|
تحليل نفسي لثورة تونس
انبثقت الثورة التونسية من النقطة العمياء الواقعة خارج نطاق الرؤية. ليس كافيًا أن نسعى إلى تفسير أسبابها من خلال المقولات الموضوعية للمنطق الاقتصادي-الاجتماعي. فهذه التفسيرات تقودنا إلى الانجرار وراء وهم الحتميَّة الذي يتسبَّب بالكثير من الضرر في عصرنا حيث يبدو كل شيء مبرمَجًا. وتُجرِّد الوجود البشري من المستقبل عبر جعل هذا الوجود قابلاً للتوقُّع، في راحة الاستذكار المبرَّدة. لا، الثورة التونسية هي مفاجأة بما في ذلك للأشخاص الذين أطلقوها وقادوها بعزم وتصميم. فضلاً عن ذلك، تأتي في وضع انكفأ فيه مفهوم الثورة من مساحة التفكير عندنا، على الأقل منذ انهيار جدار برلين. أخذت انطلاقة الثورة التونسية وقوَّتها الجميع على حين غرَّة. بدءًا من نظام بن علي. فقد انطلقت شرارتها من نقطة واقعة خارج نطاق الرؤية المضبوط الذي شكَّله هذا النظام. كيف يمكن مقاربة هذه النقطة العمياء؟ يجب أن نعطي مفهوم شرارة الانطلاقة قيمة خاصة به تتجاوز التفكير الآلي في التراكمات والقطيعة. علينا تحليل هذا العنصر "الفجائي" الذي يعني في اللغة "ما يأتي من دون أن يُرى"، والذي يقلب في فترة وجيزة الخضوع، الظاهري على الأقل، رأسًا على عقب ويحوِّله عصيانًا واضحًا ومعمَّمًا. بات لشرارة الانطلاقة هذه اسم، وهو إشعال بو عزيزي النار في نفسه. خلافًا لما قيل، ليس بو عزيزي خريجًا جامعيًا من دون عمل، بل هو تاجر فواكه متجوِّل صادرت شرطة البلدية عربته وصفعه أحد عناصرها خلال الاشتباك بالأيدي. وهو لم يُحرِق نفسه فقط بسبب حرمانه من مورد رزقه، بل بعدما اصطدمت شكواه بأبواب موصَدة أو رُدَّت واعتُبِرت مرفوضة. الالتقاء بين الحرمان المادي وعدم الاعتراف بالضيم هو الذي جعل بو عزيزي يحرق نفسه بدافع اليأس. لكن عندما نصغي إلى رجل الشارع في تونس وننتبه للكلمات التي تشرح انتفاضته، في إشارة إلى ما قام به بو عزيزي، تتكرَّر كلمة باستمرار وكأنها لازمة: "القهر". إنه مصطلح مخيف يرتبط بأعتى أشكال القوَّة، تلك التي تستعبد الشخص وتُحوِّله نحو العجز الكامل. ومن جذرها تُشتَق العبارة التي تشير إلى المنتصر الحاسم، أي الذي لا يُقهَر (إحدى صفات الله)، وكذلك اسم القاهرة (المدينة المنتصرة)، كما تُشتَق منها الكلمة التي تشير في اللغة العربية التونسية، وهنا المفارقة، إلى حالة البشرة المحروقة والمفرَّغة من محتواها. قد نرى فيها مصادفة دلالية جميلة جدًا، لكن الواقع يبقى أن التونسيين ينهلون من لغة الضيق الذي يشعر به الإنسان الذي أصبح عاجزًا بالكامل، للإشارة إلى الفعل الذي قام به بو عزيزي كمصدر للتماهي مع وضعه وثورته. لا مبالغة في وصف نظام بن علي بأنه نظام حكم يتسبَّب بالعجز الكامل: إلغاء التونسيين سياسيًا وتحويل الفاعلين على الساحة العامة دمى، وشرطة همجية ومتطوِّرة تقنيًا، ونهب جماعته الجشعة للأملاك العامة على مرأى من الجميع، وإذلال المعارضين جسديًا ومعنويًا، وعنجهية وأكاذيب تتواصل يوميًا، ويترافق ذلك مع الإطراءات من الديموقراطيات الغربية التي تدَّعي، كالعادة، أنها لا تعرف. يمنح الفعل الذي قام به بو عزيزي الثورة إمكانية قلب الأوضاع، فهو يُبيِّن أن الإنسان يستطيع أن يجد قوَّة حتى في عجزه، ويستطيع أن يكون موجودًا عبر الاختفاء، ويغلِّب حقوقه عبر خسارة كل شيء. إنه تمامًا نقيض بن علي الذي لا يمكن أن يكون موجودًا إلا عبر إلغاء كل الباقين، مثل صورته الملصقة على كل جدران البلاد. قَلْب نرجسية "القهر" على يد فلاح فقير في منطقة متروكة هو الذي أعطى كل التونسيين الرمز (اللغة الفعلية) الذي أطلق عملية تحوُّل جماعية نحو الذاتية تستند بالتأكيد إلى ظروف اقتصادية-اجتماعية كانت موجودة قبلاً؛ وهي ظروف لم يكن يُتوقَّع أن تتبدَّل من حالة إلى آلية يتعذَّر كبحها فيُحوِّل رجالٌ ونساء فجأةً عجزهم قوَّةً للرفض. هناك جانب خيالي في هذا السيناريو لانطلاقة الشرارة، يدور حول الفعل المستحدَث المتمثِّل في حرق الذات في الثقافة التونسية والمسلمة، هذا إذا لم يكن ربما صدىً لما حفظناه في صغرنا عن زوجة عزربعل التي ألقت بنفسها في أتون النار وهي تصرخ "النار ولا العار" للهروب من قهر الرومان لقرطاجة. بين كنوز الصور في ثورة الفايسبوك رسمٌ مركَّب نرى فيه الرأس المقطوع لبن علي في زي رئيس الجمهورية، وقد استُبدِل برأس بو عزيزي. نظرية فرويد عن التركيبة الليبيدية لجمهور ما تنطبق على واقعنا الحالي: تضع مجموعة من الأفراد الشيء نفسه مكان الأنا المثالي كي يتماهوا بعضهم مع بعض. لكن الفارق هو أن بو عزيزي لم يكن قائدًا، بل الرجل المحترق الذي، ومن خلال اختفائه، سمح للمجموعة بأن تلتهب. وفي هذا، لا يمكن للاوعي ألا يكون سياسيًا. ترجمة: نسرين ناضر ٭ كاتب تونسي. أستاذ علم النفس العلاجي في جامعة باريس.
|
|
|