الصفحة التالية

غاندي الإنسان: 1 - التحول*

غاندي عام 1906 - لندن

إكناث إيسوَران

 

لم يكن ثمة ما يميز الفتى موهنداس كرمتشند غاندي Mohandas Karamchand Gandhi، ربما باستثناء خجله المبالغ فيه. لم يكن يمتلك مهارات استثنائية، وأمضى سنوات الدراسة كطالب متوسط المستوى أو أقل: متحفِّظ، جدِّي، متعلِّق بشدة بوالديه، وبالكاد يدري ما يحدث خارج مسقط رأسه، البلدة الساحلية الوادعة. في تلك الفترة، نهاية القرن التاسع عشر، كانت الإمبراطورية البريطانية في ذروة غِناها وجبروتها، ممتدة في أصقاع كثيرة من العالم، بما فيها الهند التي كانت آنذاك ترزح للقرن الثاني على التوالي تحت الهيمنة البريطانية.

وُلدتُ في الثاني من تشرين الأول (أكتوبر) عام 1869 في بوربَندر Porbandar، التي تسمى أحيانًا سودَمابوري Sudamapuri، وأمضيت طفولتي فيها. أتذكر دخولي إلى المدرسة، واجتيازي، بشيء من الصعوبة، امتحان جدول الضرب. وفي الواقع، لا أتذكر من تلك الأيام أكثر من تعلُّمي، كحال الفتيان الآخرين، نعت أستاذنا بما هبَّ ودبَّ من النعوت، مما يشير إلى أن ذهني كان خاملاً وذاكرتي فجَّة.

كنت بطبعي خجولاً جدًا ومتجنِّبًا لكل صحبة؛ كانت كتبي ودروسي هم رفاقي الوحيدين. أكون في المدرسة مع قرع جرس بداية الدوام وأهرع عائدًا إلى البيت حالما تقفل المدرسة أبوابها – ذلك كان روتيني اليومي. أهرع عائدًا، حرفيًا، فلم أكن أطيق التحدث مع أي كان. كنت أخشى أن أكون موضع سخرية من الآخرين.

علاوة على ذلك، كنتُ جبانًا. كان يلازمني الخوف من اللصوص والأشباح والأفاعي. لم أكن أجرؤ على تخطِّي عتبة الدار ما أن يحل الظلام. كانت الظلمة مصدر رعب بالنسبة لي. وكان يستحيل علي النوم في الظلام، إذ كنت سأتخيل أشباحًا قادمة صوبي من جهة، ولصوصًا من جهة أخرى وأفاعٍ من جهة ثالثة. لذا لم يكن بمقدوري النوم بلا نور في الغرفة.

تزوج غاندي في سن الثالثة عشرة، وكان لا يزال في المدرسة الثانوية. وكتب فيما بعد أن هذا السن كان "مبكرًا إلى حد منافٍ للعقل" من أجل الزواج. لكن كاستورباي Kasturbai كانت شابة فاتنة، وسرعان ما تعلَّم غاندي دور الزوج المشبوب العاطفة والغيور والمتطلِّب. كان لكل من الزوجين الطفلين هواه ومزاجه الخاصين، لذا اتخذ الزواج مسارًا عاصفًا منذ البداية. ففي ذهن غاندي الشاب أنه كان معلِّمًا لكاستورباي، ليكتشف لاحقًا أنها هي – بنموذجها الحليم – من كان يعلِّمه. ولابد أن صبرها وقوتها وطاقتها على التحمُّل والصفح ضربت جذرًا عميقًا في نفسه خلال تلك السنوات الباكرة، لم يُزهر إلا حين بدأ حملاته في جنوب أفريقيا التي امتدت سنوات عدة.

لابد أن أعترف أنني كنت مُغرمًا بها بشدة. كنت أفكر فيها حتى عندما أكون في المدرسة، ولم تكن تفارقني قط فكرة هبوط الليل ولقائي بها. لم أكن أحتمل فراقها. وقد اعتدت على إبقائها ساهرة إلى وقت متأخر من الليل وهي تصغي إلى أحاديثي الهَذِرة.

كيف يمكنني مكاشفة زوجتي النائمة إلى جانبي بمخاوفي، وهي ليست طفلة، وإنما فتاة خطت للتو أولى الخطوات في عالم الشباب؟ كنت أعرف أنها تفوقني شجاعة، مما كان يشعرني بالخجل من نفسي. لم تكن تعرف الخوف من الأفاعي والأشباح. كان باستطاعتها الخروج إلى أي مكان في الظلام.

تخرَّج غاندي من المدرسة الثانوية بمعدل متوسط وأصر بعناد على الالتحاق بالجامعة. كان لديه طموح ما غامض في أن يصبح طبيبًا، لكن ذلك كان صعب المنال. لقد فشل في كل الصفوف، وكان عاجزًا عن متابعة أيًا من الموضوعات المدرسية، فشعر بغربة خانقة أينما التفت في ذلك المكان. وبعد خمسة شهور من الفشل المتواصل انسحب عائدًا إلى البيت. لم تكن لديه أدنى فكرة عمَّا سيفعله.

جاءه المدد على يدي أحد أعمامه الذي اقترح أن يسافر غاندي إلى لندن لدراسة الحقوق. وكان الأمر يستغرق ثلاثة سنوات لاغير لكي يصبح محاميًا وتكون شهادة لندن في الهند البريطانية مدخلاً مؤكدًا للنجاح. ونظرًا للضيق المادي الشديد الذي تمر به العائلة، وافقت والدته على مضض. وقد فاقت التكاليف كل التوقعات، مما توجب على كاستورباي بيع حليِّها لشراء تذكرة السفر، في حين وعد شقيق غاندي الأكبر بدفع بقية التكاليف.

لقد سبق لغاندي أن قام بعدة رحلات في عربة يجرها ثور إلى بلدات لا تبعد سوى أميال عن بلدته. ومثل أي شاب في الثامنة عشر من عمره، كان يتوقع الرحلة البحرية إلى إنكلترا حافلة بالإثارة والمغامرة. لكنه، بدلاً من ذلك، وجدها مسكونة بالوحدة. فبسبب خجله وتحفظه، وخشيته من أن يبدو غبيًا بلغته الإنكليزية المدرسية، اعتكف على سطح السفينة مُتلبِّثًا لساعات يتأمل مياه البحر. وفي الفترات المحددة للوجبات، كان يبقى في قمرته يقتات على الحلوى التي حمَّلته إياها والدته. كان قد انتقى حلَّة بيضاء من الفانيلا لكي يرتديها عندما ينزل إلى البر، لكن ما أحزنه هو أن يجد نفسه الرجل الوحيد في لندن الذي يلبس الأبيض.

كانت الأشهر الأولى في إنكلترا كابوسًا بالنسبة إليه. كل شيء حوله كان مختلفًا؛ كل ما كان يقوله أو يفعله لا ينتمي إلى ذلك المكان. السلوك، الملابس، أسلوب التعبير، معنى الإيماءات العابرة. كل هذا كان يتوجب عليه تعلمه، وغالبًا من خلال الأخطاء والتعرض للسخرية. لم يستطع التخلص من حنينه إلى الوطن. لم يكن يتحمل البقاء وحيدًا.

كنت أفكر باستمرار ببيتي وبلدي. كانت محبة والدتي تلازمني على الدوام. وفي الليل، تنساب الدموع على وجنتيّ، وذكريات الديار، صغيرها وكبيرها، تجعل النوم يجافيني. كان يستحيل علي البوح لأيٍّ كان بما أعانيه من بؤس. وحتى لو استطعت، ما الفائدة؟ لم أجد ما يخفف عني. كل شيء كان غريبًا...

مرت أسابيع، وكان غاندي خلالها على وشك ركوب أول سفينة عائدًا إلى الوطن. لكن كبرياءه لم تكن تسمح له بذلك. شيء ما عميقًا في داخله كان يجعله مصممًا على البقاء.

وأخيرًا أشفق عليه أحد معارفه من الهنود ممن خبروا سُبل الحياة في لندن، إذ أنَّبه قائلاً: "أنت لست هنا لكي تتعلم القانون. أنت هنا لكي تتعلم نمط الحياة الإنكليزية. ما الذي تفعله وأنت في حالة السبات في هذا الفندق؟". وجد غاندي وجهة النظر هذه مقبولة. لقد حكم الإنكليز بلاده لأكثر من قرنين من الزمن؛ وهم كانوا بالنسبة لكل هندي، مهما كان ولاؤه، رمزًا للإنجازات البشرية العظيمة، حضارةً وقوة مادية. حتى قدومه إلى إنكلترا كان اعترافًا ضمنيًا منه بتفوقهم. فانصاع بخنوع لنصيحة صديقه واستأجر غرفة لدى عائلة إنكليزية.

كانت التجربة الأولى لغاندي في محاكاة نمط حياة أخرى. وكلما كان يروق له شيء ما، حتى كفتى، كان حافزه الأول دومًا هو تجربته بنفسه. حينئذ، قرر أن يصبح جنتلمانًا إنكليزيًا. تلقَّى تعليمًا خاصًا في اللغة الفرنسية والمحادثة السليمة، واشترى حلَّة غالية وقبعة حريرية. وتعلَّم كيف يعقد ربطة العنق، وكيف يتأنق أمام المرآة وهو يجاهد لترتيب شعره بفرشاة شعر إنكليزية. وحضر كذلك دروسًا للتدرب على آلة الكمان وحاول تعلُّم رقصة الفوكستروت.

لكنه أحسَّ أن دور الجنتلمان لم يلبِّ متطلَّباته. فبصرف النظر عمَّا حققه له ذلك من أمان، إلا أنه جعله أكثر وعيًا بالذات، وأكثر إدراكًا بما قد يدور في خلد الآخرين عن كيفية مظهره وسلوكه. إضافة إلى ذلك، كان نمطًا من الحياة مكلفًا جدًا، ونظرًا إلى أن شقيقه يقدم له الدعم المالي، شعر بعدم الارتياح بشأن تبذير أمواله بهذا الشكل. فاتسعت الثغرة التي كان يستشعرها بين ذاته وذوات الآخرين لتصبح هوَّة.

بعد قرابة الثلاثة أشهر، استفاق غاندي على نحو مفاجئ من أحلام العظمة هذه. كيف يمكن لتغيير طريقة اللباس أن يجعله شخصًا مختلفًا عمَّا كان للتو؟ فمن أجل تغيير حياته كان يتوجب عليه تغيير طريقته في التفكير، فذاك هو العامل الذي يضرب جذورًا أكثر عمقًا من أية اختلافات في العادات والثقافة. فمن الأفضل أن يكون المرء صادقًا مع نفسه من أن يحاول التشبُّه بشخص آخر. كتب غاندي: "إذا جعلت مني مكوِّناتي الشخصية جنتلمانًا، فذاك أفضل، وإلا فيجب أن أتخلى عن هذا الطموح". وبدأ يجرب طريقة حياة أبسط.

كانت الخطوة الأولى لغاندي هي العثور على شقة خاصة به. فتخلى عن كل دروس التجمُّل الاجتماعي، وباع آلته الموسيقية، وركَّز ذهنه في دراسته. حينها، التقى مصادفة بطالب معوز كان يسكن في غرفة واحدة ويطبخ طعامه بنفسه، فقرر أن يحذو حذوه. اختار غرفة تقع في منطقة مركزية بحيث يُتاح له الذهاب مشيًا على الأقدام حيثما يشاء دون الاضطرار إلى ركوب الحافلة. لم يشكل ذلك عائقًا يحدُّ من حركة غاندي، فقد حوَّل مسيره الطويل إلى فرصة يحافظ فيها على رشاقته وصلابة بنيته حتى في أجواء لندن الشتائية القاسية، ومن ثم غدت عادة لازمته طوال حياته. والأكثر أهمية، كان الاعتماد على الذات عنصرًا مهمًا في تلك التجارب افتقده غاندي لدى محاكاته للآخرين. لقد وجد نفسه أوفر صحة وأكثر سعادة أيضًا بذلك التغير. عندئذ، بدأ يجرب نظامًا غذائيًا خاصًا به.

كانت عائلة غاندي نباتية، وقد وعد والدته قبيل سفره ألا يذوق اللحم كما يفعل الإنكليز، رغم قناعته بأن تناول اللحم هو من أحد أسرار قوتهم. حاول أصدقاؤه من الطلاب الإنكليز والهنود على حد سواء إقناعه بأن اللحم ضروري للصحة الجيدة، لاسيما في طقس إنكلترا البارد. لكن غاندي، وعلى الرغم من خشيته أنهم على حق، كان مصممًا على ألا يخلف بوعده. ولشهور لم يجد في كل لندن ما يأكله سوى الخبز والسبانخ المسلوق. وأخيرًا، وبدافع الجوع، بدأ يتقصى علميًا عن النظريات النباتية. وجد مجموعة من النباتيين الإنكليز المتحمسين فقرأ كتبهم حول الأنظمة الغذائية والصحة. بدت أفكارهم قابلة للأخذ والرد فقرر أن يختبرها. جرَّب كل أنواع التوليفات النباتية لمعرفة أيها يناسبه، وبدأ يتخلى عمَّا هو ضار منها وإن كان طيب المذاق. وتدريجيًا، بعد أن حرم نفسه من توابل الطبخ الهندي الحريِّفة، بدأ يتذوق الطعام بذاته، وأدرك أنه كان قبلاً يستلذُّ بالإضافات التي تحرف نكهة طبق الطعام فحسب. لقد اكتشف أن حاسة الذوق تكمن في العقل وليس في اللسان.

لكن غاندي لم يكن قد اهتدى بعد إلى وجهة حقيقية. فالتخرُّج من كلية الحقوق ليس بالأمر الصعب؛ كل ما كان يتوجب عليه هو اجتياز بعض الامتحانات السهلة وحضور الحد الأدنى من العشاءات في الجمعية المهنية للمحامين في لندن Inns of Court in London. حاول أن يتعلم القانون بأية طريقة، وإن كانت غير ذي علاقة بالامتحانات، لكن لم يكن هناك حافز لكي يربط ما قرأه بأي شيء يعرفه. وحاول الإسهام في إصلاح اجتماعي من خلال الجمعية النباتية في لندن، لكنه أُحبِط في محاولته، إذ أن الافتقاد إلى البراعة كان يعيقه. لم يكن بمستطاعه التعبير عن أبسط الآراء حتى في حضرة لجنة عطوفة. كان يبدو أخرقًا ومعقود اللسان في كل موقف اجتماعي. لقد قرأ باجتهاد كل الكتب القانونية المطلوبة، لكن الشكوك والمخاوف بشأن مقدرته على المرافعة في المحكمة كانت تنهشه باستمرار.

بعد ثلاثة سنوات قضاها غاندي في لندن، اجتاز امتحاناته ورُسم محاميًا وعُيِّن في المحكمة العليا. وفي اليوم التالي مباشرة أبحر عائدًا إلى الوطن. كانت الأخبار عن مرض والدته قد أحزنته كثيرًا، وكان توَّاقًا لمغادرة لندن والعودة إلى الوطن، لكن مواطن ضعفه كانت تتغلب عليه. كانت تساوره كل الظنون المحتملة فيوجس خيفة من المستقبل.

لقد ثبت تمامًا أن لمخاوفه ما يبررها. فقد وصل إلى ميناء بومباي وسط عاصفة استوائية صيفية هوجاء. كانت الرياح تعصف والأمطار تنهمر بغزارة وكأنها تماثل ما كان يعتمل في داخله من شكوك، كما كتب فيما بعد. كان شقيقه الأكبر ينتظره على رصيف الميناء؛ لقد توفيت والدتهما قبل أن يتمكن من العودة، ونظرًا لمعرفة العائلة بمقدار حبه لوالدته، أحجموا عن إخباره.

دفن غاندي حزنه وحاول أن يولي وجهه صوب ما يَعِد به مستقبله في مجال المحاماة. لكنه في راجكوت Rajkot، البلدة التي أكمل فيها تعليمه الثانوي، لم يكن سوى شخص فاشل. لم يكن يعرف كيف يطبق المبادئ القانونية على الحالات المحددة، وتعليمه الإنكليزي المدرسي لم يقدم له أدنى معرفة بالقانون الهندي. ولذا لا أحد سيفكر في توكيله عن قضية.

لم يكن في بومباي أوفر حظًا. بدأ زملاؤه يشيرون إليه بسخرية على أنه "محامٍ بلا موكلين". ومع فائض الوقت لديه، كان يذهب إلى المحكمة العليا كل يوم بغية اكتساب الخبرة. لكن المناقشات كانت تمضي على نحو رتيب ومضجر؛ كانت لدى غاندي مشكلة في متابعة القضايا، وكثيرًا ما كان يغلبه النعاس قبل الانتهاء منها. القضية الأولى والوحيدة التي استلمها في بومباي كانت دعوى روتينية بأجر عشرة دولارات. وقف غاندي وركبتاه ترتجفان ليؤدي امتحانه القاطع، لكنه اكتشف على نحو مفاجئ أنه لا يستطيع التلفظ بكلمة واحدة. فانتهى به الأمر، وسط ضحكات زملائه، إلى تسليم القضية إلى من هو أكثر خبرة ولاذ هاربًا من القاعة.

عند هذا الحد، اتخذت حياة غاندي واحدة من تلك المنعطفات المثمرة على نحو غامض التي يحبُّ أن ينسبها بعض المراقبين إلى "القِسمة" أو "النصيب". أما غاندي، وبالتفاتة إلى حياته من موقع مراقبة عقود من التطور الداخلي، فقد دعاها فعل نعمة، تجلٍّ للأحداث وفقًا لضرورة داخلية عميقة لم يكن هو ذاته مدركًا لها. وفي غمرة فشله الساحق، واستحالة اللجوء إلى أحد طلبًا للمساعدة، كان مهيأ للتحول داخليًا في رحلة طويلة لاكتشاف الذات. وقد وفر له الحظ خوض غمار التحدي.

آنذاك، لم يبدُ أن ثمة فرصة تلوح في الأفق. لكن عن طريق شقيقه، عرضت شركة إسلامية محلية المساعدة على غاندي بعقد سنوي مع مكتبها في جنوب أفريقيا. كانت وظيفة مكتبية متواضعة، براتب ومركز أدنى بكثير مما يستحقهما تعليمه الإنكليزي. وكان هذا يعني مزيدًا من الفراق عن كاستورباي التي قد أنجبت للتو ابنهما الثاني. لكن غاندي سارع إلى التقاط الفرصة. كان على الأقل عملاً يكسبه بعض الخبرة وقد يجعله يدير ظهره لحظه السيئ إلى الأبد.

لكن الوضع الذي كان ينتظره بدا في غاية الاختلاف عمَّا كان قد توقعه. لقد أساء مكتب دادا عبد الله الهندي فهم احتياجات مكتب جنوب أفريقيا. فالقضية التي استدعي غاندي من أجلها كانت قضية شائكة تتطلب مهارة دقيقة في المحاسبة من أجل حلِّ ألغاز سنين من الصفقات التجارية المعقدة من دون أن تتوفر سجلات كافية. كان عمل غاندي يقتضي تقديم المشورة إلى مستشار الشركة القانوني، لكنه كان جاهلاً بمسك الدفاتر التجارية أكثر من جهله بالقانون. يضاف إلى ذلك، وبصرف النظر عما كان يأمل في اكتسابه من احترام من عمله الجديد، وجد نفسه في بلاد كان لون بشرته لوحده كافيًا لتعريضه إلى ازدراء يومي، إن لم يكن إلى إيذاء جسدي حتى. لابد أنه قد حزم جلَّ مشاكله في حقيبته عند السفر.

كان غاندي مراقبًا ثاقب النظر لسلوكه الخاص على الدوام. فأينما ولَّى وجهه، في كل مرة يلوذ هاربًا من حالة فشل، كان يبدو دومًا وكأن الوضع نفسه يتكرر بدرجات أكثر تهديدًا. هذه المرة، ربما كان سيتلقى أجرًا هزيلاً من مكاتب دادا عبد الله لقاء عمل متواضع لمدة اثني عشر شهرًا ومن ثم يعود إلى دياره، وهو فشل ليس أقل مما صادفه من ذي قبل. لذا، بدلاً من ذلك، عقد العزم على محاولة القيام بخطوة مختلفة. إذا كان تغيير المحيط لا يجري على ما يرام، لِمَ لا يحاول تغيير نفسه؟ لم يكن أمرًا ناجمًا عن إمعان في التفكير، وإنما عن شعور عميق جدًا بأنه أمر عاجل. قَبِل التحدي وألقى بنفسه في لجَّة العمل.

وعلى الفور بدأ الانضباط الذاتي الذي كان قد تعلمه غاندي في لندن يُؤتي أكله. درس ما يتعلق بمسك الدفاتر التجارية بنفسه ووجد أن فطنته مكافئة لحاجته مما عزز ثقته بنفسه. وفي حالة من الانتشاء، استنفر كل مَلَكة التركيز الذهني لديه لاستكشاف أدق تفاصيل القضية والعثور على الحقيقة. واكتسب معرفة عميقة بالوضع المحيط بالقضية أكثر من أي كان من الطرف الآخر.

كانت الحقائق تدعم موقف موكِّله بقوة. لكن المعركة القانونية قد تطول شهورًا، ولن يكون أيًا من الخصمين في وضع يؤهله لأن يكسب شيئًا ماعدا المحامين. لم يكن غاندي يولي أي اعتبار للمنفعة الشخصية من الدعاوى القضائية والجدالات العقيمة. كان عازمًا على تقديم الخدمة لما فيه مصلحة كلا الطرفين. كانت تربط دادا عبد الله وخصمه رابطة دم، وكل يوم يمر على القضية كان يدقُّ الإسفين أعمق بينهما مما يعني انشطار العائلة إلى طرفين متناحرين. وعبر مفاوضات مضنية استطاع غاندي إقناع الطرفين بإحالة القضية إلى التحكيم وتسوية النزاع خارج أبواب المحكمة. لكن الأمر تطلب مزيدًا من المباحثات لكي يوافق دادا عبد الله على شرط أن لا يتسبب ذلك في إفلاس الخاسر، ونال الاتفاق رضا الطرفين في نهاية المطاف. غمرت النشوة غاندي فصاح مبتهجًا:

لقد تعلمت الممارسة الحقَّة للقانون. وتعلمت اكتشاف الجانب الأفضل في الطبيعة البشرية والدخول إلى قلوب الناس. أدركت أن وظيفة المحامي الحقيقية هي توحيد الأطراف المتنافرة.

لقد اكتشف غاندي، وبدون إدراك منه، سرَّ النجاح. وبدأ النظر إلى كل مشكلة عسيرة على أنها فرصة للخدمة العامة وتحدٍّ قد يستجرُّ منه الكثير والكثير من مصادر الفهم والخيال. وبإدارته ظهره للكسب الشخصي أو الحظوة الشخصية في عمله، وجد أنه قد كسب ثقة البيض والهنود في جنوب أفريقيا على حد سواء، بل ومحبتهم أيضًا. وبدأ يتهافت عليه الكثير من الناس من جاليته لكي يُوكلوه قضاياهم القانونية، ويعتمدوا عليه كلما احتاجوا إلى المساعدة. وفي غضون بضع سنين، أصبح غاندي محاميًا ناجحًا، بدخل يقارب الخمسة وعشرين أو الثلاثين ألف دولار سنويًا، ونمط معيشة محاكيًا للنمط الغربي مما يلائم مركزه الاجتماعي.

ودفعه رضاه المؤقت عن وضعه إلى العودة إلى الهند لإحضار كاستورباي وولديهما إلى بلدهما الجديد. وقد عانت العائلة كثيرًا في التكيُّف مع عذابات ارتداء الملابس الأجنبية والسلوكيات المتصنعة. في البداية، عارضوا بمرارة، لكن غاندي كان عنيدًا. كان من الضروري أن يبدوا "متحضِّرين" – وذاك يعني: أوروبيين. كان ذلك هو ثمن النجاح، وكان عليهم جميعًا دفعه. لم يكن بمقدور كاستورباي أن تمتعض كثيرًا. ففي سن السابعة والعشرين، اعتلى زوجها قمة موجة الثروة، وبدا أن كل ما قد يرغبون فيه هو رهن إشارته. لقد بلغ مرحلة ينتهي فيها اختبار معظم الشباب.

بيد أن القمع السياسي والاجتماعي الذي كان يتعرض له الهنود في جنوب أفريقيا، وخصوصًا الظرف الباعث على اليأس لأولئك الذين جاؤوا بصفتهم عمالاً في نظام يعادل العبودية المُشرَّعة، خلَّف تأثيرًا عميقًا في نفس غاندي. أحد هؤلاء الرجال، وكان مستخدِمه قد ضربه بوحشية، قدم إلى غاندي طلبًا للمساعدة، وعن طريقه تعرف غاندي على آخرين كُثر. زار بيوتهم وتعرف على عائلاتهم وكيف يعيشون. وبالتدريج، بدأ يُغفِل شؤونه الخاصة محاولاً إيجاد الوقت والموارد لتخفيف معاناة أولئك الناس. كانوا أخوته وأخواته؛ وكان يتماثل معهم أكثر فأكثر كل يوم. لقد غدت معاناتهم هي معاناته.

حينما تفشَّى مرض الطاعون في الغيتو الهندي البائس في جوهانسبرغ، كان المرضى والمحتضرين يُنقلون إلى مبنى معزول للحجر الصحي حيث تمضي ممرضة إنكليزية ساعات طوال بمفردها تعتني بهم. بعد عدة سنوات روت تلك الممرضة كيف جاء إلى المبنى رجل ناحل ذات مساء كان فيه الوباء في ذروته. صرخت محذرة: "أخرج! إنه الطاعون". لكن الرجل أجاب بهدوء: "حسنًا. لقد حضرت لكي أساعدك".

تعرفت الممرضة عليه باعتباره زعيمًا للجالية الهندية فدعته للدخول. اتجه مباشرة نحو المريض. وحالما رأته ينحني فوق الرجل المحتضر المغطى بالحشرات، قالت: "دعه؛ أنا اعتدتُ على الوضع". لكن غاندي بدأ بالاعتناء بالرجل بنفسه هامساً: "إنه أخي". وظل ساهرًا طوال الليل إلى أن حضر الإسعاف.

كنت أتقدَّم على صعيد مهنتي بشكل مُرضٍ، لكن ذلك لم يحقق رضاي. لقد كانت تقلقني باستمرار مسألة جعل حياتي أكثر بساطة إلى حد أبعد والقيام بما هو صائب لإسداء خدمة لأخوتي في الإنسانية. فحين طرق أحد المصابين بالجذام باب منزلي، لم يطاوعني قلبي أن أصرفه بوجبة طعام. لذا، عرضت عليه ملجأ، وضمَّدت تقيحات جسده، وأخذت أعتني به...

كنت قد باشرت حياة بسيطة ومريحة، لكن التجربة لم تدم طويلاً. ورغم أنني كنت قد جهزت المنزل بأثاث كامل، إلا أنه لم يفلح في توفير حصن آمن لي. لذا، لم ألبث أن انطلقت صوب تلك الحياة، وبدأت أقتصد في نفقاتي. كانت فاتورة المصبغة باهظة جدًا، ونظرًا لقربها من منزلي وعدم التزام صاحبها بمواعيد منتظمة، تبيَّن لي أن عشرين أو ثلاثين قميصًا وياقة لم تكن تكفيني. كان علي تبديل الياقات يوميًا، والقمصان كل يومين على الأقل، إن لم يكن يوميًا، مما يعني مصروفًا مضاعفًا بدا لي أنه غير ضروري. لذا، اشتريت ما يلزم من عدَّة لغسيل الثياب وكيِّها بغية التوفير. كما اشتريت كتابًا لتعليم فن تنظيف الثياب ودرسته وعلَّمته لزوجتي أيضًا. ما من شك بأن هذا الجهد زاد من أعبائي، لكن جِدَّته أضفت عليه نوعًا من المتعة.

لن أنسى مطلقًا أول ياقة نظَّفتها بنفسي. فقد وضعت قدرًا من النشاء أكبر مما هو مطلوب لكيِّها، ولم تكن المكواة قد سخنت بشكل كاف، ولم أضغط عليها خشية أن تحترق الياقة. وكانت النتيجة، رغم أن الياقة تقسَّت بعض الشيء، أن النشاء الفائض أخذ بالتساقط. ذهبت إلى المحكمة واضعًا الياقة مما أثار سخرية زملائي المحامين، لكنني لم أكن أتأثر بالسخرية حتى في تلك الأيام...

وبالطريقة نفسها، وكما حرَّرت نفسي من عبودية صاحب المصبغة، استغنيت عن الاعتماد على الحلاق. جميع الذين ذهبوا إلى إنكلترا تعلموا هناك فن حلاقة الذقن على الأقل، لكن لا أحد، على حد علمي، تعلَّم قص شعره بنفسه. وكان علي أن أتعلم ذلك أيضًا. واتتني الفرصة عندما ذهبت ذات مرة إلى صالون حلاقة يملكه رجل إنكليزي في بريتوريا، فعاملني بازدراء ورفض أن يقص شعري. من المؤكد أن هذا الموقف سبَّب لي أذى، لكنني على الفور اشتريت عدَّة لقص الشعر وقصصت شعري أمام المرآة. نجحت إلى حد ما في قص شعري من الأمام لكنني أفسدته من الخلف، فكنت موضع تندُّر أصدقائي في المحكمة: "ماذا حصل لشعرك يا غاندي؟ هل قضمته الجرذان؟". قلت: "لا. الحلاق الأبيض لم يتنازل ويلمس شعري الأسود، لذا آثرت أن أقصه بنفسي... لا يهم ما لحق به من سوء".

استحوذ مثال الخدمة الغيرية على غاندي مما أحدث تغيرات متسارعة في كل مظهر من مظاهر حياته. العائدات المالية لمهنة المحاماة، النمط الأوروبي في العيش، الأعمال المنزلية المعقدة... كل هذه تضاءلت حينما أصبحت عوائق أمام طريقه في الخدمة الاجتماعية. كل تبسيط حرَّر لديه مصادر جديدة من الوقت والطاقة والمقدرة. وغالبًا، في بداية ذلك المشوار على الأخص، كان من المؤلم التخلي عن الوقت أو المتعة من أجل حاجات الآخرين. لكن الحرية التي تلي ذلك كانت تغمر غاندي بنشوة لا حدود لها. وبدأ يتلمَّس حيثما كان إمكانية للاختيار بين أن يعيش لذاته وحدها أو أن يعيش من أجل الآخرين. ووسط انشغاله بممارسة قانونية نشطة، خصَّص وقتًا لخدمة التمريض التطوعي، وباشر العمل في صحيفة إخبارية أسبوعية تدعى "الرأي الهندي" Indian Opinion، وجنَّد فيلق إسعاف هندي للخدمة مع الجيش البريطاني عند اندلاع الحرب في مستعمرات البوير Boer War عام 1899. كان ذلك مثالاً تفشَّى بالعدوى، إذ بدأ يتشكل حول غاندي مجتمع عائلي صغير أو أشرَم Ashram في ريف ديربان Durban حيث قدم حفنة من الشباب والشابات المتفانين، أوروبيين وهنودًا على حد سواء، لكي يقيموا معه ويشاركوه تجربته في فن العيش. وكلما كان حب الذات يتضاءل، كان إدراكه الروحي يتزايد. وعكف على دراسة الكتب المقدسة لكل الديانات واختبار تعاليمها بالمقابلة مع تجربته الخاصة.

"لا تقلق حيال نفسك إطلاقًا، دع الأمر كله لله". يبدو أن هذه هي وصية الديانات كافة. وهذا لا يدعو للتوجُّس. فمن ينذر نفسه لخدمة الغير بضمير صافٍ، سيدرك يومًا بعد يوم ضرورة هذه الخدمة على صعيد أكبر، وسوف يملأ الإيمان قلبه باستمرار. قد يكون من العسير على المرء الخطو في طريق الخدمة ما لم يكن مهيأ للتخلي عن المصلحة الذاتية، ولإدراك شروط منشئه. وكل منا، بوعي أو بدونه، يُسدي خدمة ما هنا أو هناك. فإذا رعينا بتأنٍ عادة تقديم هذه الخدمة الطوعية، سوف تتنامى رغبتنا في ذلك إلى حد كبير وعلى نحو ثابت، ولن يحقق هذا سعادة لنا فقط، بل للعالم أجمع.

من يقدم خدمة لن يُشغِل ذهنه في سبل راحته الخاصة التي يترك أمر العناية بها، أو تجاهلها، للمولى الأعلى. ومن ثم لن يُثقل على نفسه بكل ما يعترض سبيله، سيأخذ فقط ما يحتاج إليه بدقة ويترك الباقي. سيكون هادئًا، متحررًا من الغضب وهانئ البال حتى وإن خالجه شعور بالضيق. فالخدمة التي يقدمها، حالها كحال الفضيلة، هي المكافأة التي يتلقاها، وسيكون قانعًا بها.

على المرء ألا يتملَّك ما لا يحتاجه حقًا. وسيكون خرقًا لهذا المبدأ تملُّك المرء لمواد غذائية أو ملابس أو أثاث لا ضرورة لها. مثلاً، عليه ألا يحتفظ بكرسي مادام بوسعه الاستغناء عنه. التقيُّد بهذا المبدأ سيرشد المرء إلى تبسيط تصاعدي لحياته الخاصة.

لم يعد يُشاهَد غاندي مرتديًا ثيابًا أوروبية فاخرة. وبدأ يميل إلى تبسيط كل تفصيل في أعماله المنزلية. أما كاستورباي، التي أتقنت استعمال السكين والشوكة في الأكل وتخلت عن الأعمال المنزلية لزوجها المولع بالأساليب الغربية، فكان عليها طرح كل هذه الأمور جانبًا والعودة إلى نمطها الأصلي في العيش. وانسجامًا مع إيمانه الراسخ بالمساواة الاجتماعية وكرامة العمل المجهد، جعلها تتولى العناية بمراحيض المنزل بنفسها، وهو العمل الذي كان دومًا من اختصاص أشخاص من الطبقات الدنيا في المجتمع الهندي. فأذعنت كاستورباي بدافع حبها لزوجها، لكن مع شعور بالمرارة. وقال غاندي فيما بعد أن تحمُّلها كان منقطع النظير.

لكن حياة العائلة كانت لا تزال بعيدة عن السلاسة. فذات مرة، أغدق الهنود في ناتال Natal على غاندي بالهدايا تعبيرًا عن تقديرهم لما كان يسديه من خدمات، لكن ما فعلوه جعل غاندي يذرع الغرفة جيئة وذهابًا طوال الليل. كان قد علَّم زوجته وولديه أن الخدمة الغيرية هي مكافأة بحد ذاتها. كيف يستطيع الآن قبول هدايا قُدمت له مقابل خدمات أدَّاها لجاليته، وهو عمل كان يقوم به بدون طمع في مكسب شخصي؟ كانت الهدايا ثمينة، من الذهب والفضة، إضافة إلى قلادة من الألماس لزوجته. ربما كان من الصعب التفريط فيها، لكن الأصعب هو الاحتفاظ بها. ومع بزوغ الفجر، جلس غاندي يخطُّ رسالة يعلن فيها تحويل الهدايا إلى وديعة مصرفية لاستخدامها من أجل خدمة الجالية.

لكن، كيف له أن يقنع كاستورباي بالتخلي عن الحلي؟ كانت عنيدة؛ فتلك الهدايا هي أول تعويض من هذا النوع يتلقونه مقابل سنوات طوال من العمل الغيري تحملت كاستورباي مصاعبه صابرة كما فعل هو على الأقل. توسلت إليه طويلاً وبمرارة، وفي الأخير انهارت بالبكاء. وفي نهاية المطاف، وافقت على طلبه، منهكة أكثر مما هي مقتنعة. كتب غاندي:

لم أندم مطلقًا على اتخاذ هذا القرار، ومع مرور السنين تمكنت زوجتي أيضًا من إدراك مدى حكمته. لقد وقانا ذلك من الكثير من الإغراءات.

ليس بوسع المرء ذاته فعل ما هو صائب في مجال من مجالات الحياة في حين أنه منشغل بفعل ما هو خاطئ في أي مجال آخر. فالحياة واحدة، كلٌّ لا يتجزأ.

كانت الصراعات المحلية في جنوب أفريقيا هي الأرضية التجريبية التي تعلم فيها غاندي فن المطالبة بالعيش من أجل الآخرين بدلاً من نفسه. وسوف يطبق، في ما بعد، الدروس ذاتها على صعيد عالمي، ففي النهاية أصبح العالم برمته عائلته.

بعد سنوات عدة، وكان قد غادر جنوب أفريقيا منذ مدة طويلة، تلقى غاندي رسالة تحثُّ زعماء العالم على صياغة شِرعة لحقوق الإنسان. كتب غاندي لاحقًا:

نظرًا إلى ما تعلمته من تجربتي، أجد من بالغ الأهمية سنُّ ميثاق للواجبات الإنسانية.

كانت تلك مقاربة تعلمها من كاستورباي. فلدى عودته من لندن بعد سنوات قضاها هناك للدراسة، مُشبعًا بالثقافة وواعيًا تمامًا لـ"حقوقه الشرعية"، كما يوضح غاندي بنفسه، كان الشخص الأول الذي حاول أن يؤثر فيه باتجاه تقبُّل هذا الوضع هو زوجته. غير أن كاستورباي كانت امرأة ذات إرادة خاصة بها. بدأ غاندي بالمطالبة بحقوقه ما إن وطأت قدماه عتبة البيت بعد عودته؛ وكان من الطبيعي أن تبادر كاستورباي إلى فعل الشيء نفسه – في الوقت ذاته وفي ذات البيت. وعلى الغالب، أصبحت مشاحناتهما تشتدُّ إلى حد أنها كانت توصل كاستورباي إلى حالة بكاء، مما كان يثير غيظ غاندي أكثر. فذات مرة، وفي موجة عارمة من الغضب، صرخ في وجهها: "لن أتحمل هذا الهراء في منزلي".

ردت كاستورباي: "إذن، احتفظ بمنزلك لنفسك ودعني أرحل".

فما كان من غاندي إلا أن أمسك بذراعها بغضب وجرَّها نحو بوابة المنزل وهي تنتحب.

صاحت والدموع تنهمر من عينيها: "أليس لديك شعور بالخجل؟ أين يمكنني الذهاب؟ لا أعرف عائلة هنا تأويني. هل تعتقد، لأنني زوجتك، أن علي أن أصبر على إساءاتك؟ بحق السماء، كن مهذبًا وأغلق البوابة. لا تدع الناس يتفرجون علينا في مثل هذا المنظر!".

غاندي نفسه من روى هذه الحادثة. يقول إنه، في ذلك الوقت، كان يعتقد أن من حقه كزوج أن يفرض آراءه على زوجته. لكن مع مضي السنين واستمرار العواصف بينهما، بدأ غاندي يدرك مدى المعاناة التي كان يسببها لزوجته بسبب تلك النظرة المتزمتة. وأخيرًا حدث له ما هو أكثر من ممارسة لـ"حقوقه"؛ لقد استطاع إنجاز مسؤولياته. فبالنسبة لغاندي: لكي تعرف عليك أن تشعر، ولكي تشعر عليك أن تعمل، ولكي تعمل عليك أن تعيش. وعلى الفور، وعوضًا عن إجبار كاستورباي على طاعة معتقداته وقيمه المُتجليَّة حديثًا، بدأ في محاولة كسبها عن طريق جعل نفسه قدوة يُحتذى بها. كانت مسارًا طويلاً وموجعًا، وغالبًا ما كان على غاندي تجاهل ما يعزُّ عليه، حبًا أو نفورًا، لكي يرى الأمور من وجهة نظر زوجته أكثر مما هي من وجهة نظره. لكن، وبالتدريج، بدأ يدرك أن ليس ثمة من خلاف بينهما ماعدا ما كان يفرضه عليها، وأن كاستورباي كانت تحاول دومًا أن تكسبه بالمحبة. فمن الاكتشافات الأكثر جذرية التي كان عليه أن يُدرجها في صلب تجربته في الحياة: لكي تحوِّل الآخرين، عليك أولاً أن تحوِّل نفسك.

كانت تجارب غاندي تقوده إلى مناطق غير مُبهرَجة بالمظهر الخارجي للمعيشة، حيث القيم المألوفة للبيع والشراء، والوجاهة والمتعة، لا تحمل أي معنى على الإطلاق. لقد سبقه كثير من رجالات الفكر إلى تسطير مجلدات حول الحقيقة والسعادة، بيد أن قلة منهم استطاعت تغيير حيواتها. لم يكن غاندي يُلقِ بالاً لمثل هذه المبادئ المجرَّدة. كان يريد معرفة كيفية العيش، مع استعداد لقلب شخصيته رأسًا على عقب، إن دعت الضرورة، للاقتراب أكثر من ذلك الهدف. كان ينعم النظر في حيوات وأعمال رجال من شتى الجنسيات والمعتقدات، بحثًا عن دليل هادٍ، وعندما عثر عليه أخيرًا، كان في صلب المنقول الروحي لبلاده؛ منقول لم يصبه الوهن لأكثر من خمسة آلاف سنة.

كانت البهَغَفاد غيتا Bhagavad Gita قربه على الدوام عندما كان طفلاً. وللمفارقة، لم يُلقِ نظرة على ما تتضمنه من تطبيقات عملية إلى حين وجوده في إنكلترا، فمع أصدقاء إنكليز، قرأ ترجمة إنكليزية للبهَغَفاد غيتا. كانت المرة الأولى التي يقرأها، فغزت كلماتها قلبه. وفي جنوب أفريقيا، بدأت تلك الكلمات تتخلَّل أفعاله أيضًا. فهناك أصبحت الغيتا Gita ما كان يدعوه "المرجع الروحي" بالنسبة إليه، المرشد العملي وسط الأخطار والتحديات التي كان يواجهها وهو يتعمق في بحثه عن الحقيقة.

ما خلَّفته قراءة الغيتا من أثر في نفوس أصدقائي، يمكنهم هم فقط التعبير عنه؛ أما بالنسبة لي فقد أصبحت الغيتا مرشد سلوك منزَّه عن الخطأ. فمثلما كنت أقلِّب صفحات القاموس الإنكليزي للبحث عن معاني الكلمات التي لم أكن أفهمها، كنت ألجأ إلى قاموس السلوك هذا من أجل حل جاهز لكل ما يعترضني من مشاقٍّ ومحن. كانت تبهرني كلمات مثل aparigradha (عدم التملك) وsamabhava (مساواة). لكن، كيفية تنمية تلك المساواة وصونها كان هو السؤال. كيف يمكن للمرء التعامل بالطريقة نفسها مع الموظفين الرسميين المحقِّرين للناس والمتعجرفين والفاسدين، وزملاء الأمس المتبوئين مناصب فارغة، والناس الذين طالما كانوا صالحين وأخيار؟ كيف يمكن للمرء تجريد نفسه من كل الممتلكات؟... أينبغي عليَّ التخلِّي عن كل ما أملك واتباعـ(ـه)؟ كان يأتيني الجواب على الفور: ليس بوسعي اتباعـ(ـه) ما لم أتخلَّ عن كل ما أملك.

لقد ساعدتني دراستي للقانون الإنكليزي... لقد أدركتُ أن تعاليم الغيتا بشأن عدم التملك تعني أنه ينبغي على من يتوق إلى الخلاص أن يتصرف كالوصي الذي، رغم تحكمه بممتلكات كبيرة، يعتبر أنه لا يملك مقدار ذرة منها خاصة به.

تقدم الغيتا تعليمات مفصَّلة لعبور بحر الحياة. ففي ساحة النزال، حيث تمثِّل المنظومة السردية قلب الإنسان المفرد، تتصارع على نحو متواصل قوى النور والظلمة، قوى المحبة والفُرقة، من أجل السيطرة على تفكيرنا وأعمالنا. وفي إحدى المحاورات، يلتمس أرجونا، الأمير المحارب الذي يمثِّل كل رجل أو امرأة، تعلُّم فن العيش من سري كريشنا، ربِّ المحبة الذي هو التجلِّي الظاهري لذات أرجونا العميقة. أرجونا رجل عمل، لا تهمُّه الماورائيات ولا النظريات الوهمية؛ إنه يرغب في معرفة كيف يجعل كل لحظة من حياته مُعتبَرة، ومتحررة تمامًا من القلق والخوف. أسئلة أرجونا هي استجوابات عملية عن مشكلات العيش؛ وأجوبة سري كريشنا بسيطة وفي صلب الموضوع. يقول سري كريشنا لأرجونا إن الإنسان يُولد لكي يقاتل؛ ما من خيار في المسألة. كل رغبة تعتمل في نفسه لابد لها من أن تحمله على القتال. بوسعه تحويل غضبه ضد الآخرين، أو تحويله ضد ما هو أناني وحانق في داخله. بإمكانه استعمال يديه لضرب الآخرين أو لتكفيف دموعهم. إنها دعوة للعمل. ولهذا السبب لا يصف سري كريشنا أبطال وبطلات "درب محبة" الغيتا بلغة عاطفية وإنما بلغة حربية.

ذاك الذي أحبه،
هو من لا يضمر سوء نية قط، ويقابل الكراهية بمحبة.
يعيش بمعزل عن الأنا والتملك، والألم واللذة،
مفعم بالرحمة،
قانع، منضبط ذاتيًا، وذو عزم راسخ،
مخلص لي من كل قلبه وعقله.
مثل هذا الإنسان أحبه.
لا يُغضِب العالم ولا يغضب منه،
متساميًا على تأثير التفاخر والمنافسة والخوف،
قابلاً للحياة كما تأتي، بخيرها وشرها.
إنه طاهر وكفؤ ومتحرر من التعلُّق،
وعلى أهبة الاستعداد لتلبية كل طلب لي،
كأداة متواضعة من أدوات عملي...
يخدم الصديق والعدو بنفس القدر من المحبة،
لا يغرُّه المديح، ولا ينفره اللوم،
في الحر كما في البرد، في اللذة والألم،
متحرر من التعلقات الأنانية والعناد،
كامل في كل وقت، ومتناغم في كل مكان،
راسخ في إيمانه،
مثل هذا الإنسان عزيز علي.

في جنوب أفريقيا بالذات تعلَّم غاندي ترجمة هذه المُثل الرائعة إلى عمل مؤثر. واستلهامًا من الاستجابة إلى جهوده في مجال التمريض خلال حرب البوير، عمل على تطويع فيلق إسعاف هندي ثان لمساعدة حكومة ناتال على قمع "تمرد" قام به السكان المحليون من الزولو Zulu. غير أنه اكتشف، آنئذ، أنه لا مجد في الميدان. لقد تحول "التمرد" إلى مجرد مبرر لقنص البشر مما فتح عيني غاندي على أهوال الحرب. كان يستيقظ كل صباح على صوت أزير الرصاص حيث كانت القوات البريطانية تدكُّ وتدمر قرية أخرى للزولو، فكان ينبغي عليه أن يسير مع متطوعيه أحيانًا قرابة الأربعين كيلومترًا يوميًا وهم يحملون أجساد المواطنين الأبرياء الذين أساء الجنود البريطانيون الحاقدون معاملتهم بلا شفقة. لم تكن تدعه يرتاح تلك الحماقة التي تسببت في معاناة أولئك الناس. كان يحمل مع المتطوعين، ليلاً نهارًا، النقَّالات عبر هضاب ناتال القاحلة الشاسعة، ويستغرق عميقًا في صلاة وتفحص ذاتي في سعي محموم من أجل قوة أكبر لما كان يقوم به.

لقد قاده تشوُّقه العارم إلى منبع القوة ذاته. فمن خلال تأمل عميق في الذات أخذ غاندي يدرك كم هو مقدار الطاقة الحيوية المحتجزَة في الدافع الجنسي. وبفيض من التبصر أدرك أن الجنس ليس مجرد غريزة جسدية، بل تعبير عن القوة الروحية الهائلة القابعة خلف كل المحبة والخلق التي تسميها المخطوطات الهندوسية المقدسة "كونداليني" Kundalini، قوة الحياة الدافعة إلى التطور. فطوال حياته كانت تستعبده تلك الغريزة، مُطوِّحة به في هذا الطريق أو ذاك، خارج سيطرته. لكن في الصمت المخيِّم على هضاب ناتال، وبكل رغبته الحارقة في خدمة ورعاية الجرحى والمحتضرين، وجد غاندي القوة لكي يستأصل تلك السلطة المتحكمة فيه من أصلها. إذ ذاك عقد العزم على أن يكون سيدها، وألا يدعها مطلقًا تُملي عليه أوامرها مجددًا. كان قرارًا بدَّد توتراته الأكثر عمقًا، وحرَّر كل طاقة المحبة الكامنة في داخله، متحكمًا فيها بوعي. لقد بدأ في تحويل ما تبقى من أهوائه إلى قوة روحية.

ترجمة: غياث جازي

*** *** ***


 

horizontal rule

* فصل من كتاب غاندي الإنسان، إكناث إيسوران، ترجمة غياث جازي. قيد الترجمة حاليًا.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود