|
إضاءات
تفارق الثورة السورية الثورات في البلدان العربية الأخرى، وكل واحدة منها تفارق الأخريات أيضًا، من ناحية سوسيولوجية. هذا ما حاولت كتابات عدة تفحصه. على أن تمام أمره البحثي، التفسيري والفهمي، لا طائل من تجريبه الآن. ذلك أن الواقع لحظة السعي إلى إعادة تشكيله، يصير بعيدًا جدًا عن إمكان تناوله بما هو واقع، إذ يصير تشبيكًا رمزيًا يتصارع الفاعلون ليس على تملكه فحسب بل أيضًا على إمكان طرح تأويلات متعددة له.
ستكمل الثورة السورية، والأزمة السورية والمؤامرة على سورية، عامها الأول بعد أيام. هل يهم ماذا أسميها؟ من يسميها ثورة ومن يرفض ومن يسميها مؤامرة ومن يرفض. هل تهم التسميات أم الوطن يهم؟ أنكِّس رأسي رغمًا عني وأنا أعي ثقل الزمن، عام من النزيف والألم والإفراط في العنف، عام من الخزي وأخبار سورية تتصدر عناوين الصحف ونشرات الأخبار، وصور قتلى وجرحى وبشر قطِّعوا وعرضت أشلاؤهم على الفضائيات. حاولت أن أتملص من تلك الوقفة مع ضميري المتماهي مع ضمير شعبي العظيم الصابر صبر الجبابرة، الصامد والذي يرفض الموت على رغم وحشية الظروف وقسوة الواقع. لست محللة سياسية لكنني مواطنة سورية أتشارك والمواطن السوري الوجع الذي ما عاد يطاق، وأحاول أن أرتب أفكاري كي لا أضيع في فوضى وجودنا الذي تحول إلى وجود على كف عفريت.
المرة الأولى التي حاورت فيه المفكر الإسلامي د. نصر حامد أبو زيد كانت عام 1993 في مكتبه بكلية الآداب جامعة القاهرة، وكان يومئذ يتمتع بحضور قوي من خلال رؤاه وكتاباته المثيرة للجدل والنقاش سواء داخل أروقة الجامعة أو بين أوساط المثقفين والكتاب، ولم يكن قد دخل بعد معركته الشهيرة التي تحولت إلى معارك بين أكثر من تيار في المجتمع المصري، للأسف انتصر فيها التيار السلفي، لينتهي الأمر بخروجه من مصر ورفع كتبه من المكتبات العامة وحتى مكتبة الجامعة، لكنه بدءًا من عام 2003 وبعد ثماني سنوات يبدأ في زيارة مصر مرة لزيارة أهله ومرة بدعوة من الجامعة الأمريكية، وها هي مكتبة الاسكندرية ممثلة في مركز المخطوطات برئاسة د. يوسف زيدان تستضيفه باحثًا مقيمًا على مدار خمسة عشر يومًا، ألقى خلالها خمس محاضرات تناولت العديد من القضايا القرآنية والفلسفية الإسلامية الإشكالية منها القرآن في تأويله اللاهوتي: المعتزلة وحل إشكالية العقل والنقل، والقرآن في التأويل الصوفي، انفتاح المعنى من خلال التجربة. ود. نصر حامد أبو زيد له ما يزيد عن عشرين كتابًا جلها يناقش قضايا إشكالية مهمة، من هذه الكتب: الاتجاه العقلي في التفسير، دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة – فلسفة التأويل، دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي – أنظمة العلامات فى اللغة والأدب والثقافة؛ مدخل إلى السميوطيقا – مفهوم النص؛ دراسة في علوم القرآن – إشكاليات القراءة وآليات التأويل – الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية – نقد الخطاب الديني – المرأة في خطاب الأزمة – التفكير في زمن التكفير – الخلافة وسلطة الأمة – النص، السلطة، الحقيقة – دوائر الخوف: دراسة في خطاب المرأة – الخطاب والتأويل – هكذا تكلم ابن عربي – اليسار الإسلامي: إطلالة عامة، وغيرها، فضلاً عن المقالات باللغتين العربية والإنجليزية والمراجعات والترجمات. محمد الحمامصي
قول عريق، يبقى على قدمه حديثًا في كل عصر، يتجلى الآن في الحراك المدني العربي، بينما يزول ما نلوكه من قصائد مدح وهجاء وفخر، هي زبدة ما تعلَّمناه في مناهجنا الدراسية. انبهر جيلنا بجميلة بوحيرد، المناضلة الجزائرية الشهيرة، كما سكرت أجيال لاحقة بسناء محيدلي وغيرها من شهداء المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي. افتخرنا ببطولة فتيات من قومنا جديرات بكل الإعجاب، دون أن يبدل ذلك من نظرتنا إلى المرأة. وكأننا أُعجبنا فيهن بميزة ذكورية على الإطلاق: الرجولة، وقد أقول الفحولة. إنهن "أخوات رجال"، كما يقول مثلنا الشعبي، لم يعدم تاريخنا من أمثالهن. نساء "أخوات رجال"، فالرجولة في حرز أمين ما دامت تُسند إلى الذكر. أما الأنوثة فبقيت مرادفة للنسل والمتعة و"الوطأ" ولمساندة الرجل (لا عظيم إلا ووراءه امرأة، تغنينا إثباتًا لتقدميتنا)، وحتى لممارسة سلطة فعلية لا ضير فيها ما دامت خفية صاغرة. ولا يغير في الأمر شيئًا إعلاؤنا لبعض أعلامنا النسوية البارزة منذ عصر النهضة، ولا مشاركة قطاع من خريجات الجامعات في الحقل العام وفي النضال السياسي، ولا بالتأكيد صور تملأ التلفزات والمجلات لزوجات ملوك ورؤساء دول ترفع شعارًا على حداثة المرأة العربية بينما هي في الواقع غشاء لتزوير القمع والاستبداد، من جيهان السادات إلى آخر دمية تتناقلها الوكالات العالمية لتغييب الواقع النسائي...
تحضِّر وزارة التربية في سورية لمشروعٍ كبير وبعيد المدى يرمي إلى نهضةٍ شاملة في التربية والتعليم الأساسي والثانوي. يتطلَّب الأمر، حشدًا للجهود وتضافرًا للإمكانيات، لكنه يستلزم قبل ذلك نقاشًا موسَّعًا للوصول إلى رؤيا واضحة ومقبولة لا تحتمل المغامرة والخطأ. يندرج هذا المقال في إطار المساهمة في طرح الرأي المنفتح، وفتح الموضوع أمام الجميع لأنَّ الأمر يرتبط ببناء جيل كامل وبالتالي بمستقبل المجتمع.
المفكر الفرنسي المابعد حداثوي الراحل محمد أركون لم يخرج في بحوثه كلها عن نقد ما يمكننا تسميته الدوغما الإسلامية، وحاول، من خلال تطبيقاته الإسلامية، تكوين ما يمكن أن يعرف بالإسلاملوجيا أيديولوجية علمية تقرأ النص الأسلامي. والخطاب الأركوني في الحقيقة لم يخضع لتفكيكية على مستواه البحثي، من قبل مفكرين عرب أو إسلاميين أو ما بعد حداثويين، وربما خضع لذلك من قبل مفكرين أجانب. لا نعرف في الحقيقة. تحول محمد أركون إلى مرجع لا يستهان به، بعد أن ترجمه الباحث السوري هاشم صالح باقتدار وجهد واضح إلى العربية، وتحول إلى مرجع لتيارات فكرية تحت عنوان واحد هو العلمانية. لهذا أعتقد أننا جميعًا لم نتعامل مع محمد أركون إلا قراءة، وللقراءة انحيازاتها المسبقة أو المحايثة لها.
ساهم الفلاسفة على مدى التاريخ الطويل للفكر الإنساني في إغناء هذا الفكر. هذا واقع يشهد به التاريخ العام للفكر الإنساني في مختلف مجالات إبداعه. ولا نسعى في مقامنا الحالي إلى الحديث عن مساهمات الفكر الفلسفي، بل نروم فقط البحث في مظهر أساسي للطريقة التي فكر بها الفلاسفة، ورأينا فيه سمة المغامرة الفكرية للفيلسوف في كل عصور الفلسفة.
أطلق على مرحلة ما بعد عصر النهضة حتى بداية القرن التاسع عشر تسمية العصر الحديث، وقد وصفت هذه المرحلة بالحداثة لأنها مرحلة عرفت مجموعة من التحولات والتغيرات التي همت مختلف الميادين، خاصة منها العلم والفلسفة والسياسة والأخلاق والتربية. في هذه المرحلة تغيرت نظرة الإنسان إلى ذاته وإلى العالم، فكل تجديد يصيب البيت العلمي كان يستدعي مباشرة إعادة بناء وترتيب البيت الفلسفي بكل مباحثه الرئيسية، وذلك في إطار التفاعل النظري العميق بين العلم والفلسفة، ينسحب هذا المبدأ على شتى مراحل التاريخ البشري، ومنها العصر الحديث الذي استحق صفة الحداثة بعد أن نزع عن ذاته [بعد مخاض طويل] تقاليد العصور القديمة والوسطوية.
إطلالة على مأساة الحضارة الغربية لقد تفطن عقلاء الغرب، على اختلاف تخصصاتهم العلمية، إلى أن الإنسان الغربي وصل إلى درجة فظيعة من التأزم الأخلاقي بلغ أوجه في انصباغ جميع علاقاته بصبغة مادية براغماتية. ويمكننا، للتدليل على هذه الحقيقة، أن نستأنس بالشهادات الموالية: ففيلسوف الحضارة الألماني ألبرت شفيتسر (1875-1965) يؤكد قائلاً: نحن نعيش اليوم في ظل انهيار الحضارة، وبالرغم من أن الغرب احتفظ بقوته في معظم مرافق الحياة، إلا أنه روحيًا مصاب بالهزال. أما المفكر الفرنسي روني غينون (1954-1886) فيرى أن الحضارة الغربية بُنيت أساسًا على تغييب المبادئ الأخلاقية والروحية، فهي حضارة مادية متصلدة، وقد كانت صبغتها المادية متمركزة في حدودها، لكنها اليوم تسعى جاهدة إلى تصدير هذه الصبغة المادية إلى الشعوب الأخرى بكل الأشكال الممكنة.
لم تخترع الديانات التوحيدية فكرة الإله الواحد فحسب، بل شكَّل اعتمادها، حسب يان أسمان، ثورة متصلبة لم تترك المجال لغيرها من حقائق الآخرين، ودشنت نوعًا جديدًا من العنف. قلَّة هم علماء الآثار الذين لديهم خصومة مع البابا. يان أسمان هو أحد هؤلاء... وكان الكاردينال جوزف راتزينغر، الذي سيصبح في 2004 البابا بونوا السادس عشر، قد أخذ القلم للتنديد بالصورة المشوِّهة، من وجهة نظره، التي أعطاها هذا المتخصص في تاريخ مصر القديمة لثورة الديانة التوحيدية في كتاب نشره قبيل بضع سنوات. عنوان الكتاب موسى المصري (1997)، لم يكن بديهيًا، ومؤلفه لم يكن في أولى تقاريره النقدية. فمن هو إذن يان أسمان؟ إنه عالم آثار متخصص في تاريخ مصر القديمة ولد عام 1938 في ألمانيا، وهو أستاذ يدرِّس في هايدلبرغ منذ عام 1976، أدار حفريات وأنجز أعمالاً حول الدين والثقافة وتاريخ مصر القديمة توِّجت بجوائز. وفي سياق أشغاله انشغل بحقبة وجيزة مرَّت في التاريخ الفرعوني: في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، أمر أمنحوتب الرابع، المكنَّى بأخناتون، بإسقاط آلهة مصر، ماعدا إله واحد هو "أتون" المعروف أيضًا باسم "رع" (الشمس)، ثم إنه حاول فرض عبادة هذا الإله على مملكته من خلال تدمير صور كلِّ الآلهة الأخرى بطريقة لا تخلو من العنف. غير أن فترة حكمه أثارت استياء جعل خلفاءه من بعده يسارعون بإعادة تنصيب تعدُّد الآلهة ومحو ذكرى هذا النبيِّ المتعجرف. ويمكننا الاعتقاد بأن هذا التشنُّج الأولي، المدفون في الذاكرة المصرية، ألهم (لاحقًا) ثورة دينية نالت نجاحًا أكبر: إنها ثورة تأسيس الديانة التوحيدية العبرية عن طريق نبي جاء من مصر، هو موسى. لقد أشار سيغموند فرويد، وغيره من العلماء قبله، إلى هذه العلاقة في القرابة أو النسب (بين الديانتين) في كتابه موسى الإنسان والديانة التوحيدية (1939).
|
|
|