|
علم نفس الأعماق
كنا نقول إن الوعي متشابه لدى جميع البشر. وأينما كنت تعيش، في الشرق أو في الغرب، فإن الوعي يتألف من عدة طبقات هي المخاوف والأمور التي تدعونا للقلق والرغبات والآلام وكل أشكال الإيمان. وبين الحين والآخر نجد الحب أيضًا في الوعي، والحنان والشفقة، ومن هذا الحنان بالذات يتولد نوع مختلف تمامًا من الذكاء. أما الخوف من الاندثار، من الموت فهو موجود دومًا. ومنذ فجر التاريخ حاول الإنسان حول العالم أن يجد شيئًا مقدسًا يتجاوز كل فكر، شيئًا لا يفسد ولا يتخرَّب، شيئًا أزلي الوجود. يوجد الوعي الجماعي لدى مختلف المجموعات، مثل وعي مجموعة رجال الأعمال، ووعي مجموعة العلماء والنجارين، وغيرهم. وهذه كلها تصوغ جزءًا من محتويات الوعي الكلي، وهي حتمًا نتيجة للفكر، حيث قام الفكر بخلق أمور رائعة الجمال من الحواسيب ذات التقنية الفائقة، إلى الاتصالات، إلى الآليين، وصولاً إلى أدق العمليات الجراحية والأدوية. وقام أيضًا باختراع الديانات، حيث أن كل المنظومات الدينية حول العالم موجودة وتتراكب مع بعضها بسبب الفكر.
انبثقت الثورة التونسية من النقطة العمياء الواقعة خارج نطاق الرؤية. ليس كافيًا أن نسعى إلى تفسير أسبابها من خلال المقولات الموضوعية للمنطق الاقتصادي-الاجتماعي. فهذه التفسيرات تقودنا إلى الانجرار وراء وهم الحتميَّة الذي يتسبَّب بالكثير من الضرر في عصرنا حيث يبدو كل شيء مبرمَجًا. وتُجرِّد الوجود البشري من المستقبل عبر جعل هذا الوجود قابلاً للتوقُّع، في راحة الاستذكار المبرَّدة. لا، الثورة التونسية هي مفاجأة بما في ذلك للأشخاص الذين أطلقوها وقادوها بعزم وتصميم. فضلاً عن ذلك، تأتي في وضع انكفأ فيه مفهوم الثورة من مساحة التفكير عندنا، على الأقل منذ انهيار جدار برلين. أخذت انطلاقة الثورة التونسية وقوَّتها الجميع على حين غرَّة. بدءًا من نظام بن علي. فقد انطلقت شرارتها من نقطة واقعة خارج نطاق الرؤية المضبوط الذي شكَّله هذا النظام.
في خُماسيَّته الجليلة هذه، يُحْدِث الدكتور كوستي بندلي ثورة مزدوجة في علم النفس. الثورة الأُولى موجَّهة إلى المنهج السلوكي السائد في الثقافة الأنكلوسكسونية، الذي خفضَ دُعاتُه علم النفس إلى دراسات إحصائية لجوانب من السلوك البشري. وبالَغَ عددٌ من هؤلاء في تركيزهم على هذه الطريقة ورفْضهم كل ما عداها إلى حد إخراجهم الفردَ البشري كليًا خارجَ اهتمام علم النفس وقَصْرِهم هذا العلمَ على الجماعة. والجماعة قد تكون كيانًا وَهْميًا مضلِّلاً إذا كان الفرد هو المقصود. فالنظرة القائلة بأن الأقلية العرقية أو الدينية في مجتمع معيَّن تُناصِر الحركات السياسية الراديكالية في ذلك المجتمع – وإنْ كانت نظرة مبرهَنة إحصائيًا – لا تعني أن هذا الفرد أو ذاك من تلك الفئة مناصِرٌ بالتأكيد للسياسة الراديكالية، كما لا تُعين المرشد النفسي بالضرورة على مساعدته لتَجاوُز حالة انعزال عن الآخرين أو عداء تجاههم أو عدم ثقة بهم.
|
|
|