French Arabic
الصفحة التالية  

ألف عام من التاريخ

تاريخ سورية (بلاد الشام)

من الفتح الإغريقي حتى الفتح العربي الإسلامي

(333 ق م – 635 م)

 سمير عنحوري

سمير عنحوري

 

"التاريخ يتمخَّض من العنف."

هيغل

 

تمهيد

تتردَّد منذ عدة سنوات، في مختلف المناسبات والاحتفالات، ثقافيةً كانت أم تجاريةً أم سياحية، عباراتٌ وشعارات تشير إلى أن سورية "مهد الحضارة"، وأنها "ملتقى الطرق الثقافية والتجارية في العالم القديم"، وأن ساحلها الغربي هو أحد سواحل البحر المتوسط الذي كان يُعتبَر محور هذا العالم منذ أقدم الأزمان، إلخ.

هذه العبارات والشعارات، وإنْ كانت صحيحةً في جوهرها، فقد صارت جوفاء لكثرة ما كُرِّرتْ في شتى المجالات، بمناسبة ومن غير مناسبة، ولاسيما أن معظم المستمعين إليها يجهلون الكثير من الأسباب والحوادث والوقائع التاريخية التي جعلت فعلاً من بلاد الشام، عبر العصور، مهد الحضارة ومعبرًا للشعوب والثقافات.

قصدت في بحثي هذا، دون الرجوع إلى آلاف من السنين مضت من تاريخ هذه البلاد، أن أقتصر على تاريخ سورية في حقبة زمنية محددة بألف عام، تمتد من زمن الفتح الإغريقي حتى زمن الفتح العربي الإسلامي. فهي بنظري حقبة غنية جدًّا من تاريخنا، كان لها أثرٌ بالغ في تكوين تراثنا الفكري والديني والسياسي الذي تظهر آثارُه العميقة حتى اليوم. فإذا أردنا أن نفهم الحاضر وأن نحاول تفسيره، علينا أن نعرف الماضي الذي هو، من غير شك، الخلفية الأساسية للحاضر.

في تلك الحقبة الزمنية بالذات، الممتدة بين العامين 333 قبل الميلاد و635 بعد الميلاد، صنع العالم الغربي لنفسه هويةً سياسية وفكرية نتجتْ عن احتكاكه بالحضارات الشرقية القديمة، مما جعل من الحضارتين الشرقية والغربية، منذ ذلك الحين، وحدتين متكاملتين، مرتبطتين ارتباطًا وثيقًا على مرِّ مئات السنين والأجيال. وربما كان على رجال السياسية الذين يقررون حاليًّا مصير العالم والأمم أن يعوا هذا الواقع ويتفهموه جديًّا إذا هم أرادوا أن يتجنبوا قيادة العالم نحو الدمار. وقد نبَّه المفكر الفرنسي مونتِسكيو سياسيي عصره، منذ القرن الثامن عشر، إلى أن "من الفضائل الملزِمة لكبار الرجال، إذا ما هم أرادوا صنع الأعمال العظام، أن يكونوا مواكبين للشعب ومعه، وليسوا متعالين عليه".

هذا البحث، الذي حاولت جعله مقتضبًا ما أمكن، بحيث لا يسبب مللاً للقارئ، استقيتُه من كتب ومراجع تاريخية وثقافية متعددة قرأتها سابقًا وحاضرًا، محاولاً أن أختار من الكم الهائل من المعلومات وقائع تاريخية هي في نظري بالغة الأهمية في تسلسل الأحداث وما أسفرت عنه من نتائج مصيرية لا مثيل لها في تاريخ الحضارات الأخرى.

دمشق، في 5 تشرين الأول 2004

 

المقدمة

نشأت الدول الأولى منذ حوالى أربعة آلاف سنة قبل الميلاد؛ وهي تُعتبَر الركيزة الأساسية والأولية لأنظمة الدول الحديثة كما نعرفها اليوم. وقد ازدهرت هذه الدول القديمة على ضفاف خمسة أنهار كبرى كانت لها بمثابة نبع الحياة والحضارة؛ وهذه الأنهار هي: النيل، دجلة والفرات، السند والنهر الأصفر.

أولى هذه الدول هي مصر؛ وقد نشأت حوالى العام 3500 قبل الميلاد. وظهرت بعدها دولة ما بين النهرين حوالى العام 2600 قبل الميلاد. ثم لحقت بها، بعد 1500 عام، مملكتا الهند والصين.

تواجدت هذه الدول الأربعة في زمن واحد، وكان ذلك حوالى العام الألف قبل الميلاد. وكان موقع دولة مصر في شمال أفريقيا، بينما كان موقع الدول الثلاثة الأخرى في قارة آسيا؛ وكان كلٌّ من هذه الدول يضم حوالى عشرة ملايين نسمة تقريبًا، وتربط فيما بينها علاقاتٌ تجارية، كانت متقطعة نوعًا ما مع الهند والصين، بالنظر إلى بعدهما، ولكنها متواصلة بين مصر وبلاد الرافدين.

كانت مصر في العصر البرونزي (الألفية الثالثة قبل الميلاد) المعلِّمة الأولى لجزر البحر الأبيض المتوسط. ومن أهمها جزيرة كريت، وهي جزيرة كبيرة تقع شمال الساحل المصري وتمتلك حضارة متقدمة رفيعة المستوى، ولها أسطول بحري تجاري هام.

استولى الإغريق والفينيقيون في الألفية الأولى قبل الميلاد على جزيرة كريت، على الرغم مما كانوا يدينون لها من حضارة وثقافة، ثم تقاسما سِلميًّا المجال التجاري المتوسطي، لكلٍّ منهما فيه منطقة نفوذ خاصة به. كان الفينيقيون يمتهنون التجارة بالدرجة الأولى، بينما ابتكر الإغريق نُظُمًا سياسية مختلفة، خَبِروها جميعًا في مدنهم، وأهمها: الديموقراطية[1] والملَكية[2] والپلوتوقراطية[3] والأوليغارخية[4].

كانت تجمع بين عشرات المدن اليونانية لغةٌ واحدة والآلهةُ نفسها وتاريخٌ مشترك، على الرغم مما كان يقع بينها من خلافات وحروب ضارية (حرب الپيلوپونيسوس[5]). وقد وضع الملك فيليپُس المقدوني – وهو ينتمي أيضًا إلى الثقافة الإغريقية – حدًّا لهذه الصراعات، فأحلَّ السلامَ بين مختلف المدن اليونانية وأخضعها لسلطته بعد الانتصار الذي أحرزه عليها في موقعة خيرونيا (338 ق م). وقد خلفه ملكًا بعد موته في العام 336 ابنُه الإسكندر، وكان يبلغ العشرين من العمر.

سنسرد في الفصول الخمسة اللاحقة تاريخ سورية خلال الفترة الزمنية المحددة في هذا البحث. لكننا سنشير هنا، قبل البدء بهذا السرد، إلى أن تاريخ الأمم والشعوب هو من صنع الإنسان، سواء كان يلعب دور القائد الذي يخلق الحدث أم كان مجرد متفرِّج تُفرَض عليه الأحداثُ فرضًا. ولا شك في أن النوع الأول من هؤلاء الناس – وهم قادة يتمتعون بالجرأة والإرادة والشخصية المميزة الفذة – لعبوا دورًا هامًّا في تاريخ البشرية، بما كانت لديهم من قوة وقدرة على صنع القرار وتغيير مجرى الأحداث وتاريخ الشعوب.

 

الفصل الأول

إن الأحداث البالغة الأهمية التي تجري الآن في منطقة الشرق الأدنى تذكِّرنا في قوة بأن هذه المنطقة كانت دومًا عبر تاريخها، القديم والحديث، ممرًّا للغزاة ومحطَّ أطماع الدول العظمى وصراعاتها للسيطرة على هذا الموقع الجغرافي والاقتصادي الممتاز، مما جعل هذه البلاد لا تنعم بالسلم والاستقرار والرخاء سوى فترات قصيرة ومتقطعة من تاريخها الطويل. وبالتالي، فإن هذا الوضع غير المستقر فرض على السكان واقعًا كان لا بدَّ أن ينتج عنه أمران ملحَّان: أولاً، المقاومة بالسلاح، وثانيًا، ضرورة ابتكار وإيجاد حلول مناسبة لمعالجة تطورات الأحداث في الداخل. وقد برع المجتمع السوري مع الزمن في ممارسة هذه اللعبة، وسيطر على قواعدها سيطرة تامة في تعامله مع السلطة الأجنبية المهيمنة ابتغاء الحصول على فوائد وامتيازات تسهل له سُبُل العيش في ظل المستعمر، مستفيدًا في الوقت نفسه من ضعف السلطة في الداخل في بعض الأحيان لتحريك القوى الخارجية وتفعيل منافستها وعداوتها للدولة الحاكمة.

وقد تمكنت مجتمعات الشرق الأدنى، المشبعة بالثقافتين الشرقية والغربية، بفضل تواصلها وتاريخها الطويل والمشترك مع الغرب، من أن تتعامل بهذه اللعبة الخطرة عبر الأجيال في حذر فائق ودقة مرهفة لتجنب أيِّ عمل خاطئ من شأنه إحداث خلل خطير في توازن العلاقات بين العالمين الشرقي والغربي قد ينجم عنه انقطاعٌ جذري بين العالمين وبتر مأساوي في العلاقات المتبادلة بينهما.

نعود الآن إلى سورية، التي يشار إليها بـ"آرام" في العهد القديم، لنذكِّر في اختصار بأحداث هذا البلد منذ بدء التاريخ، حيث إن موقعها التاريخي جعل منها مفترق طُرُق لثلاث قارات، وجسر اتصال بين الحضارات البابلية والمصرية والإغريقية، وموطنًا للشعوب السامية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد، وهم: العموريون والكنعانيون والآراميون والعبرانيون، وغير السامية، كالحوريين – مملكة "ميتاني" – (حوالى العام 1500 ق م)، والمصريين (القرن السادس عشر ق م)، والحثيين (القرن الرابع عشر ق م)، ثم الآراميين (القرن العاشر ق م)، فالآشوريين (القرن الثامن والسابع ق م)، ثم الفرس (539 ق م)، فالإغريق (القرن الرابع ق م)، فالرومان (القرن الأول ق م)، ثم العرب المسلمين (القرن السابع الميلادي)، ثم الصليبيين (القرن الثاني عشر والثالث عشر)، فالمماليك (القرن الرابع عشر)، ثم الأتراك العثمانيين (من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر)، ثم الفرنسيين في سورية ولبنان (1920-1946) والإنكليز في فلسطين (1920-1947).

تعاقبت على حكم سورية، قبل الفتح الإغريقي في العام 333 ق م حتى الفتح العربي الإسلامي في العام 635 الميلادي، ست دول عظمى، كانت أولها مصر، التي غابت سلطتُها عن سورية فيما بعد عدة قرون، لتعود مجددًا في القرن العاشر مع العصر الفاطمي، ثم الأيوبي، فالمملوكي.

1. مصر

تُعتبَر مصر أقدم دولة في العالم ذات تنظيم عسكري وإداري وديوان للكتابة يعتمد على الخط الهيروغليفي. كما أحدثت نظامًا خاصًّا للري يفي بضرورات الزراعة. أسَّس الفرعون الأول مينا "المملكة القديمة" حوالى العام 2800 ق م؛ وكانت عاصمتها ممفيس في شمال البلاد. وأقدم اتصال بين مصر وسورية لدينا دلائل مكتوبة عنه يعود إلى عهد الفرعون صنفرو (حوالى 2750 ق م)، كما جاء في كتاب فيليپ حتي تاريخ سورية ولبنان وفلسطين. وقد بنى خوفو الهرم الأكبر في هذا العهد (حوالى 2600 ق م) كي يجعله قبرًا له.

بلغت عظمةُ مصر أوجَها في زمن "المملكة الوسطى" (حوالى 2000 ق م)؛ وكانت عاصمتها طيبة في الجنوب. أعظم فراعنتها هو رمسيس الثاني (1301-1235 ق م). ثم تلتْها "المملكة الحديثة" حوالى العام 1500 ق م؛ وقد أسَّسها الفرعون أحمس الذي طرد الهكسوس من مصر. وكانت آخر السلالات المصرية سلالة السايسيين المستقلة (حوالى 664 ق م) – وعاصمتها "سايس" في دلتا النيل – بعد أن استولى الفرس في العام 525 ق م على مصر وفرضوا سيادتهم عليها حتى تاريخ الفتح المقدوني بقيادة الإسكندر.

2. بلاد الرافدين

ظهرت الدولة هناك حوالى العام 2600 ق م، في سومر في جنوب البلاد أولاً، ثم في الفرات الأوسط حوالى العام 1730 ق م، ثم في أعلى نهر دجلة، حيث سيطرت السلالات الآشورية الفاتحة، وعاصمتها نينوى. وكان من أهم ملوكها سرجون الأول (حوالى 2250 ق م) وحمورابي (حوالى 1730 ق م) من ملوك بابل، ثم تغلات فلاصر الأول (حوالى 1094 ق م) وآشور ناصربعل (884 ق م) وآشور بنيبعل (668 ق م) من ملوك آشور. ثم نابوبولاصر (626 ق م)، مؤسِّس المملكة البابلية الجديدة، وعاصمتها بابل (التي تقع على الفرات، ليس بعيدًا عن بغداد حاليًّا)، وابنه نبوخذنصر (الذي نفى اليهود من فلسطين في العام 587 ق م) من الملوك الكلدان.

قضى ملك الفرس قورش (558 ق م) على المملكة الكلدانية في بابل، وانتهى بذلك العصر السامي وبدأ العصر الهندأوروبي الذي دام أكثر من ألف عام. وكان ممَّن خلفهم في سيادة العالم السامي المقدونيون والرومان والبيزنطيون، وكلهم من الهندأوروبيين، حتى ظهور العهد السامي من جديد مع عرب الجزيرة. ثم قضى ابنُه وخلفُه قمبيز الثاني (528 ق م) على مملكة مصر وأسَّس فيها السلالة السابعة والعشرين.

كان هذا الشعب من البدو الرحَّل، المنتمي إلى العرق الهندأوروبي، ينطق باللغة الإيرانية؛ وقد جاؤوا من ضفاف نهر الدانوب حيث كانوا يقطنون. فرضوا سيطرتهم أولاً على مقدونيا في الغرب، وبلاد البنجاب في الشرق، ثم انتصروا على مملكة الميديين في إيران (حوالى 550 ق م)، وأسسوا إمبراطورية واسعة ضمت قسمًا من آسيا الصغرى والشرق الأدنى ومصر وبلاد الرافدين وإيران. وكانت عاصمتهم إقتبان (همذان اليوم) ثم پرسيپوليس ("مدينة الفرس").

تألقت الحضارة الرافدية وازدهرت بما يشبه تألق الحضارة المصرية وازدهارها. فقد عرفت شريعة حمورابي وصروح عمارتها العظيمة، التي شُيِّدت مع الأسف بمادة الآجر التي لا تصمد أمام تقلبات الزمن؛ وكذلك حدائقها المعلقة وحياتها الراقية المترفة. كما أصبحت اللغة الآرامية في ذلك العهد هي اللغة الرسمية لهذه الإمبراطورية المترامية الأطراف، المستعمَلة إلى جانب اللغة الفارسية؛ وكان يجري التعامل في البلاد كافة بنقد موحَّد.

بدأ الصراع الأول بين الشرق والغرب في عهد الفرس. وكان هؤلاء ينظرون إلى الإغريق على أنهم أمَّة برابرة وقراصنة بحر. اجتاح ملك الفرس دريوش الأول (521-486 ق م) بلاد الإغريق، لكنه ما لبث أن هُزِمَ في موقعة ماراثون في العام 490 ق م. ثم كرر المحاولة ابنُه أحشويرش (486-465 ق م)، فانتصر الفرس على الإغريق في معركة ثرموپيلس وأحرقوا أثينا؛ لكن الإغريق عادوا وانتصروا على الفرس في موقعة سالامينا البحرية، حيث دُمِّر الأسطول الفارسي في العام 480 ق م.

مضى زمن طويل على سقوط الإمبراطورية الفارسية على يد الإسكندر عام 331 ق م وقتل آخر ملوكها دريوش الثالث في العام 330 ق م، لتعود إيران إلى الظهور مجددًا في التاريخ مع إمبراطورية الفارثيين حوالى 250 ق م، وملكها المؤسِّس أرشاق، التي دامت حتى العام 220 م. ثم تأسست الإمبراطورية الساسانية التي كانت تمتد من الهند حتى الجزيرة العربية؛ وكان من أهم ملوكها كسرى الأول أنوشروان (531-579) وكسرى الثاني (590-628). وقد قضى الفتح العربي الإسلامي على هذه الإمبراطورية في العام 641.

3. اليونان

 

وتابع الملك قائلاً: "أعترف لك أنني عندما أسمع ما يقال عن هذه الجيوش الهائلة والعظيمة التي تخرج من أحشاء الشرق، وأقارنها مع جيوشنا الهزيلة التي لا يتجاوز عدد أفرادها العشرين أو الثلاثين ألفًا من الجند الذين نكاد لا نتمكن من إكسائهم وإطعامهم، عندئذٍ أميل للاعتقاد بأن الشرق وُجِد قبل الغرب بزمن طويل، وكأننا [نحن الغربيين] خرجنا قبل البارحة من العدم والبارحة من البربرية." "مولاي، أجاب همذان، ربما تجاوَز القادمون الجدد في كثير من الأحيان مَن سبقهم في المهنة."

فولتير، الأميرة البابلية

 

بلاد اليونان في أواخر الألفية الثانية قبل الميلاد

اجتاح بلاد اليونان في أواخر الألفية الثانية قبل الميلاد شعب بربري ينتمي إلى العرق الهندأوروبي، وكانوا يسمون بـ"الدوريين". كان هؤلاء يتسمون بالقوة والعنف، لكن طباعهم البدائية والخشنة لانت بعض الشيء بتأثير أجواء الإقليم المتوسطي اللطيف. وكان من دواعي العجب أن يرث هذا الشعبُ الجاهل تمامًا التراثَ الثقافي والروحي الرفيع المستوى لبلاد مصر وآسيا، حيث لم يُطلَب منهم، مقابل هذا التراث المشبع بالحس الروحي العميق والميل الشديد إلى ملذات الحياة، سوى ما كانوا يتمتعون به من رجولة وقدرة بدنية مندفعة.

لكن عملية الدمج هذه بين الروح والجسد لم تحقق استيعاب النفس الإغريقية للمفهوم المطلق لأسرار العالم وغموضه. فقد بقي هذا المفهوم بعيدًا عن متناول إدراك اليونانيين بسبب اعتمادهم في معالجة أمورهم على الفطنة ضمن الحدود العقلانية الخالصة، مما حال دون توصلهم إلى تخيُّل عالم صوري سامٍ. وقد حصل، على الرغم من ذلك، تبادُل وتمازُج عجيبان بين هذه الطاقة اليونانية الجديدة وبين الروح الآسيوية المتعبة، مما أعاد لهذه الأخيرة قوتها ونشاط إيمانها.

فقدت اليونان بعد زمن روحَها الباسلة التي تسربت من خلال جروح ثلاثة: انتصار اسپارطة، تزايد الثروات في أثينا، سيطرة العقلانية. فقد تزايد الإحساس المرهف عند الناس على حساب القوة المعنوية، وطغى العقل على الإيمان، وتآكَل الحماس بتماسه مع روح النقد.

كانت جزيرة كريت أرض المنشأ للإله زفس، كبير الآلهة الإغريقية، ومهد الحضارة اليونانية؛ وهي أيضًا أرض الأساطير، كأسطورة الملك مينوس وديدالوس، مصمِّم "المتاهة"، والمينوتاوروس، الوحش ذي رأس الثور. وهذه الجزيرة كانت، على الرغم من موقعها الجغرافي المتجه نحو أوروبا، تشكِّل في بحر إيجة الجسر الأخير بين بلاد اليونان وآسيا الصغرى، مما سمح لها بالاتصال باكرًا مع حضارات بلاد الرافدين. لكنها أيضًا، بسبب موقعها الجغرافي هذا الذي جعل منها آخر الجزر الأوروبية تجاه الجنوب، استطاعت أن ترتبط بعلاقات متينة مع الحضارة المصرية المزدهرة التي بقيت ذكراها حيةً حتى زمن أفلاطون.

تبقى اليونان أكثر البلدان القديمة بقاءً في مخيلتنا، بأساطيرها وغنى تراثها الفني والأدبي، بروعة طبيعتها وجمال أشكالها وسموِّ فكرها، إضافة إلى ما قدمتْه للعالم من دروس ومُثُل عليا ومآثر في الحكمة والبطولة وأنظمة الحكم، ناهيكم عن الحضارة الهلِّنستية.

أُطلِقَتْ تسمية "هلِّنستية" على الفترة الممتدة من تاريخ وفاة الإسكندر المقدوني حتى الفتح الروماني، أي مدة قرنين حدث فيهما "تَهَلْيُن" قسم كبير من العالم الشرقي واندماج اليونانيين مع بلاد الشرق، حيث أصبحت أنطاكية في سورية والإسكندرية في مصر المركزين الأساسيين لثقافتها، وتبعتْهما لاحقًا القسطنطينية، عاصمة الدولة البيزنطية.

ارتبطت مختلف الدول اليونانية فيما بينها بمجموعات اتحادية لتحظى بقوة دفاعية كافية؛ لكن هذا لم يمنع روما من السيطرة عليها في العام 146 ق م ومن ضمِّها إلى إمبراطوريتها.

قال هوراشيو، وقيل من بعده، إن المغلوبين قد تفوَّقوا على غالبيهم: لقد سيطر الرومان بقوتهم الشرسة وأصبحوا أصحاب السلطة؛ غير أن اليونان كانت هي الدولة العظيمة المسيطرة بفكرها وثقافتها، حيث اعترف الرومان للإغريق بالتفوق المطلق في مجالات الفكر والفن والحس الجمالي.

4. روما

 

لا بدَّ من تدمير قرطاجة!

كاتو

 

كانت روما، منذ بداياتها، أمينة لطبيعتها المنضبطة، القاسية، الأنانية، والمغلقة، تبحث عن غذائها خارج نطاقها. وكان شعارها الذئبة. هدفها الفتح والحرب المنظمة، تحطِّم كلَّ مَن قاومها بإرادة باردة ومتفاقمة. كان هذا هدفها وقاعدتها طوال تاريخها، لم تَحِدْ عنهما قط. وقد فرض الروماني على النظام الاجتماعي والعائلي، وكذلك على الطبيعة نفسها، أشكال إرادته وقانونه وسجلاته. لقد شقَّ الرومان الطرق ورصفوها حجرًا بعد حجر، بدءًا من روما وامتدادًا إلى جميع ممتلكاتها، تخترق الوديان والجبال والبحار وتتوسع ضمن محيطها، حلقة تلو الأخرى، حتى أبعد أصقاع الإمبراطورية. ينبع الدم من القلب، ثم يعود إلى القلب: كذلك كانت روما؛ فهي حاضرة في أنحاء الإمبراطورية كافة، ويعود إليها كل ما هو حاضر في الإمبراطورية. كان ذلك ممكنًا، أي وصل هذه المدينة المنعزلة ببقية أنحاء العالم، جغرافيًّا ومعنويًّا، بما توفر لدى الرومان من تكبُّر لا حدود له ومن قدرات هائلة في تنفيذ أعمال وأبنية تتبارى في ضخامة حجمها وأبَّهتها.

عندما استتب الأمرُ للرومان بعد إخضاع آسيا وتحقيق السِّلم بالقوة، شعروا بالحاجة إلى الرفاهية والاستمتاع بملذات الحياة. فاندفعت روما، بما أوتيت من قوة أشبه ما تكون باندفاعها السابق للفتح والتسلط، في مجال الألعاب والمقامرة، وكذلك في عالم الحب والكسل والرذيلة. لم تعد روما تكتفي بإيصال نبضات قلبها حتى حدود إمبراطوريتها، بل سعت منذ ذلك الوقت إلى نقل العناصر المكوِّنة لإمبراطوريتها إلى جوفها.

غصَّت روما بالناس من مختلف العروق والأجناس، جاؤوا إليها مصطحبين عاداتهم وآلهتهم وتراب أرضهم. وقد تلا بناء الأقنية والطرقات إنشاءُ حمامات تحتوي على أحواض مائية واسعة جدًّا ومسارح للتمثيل وأخرى ضخمة للألعاب الحيوانية وغيرها تتسع لأكثر من ثمانين ألف متفرج، تُقدَّم فيها ألعاب ومشاهد، كثير منها كان دمويًّا للغاية. وبذلك انغمس أهل روما في شدة في حياة ماجنة وفظة مقترنة بالشهوانية والحيوانية.

تميَّز فن العمارة الديني والرسمي بكثرة من الزخارف أفقدتْه جماله. وقد غدت الأعمدة الكورنثية تُستعمَل في جميع الأبنية، كما أصبحت الآنية الرومانية الفضية مثقلة بالأشكال المنقوشة، مما جعل هذا العصر يتميز برداءة ذوق "الأغنياء الجدد". وبعيدًا عن هذا التصنيف في فن العمارة من حيث انتشار الذوق الرديء، يمكن اعتبار الأقنية والجسور والحمامات والمسارح أعمالاً جميلة، غير مزخرفة؛ تشاركها في هذا الحس الجمالي أعمال النحت، من تماثيل رخامية تجسِّم الأشخاص تجسيمًا واقعيًّا، تُعتبَر، مع الإنشاءات العمرانية السابقة الذكر، الأعمال الوحيدة التي تنتمي إلى الفن الأصيل بسبب نقاء خطوطها وصلابة أعمدتها وجدرانها وارتفاعها، معبِّرة عن قوة وكبرياء في الإرادة والتصميم، ينبع جمالُها من بساطة فنِّها. وقد بقيت معظم هذه الإنشاءات شامخة حتى اليوم، شاهدة على تاريخ روما العظيم.

هذه القوة الرومانية الهائلة، المرتكزة على توازُن ليس له مثيل، تآكلت، ثم تصدعت من الداخل، ليس بسبب الحروب أو التنافس بين الطبقات الحاكمة، بل بسبب الطبقات الأفقر والأتعس، لا بل مَن كان دونهم، وهم طبقة العبيد. لقد تصاعدت موجة دينية صوفية قوامها الفقراء ونابعة من التيار الارتيابي (التشكيك) الهلِّيني، حتى أغرقت المادية الرومانية، وبذلك انتصرت المسيحية التي كان من أهدافها المساواة بين الناس.

سيطر الدين في غالب الأحيان على القرن الثاني للميلاد؛ إذ إنه مارس على مصير الشعوب والأمم المستعبَدة أو الحليفة لروما سيطرةً غالبة. وقد نجم عن ذلك بين العامين 96 و193 مائة عام أولى من الصدامات العدوانية بين الوثنية السائدة والمسيحية الناشئة.

5. بيزنطة

 

"ادفع، يا فردريك [بارباروسا، ملك الإمبراطورية الجرمانية (1155-1190)]، نحو الشرق، حيث ينبعث النور الذي سيضيئه ليجعل منك ملك الملوك."

أُمبرتو إيكو، باودولينو

 

شكلت بيزنطة امتدادًا للعالم القديم حتى نهاية القرون الوسطى، فحافظت بذلك على الثقافة اليونانية–الرومانية عندما تعرضت أوروبا لهجمات البرابرة التي قضت على الإمبراطورية الرومانية الغربية في العام 476.

جمعت هذه الدولة بين شريعة روما ورخاء بابل وشغف أثينا بالمعرفة. وقد تبنَّى الإمبراطور في القرن الرابع عشر الديانة المسيحية وشرعَنَها بواسطة المجامع المسكونية. ثم نتج عن الانشقاق الديني في العام 1054 انفصالُ الكنيسة الشرقية عن روما، مع ترسيخ الانقسام السياسي بين الإمبراطوريتين الرومانيتين الشرقية والغربية.

"كانت الكنيسة لا تزال حية زمن نشأة بيزنطة. فتزامَن ترعرُع الواحدة مع انحطاط الثانية، واختلط صوتاهما وتشوشا. إذ كانت بيزنطة تتلقى من آسيا، عن طريق بلاد فارس الساسانية، جوهر روح المرتفعات وبلاد الرافدين، بينما كانت تتأثر فوق كلِّ شيء، كونها يونانية، بما يقدِّمه لها فنانو دلتا النيل الذين كشفوا لها فنًّا تصويريًّا جديدًا يُظهِر مصر الهلِّينية في صورتها العميقة الشاحبة، مع الوجه ذي العينين العميقتَي الغور، وكذلك صناعاتهم التزيينية، من موزاييك، وجدائل أوراق الشجر والفاكهة والملائكة على شكل أطفال والحيوانات، التي أكثر من استعمالها المصوِّرون الرومان لدى تزيين جدران منازلهم في مدينة پومپي في إيطاليا." (إيلي فور، تاريخ الفن)

سقطت سورية، الإقليم البيزنطي، بأيدي الفاتحين العرب المسلمين في الفترة بين عامَي 634-638. أما القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، فقد انتصر عليها الصليبيون في العام 1204 في أثناء الحملة الصليبية الرابعة، ونهبوا ثرواتها وتحفها الثمينة. ثم سقطت بيزنطة لاحقًا في العام 1453 بأيدي الأتراك العثمانيين، وأمست القسطنطينية تُدعى اسطنبول.

6. الإسلام

طوت سورية صفحةً جديدة من تاريخها بعد الفتح الإسلامي، واعتنق غالبيةُ سكانها الإسلام، الدين التوحيدي الجديد والأخير.

وخلافًا لما كانت عليه المسيحية في أطوارها الأولى من حيث الجوهر، لا تمزج بين الدين والسياسة، وانتشرت بفضل تعاليم المسيح التي نقلها تلاميذُه وخلفاؤهم، قبل أن تصبح في القرن الرابع الدين الرسمي للإمبراطورية البيزنطية، فإن الإسلام – الدين الفاتح والجهادي – اندمج بالطبيعة مع السياسة، حيث إن الرسول محمد وخلفاءه كانوا في الوقت نفسه قادة حرب و"أمراء للمؤمنين". لذلك ينظر الإسلام إلى "الجهاد" كوسيلة حربية للسيطرة على بلاد جديدة وأقوام أخرى.

وهكذا فقد ترسخ في ذلك الزمن مبدأ "الحرب المقدسة" الذي كان مجهولاً حتى ذلك الوقت، مما قاد الشعوب إلى التورط في مجرى لا رجعة عنه من الحروب وأعمال العنف التي يتحمل العالمُ نتائجَها إلى اليوم.

لكن الإسلام أبدى في شكل عام نوعًا من التسامح مع الديانات التوحيدية الأخرى الموجودة في نطاق نفوذه. فكان في إمكان الموحدين، من يهود ومسيحيين، البقاء على دينهم، شريطة أن يقبلوا بوضع قانوني خاص، وهو ما يسمَّى بـ"أهل الذمة" وأن يدفعوا جزية سنوية مقابل تأمينهم على أرواحهم وحقِّ الاحتفاظ بممتلكاتهم.

سيطرت الجيوش العربية في سرعة كبيرة على سورية (635)، فبلاد أفريقيا الشمالية (641)، ثم عبرت إلى إسبانيا (711). كما سيطرت في الشرق على بلاد فارس (641)، ووصلت جيوشها حتى تخوم الصين (707). وقد أصبحت دمشق تحت حكم الأسرة الأموية (661-750) عاصمةً لهذه الإمبراطورية الفتية.

عندما أغلق الإمبراطور البيزنطي يوستنيانوس المدارس الفكرية في أثينا وطرد الفنانين والعلماء من بلاده، لجأ معظم هؤلاء إلى الملك الساساني خسرو، حيث وجدهم العرب إثر فتحهم لبلاد الفرس، فكانوا بمثابة عامل إنقاذ لهؤلاء ولتراثهم الفني والفكري القديم وأداة نقل لكنوز هذا التراث إلى أوروبا لتعليمه هناك من جديد.

فبينما كانت الظلمات تزداد كثافة في الغرب، كان الخلفاء يؤسِّسون الجامعات، ويحفرون الترع، ويرسمون الحدائق الغنَّاء، ويدرسون ويدرِّسون علوم الهندسة والجغرافية والطب، ويؤسِّسون لعلم الجبر؛ كما أنشأوا في أطراف إمبراطوريتهم الشاسعة الخانات والجوامع والقصور، وخبروا استعمال الورق والطباعة وأعمال الخزف وحياكة القماش المزركش والعزف على العود ولعب الشطرنج، كما دونوا ونوَّطوا النصوص الموسيقية. لقد أدخل العرب هذه الأمور كلَّها إلى الغرب، إضافة إلى أنواع كثيرة من المواد الغذائية، كالسمسم والرز والليمون والذرة والبطيخ والمشمش والزنجبيل والسكر وأنواع الحلويات، إضافة إلى المرايا وألواح الزجاج. وقد شكَّل هذا كله في تاريخ ذلك الزمان القاتم نوعًا من المشهد الرائع والساحر يبهر الأبصار، وكأنه سيرة بطولية من قصص ألف ليلة وليلة.

احتل العرب خلال مائتي عام ممتلكات واسعة جدًّا. فاندمجت شعوب وعروق على اختلافها، وانصهرت في بوتقة واحدة، خلافًا لما كان متوقعًا، مجموعةُ أفكار وفلسفات ولغات مختلفة، جمع فيما بينها ورسَّخها في قوة إيمانٌ واحد، انبعثتْ منه حضارة وفن استُوحيا من الماضي الحضاري لتلك الشعوب، فتميَّز بوحدة عميقة تثير الدهشة والإعجاب.

شكَّل فن العمارة الإسلامية عملاً مميزًا نتجت عنه منشآت ملحوظة في غاية الجمال والروعة. فكان من عجائب الفكر العربي أنه تواجد في كلِّ مكان وسيطر، دون أن يكون خلاَّقًا بذاته. إذ إنه ترك للشعوب التي اعتنقت الإسلام حريةً كاملة في التعبير بحسب طبيعتها الخاصة عن حماسها للدين الجديد الذي نجح في نقله إليهم. فأصبح الفكر العربي سيد القلوب حيثما وُجِد.

الآن، وقد حددنا الإطار العام لهذه الدراسة، سننتقل في الفصل القادم إلى سرد تاريخ سوريا نفسها على امتداد ألف عام.

***


 

horizontal rule

[1] أصل الديموقراطية من الكلمتين اليونانيتين demos، الشعب، وkratos، السلطة.

[2] الملكية من كلمتَي monos، منفرد، وarkhê، الأمر.

[3] الپلوتوقراطية من كلمة ploutos، الثروة.

[4] الأوليغارخية من كلمة oligoi، قليلي العدد.

[5] پيلوپونيسوس Péloponnèse: شبة جزيرة واقعة في جنوب اليونان، أطلق عليها العثمانيون فيما بعد اسم المورة.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود