|
إضاءات
هذه ثلاث حكايات مقتطفة من وقائع الحياة التونسية ودلالاتها بعد انتهاء الثورة وقيام حكومة جديدة.
حينما فاجأ الحراك الثوري السوري السوريين والعالم أجمع، كانت المعارضة السورية تتسكع في الفناء الخلفي للفعل السياسي وتعيش واقعًا مزريًا. وكانت تنقسم ما بين إعلان دمشق الذي كان يعاني صعوبات حقيقية بسبب ملاحقة السلطة المستمرة أعضاءه وقياداته، وبسبب الانشقاقات المستمرة التي تجرى بين صفوفه من جانب، وبين القوى والتنظيمات القومية والماركسية التي خرجت من إعلان دمشق بعد خسارتها في الانتخابات الداخلية في مؤتمره الوطني عام 2007. وبالتالي لم يكن من دون معنى أن تفشل هذه المعارضة في قيادة الحراك الثوري السوري. بيد أن تلكؤ المعارضة أدى إلى فراغ سياسي كان لا بد لقوى سياسية جديدة من أن تملأه. هكذا، ولد في سورية، ومن دون سابق قصد أو تخطيط، لاعب سياسي جديد قيض له أن يلعب دورًا كبيرًا في الأشهر الستة الأولى، ثم قيض لهذا الدور أن ينحسر بعد ذلك تدريجًا.
في مكان ما، إن اجتمعا سيقول القتيل للقاتل: "لمَ قتلتني؟". ولأنه يملك حق الرد هناك فإن القاتل ربما سيسأل قتيله: "لمَ دفعتني إلى قتلك؟". يعرف الاثنان أن تبادل الأدوار بينهما كان في لحظة سابقة ممكنًا. أي أن يكون القاتل قتيلاً ويكون القتيل قاتلاً. أما الآن وقد التصقت كل صفة بحاملها، فإن العودة إلى الماضي لم تعد ممكنة. هذا لا يعني أن المرء، قبل أن يكون قاتلاً، قد خرج من بيته ليمارس القتل. كذلك الحال بالنسبة الى الشخص قبل أن يكون قتيلاً وأصبح كذلك في ما بعد، الذي لم يخطط حين الخروج من البيت لكي يكون ميتًا بصفة قتيل.
"الإله" المفقود في كتاب الليل قصةً مؤلمةً حصلت في معتقل "أوشفيتز" الرهيب، أنقلها هنا بشِعريَّتها راجيًا من القارئ الكريم ألا يأخذها بحَرْفيَّتها. في أحد الأيام، تمَّ جمع المساجين ليشاهدوا شنق مجموعة من المعتقلين، وبينهم طفلٌ نحيلٌ في الثانية عشرة من عمره. سحب الجنود الكرسي من تحت قدمي الطفل، لكنه لم يختنق بسرعة، ولم يكن له من الوزن ما يكفي لتنكسر عنقه، فظل معلقًا في الهواء ينازع دهرًا قبل أن يخلِّصه الموت. أحد المساجين قال بصوتٍ مضطرب: "أين هو الله؟" لكن لا مجيب! وبعد بضع دقائق من الصمت الخانق، والطفل المنازع ما زال حيًا، ودموعه المالحة تنهمر من عيون الجميع، يكرِّر السائل تساؤله بإلحاح: "أين هو الله؟"، فيجيب قلب الكاتب: "إنه معلَّقٌ على المشنقة!".
بدأت الثورات في بلدان أوروبا (وفي المستعمرة الأميركية) قبل أن تحصل في بلدان آسيا وإفريقيا، القارَّتين الأخريين القديمتين، وذلك بسبب تضافر مجموعة شروط، منها: الثورة العقلية، التي ترافقت مع الإصلاح الديني والثورة على السلطة البابوية، والثورات في مجالات العلوم والتكنولوجيا والاقتصاد، والثورة على السلطة المطلقة والإقطاع، والتي ترافقت مع ظهور المدن، وتبلور طبقة برجوازية تجارية وصناعية، وانتشار المطابع والجامعات. طبعًا لم يحصل كل ذلك في جميع البلدان بطريقة متشابهة، أو في الوقت ذاته، كما لم تصل كلها إلى النتائج نفسها، وعلى المستوى نفسه، إذ أنها عكست في ذلك حال التطور السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي في البلد المعني وظروفه المحيطة.
أحتاج إلى مشاهدة المزيد من مقاطع الفيديو الخاصة بالشهداء للتأكد من اسم الشهيد وتفاصيل استشهاده. يوميًا العشرات. وفي أوقات التدقيق الدوري لقواعد البيانات، مئات خلال ساعات اليوم القليلة. معدل مشاهدة الفيديو الواحد دقيقة واحدة. خلال ساعة بالإمكان مشاهدة ستين جثمان، إلا إذا كانت المقاطع تعود لمجازر جماعية، فالرقم يضرب بأضعاف. جثمان بعد جثمان، بعضه في الكفن والآخر لا يزال ملفحًا بجراحه ودمائه. بعض الوجوه يبدو عليها الذعر والدهشة. أهذا أنت أيها الموت؟ وجوه أخرى تخالها نائمة لشدة ما يبدو السلام على معالمها. بعضها جميل ببشرة ناعمة وأفواه صغيرة مزمومة، وشبح ابتسامة ذكية. الشهداء الأطفال، وعبثهم الأبدي بأرواحنا.
تفارق الثورة السورية الثورات في البلدان العربية الأخرى، وكل واحدة منها تفارق الأخريات أيضًا، من ناحية سوسيولوجية. هذا ما حاولت كتابات عدة تفحصه. على أن تمام أمره البحثي، التفسيري والفهمي، لا طائل من تجريبه الآن. ذلك أن الواقع لحظة السعي إلى إعادة تشكيله، يصير بعيدًا جدًا عن إمكان تناوله بما هو واقع، إذ يصير تشبيكًا رمزيًا يتصارع الفاعلون ليس على تملكه فحسب بل أيضًا على إمكان طرح تأويلات متعددة له.
ستكمل الثورة السورية، والأزمة السورية والمؤامرة على سورية، عامها الأول بعد أيام. هل يهم ماذا أسميها؟ من يسميها ثورة ومن يرفض ومن يسميها مؤامرة ومن يرفض. هل تهم التسميات أم الوطن يهم؟ أنكِّس رأسي رغمًا عني وأنا أعي ثقل الزمن، عام من النزيف والألم والإفراط في العنف، عام من الخزي وأخبار سورية تتصدر عناوين الصحف ونشرات الأخبار، وصور قتلى وجرحى وبشر قطِّعوا وعرضت أشلاؤهم على الفضائيات. حاولت أن أتملص من تلك الوقفة مع ضميري المتماهي مع ضمير شعبي العظيم الصابر صبر الجبابرة، الصامد والذي يرفض الموت على رغم وحشية الظروف وقسوة الواقع. لست محللة سياسية لكنني مواطنة سورية أتشارك والمواطن السوري الوجع الذي ما عاد يطاق، وأحاول أن أرتب أفكاري كي لا أضيع في فوضى وجودنا الذي تحول إلى وجود على كف عفريت.
المرة الأولى التي حاورت فيه المفكر الإسلامي د. نصر حامد أبو زيد كانت عام 1993 في مكتبه بكلية الآداب جامعة القاهرة، وكان يومئذ يتمتع بحضور قوي من خلال رؤاه وكتاباته المثيرة للجدل والنقاش سواء داخل أروقة الجامعة أو بين أوساط المثقفين والكتاب، ولم يكن قد دخل بعد معركته الشهيرة التي تحولت إلى معارك بين أكثر من تيار في المجتمع المصري، للأسف انتصر فيها التيار السلفي، لينتهي الأمر بخروجه من مصر ورفع كتبه من المكتبات العامة وحتى مكتبة الجامعة، لكنه بدءًا من عام 2003 وبعد ثماني سنوات يبدأ في زيارة مصر مرة لزيارة أهله ومرة بدعوة من الجامعة الأمريكية، وها هي مكتبة الاسكندرية ممثلة في مركز المخطوطات برئاسة د. يوسف زيدان تستضيفه باحثًا مقيمًا على مدار خمسة عشر يومًا، ألقى خلالها خمس محاضرات تناولت العديد من القضايا القرآنية والفلسفية الإسلامية الإشكالية منها القرآن في تأويله اللاهوتي: المعتزلة وحل إشكالية العقل والنقل، والقرآن في التأويل الصوفي، انفتاح المعنى من خلال التجربة. ود. نصر حامد أبو زيد له ما يزيد عن عشرين كتابًا جلها يناقش قضايا إشكالية مهمة، من هذه الكتب: الاتجاه العقلي في التفسير، دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة – فلسفة التأويل، دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي – أنظمة العلامات فى اللغة والأدب والثقافة؛ مدخل إلى السميوطيقا – مفهوم النص؛ دراسة في علوم القرآن – إشكاليات القراءة وآليات التأويل – الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية – نقد الخطاب الديني – المرأة في خطاب الأزمة – التفكير في زمن التكفير – الخلافة وسلطة الأمة – النص، السلطة، الحقيقة – دوائر الخوف: دراسة في خطاب المرأة – الخطاب والتأويل – هكذا تكلم ابن عربي – اليسار الإسلامي: إطلالة عامة، وغيرها، فضلاً عن المقالات باللغتين العربية والإنجليزية والمراجعات والترجمات. محمد الحمامصي
قول عريق، يبقى على قدمه حديثًا في كل عصر، يتجلى الآن في الحراك المدني العربي، بينما يزول ما نلوكه من قصائد مدح وهجاء وفخر، هي زبدة ما تعلَّمناه في مناهجنا الدراسية. انبهر جيلنا بجميلة بوحيرد، المناضلة الجزائرية الشهيرة، كما سكرت أجيال لاحقة بسناء محيدلي وغيرها من شهداء المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي. افتخرنا ببطولة فتيات من قومنا جديرات بكل الإعجاب، دون أن يبدل ذلك من نظرتنا إلى المرأة. وكأننا أُعجبنا فيهن بميزة ذكورية على الإطلاق: الرجولة، وقد أقول الفحولة. إنهن "أخوات رجال"، كما يقول مثلنا الشعبي، لم يعدم تاريخنا من أمثالهن. نساء "أخوات رجال"، فالرجولة في حرز أمين ما دامت تُسند إلى الذكر. أما الأنوثة فبقيت مرادفة للنسل والمتعة و"الوطأ" ولمساندة الرجل (لا عظيم إلا ووراءه امرأة، تغنينا إثباتًا لتقدميتنا)، وحتى لممارسة سلطة فعلية لا ضير فيها ما دامت خفية صاغرة. ولا يغير في الأمر شيئًا إعلاؤنا لبعض أعلامنا النسوية البارزة منذ عصر النهضة، ولا مشاركة قطاع من خريجات الجامعات في الحقل العام وفي النضال السياسي، ولا بالتأكيد صور تملأ التلفزات والمجلات لزوجات ملوك ورؤساء دول ترفع شعارًا على حداثة المرأة العربية بينما هي في الواقع غشاء لتزوير القمع والاستبداد، من جيهان السادات إلى آخر دمية تتناقلها الوكالات العالمية لتغييب الواقع النسائي...
|
|
|