني اسمُه: "المعلِّم العجوز" (المترجم)
"فإنَّ ملَكوتَ السَّماوات يُشْبِهُ رَجُلاً رَبَّ
بَيتٍ خَرَجَ مَعَ الصُّبحِ لِيَستَأجِرَ فَعَلَةً
لِكَرْمِهِ، فَاتَّفَقَ مَعَ الفَعَلَةِ على دِينارٍ
فِي اليومِ، وأرسَلَهم إلى كَرْمِهِ. ثُمَّ خَرَجَ
نَحوَ الساعةِ الثالثة ورأى آخَرِينَ قِيامًا في
السُّوق بَطَّالِينَ، فَقال لَهُم: اذْهبوا أنتم أيضًا
إلى الكَرْمِ فأعطِيَكُم ما يَحِقُّ لَكُم. فَمَضوا.
وَخَرَجَ أيضًا نَحو الساعة السادسة والتاسعة وفَعَلَ
كذلك. ثُمَّ نحو الساعة الحاديةَ عشْرَةَ خَرَجَ ووجدَ
آخَرِين قِيامًا بَطَّالِين، فَقالَ لَهُم: لماذا
وقَفْـتم ههُنا كُلَّ النهار بَطَّالِين؟ قالوا له:
لأنه لَم يَستَأجِرْنا أحَدٌ. قالَ لَهم:اذْهبوا أنتم
أيضًا إلى الكَرْمِ فَتأخُذوا ما يَحِقُّ لَكم. فلمَّا
كانَ المَساءُ قالَ صاحِبُ الكَرْمِ لِوَكِيلِهِ:
ادْعُ الفَعَلَةَ وأَعْطِهِم الأُجْرَةَ مُبْـتَدِئًا
مِنَ الآخِرِينَ إلى الأَوَّلِينَ. فَجاءَ أَصْحابُ
الساعةِ الحَادِيَةَ عشْرَةَ وأَخَذوا دِينارًا
دِينارًا. فلمَّا جاءَ الأوَّلونَ ظَنُّوا أنَّهم
يأْخُذونَ أَكْثَرَ. فأَخَذُوا هُمْ أَيضًا دِينارًا
دِينارًا. وفيما هُمْ يأْخُذونَ تَذَمَّرُوا على رَبِّ
البيت قائِلِينَ: هؤُلاءِ الآخِرُونَ عَمِلُوا ساعةً
واحِدَةً، وقَدْ سَاوَيْـتـَهُمْ بِنا نَحْنُ
الَّذِينَ احْـتَمَلْنا ثِقَلَ النَّهارِ والحَرَّ!
فَأجَابَ وقال لِواحِدٍ مِنْهُم: يا صاحِبُ، ما
ظَلَمْـتُكَ! أَمَا اتَّفَقْتَ مَعِي على دِينَارٍ؟
فَخُذِ الَّذِي لَكَ واذْهَبْ، فإني أُرِيدُ أَنْ
أُعطِيَ هذا الأَخِيرَ مِثْلَكَ. أَوَ مَا يَحِلُّ لِي
أَنْ أَفْعَلَ مَا أُرِيدُ بِمالي؟ أَمْ عيـنُـكَ
شِرِّيرَةٌ لأَنِّي أنا صالِحٌ؟ هكَذا يَكُونُ
الآخِرُونَ أوَّلِينَ والأوَّلُونَ آخِرِينَ، لأَنَّ
كثيرين يُدْعَوْنَ وقليلين يُنْتَخَبُون." (إنجيل
متَّى، 20، الآيات من 1 حتى 16). (المترجم)