|
الطاوية مقابل الأخلاق
الفيلسوف الأخلاقي: لا بدَّ لي من القول بأن شديد الاضطراب من جراء الطريقة التي يمضي فيها العالم من سيء إلى أسوأ. إذ يبدو أن جميع المعايير الأخلاقية الموضوعية في طريقها إلى الاختفاء. وفي أيامنا هذه، يتكلم الجميع بلغة ما هو صحيح لي أو صحيح لك أو صحيح له – ولا يتكلمون أبدًا عما هو صحيح في حدِّ ذاته. جميع الأحكام الأخلاقية – يقال – تُختزَل في المآل إلى الأذواق والميول الذاتية المحضة. كذا فمع اختفاء أية شريعة موضوعية أخلاقية، لا عجب أن تمضي المدنية سريعًا نحو هلاكها! الطاوي: فأنت تكلِّم الرجل المناسب. فأنا – للمصادفة – واحد من أولئك الذين يؤمنون – وفي قوة – بالمعايير الأخلاقية الموضوعية. الفيلسوف الأخلاقي: حقًّا! ما أروع ذلك! لا يمكن لك أن تتصور أيَّ ارتياح هو ارتياحي إلى لقاء أمثالك في هذه الأزمنة اللاأخلاقية. فهل تهتم كذلك بمنطق الأخلاقيات؟ هل سبق لك أن نظرت، مثلاً، إلى مسألة كون الأخلاقيات قابلة للاختصار إلى عدد منتهٍ من المسلَّمات؟ الطاوي: لا أظنني أتابعك. الفيلسوف الأخلاقي: أعني: هل يمكن للأخلاقيات بكلِّيتها أن تُشتقَّ من عدد منتهْ من الافتراضات – البديهيات الأخلاقية – أم أن المطلوب عدد غير منتهٍ من مثل هذه المبادئ البديهية؟ الطاوي: آ... عدد منتهٍ، جزمًا! لا بل عدد منتهٍ ضئيل جدًّا – واحد، بالدقة! الأخلاقيات بكلِّيتها يمكن اختصارها إلى مبدأ واحد وحسب. الفيلسوف الأخلاقي [بتشوق]: وما هو هذا المبدأ – ألعله القاعدة الذهبية؟ الطاوي: آه، لا! فمبدأي أكثر أساسية بكثير. إنه في بساطة أن لكلِّ واحد الحقَّ في أن يفعل ما يريد. الفيلسوف الأخلاقي [بعد لحظة من الصمت المذهول]: آه، يا إلهي! في حياتي كلِّها لم يحدث أن خُدِعتُ بهذا القدر من القسوة! هنا كنت مستعدًّا لمنحك ثقتي كاملة، لقبولك كفيلسوف أخلاقي زميل – وها أنت تخرج بهذا الرأي الفظيع – ليس رأيًا لاأخلاقيًّا – لا بل قطعًا أكثر الآراء المضادة للأخلاق التي سمعتها في حياتي! اعذرني لأني مازلت في حالة خفيفة من الصدمة! الطاوي: لا أرى أن هذا الرأي مضاد للأخلاق على الإطلاق. الفيلسوف الأخلاقي: بالطبع هو مضاد للأخلاق! ففي المقام الأول، فكرة أن يفعل كل واحد كلَّ ما يريد تقود بالطبع إلى الفوضوية. الطاوي: آه، ليس هذا على الإطلاق! إذا كان الناس يريدون قوانين، لديهم كل الحق في تجاهُلها. للمجرم كل الحق في مخالفتها، للشرطة كل الحق في اعتقاله، للقاضي كل الحق في الحكم عليه بالسجن، وهكذا دواليك. الفيلسوف الأخلاقي: ويحك تمهَّلْ دقيقة، فأنت تحتال عليَّ بحيلة سفسطائية! إذا كان للمجرم الحق في مخالفة القانون (وهو ليس لديه الحق)، إذ ذاك لا يعود للشرطة الحق في اعتقاله. الطاوي: ولِمَ لا؟ الفيلسوف الأخلاقي: لأنه من البيِّن أنه إذا كان لشخص ما الحق في فعل شيء، فإنه ليس لأحد آخر الحق لوقفه أو لمعاقبته على ما فعل. الطاوي: لكن من البيِّن أنه لا يمكن لهذا أن يكون صحيحًا، بما أن لكل واحد الحق في فعل أيِّ شيء، كما قلت لك لتوي. الفيلسوف الأخلاقي: فأنت، إذن، تستخدم كلمة "حق" بطريقة عديمة المعنى تمامًا. فبحسب أي مفهوم للـ"حق" قابل للتصور، إذا كان لامرئ الحق في فعل شيء فليس لأحد الحق في منعه عنه. الطاوي: لكن هذا ليس صحيحًا. فبحسب مفهوم الحق الذي أعتنقه، عبارتك في بساطة خاطئة، على اعتبار أنه يمكن لشخصين مختلفين أن يريدا فعل شيئين متعارضين. الفيلسوف الأخلاقي: إذن فأنت تتناقض. إذ ليس هناك قطعًا تأويل لكلمة "حق" يحق بحسبه لكل واحد أن يفعل ما يريد تمامًا. الطاوي: أقر لك أنه، بحسب تصورك للـ"حق"، من البيِّن أنه ليس لأحد الحق بأن يفعل ما يريد. غير أنه ليس صحيحًا أنه لا يوجد تأويل للـ"حق" يصح فيه أن لكل واحد الحق في أن يفعل ما يريد. الفيلسوف الأخلاقي: لا يوجد مثل هذا التأويل! الطاوي: يوجد بكلِّ تأكيد. الفيلسوف الأخلاقي: لا يوجد! الطاوي: هل لك أن تراهن على ذلك؟ الفيلسوف الأخلاقي: من كل قلبي! الطاوي: إذ ذاك أخشى أنك خاسر لا محالة. حسبك أن تعرِّف صحة الفعل بكون صاحب الفعل يريد أن يفعله. بحسب ذلك التعريف، من نافل القول أن للمرء الحق في أن يفعل ما يريد. الفيلسوف الأخلاقي: آه، يا إلهي! أية لعبة سفسطائية رخيصة! أنت تلعب بالكلمات لعبًا سخيفًا عديم المعنى، مستخدمًا حججًا محض مجردة لا علاقة لها بالواقع. بالطبع بحسب تعريفك للـ"حق" المخصص لهذا الغرض حصرًا فإن ما تقوله صحيح لا يؤبَه له. ولكن أي امرئ سليم العقل سوف يقبل بمثل هذا التعريف الفظيع؟ الطاوي: أنت تطرح عدة نقاط هامة. فأنت، في المقام الأول، لم تقل أصلاً إنه لا يصح، بحسب أيِّ تعريف مقبول للـ"حق"، أن يكون للمرء الحق في أن يفعل كل ما يريد، بل قلت إن ذلك لا يصح بحسب أيِّ تعريف مطلقًا. لذا أعطيتك تعريفًا ما – وإن يكن ربما تعريفًا "غير مقبول" – كمثال مضاد. الفيلسوف الأخلاقي: لكن هذا بالضبط ما عنيته باللعب بالكلمات! لِمَ أعطيتني أصلاً مثل هذا التعريف، وأنت تعلم حقَّ العلم بأني سأجده غير مقبول مطلقًا؟ الطاوي: من أجل أن أثبت نقطة هامة للغاية! ففي الأصل كنت تندد بنقص المعيار الأخلاقي الموضوعي. لذا أحاول أن أبيِّن لك أنك الآن تريد الموضوعية المحضة. غير أن في الوسع الإتيان بالكثير الكثير من التعريفات الموضوعية المختلفة للـ"حق" و"الباطل" – وكلها دقيق تمامًا. لكنك، لكي تقبل أحدها، لا بدَّ أن تمرِّره عبر معاييرك الذاتية المحضة. الفيلسوف الأخلاقي: طبعًا! فماذا إذن؟ الطاوي: كنت في الأصل تندد بالذاتية في الأخلاق، وأنا أزعم أنك، في التحليل النهائي، لا تقل ذاتية عن أولئك الذين تنتقدهم. الأخلاقيون الذاتيون ذاتيون بالطبع، لكنهم من الصدق بحيث يقرون بذلك. إن نقدي الرئيسي للأخلاقيين الموضوعيين المزعومين أنهم لا يقلون ذاتية عن الأخلاقيين الذاتيين، إلا أنهم لا يعون ذلك. إنهم يسترون ذاتيتهم وراء نقاب من الموضوعية. الفيلسوف الأخلاقي: فماذا عن الأخلاقي الموضوعي المؤمن بالله؟ إنه يعرِّف بالخير بوصفه العمل بمشيئة الله. فهل يمكن أن يوجد أيُّ شيء ذاتي بخصوص ذلك؟ الطاوي: بالطبع يوجد! من الناحية المجردة قد يبدو موضوعيًّا. المشكلة الوحيدة هي أن اختيار المرء للدين – طبيعة الإله الذي يؤمن به – تعيِّنه تعيينًا كاملاً مواقف ذاتية. من هنا فحين يقول أحدهم: "عليك أن تفعل كذا وكذا، ليس لأني أشعر بأنك يجب أن تفعله، بل لأن أخلاقية الله تتطلب ذلك"، إذ ذاك أشعر شعورًا قويًّا بأنه يستر مشاعره الذاتية المحضة خلف نقاب من الموضوعية. تذكَّرْ أني لست بالضرورة ضد الذاتية، على أن يتم الاعتراف بها كذلك صراحة. الفيلسوف الأخلاقي: إذا كنت أرغب في سَتْر ذاتيتي وراء واجهة من الموضوعية، إذ ذاك فإنه، وفقًا لك، يحق لي تمامًا أن أفعل ذلك! إذ إنك قلت إن لي الحق في أن أفعل كل ما أريد! الطاوي: هذه محاولة خرقاء لحجة من نوع اختزال الأمر إلى لامعقول؛ لكني سعيد بأنك أوردتَها باعتبارها سوف تفيد تمامًا في توضيح نقطة. بالطبع لك الحق! وأنا لا أشكك في ذلك. لكني لا أظنك تريده! فأنا أعرفك بما يكفي لأعرف بأن الصدق واحد من قيمك. فأنا لا أظن بأنك تستر ذاتيتك عن وعي أو عن قصد وراء قناع من الموضوعية. أنت لا تعرف أنك تفعل هذا. والسبب الأوحد الذي يدفعني إلى محاولة إقناعك هو إيماني المطلق بأنك حالما تقر بما تفعل فإنك لن تتمنى بعدُ الاستمرار فيه. إذ إن اختلافنا الرئيسي، كما ترى، هو أن إيماني أكبر منك بكثير بـالطيبة الجوهرية للدوافع البشرية. الفيلسوف الأخلاقي: ولكن ماذا عن قولك إن للمرء الحقَّ في أن يفعل كل ما يريد؟! إن كلمة "كل" هذه هي التي أجدها مقلِقة إلى هذا الحد. أليس قولك هذا في صراحة مكافئًا لإنكار للفلسفة الأخلاقية برمَّتها؟ الطاوي: منطقيًّا، قد يكون مكافئًا، أجل. أما نفسيًّا فهو قطعًا ليس مكافئًا! معظم الناس يصدمهم قولي أكثر بكثير مما يصدمهم مجرد إنكار للفلسفة الأخلاقية. فوجود اللاأخلاقيين من العراقة بحيث إنهم لم يعودوا طرافة مرعبة بنظر الأخلاقيين. لذا حين ينكر لاأخلاقيٌّ الواقعيةَ الموضوعية للأخلاقية فإن الأخلاقي سوف يخالفه الرأي قطعًا، لكنه مع ذلك سوف يغض الطرف عنه. ولكن حين يأتي أحدهم ويعترف بوجود شيء كالحق والباطل، ثم يمضي قائلاً بأن لكلٍّ الحق في أن يفعل كل ما يريد فإن هذا لا يبدو شبيهًا باللاأخلاقية، بل أشبه بتشويه شنيع للأخلاقية! الفيلسوف الأخلاقي: صحيح. أخبرني، بما أنك تعرف أنك ملاحظتك تصدم الناس، لماذا أبديتها؟ الطاوي: لأنني، مرة أخرى، أعرفك بما يكفي لأدرك أنك ما كنت لتريديني أن أمسك عنك الحقيقة – أو حتى ما أعتقد أنه الحقيقة – لمجرد أن أتجنب صدمَك. الفيلسوف الأخلاقي: ولكن هل تعتقد حقًّا بأن هذه هي الحقيقة؟ ألا تجد شيئًا خطيرًا في قولك؟ ألا تدرك كيف يمكن استعماله لتسويغ أبشع أنواع السلوك تصورًا؟ الطاوي: أستطيع أن أتخيل كيف قد يبدو الأمر كذلك، لكني أقل رعبًا منك بكثير من حصول ذلك فعلاً. مرة أخرى، أشعر بأن الفارق الرئيسي بين طبعي وبين طبعك هو أنني أثق ثقة أكبر منك بكثير في الطيبة الأساسية للطبيعة الإنسانية. لذا فأنا أقل منك خوفًا منك من فعل الناس ما يريدون فعلاً. هل ثمة في الواقع كل هذا الفرق بين عبارتي والقول المشهور (والأكثر قبولاً بكثير): "أحبب الله، وافعل ما تشاء"؟ الفيلسوف الأخلاقي: أخشى أنك تجافي الواقعية. أنت تعتقد بأن غرائز الإنسان نفسها خيرة، في حين أن امرأ يعرف كيفية الأمور فعلاً، بدلاً من أن يمعن في تعليل النفس بالآمال، يعرف بأن بواعث الإنسان البدائية شديدة الخطورة ما لم يردعها العقل والأخلاق. فرجل كله هو خطر على نفسه وعلى المجتمع. فعلى الهو أن يخضع لضبط الأنا والأنا الأعلى لإيجاد كائن مؤتلف مع الجماعة بحق. الطاوي: يلوح لي أني سمعت ذلك في مكان ما من قبل! الفيلسوف الأخلاقي: أنا أبعد ما أكون عن ادِّعاء الأصالة في قولي هذا! فالشيء المهم هو أنه صحيح. الطاوي: أما في نظري، فالشيء الأهم هو أنه مغلوط. الفيلسوف الأخلاقي: ألست منحازًا إلى الجانب العقائدي بعض الشيء؟ الطاوي: طبعًا! لكنْ ليس أكثر من انحيازك أنت. الفيلسوف الأخلاقي: دعنا لا نخاتل حول هذه النقطة الصبيانية! فالأمر باختصار هو: كيف تعرف أن وجهة النظر التي أتمسك بها مغلوطة؟ الطاوي: لا أدِّعي أنني أعرف ذلك؛ فالمسألة مثار جدل كبير. غير أن خبراتي في الحياة قادتني إلى الشعور بأن الصورة التي تصفها صورة مغلوطة تمامًا – صورة الهو بوصفه البهيمة البرية، المتوحشة، الخطرة، وال،ا الأعلى بوصفه البطل الآخذ بالثأر الذي يردع الهو. إذا اتفق لي أصلاً أن أفكر بهذه العبارات الفرويدية (وأنا، للمناسبة، لا أفعل)، فصورتي هي الصورة المعاكسة بالأحرى: أرى الهو المسكين المطعون فيه بوصفه ذا طبيعة لطيفة ومُحِبَّة؛ لكن الأنا الأعلى، بتقييده الهو وتعذيبه، يدفع به إلى الرد على العداوة بمثلها، ومن ثم إلى ارتكاب أفعال عنيفة في بعض الأحيان. ثم يضحك الأنا الأعلى ضحكة الانتصار ويقول: "أنظر أي مخلوق خبيث هو الهو في الواقع! أتفه الآن لماذا أنا مضطر إلى إبقائه مقيدًا؟ حسبك أن تتصور أي أذى أكبر بكثير يمكن أن يتسبب فيه لو لم أكن أردعه!" هذا الوضع أشبه ما يكون تمامًا برجل لا يثق بكلبه ويبقيه مقيدًا على الدوام. غير أن عملية التقييد تجعل خبيثًا، فيقول الرجل حينئذٍ: "هالك لماذا لا بدَّ من إبقاء كلب خبيث كهذا مقيدًا!" الفيلسوف الأخلاقي: لقد ناقشنا الهو والأنا الأعلى. فأين موقع الأنا من هذا كلِّه؟ الطاوي: هذا يتوقف على الفرد. من البيِّن أن أناك يقف إلى جانب الأنا الأعلى؛ بينما أناي يقف إلى جانب الهو. الفيلسوف الأخلاقي: قُلْ لي، في صراحة، لماذا يشكِّل الأخلاقيون خطرًا كهذا؟ لماذا تحامُلُك هذا كله علينا؟ هل هو بسبب ما سبق أن قلت من أننا نخبِّئ ذاتيتنا خلف نقاب من الموضوعية؟ الطاوي: لا، فالأمر أكبر من هذا بكثير! قد تتذكر نقد جورج بركلي النافذ للفلاسفة: "إنهم أولاً يثيرون الغابر، ومن بعدُ يتذمرون من كونهم لا يرون." نقدي للأخلاقيين شديد الشبه بهذا، على كونه، ربما، أشد. لعلك تتذكر أن مناقشتنا برمتها بدأت من تذمرنا من استشراء الفساد في العالم. وغالبية الأخلاقيين يتذمرون على الدوام من مفاسد العالم المزعومة، لكني أزعم، وأنا صاحٍ، أن الأخلاقيين أنفسهم هم المصدر الأول لهذا الاضطراب. إنهم، أكثر من أية مجموعة أخرى، يدفعون بالناس إلى التصرف في صورة فاسدة على الرغم من كونهم – أو بسبب كونهم! – يبشرون بالأخلاق. إنهم يتسببون في المشكل نفسه الذي يندِّدون به. الفيلسوف الأخلاقي: هذا صدقًا أكثر الاتهامات ظلمًا التي سمعتها في حياتي! الطاوي: أنا آسف، لكن يجب أن أكون صادقًا. فالوضع له ما يوازيه. فأحد الخبراء الطبيين قال مؤخرًا إن أعظم محاذير الصحة في زماننا (بعد السرطان) هو الأطباء السيئين. لست مؤهلاً للبتِّ فيما إذا كان هذا صحيحًا أم لم يكن، لكن صحته لا تفاجئني! ولقد سمعت أيضًا أن طبابة القرن التاسع عشر قتلت وأمرضت من البشر أكثر بكثير مما أنقذت. وهذا قطعًا شديد المعقولية! كذلك ليس من المستبعد أن يكون الاقتصاديون العلة الأولى للعديد من أسوأ مشكلات العالم الاقتصادية. والوالدون الذين يزورون الأطباء النفسيين يجدون – ويا للهول! – أنهم السبب الأول لجنوح أولادهم وغيره من المشكلات العصابية. والطبابة النفسية لم تكن منيعة على مثل هذا النوع من الهجوم. فبعض الناس يشعرون أن الطبابة النفسية نفسها كانت السبب الرئيسي للعُصابات المستشرية في مدنيتنا، على الرغم من أنه ساعدت ثلة من الأفراد بالفعل. وهكذا يبدو أن ظاهرة إثارة الغبار ثم التذمر من عدم الرؤية" أبعد ما تكون عن الاقتصار على الفلاسفة وحدهم. فلِمَ تشعرون، أنتم الفلاسفة الأخلاقيين، بالمناعة على هذا النقد؟ الفيلسوف الأخلاقي: لكن كل ما أعطيتني هو مقايسات! لم تخبرني كيف يتسبب الأخلاقيون في المشكلات الأخلاقية للعالم. الطاوي: لقد سبق لي، على نحو ما، أن أشرت إلى هذا. تذكر ما قلت عن الأنا الأعلى مبقيًا الهو في قيوده مثل الكلب، متسببًا بذلك في صيرورته خبيثًا، ومن ثم لوم الهو بوصفه خبيثًا أصلاً. دعني الآن أقل المزيد – وفي عبارات أقل فرويدية. النقطة المركزية التي لا بدَّ من ملاحظتها هو أن هناك فارقًا شاسعًا بين الأخلاقية وبين الإنسانية. وأعتقد أن كلمة "إنسانية" مركزية في مشكلتنا برمتها. أنت تدفع بالأخلاق، بينما أنا أشجع الإنسانية. أنت تشدد على "الحق والباطل"، بينما أنا أشدد على قيمة المحبة الطبيعية. ومن جانبي لا أؤكد أنه من المتعذر على المرء منطقيًّا أن يكون، في آنٍ معًا، أخلاقيًّا وإنسانيًّا، لكني مازلت أنتظر أن ألتقي مَن يجمع في شخصه بين هاتين الصفتين! والواقع أنني لا أعتقد أن هناك مَن يجمع بينهما. فخبرة حياتي برمتها بيَّنت لي في وضوح أن الاثنين متعاكسان إلى درجة خارقة. لم ألتقِ حتى الآن بأخلاقي هو شخص لطيف حقًّا.لم ألتقِ قط بشخص لطيف وإنساني حقًّا هو أخلاقي. ولا غرو في ذلك! فالأخلاق واللطف شيئان متناقضان من حيث الروح. الفيلسوف الأخلاقي: لست متأكدًا من أنني أفهم حقًّا استعمالك لكلمة "إنساني"، وفوق كلِّ شيء، أنا حائر تمامًا في السبب الذي يجعلك تعتبرها مناقضة للأخلاق. الطاوي: الشخص الإنساني شخص هو في بساطة لطيف ومتعاطف ومحب. إنه لا يعتقد أنه ينبغي أن يكون كذلك، أو أن "واجبه" يقضي بأن يكون كذلك؛ إنه في بساطة هو ما هو. إنه يحسن معاملة قريبه ليس لأنه "الأمر الصحيح الواجب فعله"، بل لأنه يشعر في نفسه بدافع لا يعانَد إلى ذلك. يشعر بهذا الدافع تعاطفًا وتراحُمًا – بدافع الشعور الإنساني البسيط. من هنا، إذا كان شخص ما إنسانيًّا ما حاجته إلى الأخلاق؟ لماذا يتعيَّن على المرء أن يؤمَر بأن يفعل شيئًا يريد أن يفعله لا محالة؟ الفيلسوف الأخلاقي: أوه، أفهم ما ترمي إليه؛ أنت تتكلم على القديسين! طبعًا، في عالم مليء بالقديسين، تزول الحاجة إلى فلاسفة أخلاقيين – زوال الحاجة إلى الأطباء في عالم مليء بالأصحاء. لكن الواقع المؤسف هو أن العالم ليس مليئًا بالقديسين. فلو كان كل امرئ ما تدعوه أنت "إنسانيًّا" لجرت الأمور على أحسن ما يرام. لكن غالبية الناس ليسوا أساسًا بهذا القدر من اللطف. إنهم لا يحبون قريبهم: ففي أول فرصة متاحة، سوف يستغلون قريبهم لمآربهم الأنانية الشخصية. من هنا ضرورة وجودنا، نحن الأخلاقيين، لردعهم. الطاوي: لـردعهم! ما أبدع ما تقول! وهل تفلحون في ردعهم؟ الفيلسوف الأخلاقي: لا أقول إننا نفلح دومًا في ذلك، لكننا نفعل ما بوسعنا. ثم إنك لا تستطيع أن تلوم الطبيب على إخفاقه في السيطرة على طاعون إذا فعل كلَّ ما يستطيع مما يمليه عليه ضميره. كل ما نستطيع أن نفعل هو أن نقول للناس بأنهم يجب أن يكونوا أكثر إنسانية؛ لا نستطيع أن نرغمهم على ذلك. فالبشر ذوو إرادات حرة في النهاية. الطاوي: ألم يخطر ببالك ولا مرة واحدة أن ما تفعله في الواقع هو جعل الناس أقل إنسانية بدلاً من أن يصيروا أكثر إنسانية؟ الفيلسوف الأخلاقي: بالطبع لا، ما أفظع ما تقول! ألا نوصي الناس بأنهم يجب أن يكون أكثر إنسانية؟ الطاوي: بالضبط! وهذا بالدقة هو بؤرة المشكلة. ماذا يجعلك تظن أن أنك بقولك لأحدهم أنه يجب أن يكون إنسانًا أو بأن "واجبه" يملي عليه أن يكون إنسانًا من شأنه أن يؤثر على المرء بحيث يصير أكثر إنسانية؟ يبدو لي أن هذا يميل لأن يكون له المفعول المعاكس. فماذا أنت تحاول أن تفعله هو أن تأمر بالمحبة. والمحبة، مثلها كمثل زهرة نفيسة، سوف تذوي وحسب عند أية محاولة لقسرها. إن نقدي لك في جملته يتعلق بكونك تحاول أن تقسر ما لا يزدهر إلا حين لا يُقسَر. هذا ما أعنيه حين أقول إنكم، أنتم الأخلاقيين، تخلقون المشكلات نفسها التي تتذمرون منها. الفيلسوف الأخلاقي: لا، لا، أنت لا تفهم! أنا لا آمر الناس بأن يحبوا بعضهم بعضًا. أعرف، مثلما تعرف أنت، أن المحبة لا يؤمَر بها. أدرك أن العالم سيكون عالمًا جميلاً إذا أحب الجميع بعضهم بعضًا إلى حدِّ أن تزول الحاجة إلى الأخلاق أصلاً؛ لكن من وقائع الحياة القاسية أننا لا نحيا في مثل هذا العالم. لذا فإن الأخلاق ضرورية. لكن لا آمر أحدًا بأن يحب قريبه – إذ أعرف بأن هذا متعذر! ما آمر به هو: حتى إذا لم تكن تحب قريبك بهذا المقدار، فمن واجبك أن تعامله معاملة صحيحة في كلِّ الأحوال. أنا امرؤ واقعي. الطاوي: وأنا أقول إنك لست واقعيًّا. أقول إن المعاملة الصحيحة أو الإنصاف إو الصدق أو الواجب أو الالتزام، شأنها شأن المحبة، لا يمكن لها أن يؤمَر بها. حتى يسوع، في أكثر لحظاته إشراقًا، أدرك المغزى العميق من هذه النقطة. موقفه من الزانيات والخطاة لم يكن: "عار عليك، أنت أيها الحقير! لا أستطيع أن أحبك وأقبلك كما أنت. فإذا كنت تريد محبتي وقبولي لا بدَّ لك من أن تتغير أولاً." لا، موقفه برمَّته كان: "أحبك وأتفهمك محبة وتفهمًا كاملين، وأتفهم سبب ارتكابك للخطيئة. أحبك وأقبلك على ما أنت الآن. وبما أني أحبك، آمل، من أجلك أنت، أنك سوف تتوقف عن الخطيئة لأني أعرف أنك ارتكابك لها يجعلك تعيسًا." الفيلسوف الأخلاقي: ما أحسن تأويلك ليسوع! فهل تظن أن يسوع كان ليقول: "لكلٍّ الحقَّ في أن يفعل كلَّ ما يريد." الطاوي: لا، ما أظنه ليفعل. ولكن في السياق الذي قلته، كانت لدوافعي الغاية نفسها: كنت أريد تقويض الأخلاق بمقدار ما تتعارض مع الإنسانية الحق. الفيلسوف الأخلاقي: ولكن لم لا بدَّ للأخلاق من أن تتعارض مع الإنسانية؟ هل أنت تبشر بالإنسانية؟ الطاوي: لقد سبق لنا أن أتينا على ذكر هذا من قبل. إن حجتي برمتها تقوم على أن الإنسانية لا يمكن أن يبشَّر بها. فالتبشير هو بالدقة الشيء الذي يدمرها. ما أخشاه هو أنك ما زلت لا تفهم نقطتي المركزية. دعني أقبس من مصدر مسيحي آخر. ففي كتاب الأخلاقيات المسيحية، من تأليف والدو بيتش وهـ. ريتشارد نيبوهر، يَرِدُ المقطع التالي عن القديس بولس: بمعنى ما فإن فكر القديس بولس كلَّه بخصوص الشريعة يمكن له أن يؤوَّل بوصفه متفرعًا عن فكرة يسوع بأن الشجرة الطيبة تأتي بثمار طيبة، وأنه لا توجد أية كمية من السلوك الخارجي يمكن لها أن تجعل البشر أخيار حقًّا. فبمقدار ما تبقى الشريعة الأخلاقية الآمرة شيئًا خارجيًّا بنظر الإنسان – قضية "ينبغي عليك" و"ينبغي عليك ألا" – فإن لا يمكن لها أن تجعله خيرًا في صميمه؛ لا يمكن لها تحوِّل دوافعه. فالشكل الآمر للشريعة، وليس فحواها، هي شيء نسبي يفترض مسبقًا أن تكون في المرء رغبةٌ معاكس لنية الشريعة. وعلاوة على ذلك فإن إعطاء الأوامر للبشر من شأنه أن يثير إصرارهم، فيغريهم بانتهاك الشريعة. فحيثما توجد الأوامر، يشعر الراشدون والأطفال، على حدٍّ سواء، إلي أيِّ حدٍّ يمكن لهم الدنو من حافة المحرَّم. مرة أخرى، فإن القانون الإلزامي لا يمكن له أن ينتج ذلك اللطف الفطري، غير القسري، في السلوك، البيِّن في شخص يسوع المسيح، الذي هو أكثر جاذبية بكثير، وبالتالي، أكثر إثمارًا بكثير، من الخير المدرك فضله. أجد هذا المقطع بديعًا للغاية! فهو يعبر عن فلسفتي الأخلاقية أحسن من كلِّ ما قلت. وهو يمثل خصلة في المسيحية ليست – واعجبي! – معروفة لدى العديد من المسيحيين "الممارسين"! الفيلسوف الأخلاقي: أنا سيعد لأنك قلت "خصلة في المسيحية"، لأن هذه الجماعة أبعد ما تكون عن تمثيل كلِّية المسيحية. فالمماهاة بين نسيج العقيدة ككل وبين هذا الخيط مضلِّل إلى أقصى حد. الطاوي: نعم، أذكر هذا كلَّه، بكلِّ أسف. الفيلسوف الأخلاقي: لماذا تقول "بكلِّ أسف"؟ الطاوي: لأن أجد من العسير عليَّ أن أضطر إلى نبذ أيِّ دين – ولا حتى الإلحاد. أتمنى أن يتسنى لي قبولها جميعًا، حتى وإن كان بعضها يناقض بعضها الآخر. كل منها مؤلَّف من العديد من الخصلات، بعضها طيب، وبعضها سيء، وبضها الآخر لامبالٍ. وأفضل ما أستطيع أن أفعل هو أن أنتقي أفضل الخصال في كلٍّ منها وأؤالف فيما بينها بأحسن ما أستطيع. وبخاصة، المقطع أعلاه عن القديس بولس يشدد بالضبط على ذلك المظهر من مظاهر المسيحية الذي أحبه. الفيلسوف الأخلاقي: بالطبع! فأنت تنقى بالضبط ذلك المظهر الذي يلائم قصدك. مازلت على ارتكابك الخطأ نفسه مرة تلو الأخرى. أنظر في السطر الأخير من المقطع الذي قرأته: "مرة أخرى، فإن القانون الإلزامي لا يمكن له أن ينتج ذلك اللطف الفطري، غير القسري، في السلوك، البيِّن في شخص يسوع المسيح، الذي هو أكثر جاذبية بكثير، وبالتالي، أكثر إثمارًا بكثير، من الخير المدرك فضله." هذا يصح على كائنات كالمسيح لكنى أتمنى أن تقتنع أنني وإياك لسنا يسوع المسيح. نحن بشر، طبيعتنا خيِّرة في جزء منها، وشريرة في جزء آخر. بالطبع فإن خير يسوع المسيح العفوي أكثر جاذبية وإثمارًا من الخير الواعي ذاته. أجل، هذا يصح على يسوع المسيح، لكننا لسنا يسوع المسيح. علينا، نحن البشر، أن نتعلَّم بالطريقة الصعبة. وحتى إذا كان الخير العفوي أفضل من الخير المدرك فضله، فإن الخير المدرك فضله أفضل من عدم الخير مطلقًا. وبما أن غالبية البشر لا يمكن لهم تعلُّم الخير إلا بإدراك فضلهم فيه، في البداية على الأقل، فهذا ما يبج أن يكون الأمر عليه، بكلِّ أسف. أعتقد أن الاعتبارات التالية قد تكون مفيدة هاهنا. لقد ميز كانط تمييزًا بالغ الأهمية بين ما أسماه "النية الطيبة" و"النية المقدسة". فالمرء صاحب النية الطيبة منجذب إلى الواجب والفضيلة لذاتهما، لكن هذا لا يعنى أنه خلو من البواعث الوضيعة أو الدنيئة. غير أنه، بفضل من نيته الطيبة، يتغلب على بواعثه الطبيعية الأقل رفعة بالانضباط وإنكار الذات. وهي سيرورة مؤلمة، لكنه يتحلَّى بقوة الإرادة للتغلب على الألم. أما الإنسان صاحب النية المقدسة فلا رغبة فيه في الإتيان بفعل خاطئ أصلاً. ليست عنده أية رغبات شريرة يتغلب عليها على الإطلاق. فعلى سبيل المثال، قد تنتاب المرء صاحب النية الطيبة رغبة بالسرقة من قريبه، لكنه يقاوم إغراءه لارتكاب ذلك لأنه يعرف أنه خطأ. أما الإنسان صاحب النية المقدسة فلن تنتابه أصلاً أية رغبة في السرقة من قريبه. الطاوي: بين الاثنتين، أفضل النية المقدسة. الفيلسوف الأخلاقي: بالطبع. وأنا كذلك أفضلها. فالنية المقدسة أعظم بركة يمكن أن يتمتع المرء بها. لكنها شيء يجب الفوز به! فماذا فعلتَ أنتَ أو فعلتُ أنا لنستحق شرف التحلي بنية مقدسة؟ النية المقدسة تتحلَّى بها كائنات كالله أو المسيح أو الملائكة أو القديسين. أما نحن البشر، فقلما نولد – إن كنَّا نولد يومًا – متحلِّين بنية مقدسة؛ حسبنا حظ الفوز بنية طيبة. على المرء أن يجاهد أولاً عبر مرحلة النية الطيبة، فيتغلب بمجهود انضباطي عظيم على بواعثه الأوضع. وإذ ذاك فقط قد يُكافأ بنية مقدسة. غير أن النية المقدسة هي الثواب. تذكر ذلك! الطاوي: أفهم تمامًا ما أنت قائله. لكن لا أصدقه وحسب. الفيلسوف الأخلاقي: بالطبع لا تصدقه! ذاك هو منط زيفك كلِّه. فأنت تعتبر الخير شيئًا ينمو نموًّا عفويًّا مثل زهرة جميلة أو شجرة. لكنه في الواقع لا يفعل. فمثل الخير كمثل الأشياء النفيسة الأخرى في الحياة، يتطلب رعاية متعمدة. يتطلب التضحية والانضباط. الطاوي: يكاد ذاك أم يكون آخر شيء في العالم أصدِّق به! الفيلسوف الأخلاقي: إنه لامتيازك أن تصدق بما تود أن تصدِّق به. ومع ذلك فإن ما أقوله صحيح – مهما كان مسمعه قاسيًا. الطاوي: إن مسمعه بالتأكيد قاسٍ! لا بل ليس مسمعه قاسيًا وحسب، إنما هو قاسٍ! أنا سعيد لأنك استعملت كلمة "قاس" لأنني أعتقد أنها المفتاح إلى مناقشتنا برمتها. أجل، إن نقدي الرئيسي الموجَّه للفلاسفة الأخلاقيين هو أنهم مغالين في القسوة. هذا هو الأمر بالدقة! غالبية الأخلاقيين يوافقونني على أن اللطف الإنساني هو، في المآل، أنفس الأشياء طرا. لكن منهجانا مختلفان اختلاف النهار والليل. أعتقد أن فلسفتي الأخلاقية برمَّتها يمكن لها أن تُختصَر في عبارة واحدة موجزة: "لا يمكن للطف أن يعلَّم بالقسوة – ولا بأيِّ مقدار من القسوة." أعتقد أن هذا ما اجتهدت في أن أقوله لك طوال حديثنا: مَن يحاول تعليم اللطف بإجراءات قاسية كمَن يشن الحرب الشهيرة التي ستنهي جميع الحروب. القسوة لا تشجع إلا على القسوة؛ إنها لا تشجع أبدًا على اللطف. أعتقد أن هذه هي الرسالة المركزية للمسيحية. وهو قطعًا الرسالة الأخلاقية المركزية للطاوية. فالمقطع المسيحي الذي قرأته لك لتوي عن القديس بولس يمكن أن يتلخَّص في عبارة لاوتسُه الواحدة التالية. حين لام لاوتسُه كونفوشيوس على "أخلاقيته" قال له: "تخلَّ عن كلِّ هذا الترويج للخير والواجب، وسيسترجع الناس محبة أقرانهم." تلك هي فليفتي باختصار شديد! كفَّ عن الترويج للخير والواجب، فيسترجع القومُ بالفعل محبة أقرانهم. الفيلسوف الأخلاقي [بعد صمت]: لم أدرك بأنك متعصِّب لطاويَّتك إلى هذا الحد. أخشى، والحال، أن يكون من قبيل العبث أن أحاول إقناعك بضرورة فضائل الحياة الأقسى والأكثر بطولية، كالواجب والانضباط والتضحية. فأنا بالفعل فيلسوف أخلاقي على الطريقة الغربية الصحيحة، ونظراتي حقًّا ثنوية. لكن هذه الثنائية شيء حقيقي تمامًا، وليست شيئًا من بنات مخيلتي، كما تزعم الطاوية. فهناك فعلاً نزاع بين الواجب والميل، ومجرد إغلاق العينين لا يجعله يختفي، بل يبقيه غير محلول وحسب. ولكم، كما قلت، عندي أمل ضئيل في أن تتفهم ذلك. لقد تأخر الوقت الآن، ولا بدَّ لنا أن نفترق بعد قليل. وهناك شيء أخير يجب أن أوضحه، مازال يؤرقني في شدة. لا أقدر أن أوفق بين موقفك في البداية وتغير هذا الموقف مع تقدم المناقشة. بدأته بهذه العبارة الشنيعة: " لكٍّل الحق في أن يفعل كل ما يريد"؛ ثم، مع تطور المناقشة، تكلمت أكثر فأكثر عن فضائل الإنسانية، واللطف، والتعاطف، والتراحُم، والمحبة. على أني، وإن كنت أعتبر جميع أفكارك عن الخير العفوي، ونعمة الفضيلة غير المدركة لفضلها، وهلم جرا، غير واقعية في صورة طفولية، إلا أني أدرك أن دوافعك تستحق الإعجاب كلَّه. فكيف يمكن لك، إذن، أن توفق بين هذا كلِّه وبين عبارتك الأصلية المستنكَرة؟ الرجاء أن تكون صادقًا حقًّا معي وتخبرني بالحقيقة في صدق مطلق: هل تؤمن حقًّا أن لكٍّ الحق في أن يفعل كل ما يريد، أم أنك كنت استفزازيًّا وحسب؟ الطاوي [ضاحكًا]: من أحد الوجوه كنت استفزازيًّا، ومن وجه آخر عنيت العبارة. ما كنت لأتصور بأن التصريح مازال تؤرقك! أنظر، دعني أقل الأمر على النحو التالي: العبارة نفسها، في معزل عن أيِّ سياق، ليست العبارة التي يمكن لي القول إنني أؤمن بها، ولا هي بالعبارة التي أصرح بها في الحالة السوية. لكنها تعني شيئًا في بعض السياقات. أقول عبارة "لكٍّل الحق في أن يفعل ما يريد" فقط للأناس الذين أشعر بأنهم يغالون في أخلاقيتهم. وإذ ذاك أورِد لهم العبارة فقد لكي أوازِنَ ما أظنه ميولاً غير موفقة في الاتجاه المعاكس. وإني لمستعد بصفة خاصة لقول هذا للفلاسفة الأخلاقيين المفرطين في الصرامة مع أنفسهم بدلاً من الآخرين. وأنا أحاول حقًّا أن أقول لهم: "ليتك تدع نفسك على سجيَّتها وتكف عن ضرب نفسك على أمِّ رأسك؛ وأحسب أنك بذلك ستكون أصلح حالاً." ذاك كل ما أعنيه حقًّا بعبارة "لكلٍّ الحق في أن يفعل كل ما يريد". ولعل الطريقة الأفضل من تلك في إيصال رسالتي الحقيقية هي أن أقول إنه إذا كان للمرء الحق في أن يفعل ما يريد، إذ ذاك أقرب إلى أن يريد فعل ما هو حق. *** *** *** ترجمة: ديمتري أفييرينوس |
|
|