الصفحة السابقة             الصفحة التالية

شبكة الفكر: الحديث الثاني

 

جدّو كريشنامورتي

 

كنا نقول إن الوعي متشابه لدى جميع البشر. وأينما كنت تعيش، في الشرق أو في الغرب، فإن الوعي يتألف من عدة طبقات هي المخاوف والأمور التي تدعونا للقلق والرغبات والآلام وكل أشكال الإيمان. وبين الحين والآخر نجد الحب أيضًا في الوعي، والحنان والشفقة، ومن هذا الحنان بالذات يتولد نوع مختلف تمامًا من الذكاء. أما الخوف من الاندثار، من الموت فهو موجود دومًا. ومنذ فجر التاريخ حاول الإنسان حول العالم أن يجد شيئًا مقدسًا يتجاوز كل فكر، شيئًا لا يفسد ولا يتخرَّب، شيئًا أزلي الوجود.

يوجد الوعي الجماعي لدى مختلف المجموعات، مثل وعي مجموعة رجال الأعمال، ووعي مجموعة العلماء والنجارين، وغيرهم. وهذه كلها تصوغ جزءًا من محتويات الوعي الكلي، وهي حتمًا نتيجة للفكر، حيث قام الفكر بخلق أمور رائعة الجمال من الحواسيب ذات التقنية الفائقة، إلى الاتصالات، إلى الآليين، وصولاً إلى أدق العمليات الجراحية والأدوية. وقام أيضًا باختراع الديانات، حيث أن كل المنظومات الدينية حول العالم موجودة وتتراكب مع بعضها بسبب الفكر.

اخترع الفكر الحاسوب، لهذا علينا أن نفهم تعقيداته وأن نحاول تصور مستقبله، لأنه سيتفوق على فكر الإنسان، وسيغير بنية المجتمعات والحكومات. وهذا ليس استنتاجًا مذهلاً مني، وليس فكرة خيالية، بل هو حقًا أمر يحدث الآن، وقد لا تكون على علم به. للحواسيب ذكاء ميكانيكي، فهي تستطيع التعلم والاختراع. كما سيجعل الحاسوب من جهد الإنسان أمرًا لا لزوم له عمليًا – ربما سيكون عمل الإنسان ساعتين مثلاً يوميًا. إن كل هذه تحولات قادمة دون شك. قد لا تحبذها، وقد تثور ضدها، لكنها قادمة دون شك.

لقد اخترع الفكر الحاسوب، لكن فكر الإنسان محدود والذكاء الميكانيكي للحاسوب سيتجاوز ذكاء صانعه، لهذا سيقوم بإحداث تغييرات ثورية في حياتنا. ولهذا أيضًا أسأل: ماذا يبقى للإنسان؟ ماذا سيحدث للإنسان في تلك الحالة؟ إن كل هذه الأمور حقائق، وهي ليست نتائج خاصة بالمتكلم.

عندما أفكر بمقدرة الحاسوب وقابليته وسعته أجد أننا يجب أن نسأل أنفسنا: ماذا يجب على الإنسان أن يفعل؟ وما الذي سيحصل للدماغ عندما يتولى الحاسوب القيام بمعظم نشاطاته؟ عندما يحتل الحاسوب أو الرجل الآلي حيز الإنسان ومكانته، فماذا سيبقى للإنسان؟ لقد تمت برمجتنا بيولوجيًا وذهنيًا وعاطفيًا ونفسيًا عبر ملايين السنين، وما نفعله هو أننا نكرر النمطَ المبرمج نفسه مرارًا وتكرارًا. لقد توقفنا عن التعلم، وعلينا التحقق من قدرة الدماغ، الذي بُرمج لقرون عديدة، على التعلم والاهتداء إلى بعد جديد. إذا لم نكن قادرين على ذلك سيتولى الحاسوب – الذي يمتلك قدرات وسرعة ودقة أكثر منا – مهام الدماغ ونشاطاته.

وهذا ليس أمرًا عابرًا وعاديًا. هذا موضوع هام جدًا جدًا. لأن الحاسوب قادر على اختراع دين جديد، حيث يستطيع باحث هندوسي خبير، أو كاثوليكي أو بروتستانتي أو مسلم، برمجته ليقوم بهذه المهمة، وقد ينتج عن ذلك دين جديد بديع البنية! ونحن، إن لم نكن واعين لما يجري، فإننا سنتبع تلك الرسالة الجديدة التي تمخض عنها الحاسوب. انظر إلى جدية كل هذا، أرجوك.

لقد تمت برمجة وعينا لآلاف وآلاف السنين بحيث نعتبر أنفسنا فرادى، كيانات منفصلة تجاهد في صراع يبدأ من لحظة الولادة ولا ينتهي سوى بالموت. هذا ما بُرمجنا لنعتقده. وهو ما نقبله عمومًا. لكننا لم نختبره أبدًا، ولم نسأل مرة عن احتمال العيش دون صراع. وبما أننا لم نسأل ذاك السؤال فإننا لن نتعلم شيئًا عن الإجابة. ونكرر، إن كياننا ووجودنا مفطور على الصراع – فالطبيعة دومًا في حال من الصراع: هذه هي حجتنا. لذلك نحن لا نرى العملية التطورية إلا من منظور الصراع. لقد حافظت المؤسسات الدينية عبر التاريخ على فكرة الخلاص الفردي. ونتسائل بكل جدية: هل هناك وعي فردي؟ هل لديك – أنت كإنسان – وعي منفصل عن وعي بقية البشر؟ عليك أن تجيب على السؤال لا أن تحتال عليه.

وبما أننا رُبينا، وبُرمجنا، وكُيِّفنا لنكون فُرادى، فإن وعينا محدود بنشاط الفكر هذا. والخوف والسعي حثيثًا للحصول على السعادة هي إملاءات الفكر. المعاناة والقلق والشك والأسف الذي يملأ أعماقنا، والجراح، وأحمال القرون الماضية المثقلة بالندم، هذه كلها أجزاء من الفكر. إنه المسؤول عما نسميه الحب الذي تحول إلى متعة حسية بحتة، إلى شيء تتمناه وترغبه.

كما قلنا، وسنكرر المرة تلو الأخرى حتى نتأكد بشكل نهائي أننا نفكر معًا، لا يحاول المحاضر أن يملي عليكم ما يجب أن تفكروا به، فما يقوم به ليس دعاية على الإطلاق – فالدعاية أمر فظيع، إنه لا يحاول تعليمكم كيفية التصرف، ولا ما عليكم الإيمان به، ولكن معًا لنحاول استقصاء الكارثة التي تحصل في العالم الخارجي، تلك القسوة الرهيبة وذلك العنف الذي لا يرحم، بالإضافة إلى الصراع المهول الدائر في داخل كل إنسان. لنحاول معًا دراسة ما يجري، فالأمر ليس – كما قد يشير البعض – أنك تستمع إلى بعض الأفكار أو النتائج الجاهزة، فنحن لا نتحدث عن أفكار ونتائج أو معتقدات، نحن في الحقيقة نتقصى هذا العالم الذي صنعه البشر، فجميعنا مسؤولون عنه، وعلينا أن نفهم بوضوح – مهما كانت سوية استيعابنا وفهمنا، سواء كان هذا الفهم عقلانيًا حرفيًا أم فهمًا حقيقيًا للمعنى العميق ما يجعلنا قادرين على فهم الأفعال – أننا وصلنا إلى نقطة مفصلية توجب علينا اتخاذ قرار. وهذا لن يكون عن طريق الممارسة، إنما سيكون ذلك القرار الذي يأتي لوحده حين نبدأ بفهم الطبيعة الكلية لبنية العالم، الخارجي والداخلي معًا. ومثل هذا الفهم سينجم عنه قرار وفعل.

لقد خلق الفكر المعضلات المحيطة بنا، وتدرَّبت أدمغتنا وتعلَّمت وتكيِفت لحلِّ هذه المشاكل. خلق الفكر معضلات كالنزاعات القومية. كما خلق الفكر النزاعات والصراعات بين البنى الاقتصادية المختلفة. وخلق الفكر الديانات المتباينة والاختلافات بينها، لهذا يوجد الصراع. وقد دُرِّب الدماغ ليحاول حلَّ تلك الصراعات الناتجة عن الفكر. لذلك فإن الفهم العميق لطبيعة التفكير وطبيعة ردود أفعالنا الناتجة عن تفكيرنا يعتبر أمرًا أساسيًا. يهيمن الفكر على حياتنا أيًّا كانت الأعمال التي نقوم بها. لهذا فإنه وراء كل أفعالنا. لهذا فإن الفكر يعمل دائمًا سواء كانت الفعالية حسية أم ذهنية أم بيولوجية. لقد بُرمج الدماغ وكيِّف بيولوجيًا طوال قرون (بينما يتصرف الجسد بطريقته الخاصة من خلال التنفس وضربات القلب وهكذا)، لذا، حين تكون كاثوليكيًا، هندوسيًا أو بوذيًا، فإنك تكرر تلك الإشراطات المسبقة مرة تلو الأخرى. الفكر سيرورة زمانية ومكانية. الفكر هو الذاكرة، وتذكُّر الماضي. الفكر هو الأفعال الناجمة عن المعرفة المتراكمة عبر ملايين السنين والمختزنة كذاكرة في الدماغ. لذلك فإنك إن راقبت نشاط تفكيرك لوجدت أن التجربة والمعرفة هما أسس حياتك. والمعرفة لا تنتهي أبدًا، وهي دومًا تترافق مع الجهالة. ونحن نعتقد أن المعرفة كفيلة بحلِّ كل مشاكلنا، فسواء كانت المعرفة هي معرفة القس أم المعلم أم العالِم أم الفيلسوف أم آخر الأطباء النفسيين. نحن لم نتساءل أبدًا عن إمكانية المعرفة في حلِّ أي من مشاكلنا – ما عدا ربما تلك التقنية منها.

وتتراكم المعرفة عبر الزمن. فلكي تتعلم لغةً ما تحتاجُ إلى الوقت. كما أن التمكن من مهارة ما كقيادة السيارة بكفاءة يتطلب وقتًا. وهذا ينطبق أيضًا على المجال السيكولوجي. فهناك أيضًا نقول: أحتاج إلى وقت كي أعرف ذاتي، أحتاج إلى وقت كي أغير نفسي مما أنا عليه الآن إلى ما يجب أن أكون عليه. إن تطبيق نشاط العالم الخارجي على العالم النفسي الداخلي يعني أن عامل الزمن هو عامل كبير الأهمية في حياتنا – المستقبل منه والماضي والحاضر. والزمن هو فكر. الزمن ضروري من أجل تحصيل المعارف عبر الخبرات، سواء في العالم الخارجي أو في داخل النفس. هكذا تمت برمجتنا.

ولأننا بُرمجنا بهذا الشكل، فإننا نعتبر أن الوقت هو عامل هام لإحداث تغيير أصيل عميق وأساسي في البنية البشرية. ونحن نستعمل الوقت كفكر. فكما تقول (أنا ذاك، أو سأكون كذا)، كذلك تقول في العالم التقني (لا أعرف كيفية بناء حاسوب لكنني سأتعلم). الوقت والمعرفة والذاكرة والفكر شيء واحد. هي ليست أبدًا نشاطات منفصلة بل إن حركتها واحدة. والفكر الناجم عن المعرفة سيبقى دائمًا غير مكتمل، لهذا فهو محدود كما أن المعرفة غير مكتملة. وكل ما هو غير مكتمل يولد الصراع حتمًا. القومية محدودة، الإيمان الديني محدود، التجارب التي مررت بها أو التي تتوق إلى تجربتها جميعها محدودة. كل تجربة مشروطة بمحدوديتها.

السائل: لماذا؟

كريشنامورتي: لأن هناك المزيد من التجارب. قد تكون لي تجربة جنسية، أو قد تكون لدي خبرة في جمع المال، أو خبرة في الزهد فأتخلى عنه وأذهب للعيش في دير. لكن هذه كلها تجارب محدودة. وبالتالي فإن الفكر محدود. وبما أن الفكر محدود فإنه يولد المشاكل على الدوام – مشاكل وطنية واقتصادية وانقسامات دينية –، ومن ثم يأتي ليقول: "عليَّ حلُّ هذه المسائل". وهكذا فإن الفكر مشغول دومًا بحل المشاكل. هل فهمت؟ أنا أتساءل إن كنت فهمت هذا؟ أمَّا الحاسوب (الذي تمت برمجته) فإنه يستطيع التفوق علينا جميعًا لأن لا مشاكل لديه، إنما هو يتطور، ويتعلم ويتحرك. لن أغوص الآن في هذا الموضوع.

لقد تمت برمجة وعينا بحيث يرى أنه وعي فردي، صحيح؟ ونحن نبحث اليوم فيما إذا كان هذا الوعي – الذي نسلِّم بفردانيته – فرديًا تمامًا. لا تقل: ما الذي سيحدث إذا لم أكن فردًا متميزًا؟ لأن ما قد يحصل هو شيء مختلف تمامًا. قد تكون لك تجربتك الخاصة، أو عملك الخاص في مهنة ما، وقد تكون جراحًا أو طبيبًا أو مهندسًا... إلخ، إلا أن كل ما سبق لا يجعل منك فرديًا. قد يكون لك اسمك الخاص المختلف، وشكلك الخاص المختلف، لكنها لا تعني فرديتك، كما لا يؤكدها أيضًا تسليم ذهنك بها وقبوله لها عبر الزمن قائلاً: "أنا ذو شخصية مميزة، وأرغب أن أتحقق عبر الصراع". فذلك الشيء الذي يسمى الوعي الفردي، ذلك الوعي الخاص بك وحدك، هو وعي الإنسانية جمعاء.

وإذا كان وعيك، الذي تعتبره منفصلاً، هو غير منفصل فما هي طبيعة وعيك؟ تشكِّل الاستجابات الحسية جزءًا منه، وهي استجابات مبرمجة من أجل الدفاع عن النفس بشكل طبيعي وبالضرورة، كالجوع فيما يتعلق بالبحث عن الطعام وكالتنفس اللاإرادي، لأنك مبرمج بيولوجيًا؛ كما يتضمن وعيك كل أذى وكل جرح تعرضت له منذ طفولتك المبكرة، وأشكال عديدة من مشاعر الذنب؛ ويتضمن الأفكار المختلفة والحقائق الخيالية والتجارب العديدة، الحسية منها والنفسية. هنا توجد أسس وجذور الخوف بأشكاله المتعددة. وإلى جانب الخوف، بشكل طبيعي، توجد الكراهية. وأنى وجد الخوف وجد العنف، والعداء، والاندفاع الرهيب للفوز في العالمين المادي والنفسي على حد سواء. كما يتضمن الوعي السعي إلى تحقيق السعادة والمتعة كمتعة الامتلاك، أو السيطرة، أو متعة امتلاك الثروة التي تعطي صاحبها السلطة، أو متعة الفيلسوف بمعرفته الضخمة أو متعة المعلِّم (الغورو) من خلال سيركه، لأن للمتعة أشكالاً لا تنتهي. كما يحتوي الوعي أيضًا على الألم والقلق والإحساس العميق بالوحدة وبالأسى. ولا يقتصر هذا على الأسى الشخصي بل يمتد ليشمل الألم الجماعي الهائل الذي تسببه الحروب والإهمال من خلال تلك السلسلة التي لا تنتهي، كاحتلال الجماعات لجماعات أخرى. إن هذا الوعي يحتوي على العنصرية والفئوية، وفي النهاية يحتوي على الموت.

هذا هو وعينا – إنه معتقداتنا، ويقينياتنا، وشكوكنا، وهواجسنا، ووحدتنا، وشقاؤنا اللانهائي. هذه حقائق. وبعد كل هذا نقول: هذا هو وعيي الفردي!. هل هو كذلك حقًا؟ اذهب إلى الشرق الأقصى أو الأدنى، إلى أميركا أو إلى أوروبا... إلى أي مكان يعيش فيه الناس، وستجد أنهم جميعًا معذبون، وقلقون، ووحيدون ومحبطون ومكتئبون، ويعيشون في حال صراع ونضال دائم. سترى أنهم مثلك تمامًا. لذلك، هل يختلف وعيك عن وعيهم؟ أعرفُ أن قبول الناس لهذه الفكرة صعب جدًا – فقد يقبلها العقل وقد يقول المرء لنفسه: "نعم. ربما هذا صحيح"، لكن الإحساس بالوعي الإنساني الجماعي والكلي، والشعور بأنك البشرية بأكملها ولست جزءًا صغيرًا منها يتطلب مقدارًا هائلاً من الحساسية. إنها ليست مشكلة يتوجب عليك حلها. المشكلة ليست في أن عليك القبول بأنك لست شخصًا منفردًا، وأن عليك المجاهدة لتشعر بهذا الكيان البشري الكوني. لأنك لو فعلت ذلك فإنك ستحول ما تبتغيه إلى مشكلة أخرى يكون دماغك بالطبع فيها أكثر من جاهز لمحاولة حلها! ولكن، من ناحية أخرى، إن تمعنت بها بعقلك، ولمستها بقلبك، وحاولت إدراكها بكامل كيانك فإنك ستحطم البرنامج. سيتحطم بشكل طبيعي. ولكن إن قلت: "سأتخلص منها" فإنك ستجد نفسك أسيرًا للنمط نفسه. من يتحدث أمامكم هو حقيقة واقعية، وليس أمرًا نقبله كلاميًا لأنه يسرُّنا، إنه شيء واقعي. قد تفكر بهذه المسألة بشكل منطقي عقلاني لتجد أنها حقيقية. لكن دماغك الذي بُرمج ليشعر بالفردانية والانفصالية سيثور ضدها (وهذا ما يدور داخلك الآن)، لأن الدماغ لا يريد التعلُّم. الحاسوب سيتعلم لأنه لن يخسر شيئًا، أمَّا الإنسان فيخاف من فقدان شيء ما.

هل يستطيع الدماغ التعلُّم؟ تلك هي المسألة برمتها. لذلك سنخوض الآن في هذا السؤال الذي هو ماهية التعلم. لأن التعلم، كما يبدو للكثير منا، هو عملية اكتساب للمعرفة. فأنا لا أعرف اللغة الروسية لكني سأتعلمها. سأتعلم يومًا بعد يوم، سأحفظ، وأكتسب المفردات والعبارات وقواعد اللغة. وإن طوعت نفسي فإني سأكون قادرًا على تعلم أية لغة خلال وقت معين. بالنسبة لنا، ليس التعلم بشكل أساسي سوى تراكم المعارف أو المهارات. وأدمغتنا مشروطة بهذا النمط الذي هو مراكمة المعرفة ومن ثم الفعل. عندما أتعلم لغة فإنني أحتاج إلى المعرفة. ولكن، عندما أختبر نفسيًا محتوى ذهني، ووعيي، فهل يعني التعلم هنا البحث في كل سوية منه ومراكمة المعرفة عنه والتفاعل حياتيًا بناء على تلك المعرفة، بمعنى اتباع النمط نفسه وكأنني أتعلم لغة ما؟ إذا كرر الدماغ النمط نفسه لدى تعرفه على محتويات الوعي، فإن هذا يعني أنني أحتاج إلى الوقت لأكدس معرفتي لذاتي، ولوعيي. بعدها أحدد المصاعب التي تواجهني فيصبح دماغي قادرًا على وضع حلول لها – فهو مدرب على حل المعضلات. ما يعني أنه يكرر ذلك النمط الذي لا ينتهي والذي أسميه (التعلُّم). لكن هل يوجد تعلُّم آخر غير ذلك الذي تحدثنا عنه؟ هل توجد آلية مختلفة للتعلم غير هذه، آلية لا تتضمن تراكم المعرفة؟ هل ترون الفرق؟

فلأصغ كلامي بطريقة أخرى: نحن نحصل على المعرفة من خلال التجربة، مخزنين المعرفة بشكل ذاكرة، تستجيب الذاكرة من خلال الفكر، ومن الفكر ينتج الفعل، ومن الفعل والتفاعل تتعلم المزيد، تبدأ الدورة من جديد. هذا هو نمط حياتنا. وهذا الشكل من التعلم لن يحل مشاكلنا إطلاقًا لأنه مبني على التكرار. قد نحصِّل المزيد من المعرفة مما قد يقودنا إلى أفعال أفضل. لكن أفعالنا تبقى محدودة وهذا ما نكرره دومًا. لذا، لن يحلَّ الفعل الناتج عن تلك المعرفة مشاكلنا الإنسانية على الإطلاق. لأننا لم نحلها حقًا، وهذا واضح جدًا. ورغم مضي ملايين السنين نحن ما زلنا نعاني من المشاكل، وما زلنا نجز أعناق بعضنا، ونتنافس، ونكره بعضنا، ونريد النجاح. إننا نكرر النمط ذاته مذ وجد الإنسان الأول. وعبر تكرارنا للنمط ذاته لن تحل أي من مشكلاتنا، سواء كانت سياسية أم دينية أم اقتصادية، لأن من يعمل على حلها هو الفكر.

والآن، هل يوجد شكل آخر للتعلم، ونحن لا نقصد هنا التعلم بمعنى المعرفة، بل شكلاً آخر له، بمعنى التعلم الذي يعتمد على الفهم غير التراكمي؟ من أجل اكتشاف ذلك، علينا البحث في إمكانية استكشاف محتويات وعينا ومراقبة العالم من دون أدنى قدر من التحيز. هل هذا ممكن؟ لا تجب بالنفي. فقط اطرح السؤال. وتمعن هل بوسعك إن كنت متحاملاً أن ترصد بوضوح. وسترى أن ذلك مستحيل. وكذلك إذا كان لديك حكم مسبق عن الحياة، جملة من المعتقدات والمفاهيم والأفكار، وأردت رؤية ماهية العالم فإن كل تلك الانحيازات المسبقة، كل تلك النتائج والاعتقادات والأفكار والمفاهيم، ستمنعك من رؤيته بوضوح. والسؤال هنا ليس كيفية التخلص من آراءك المسبقة، بل كيفية الرؤية الصافية، والفهم الذكي. لأن أي شكل من الانحياز لرأي ما، مهما كان نبيلاً أو وضيعًا، سيمنعك من الفهم الصحيح. عندما تفهم هذا سيتبخر الانحياز. فالمهم هو الرؤية الصافية وليس التخلص من الآراء المسبقة.

لن أستطيع أن أكون جراحًا ماهرًا إن كنت متحيزًا للجراحين، وحاملاً أفكار مسبقة عنهم. عليَّ ممارسة الجراحة كي أصبح جراحًا جيدًا. هل تتلمس معي أن نوعًا جديدًا من النشاط، والمعرفة اللاتراكمية جائز وممكن، معرفة ستوقف التكرار النمطي العام، كما ستكسر البرنامج، للتفاعل بشكل مختلف تمامًا؟

لم تكن الطريقة التي عشنا تبعًا لها ملايين السنين سوى تكرار للعملية نفسها من أجل اكتساب المعرفة والتفاعل بناء عليها. ولهذا كانت تلك المعرفة وذلك النشاط المبني عليها محدودين، وتلك المحدودية قادت إلى خلق المشكلات اعتاد الذهن على وضع حلول لها، وهي المشكلات نفسها التي داومت المعرفة على تكرار خلقها، وأصبح الدماغ أسير ذلك النمط، وهذا النمط لن يحل أيًا من مشكلاتنا الإنسانية مهما كانت الظروف. من الواضح أننا لم نحل مشكلاتنا بعد، لذلك لا بد من حدوث حركة مختلفة تمامًا، حركة معرفية مبنية على فهم غير تراكمي للأشياء. ما يعني التوقف عن اتخاذ أصنام من الآراء المسبقة، التجرد من كل أنواع المفاهيم والعقائد والمسلمات، لأنها كلها تسببت في دمار الإنسان، ولم تحل مشكلاته يومًا. لذا، هل لديك أي رأي مسبق؟ هل يشترك رأيك المسبق مع فكرة ما، أو هدف ما؟ طبعًا، لأن الغايات والأهداف هي ما نصبو إلى تحقيقه في المستقبل، والمعرفة هامة جدًا لتحقيق هذه الغايات. لذلك، هل بوسعك الرؤية دون مراكمة لمعارفك، ومن دون الطبيعة المدمرة للآراء المسبقة وللمفاهيم والمعتقدات وللاستنتاجات الشخصية المبنية على تجاربك الخاصة؟ يوجد وعي جماعي، وعي وطني، وعي لغوي، وعي حرفي، وعي عنصري، كما يوجد خوف وقلق وأسى ووحدة وسعي لتحقيق السعادة والحب، وأخيرًا يوجد الموت. لذلك إن تابعت الخوض في تلك الدائرة فإنك ستحافظ على الوعي الإنساني العالمي كما هو. حاول فقط أن تفهم حقيقة الأمر. لأنك جزء من هذا الوعي وأنت تعزز ذلك بقولك: أنا فرد، وآرائي هامة، وكذلك رغباتي ومفاهيمي أساسية، مكررًا الأمر ذاته مرارًا وتكرارًا. والآن، كلما صنتَ ذاك الوعي بتأكيدك عليه ازدهر وعاش بتكرارك له. ولكن عندما تنعتق من هذا الوعي فإنك ستدخل عليه كليًا عاملاً جديدًا.

والآن، إن فهمنا طبيعة وعينا، وتفحصنا الطريقة التي يعمل بها في قلب هذه الدائرة التي لا تنتهي (المعرفة ثم الفعل ثم الانقسام والتجزئة)، وهو وعي مدعم ومعزز منذ ألف عام، إن لاحظنا أن كل هذا هو شكل من الانحياز المسبق، حتى لو هربنا منه واستبدلنا عاملاً جديدًا بالعامل القديم، ما يعني أنك كإنسان، يحتوي على جزء من الوعي الكلي الإنساني، قادر على التخلص من نمط الطاعة والقبول القديمين قدم الزمن. وهذه هي نقطة التحول الحقيقية في حياتك. لأنه لا يمكن للإنسان الاستمرار في تكرار النمط القديم نفسه، لأن هذا النمط فقد معناه (في العالم النفسي على وجه الخصوص)، حيث من يهتم بتحقيقك لذاتك، ما أهمية أن تصبح قديسًا، بينما يؤثر ابتعادك الكامل عن هذه الأمور على وعي البشرية جمعاء.

14 تموز، 1981

ترجمة: يارا البرازي

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود