French Arabic
الصفحة التالية الصفحة السابقة

ألف عام من التاريخ

تاريخ سورية (بلاد الشام)

من الفتح الإغريقي حتى الفتح العربي الإسلامي

(333 ق م – 635 م)

 

سمير عنحوري

 

الفصل الثاني

بلاد الشام: الهلنستية

كان تاريخُ بلاد الشام قبل الغزو الإغريقي سلسلةً طويلةً من الفتن ضد الحكام المتعاقبين عليها وساحةً متواصلةً من المعارك والخصومات بين إمبراطوريتَي ذلك العصر الكبريين: إمبراطورية مصر وإمبراطورية آشور، ومن بعدُ الفرس في بلاد الرافدين الذين خلفوا دولَ الميديين والكلدان.

بدأ الصراعُ في العام 720 ق م، وتواصَل مادامت إمبراطوريةٌ من الشرق باسطةً نفوذَها على بلاد الرافدين وآرام، طامحةً إلى إخضاع سكان وادي النيل لسلطانها. في المقابل، عاملَ الفراعنةُ معاملةَ العدو كلَّ مليك معترَف بسلطانه في بلاد الشام، فحضُّوا الكنعانيين والفينيقيين على التمرد. زِدْ على ذلك أن عملياتِ النهب والتنكيل من كلِّ نوع التي أنزلتْها جحافلُ الآشوريين غذَّتْ حقدَ المهزومين على غزاة الشرق.

لقد أدت هذه المرحلةُ الطويلةُ من الثورات ومن قمعها إلى إفقار بلاد الشام، فاندثرت مدنٌ كانت في سالف الزمان ذائعةَ الصيت، مثل قادش (قرب حمص حاليًّا)، حيث شنَّ رمسيس الثاني معركةً طاحنةً على الحثيين (حوالى 1299 ق م)، بينما تراجَع نشاطُ مدن أخرى، مثل قرقميش (جرابلس حاليًّا)؛ أما حماة ودمشق، اللتان لعبتا دورًا سياسيًّا بارزًا، فقد آلتا إلى حال من البؤس والعجز.

أمسى الجنوبُ مهجورًا كالشمال. إذْ لم يعد لمؤاب وعمون والإمارات الفلسطينية من وجود إلا بالاسم؛ أما مملكة السامرة فقد دالت. وحدها أورشليم وصور وصيدون [صيدا] حافظت على قليل من نفوذها.

اعتادت بلادُ الشام على الاضطرابات السياسية. فالثورات التي كانت تعصف بالشرق لم تقدم لها سوى فائدة زهيدة. لقد أدركت أن الاستقلال متعذر مادامت إمبراطورياتٌ قويةٌ تسيطر على آسيا القديمة l’Asie antérieure. مذ ذاك، أضحت لا تبالي كثيرًا بهوية حاكمها مادامت الضرائبُ المفروضةُ على المدن محتملة.

تارةً خاضعةً وطورًا متمردة، امتثلت بلادُ الشام عمومًا لإرادة الحكام المتعاقبين عليها، وانفصل الشعبُ أكثر فأكثر عن هذه الإمبراطوريات التي كانت تستنزفه بالضرائب ولا تفعل شيئًا من أجله، مدركًا أن وضعه لن يتحسن مهمَن كان حاكمُه الحالي؛ فشهد، من غير مبالاة ولا اكتراث، هذه النزاعات والصراعات على السلطة التي كان يقوم بأدوارها الرئيسية شاهنشاه ["الملك العظيم"] الفرس وفِرعونُ مصر وزعماءُ الإغريق والمَرزُبانات les Satrapes (حكام لدى الفرس).

كان الضعف يدبُّ في أوصال الإمبراطورية الفارسية، غير أن جهدًا عظيمًا في العام 342 ق م أعاد إحياءَ الإمبراطورية الفارسية في كليتها: إنها انتصارات الملك الأخميني كسرى الثالث أوخوس على آسيا الصغرى وقبرص وفينيقية، المتحالفة ضده مع تينِس ملك صيدون قائدًا، أولاً، ثم ضد مصر. وبعد عشر سنوات، لم يتبقَّ من هذه العظَمة شيء يُذكَر. فها هو ذا دريوش قُدمان قد هزمه الإسكندرُ في سهل إيسوس (333 ق م) وأمست بلادُ الشام ولايةً مقدونية.

في سنة 336 ق م، اغتيل فيليپُس المقدوني وخلفَه ابنُه ألكسندروس ("إسكندر" الشرق) ذو العشرين ربيعًا. وحين خضعت له المدنُ الإغريقية، باشرَ غزوَ الشرق، مؤسِّسًا أكبر إمبراطورية معروفة آنذاك. ومن سنة 334 حتى 323، توالت إحدى عشرة سنة من الفتوحات والمجد والدم، إحدى عشرة سنة غيرت وجهَ المسكونة، وأصبح الإسكندر رائدَ "عولمة" صالحتْ الغربَ مع الشرق.

كانت الحرب ضد الشاهنشاه قد بدأت. ولم يتسنَّ لهذه المسيرة الظافرة أن تنتهي إلا بعد عشر سنوات. كان على الكتائب (تشكيلات عسكرية قتالية) الإغريقية أن تذهب من جبال فريجية (المنطقة الغربية من آسيا الصغرى) إلى صحراء ليبيا، فتعبُر الفراتَ ودجلة، وتتسلق جبالَ زاغروس (بلاد فارس)، وتجتاز مشارفَ بحر قزوين les Portes Caspiennes، وتجوب درانجيا (شرق إيران) وباكتريا (أفغانستان) وسوغديا (أوزبكستان)، عابرةً الأوكسوس (نهر أموداريا)، ثم تمضي قُدُمًا شرقًا، حتى بلغت ضفةَ نهر السند اليسرى، لتعودَ أخيرًا نحو مدينة سوسة وبابل، بعد أن تغلبت على مصاعب مذهلة على امتداد شاطئ بحر إريترية (بحر عُمان). وبمرور هذه الكتائب اليونانية، انهارت الإمبراطوريةُ الفارسية، وقامت على أنقاضها دولةٌ إغريقية–مقدونية كانت قوتها عابرة، لكن نتائجَها لا تُحصى؛ ذلك أن الإسكندر، رسولَ الهلِّينية، كان يزرع في المشرق قاطبة بذورَ حضارة جديدة وعشرات المدن الجديدة التي تأسَّستْ باسم "الإسكندرية" والتي كانت أعظمها مدينة الإسكندرية، عاصمة البطالمة في مصر المُتهَلْيِنَة.

لكن موته ما لبث أن أطلقَ العنانَ لطموحات ضباطه. فتعاقبت الحروب والاتفاقات إبان ما ينوف على نصف قرن. وبانتهاء هذه الأزمة، آلت بلاد الشام إلى أيدي السلوقيين، الذين ما لبثوا أن جلبوا الهلِّينية إلى حيث لم تكن قد تسربت بعدُ، واجتهدوا بذلك في اختلاق وحدة اعتبارية لدولهم. وقد أدت النزاعات والخصومات في الأسرة الحاكمة فيما بعد إلى إضعاف السلطة، فتقطعت أوصالُ البلاد إلى إمارات، إلى أن فرضت روما إرادتَها في عهد پومپيوس في العام 63 ق م.

شهدت بلاد الشام هذا الانقلاب في الشرق من غير أن تبدي حراكًا. لم يكن يهمها أن يتغير الحاكم؛ إذ كان من العبث في نظرها مناوأة غازٍ لا يُقهَر على ما يبدو. وحدها فينيقية انحازت إلى شاهنشاه الفرس، وكان هذا خيارًا غير موفق.

في خريف العام 333 ق م، بعد هزيمة دريوش في إيسوس (كيليكية، شمال سورية)، وبهدف الحيلولة دون المهزومين وأخذ ثأرهم بحرًا، زحف الجيش المقدوني المؤلف من قرابة أربعين ألف مقاتل نحو موانئ فينيقية بدلاً من مطاردة خصمه باتجاه بابل. واستسلمت أرواد و"بناتُها" بيبلوس وصيدون وبيريت [بيروت] دون قتال. أما صور، التي كانت تريد أنْ تحذوَ حذْوَها، فقد ثارت مع ذلك عندما شاء الإسكندر دخولَ المدينة ليقدِّمَ قربانًا في معبد ملقارت (إله صور)؛ إذ كان من شأن هذا الطقس الديني أن يُشَرعِنَ سيطرتَه على المدينة فعلاً. بدأ القتال في كانون الثاني سنة 332 ق م، وتحصنت صورُ في جزيرتها. عندئذٍ استدعى الإسكندر أساطيلَ المدن المفتوحة، فجاءت سفنُها البالغ عددها قرابة 225 من أرواد وبيبلوس وصيدون وكيليكية ورودِس [رودوس] وقبرص. واستسلم المحاصَرون تحت وطأة الهجوم في آب سنة 332 ق م بعد مقاومة باسلة، وسقط آلافُ السكان صرعى في المعركة الأخيرة.

في غضون ذلك، قام طابور يوناني بزيارة قلمون سورية la Cœlé-Syrie (سهل البقاع أو "حفرة سورية"، كما سماه القدماء) ومضى قُدُمًا حتى بلغ دمشق، حيث استولى على متاع دريوش.

وبعد أن اطمأن الإسكندر على وضع الغرب، تابع سيرَه نحو مصر، فحاصر غزة واستولى عليها في تشرين الأول. وقد قدم كاهنُ اليهود الأكبر في أورشليم الولاءَ له. وبعد شتاء أمضاه في مصر (تشرين الأول 332 – آذار 331)، حيث استُقبِلَ كمحرِّر من الاحتلال الفارسي، أسَّسَ المدينةَ الشهيرة التي مازالت تحمل اسمَه: الإسكندرية، واحتفى في واحة سِيْوَه بشعائر كبير آلهة مصر آمون رع، حيث ادَّعى أنه يمثِّله، وتلبَّسَ في الحال الرموزَ الفرعونية، ومنها قرنا الإلهة حاثور (ومن هنا اسمُه العربي: "ذو القرنين"، ملك المشرقين). ثم عبر المضيقَ، وبلغ دمشق وحماة، وفتح بلادَ الشام واتجه صوب الشرق، عابرًا الفراتَ ثم دجلة، وتوجه إلى آشور نحو غوغاميلِس وأربيلِس (أربيل في شمال العراق)، حيث ظفر بنصرَين مؤزَّرين على الملك دريوش الثالث في تشرين الأول من سنة 331 ق م.

لم يكن بمقدور الإسكندر الأكبر، وقد جمع تحت سلطانه مصرَ والأناضولَ وفارسَ وبلادَ الكلدان، أن يولي الفوزَ ببلاد الشام غير اهتمام ضئيل، حيث عيَّن مينِس "قائدًا أعلى" Hyparque على سورية وفينيقية وكيليكية. وما إن توفي في 10 حزيران سنة 323 ق م في بابل وتمزقت أوصالُ الإمبراطورية حتى أصبحت سورية وفلسطينُ سببًا للنزاعات بين حكام مصرَ وحكام بلاد الرافدين الجُدُد. فالأولون كانوا يريدون حماية المضيق بضم وادي الأردن وجبال الجليل، فيما الآخرون يعتبرون من الضرورة الحصولَ على منفذ على البحر ويرون من الفطنة مواجهةَ تقدُّم المصريين نحو الشمال.

في البداية، اكتفى كبار الرؤساء، دون أن يقسموا الإمبراطوريةَ على الفور، بأن اختصوا لأنفسهم إدارةَ مقاطعات واسعة. وقد عُهِدَ بسورية إلى لاوميدون، بينما آلت مصرُ إلى بطليموس الذي أسس أسرةَ اللاجيديين [البطالمة].

تبيَّنَ فيما بعد أن لعبةَ الطموحات لم تكن لتكتفيَ بمثل هذا التقسيم. فبعض المناطق التابعة للإمبراطورية، مثل مصر، كان تتسم بوحدة جغرافية وتاريخية تقاوم كلَّ فكرة للتقسيم، بعكس ما كانت عليه سوريةُ، حيث توجِد التضاريسُ إمكانيةَ تجزئةٍ في الأرض تبعث على التقسيم. من جهة أخرى، كانت المنافساتُ السياسيةُ القديمةُ التي حرضتْ دمشق على السامرة وأورشليمَ على غزة حائلاً دون الوحدة. كانت هذه البلاد التي عصفت بها قرونٌ من الصراعات تستمد قيمتَها من موقعها الجغرافي، إذْ يحدها من الشرق الفراتُ ومن الجنوب النيلُ ومن الغرب البحر. وكان كل شيء ينزع إلى جعل هذه المنطقة محلَّ رهان جديد من الأطماع والصراعات التي جَعَلَها تنافُسُ الولاة diadoques اليونانيين (قادة الجيش الذين خلفوا الإسكندر) محتومة. وهكذا نشب صراعٌ مسلحٌ بين بطليموس وپيردِكاس، سيد آسيا. وحين مات الأخير، الذي قَتَلَه سلوقُس، هرع بطليموس إلى انتزاع سورية من لاوميدون.

في العام 317 ق م، شبَّ من جديد قتالٌ دام عدة سنوات بين الولايات الموروثة عن إمبراطورية الإسكندر: مقدونية وطراقية (جنوب شرق أوروبا) ومصر وآسيا. وقام سلوقُس، الذي وطد سلطته على حوضَي الفرات ودجلة، بإلحاق هزيمة منكرة في إپسوس في فريجية (301 ق م) بأنتِغونيوس الذي كان حاكمًا لسورية، مؤسِّسًا على نهر العاصي مدينةَ أنتِغونيا التي جعلها عاصمةً له.

بسط سلوقُس نفوذَه على نهر السند وطالب بالهيمنة على سورية حتى عيدوم l’Idumée (جنوب فلسطين). غير أنه تجنَّبَ قطع علاقاته مع بطليموس الذي رفض طلبَه، واكتفى بضم وادي العاصي إلى ولاياته. كما ظلت منطقة قلمون سورية محلَّ مؤامرات طويلة ومعقدة قبل أن يتصالح بطليموس وسلوقُس. حصل الأولُ على فلسطين وعلى جواز السيطرة على قبرص، فيما فاز الثاني بكيليكية وفينيقية، المنتزَعة من ديمتريوس حليف أنتِغونيوس السابق، وبالقلمون.

في العام 280 ق م، قام سلوقُس نيكاتور [المنتصر] بسحق ليسمياخُس، ملك طراقية ومقدونية، في كورپيديون (ليديا) وقَتَلَه. وبذلك هلكَ الوريثُ الشرعي للإسكندر، فتلاشت فكرةُ "الوحدة الإمبراطورية"، وتجزأت الأقطارُ التي كانت أقرت بسيادة المقدوني، فآل الجزءُ الأكبر من آسيا إلى سلوقُس. منذ ذلك الوقت، ولمدة قرنين من الزمن، ارتبط تاريخُ بلاد الشام ارتباطًا وثيقًا بتاريخ السلوقيين.

لقد أنارت اليونانُ القديمة العالمَ كالشمس، ومازال تأثير حضارتها ونزعتها الإنسانية حاضرًا دائمًا في ثقافة العالم. يقول پيريكلِس (495-429 ق م) في خطابه الشهير "إلى أموات المدينة":

إن لفي دستورنا أسوةً تُحتذى. تُدار الدولةُ عندنا لمصلحة الجمهور وليس الأقلية. وبهذا، أخذتْ بلادنا اسمَ الديموقراطية.

نعرف كيف نوفق بين حب الدراسة والبأس، بين تذوق الجمال والبساطة. مدينتنا هي مدرسة اليونان والعالم.

حتى وإن كان مآلُ كل شيء إلى الزوال، ليتك تقولين عنا، أيتها القرون المقبلة، إننا بنينا المدينةَ الأشهر والأسعد.

بعد خمسة وعشرين قرنًا، مازال هذا الخطاب صالحًا، وليته يكون موضوعًا للتأمل.

ترك سلوقُس الأول نيكاتور بعد موته سنة 281 ق م إمبراطوريةً شاسعةً كانت تضم معظم فتوحات الإسكندر الآسيوية، مضافةً إليها مقدونية. وقد شكَّلتْ سورية في هذا الإطار ثماني مقاطعات: أربع في سورية السلوقية، من طوروس إلى حماة، وأربع في قلمون سورية، من فتحة حمص إلى حدود فلسطين. وكانت الإمبراطورية تضم عاصمتين: سلوقية على دجلة وأنطاكية على العاصي، وكلتاهما أسَّسها الملك.

خلف أنطيوخُس الأول سوتِر [المخلص] أباه على رأس الإمبراطورية (281-261 ق م). وقد تميَّز عصرُه بالتخلي عن كلِّ سياسة أوروبية وباستهلال مرحلة طويلة من الصراع ضد مصر للسيطرة على سورية الجنوبية. وبهدف استجماع قواه، تنازَلَ عن مقدونية، لأن الملك اللاجيدي كان قد أعاد احتلالَ كيليكية وقلمون سورية. ثلاثة حروب وسمتْ ذلك العصر في سورية: حرب سورية الأولى (271-251)؛ والحرب الثانية التي شنَّها أنطيوخُس، ابن أنطيوخُس السابق (258-250)؛ أما الحرب الثالثة (246-240)، أو حرب لاوديكي (زوجة أنطيوخُس الثاني)، فكان سببها مأساة عائلية: عندما زوَّجَ بطليموس ابنتَه بيرينيكي لأنطيوخُس الثاني فإن زوجته لاوديكي التي انسحبت إلى إفسُس فكرت في الانتقام: مات أنطيوخُس مسمومًا وقُتِلَتْ بيرينيكي وابنُها.

كانت الفرصةُ جد مؤاتية للتدخل. فما كان من بطليموس الثالث الذي خلفَ أباه إلا أن ثأر لموت أخته بيرينيكي، فقام بغزو سورية واحتل أنطاكية بلا مقاومة في أعقاب الاضطرابات التي تسببت فيها هذه الجرائم. وعهِدَ بحكم سورية إلى أنطيوخُس هييِراكس [الأقدس]، شقيق سلوقُس الثاني الأصغر ومنافسه والوريث الشرعي للعرش (الاثنان هما ثمرة زواج أنطيوخُس الثاني من لاوديكي)، ثم عاد إلى مصر راضيًا.

لكن السلام لم يستتب بذلك، لأن حربًا نشبت بين الشقيقين (225-226). ومات الشقيقان بُعيد ذلك، واغتيل سلوقُس الثالث، بكر سلوقُس الثاني، بعد ثلاث سنوات من تولِّيه الحكم. وآل التاجُ إلى الابن الأصغر للمتوفَّى، أنطيوخُس الثالث.

منذ وفاة سلوقُس نيكاتور والإمبراطوريةُ لا تنفك تضعف. كان الإصرارُ على انتزاع سورية الجنوبية من أيدي البطالمة السببَ الرئيسي في هذا الإنهاك الذي حال دون تمكُّن سادة أنطاكية من الحفاظ على سلطانهم على باقي ولاياتهم. فقد خسروا في آسيا الصغرى كلاًّ من قپدوقية وفريجية؛ أما أقاليم المشرق فقد فازت باستقلالها أو لم تعد تقر لسيدها إلا بسلطة اسمية.

تسنَّمَ أنطيوخُس الثالث العرشَ سنة 223 ق م. وبعد بدايات صعبة، بلغ نفوذُ السلوقيين أوجَه. فقد قضى على تحالُف الپارثيين [في خراسان] والباكتريانيين [في تركستان] والأرمن. وحذا حذوَ الإسكندر، فذهب حتى نهر السند، ولم يعد إلى بابل إلا بعد أن أبصر شواطئَ الخليج الفارسي [خليج العرب] (212-204 ق م). وبعدما وطَّد حكمَه على آسيا، حوَّل وجهتَه من جديد إلى الجنوب، فسحق المصريين (199-198 ق م)، واستولى نهائيًّا على سورية الجنوبية. وظل كلٌّ من قلمون سورية وفلسطين وفينيقية بأيدي السلوقيين لمدة أكثر من قرن من الزمن.

كان نفوذ "ملوك سورية"، كما دُعِيَ السلوقيون، قد بلغ ذروتَه في ذلك الحين. لكن سلوقُس وأخلافه عملوا لمصلحة الأسرة الحاكمة، لا لمصلحة البلاد. لذا فإن النتائجَ التي أحرزها أنطيوخُس، الذي مُنَحَ لقبَ "الكبير"، بشق النفس كانت قصيرة الأمد. فعندما توفي سنة 187 ق م، كان حكمُه قد ضعُفَ وتقلصت ولاياتُه إلى قرابة النصف. وقد سبق لروما أن قامت بتقويض دعائم المملكة الوحيدة ذات النفوذ في آسيا. بالفعل، لم يقُمْ ذلك الملك بمقاومة تدخُّل روما بكلِّ ما أوتيَ من قوة قبل فوات الأوان، فكان عليه أن يتحملَ نتائجَ ذلك سريعًا.

كانت روما، التي لم تكتفِ بهزيمة قرطاجة، تريد السيطرة على حوض البحر المتوسط كاملاً. كانت تقاوم فيليپُس الخامس في مقدونية، وتنصِّب نفسَها حَكَمًا بين البطالمة والسلوقيين. وبينما كانت الجمهوريةُ تواصِل تدخُّلها في شؤون آسيا الصغرى وبلاد الشام ومصر، مراهنةً على المنافسات والأنانية والمصالح المباشرة التي كانت تحكم العلاقاتِ بين دويلات الشرق، كانت تستعد بصبر وأناة لتَوَسُّعها الذي ما كان لشيء أن يحدَّه بعد.

خلفَ سلوقُس الرابعُ فيلوپاتور (187-175 ق م) أباه. وفي عهده، أصبحت سورية هلنستيةً بالكامل. وكانت هناك بوادرُ نزاع وشيك بين اليهود المتزمتين (الحصيديم) وبين اليهود المؤيدين للأفكار اليونانية. وبالفعل، فإن الطائفةَ الحصيدية، المتمسكة بالتوراة حصرًا والمعادية لعقلانية الفكر اليوناني، اصطدمت بشراسة بالعناصر الفتية والذكية التي اعتنقت الأفكار الجديدة.

في عهد إمبراطورية السلوقيين، وجدتْ شعوبٌ متنوعة للغاية نفسَها مجتمعةً تحت مظلة سلطة واحدة. في المقابل، مثلما أن المَلَكيات الشرقية كانت تتكيف مع الروح اليونانية، فإن الهلنستية كانت تتساهل مع عوائد البلاد. لقد أتاحت هذه التسوية بين عالمين، بين ذهنيتين متعارضتين أحيانًا، لهاتيك الشعوب من بلاد الشام وأرمينيا، من قپدوقية وبلاد الكلدان، أن تتقبل الأفكارَ والأعراف القادمة من أتيكي [شبه جزيرة أثينا]، مما أتاح للسلوقيين محاولة تحقيق وحدة ولاياتهم عن طريق الهَلْيَنة.

بذا كانت سورية مهيأةً للتطور في هذا المنحى. فقد كان الفينيقيون، الشعبُ البحري، على اتصال دائم مع بلاد الإغريق. ومع الوقت، حلَّ التفاهمُ محلَّ العداوة والتنافس بين البحارة الفينيقيين واليونانيين. وهكذا تجاوَزَ تأثيرُ أتيكي، منذ ذلك الحين، مُدنَ الساحل ليصلَ إلى سكان الداخل.

لقد ضاعفَ الإسكندر، والسلوقيون من بعده، من عدد المدن اليونانية في بلاد الشام: بدأ الإسكندرُ هذا الاستيطان بتأسيس إسكندرية إيسوس (إسكندرون). وحذا أنتِغونيوس حذوَه، فشيد مدينة أنتِغونيا على نهر العاصي. إلا أن السلوقيين الأوائل هم الذين وسَّعوا هذه الحركة.

أسَّسَ سلوقُس نيكاتور أنطاكية سنة 300 ق م على الضفة اليسرى للعاصي، على سفح جبل سِلپيوس. وقد قام سكان أنتِغونيا الذين هجروا مدينتَهم بالاستيلاء على أنطاكية. ثم جاء مستوطنون بأعداد كبيرة من كريت ومقدونية، وأصبح تعدادُ اليونانيين واليهود فيها كبيرًا. وهكذا أصبحت أنطاكية بعد مئة سنة واحدةً من المدن الكبيرة في الشرق والمدينةَ الأولى في الترف والفن والمتعة. ومن يومذاك فصاعدًا، فقدت أثينا التفوقَ الفني الذي أحرزتْه إبان القرن الخامس، وفي برغام وأنطاكية والإسكندرية ورودوس وجد الفن أشكالَه الأصيلة وبدأت المدارسُ بالتشكل.

كان الفن اليوناني في القرن الخامس رصينًا ودينيًّا. وكانت النماذج التي تخرج من "ورشات" أنطاكية، ابتداءً من القرن الثالث، منسجمةً مع المجتمع الأنيق والمحب للملذات الذي كانت هذه النماذجُ موجَّهةً له. لقد حل السعيُ وراء الرشيق والوسيم محلَّ مظاهر القوة والجمال البسيط، وأصبحت المعاناةُ واللذةُ مواضيعَ مفضلة. فما أراد الفنانُ تجسيدَه هو مشاعر معاصريه.

أصبحت أنطاكية، بوصفها مدينةً للمتعة ومدينة للفن، أحدَ المراكز التي سطع منها الفنُّ الهلنستي، ومافتئت المدينة تزداد جمالاً. لقد وضع المعمار كسينووُس لها المخططات. كما شيَّد السلوقيون معابدَ وأنشأوا جسورًا على العاصي.

أمرَ أنطيوخُس إپفانيوس [المتجلي] ببناء قصر في مجلس الشيوخ ومعبد للإله زِفْس الكاپيتولي[1]. واستمر الرومانُ فيما بعد ببناء المسارح والحمامات وقنوات الماء والباسيليكات[2] ليجعلوا من عاصمة سورية أجمل مدن آسيا.

كانت أفاميا، التي أسَّسها هي الأخرى سلوقُس الأول، تقوم على نتوء جبلي يشرف على وادي العاصي. لقد كانت المركز العسكري للإمبراطورية، حيث يتجمع الجنود ويتلقون التدريب والسلاح. كما كانت توجد فيها احتياطاتُ الحرب وترساناتُ السلاح وإسطبلاتُ الخيل الملكية وآلاتُ الحرب، بالإضافة إلى فيلة الهند التي شكلتْ قوتُها الضاربةُ على مدى طويل عامِلَ تفوُّقٍ للجيوش السلوقية على جنود البطالمة الذين لم تكن لديهم سوى فيلة صغيرة الحجم من أصل أفريقي.

كانت هذه المدينة تمتد على أكثر من عشرين غَلْوة (وحدة طول مقدارها 600 قدم، حيث إن القدم يساوي 0.32 م). وكانت المباني العامة والمعابد والقصور عديدة. لم تكن المدينةُ موقعًا حصينًا وحسب، بل كانت مدينةً جميلةً ومزدهرة.

كما أسَّسَ أولُ سلوقي مدينتين على الشاطئ: سلوقية ولاوديقية (اللاذقية). وقد كتبَ سترابون (جغرافي يوناني 58 ق م – 22 م) عن لاوديقية: "مدينة مشيدة بروعة وجلال، تتمتع بمرفأ ممتاز وبأرض في منتهى الخصوبة." كانت كرومها تغطي المرتفعاتِ المجاورة، وكانت مواسمُها من الوفرة بحيث تزوِّد سكانَ الإسكندرية بالخمر. وعلى الرغم من أن لاوديقية كانت موجودة قبل سلوقُس الأول تحت اسم رامَنثا، فإنها لم تتألق إلا منذ الفتح اليوناني (بحسب رينان).

وفي فينيقية، إبان الاحتلال الفارسي، كانت الأشكالُ الفنيةُ متأثرةً بمصر وبالشرق، ويحاكيها كلٌّ من منطقة سوسة وبابل. وفيما بعد، سيطر التأثيرُ اليوناني، فتراجعتِ اللغةُ الفينيقيةُ أمام اليونانية، وترك الفنُّ الجنائزي توابيتَ حجرية تشكل نماذجَ فريدة من الفن اليوناني، خصوصًا التابوت المسمَّى "تابوت المرزبان"، وتابوت آخر، أحدث منه، سُمِّي "تابوت الإسكندر"، المنحوت على الأرجح حوالى سنة 325.

أصبحت الروح اليونانية هي السائدة في كلِّ مكان. ومع ذلك، لم تتوغل الهلنستية كثيرًا في جبال اليهودية. لكن ابتداءً من القرن الثالث، ساهم توسعُ أنطاكية في نشر الأفكار اليونانية التي كانت تسربت شيئًا فشيئًا حول أورشليم. وهكذا تغيرت أسماءُ المدن القديمة: يافا أصبحت جوپِّه، وعكو [عكا] أصبحتْ پطُليمايس، ودان أصبحت بانياس. كانت المستعمرات اليونانية تتكاثر حول فلسطين. وكانت الهلنستية تسيطر ليس فقط على غرب فينيقية، بل وعلى شرق دمشق وفيلادلفيا (عمَّان) أيضًا.

لقد افتتحتْ وفاةُ ديمتريوس الثاني (129 ق م) فترةً من الفوضى لم تنتهِ إلا مع الغزو الروماني (64 ق م). وشيوع الفوضى تسبَّب فيه المطالِبون بالعرش الذين لم تتوقف جنودُهم عن تدمير البلاد التي يمرون بها. أُطلِقَ العنانُ للأحقاد والأطماع، وأمست الأهواءُ لا ترعوي. إن كلَّ مَن وجد في نفسه القدرة على السيطرة خاطر بفرصته. في عهد ملوكٍ كهؤلاء، لم تعد البلادُ محكومةً، وشرعت في التحلل. وفي حوالى العام 100 ق م، لم يبقَ من مملكة بلاد الشام سوى أسمال تسودها الفوضى.

تعاقَبَ ستةُ ملوك في الفترة بين 96 و84 ق م، حيث حكموا متنافسين بعضهم ضد بعض. وفي العام 83 ق م، استنجدت بلادُ الشام التي كانت تبحث عن حاكم لها بملك أرمينيا طِغْران الذي كان يحكم أيضًا قپدوقية وكيليكية.

بعد أربع عشرة سنة، حاولَ كلٌّ من الملكين أنطيوخُس الثالث عشر وفيليپُس الثاني تولي الحكم جاهدَين. وفي الواقع، اتسمت سنةُ 83 ق م بنهاية السلوقيين.

لقد اختُتِم تاريخُ هذه الإمبراطورية، التي كانت تغطي في عصر مؤسِّسها جزءًا واسعًا من آسيا، بفترة انحطاط طويلة. ثم انتهت الإمبراطورية في العام 64 ق م، وأضحت مملكةُ سورية ولايةً رومانية.

*** *** ***

الترجمة عن الفرنسية: محمد علي عبد الجليل

مراجعة: ديمتري أفييرينوس


horizontal rule

[1] متعلق بالإله جوپيتر أو بالكاپيتول (مقر السلطة) في روما. (المترجم)

[2] basiliques مبانٍ رومانية مستطيلة في أحد أطرافها جزء ناتئ نصف دائري. (المترجم)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود