|
التعليم والتعلُّم – آراء ورؤى
تحضِّر وزارة التربية في سورية لمشروعٍ كبير وبعيد المدى يرمي إلى نهضةٍ شاملة في التربية والتعليم الأساسي والثانوي. يتطلَّب الأمر، حشدًا للجهود وتضافرًا للإمكانيات، لكنه يستلزم قبل ذلك نقاشًا موسَّعًا للوصول إلى رؤيا واضحة ومقبولة لا تحتمل المغامرة والخطأ. يندرج هذا المقال في إطار المساهمة في طرح الرأي المنفتح، وفتح الموضوع أمام الجميع لأنَّ الأمر يرتبط ببناء جيل كامل وبالتالي بمستقبل المجتمع. مقدّمة وتساؤلات: هل يمكن الحديث عن تطوير التعليم دون إعادة طرح الأسئلة الأساسية على بساط البحث: لماذا نعلِّم، ماذا نعلِّم، كيف نعلِّم، أين ومتى نعلِّم؟!... ومَن يُعلِّمُ مَن؟!... وهل يمكن الوقوف عند الأسئلة الكبرى وترك الجزئيّات التي تستدعيها: ما هي المناهج الأفضل؟ ما هي طرق التدريس الأحسن؟ ما هي طرق التقويم الأجدى؟ (على افتراض أنَّ التقويم أمرٌ لا بدَّ منه دومًا...) هل صحيح أنَّ بإمكان الأطفال اختيار ما يريدون معرفته وإلى أية درجة؟ هل نحتاج إلى إعادة النظر في المناهج أولاً أو أنَّ علينا العمل على إعادة تأهيل المدرِّسين قبل ذلك؟ أم أنَّ الأهمَّ هو مبنى المدرسة وتصميم قاعة الصفِّ؟ هل يأتي يومٌ نستغني فيه عن الورقة والقلم لصالح الشاشة ولوحة المفاتيح، وهل علينا أن نحضِّر أولادنا إلى ذلك العصر القادم منذ نعومة الأظفار؟ ما هو دور الأهل وكيف نعمل على تفعيله؟ كيف نستخدم وسائل الإعلام والتواصل على النحو الأمثل فنستثمر منافعها ونتجنَّب مخاطرها؟... أسئلةٌ تكاد لا تنتهي كلما غصنا بالتفاصيل... هل يصحُّ من حيث المبدأ أن نقبل - على سبيل المثال - أنَّ أفضل توقيت لبدء اليوم المدرسي هو الساعة الثامنة صباحًا لمجرَّد أننا اعتدنا على ذلك طوال مئة عام، أو لمجرَّد أنَّ معظم بلدان العالم تعتمد هذا التوقيت؟! ألا يجدر بنا أن نشكَّ في أفضلية هذا التوقيت حتى ولو كنا سنعود إلى اعتماده هو نفسه مرَّة أخرى؟! يكمن الفرق في أننا في الحالة الثانية نختار من جديد ما هو أنسب وليس ما جرت العادة عليه. هكذا، وعلى طريقة ديكارت، يمكن أن نفكِّر من جديد في كلِّ المبادئ، كما في كلِّ التفاصيل. إنَّ ما أودُّ طرحه من خلال هذه السطور هو مجموعة أفكار قد تصلح كنواة لخطة أو لمشروع، وقد تُستخدم كأفكار تُغني خطة وُضِعت أو يُمكن أن توضع، وقد تتضمَّن أفكارًا يمكن أن تكون منطلقًا لدراسات معمَّقة قد يُبنى عليها مستقبلاً. هذه الأفكار، في المختصر، هي ثمرة خبرة أكثر منها ثمرة دراسة، وهي ثمرة تأمُّل وتفكُّر أكثر منها ثمرة إحصاء وتجريب، وهي أيضًا ثمرة نقاشات طويلة مع شرائح مختلفة من المهتمين بالأمر وخصوصًا مع الطلاب أنفسهم وفي قلب قاعة الصفِّ، أكثر ممَّا هي ثمرة دراسةٍ لتجارب بلدان أخرى... أخيرًا، هي قبل هذا وذاك نتاج تعاطفٍ كبير مع الطالب والطفل الذي طالما رأيت فيه خلال عملي في التعليم ضحية نظرةٍ باتت تليق بمتحف، نظرة ترى الطفل "صفحةً بيضاء لنا أن نكتب عليها ما نشاء" وترى المدرِّس مجرَّد ناقل لمجموعة من المعلومات وترى المنهاج كتابًا مقدَّسًا وترى المدرسة جدرانًا ومقاعد ولوح وترى العلامة إلهًا معبودًا لا إله سواه!! واقع الحال البيت هو بلا شكٍّ الحضانة الأولى، والأمُّ بشكل خاصٍّ هي المدرسة الأولى والمعلِّمة الأولى والملهِمة الأولى للطفل. وإذا قبلنا بما تقوله الكثير من المدارس التربوية عن الدور الحاسم الذي تلعبه السنوات الأولى في التكوين المستقبلي للطفل، فإنَّنا نلامس مدى الأهمية العظيمة لدور العائلة عمومًا والأم خصوصًا في عملية التعلُّم والتعليم على المدى الطويل. لكن الواقع هو أنَّ معظم العائلات ومعظم الأمَّهات ينطلقون في تربية الأولاد من منطلقات موروثة تركِّز على الناحية الجسمية وعلى الصحة الجسدية على حساب الناحية الذهنية وحتى النفسية... يقع هنا ميدان عملٍ على الجهات التربوية (وبالتالي على وزارة التربية) أن تتدخَّل فيه أكثر فأكثر إلى جانب جهاتٍ أخرى عديدة أهمُّها الجهات الصحية والثقافية، وربما كان من المناسب جدًا أن تشجِّع الدولة المنظَّمات الأهلية المعنية على الاتجاه أكثر إلى هذا الميدان، وأن تشجع على تأسيس مثل هذه الجمعيات أيضًا. قد يكون أحد الاقتراحات المناسبة في هذا المجال أن تتعاون جهاتٌ (وزارات ومديريات حكوميّة + جامعات ومؤسَّسات خاصة + جمعيات أهلية) في تنظيم "دوراتٍ" ترفع مستوى الوعي التربوي لدى الأهل عمومًا والأمَّهات خصوصًا لأنَّ انعكاس ذلك على المستويات الدراسية لأطفالهنِّ في المستقبل أمرٌ أكيد، فـ: الأمّ مدرسةٌ إذا أعددتَها... يصل الطفل إلى مرحلة ما قبل المدرسة (3- 6 سنوات). لا أعرف ما هي حقيقةً نسبة الأطفال الذين يلتحقون برياض الأطفال في هذه السنِّ. لكنني أعتقد أنَّ معظم هؤلاء إنما يرسلهم ذووهم إلى هذه الرياض بسبب عمل الأمِّ. إنَّ ثقافة أن يكون الطفل في الروضة من أجله هو نفسه وليس من أجل عمل الأمِّ هو أمرٌ لا تعيشه معظم العائلات بعد. تتنافس رياض الأطفال على اجتذاب هؤلاء الأطفال إليها ويجري ذلك عن طريق "قيم مضافة" قد يكون ضررها أكثر من نفعها، فهناك رياض أطفال تحاول لفت نظر الأهل بكونها تعلِّم الفرنسية والإنكليزية معًا (وهي في الواقع لا تعلِّم لا هذه ولا تلك) وهنا رياض أطفال تذهب في الاتجاه الآخر فتزيد من أوقات اللعب (الذي يُلَخَّص بمجموعة من الألعاب لا تختلف عمَّا يوجد في كلِّ حديقة عامة أو في قاعة ألعاب لمطعم أو مول) ونرى في الحالتين الارتجالية وعدم الدراسة وغلبة العامل التجاري: إنَّ نسبةً كبيرةً من رياض الأطفال الخاصة تدخل في منطق الأهل نفسه وهو تأمين مكان لا بأس به يقضي به الطفل جزءًا من وقته هو ذاك الذي تكون فيه الأمُّ منشغلةً أو متعبة. وكلُّ ما بعد ذلك إضافات لا أكثر. لا ننكر هنا أنَّ تطوُّرًا كميًا ونوعيًا قد حدث في السنين الأخيرة وخصوصًا بعد فتح اختصاص رياض الأطفال في بعض الجامعات. لكنني أعتقد أنَّ رياض الأطفال لا تزال تحتاج إلى الكثير من التنظيم والتطوير وكذلك إلى زيادة عددها أيضًا وأعتقد أنَّ هذه أولوية يجب وضعها في عين الاعتبار. أعتقد بالنتيجة أنَّ أيَّ مشروعٍ تحديثي كبير يجب أن يراعي البدء بسنوات ما قبل المدرسة، بسبب ما لهذه السنوات من أهمية كبرى في المسيرة التعليمية المقبلة. نصل إلى المدرسة. ما من شكٍّ في وجود تفاوت بين مدارس وأخرى (العامة والخاصة، الريف والمدينة، المناطق النائية وغير النائية،...) لكننا في جميع الأحوال ما زلنا أسرى مفهوم مغلوطٍ للمدرسة. إذ ما زالت المدرسة، في الخلفية الفكرية لمعظم الطلاب والأهالي والمدرِّسين والمدراء... هي المكان الذي يذهب إليه الطفل كي يقضي 12 سنة في تحصيل أفضل العلامات حتى يستطيع أن يصل، عبر نظام امتحاناتٍ [مشكوك بمصداقيته بحسب خبراء وزارة التربية نفسها] إلى اختصاص جامعي "يُطعِم خبزًا"! تلعب الظروف وأحيانًا الصدف أدوارًا مختلفة في هذه العملية فكم من أشخاص موهوبين تُقتَل مواهبهم وكم من أشخاصٍ لا يصلون إلى آخر الطريق لعلَّةٍ ليست فيهم (التسرُّب من المدرسة). وكم نجد بالمقابل خرِّيجي جامعات من أطباء ومهندسين ومدرِّسين وغيرهم لا ينجحون في تحويل المهارات والمعلومات التي تقول شهاداتهم إنهم يحملونها إلى واقعٍ ملموس. وفي هذه الناحية يقع لومٌ كبيرٌ على التعليم الجامعي أيضًا لكنني لن أدخل في تفاصيل ذلك. بصيص نور تتطلَّع وزارة التربية إلى تغيير جذري ونهضةٍ أساسية وإصلاحٍ عميق على مستوى التربية والتعليم في جميع المراحل. وهي لذلك ترسل البعثات للاطِّلاع على تجارب بلدانٍ أخرى وتقيم ورشات عمل لخبرائها ومسؤوليها للخروج بأفضل التصوُّرات والخطط... لكنني أعتقد أنَّ الحلقة الناقصة في هذا المجال هي فتح الباب على مصراعيه للمناقشة على الصعيد الوطني. صحيح أننا ربما نسمع آراء لا قيمة لها، ونرى طروحاتٍ قد لا تهمُّ غير طارحيها،... لكن علينا أن نتوقَّع أيضًا أفكارًا عظيمة يمكن أن تُضاف إلى أفكار التربويين المختصين. إنَّ طرح الموضوع على الرأي العام ومن خلال كافة وسائل الإعلام أمرٌ ضروري كي تعطى لكلِّ مفكِّر وباحث ومهتمٍّ، ولكي تُعطى للطلاَّب أنفسهم ولذويهم، كما للمدرِّسين والمدراء،... فرصة إبداء الرأي، لأنَّ كلَّ وجهة نظر مهمة في ورشةٍ كبرى. ورشة يجب ألا ننسى إضافةً لخطورتها وأثرها على المجتمع لعقود عديدة، كلفتها المادية الكبيرة أيضًا. أقترح في هذا المجال (على الأقل) أن تبادر الوزارة إلى تشجيع تنظيم أهالي الطلبة (أولياء الأمور) بحيث يخرج عنهم ممثِّلون يساهمون في وضع التصوُّرات والرؤى وفي حلقات نقاشٍ مع القائمين على أمور التربية، ولا سيما ما يتعلَّق بالتخطيط للمستقبل وبالمناهج وبغير ذلك من الأمور، شرط ألا تفقد هذه النخبة تواصلها مع الأهالي عمومًا. يمكن اقتراح أمرٍ مشابه على صعيد الطلبة أنفسهم والأمر أيسر في هذه الحالة لأنَّ منظمة الشبيبة موجودةٌ أصلاً والمطلوب هو تفعيلها في هذا المجال بشكل صحيح وبنَّاء. أفكارٌ قد تستحق التأمُّل فيها انطلاقًا مما تقدَّم ودون الغوص في تفاصيل ما عنونتُه "واقع الحال" يمكن أن تكون الأفكار التالية مفيدةً في تخطيط قادم أو هي يمكن على الأقلِّ أن توحي بأفكار أخرى. أولاً: "الطالب أولاً" منذ قرنين ونصف تقريبًا طرح الفيلسوف والمربي الفرنسي الكبير جان جاك روسو شعار "الطفل أولاً" وأعتقد أنَّ هذا الشعار ما يزال منذ تلك الحقبة يبرهن كلَّ يوم على أهميته وصلاحيته في كلِّ فكرٍ تربوي مخلص. هل ثمَّة إمكانية للنقاش في كون المدرسة قد وُجِدت من أجل الطالب وليس العكس، في كون المدرِّس يعمل من أجل الطالب وليس العكس، في كون الأمِّ والأب قد جاءا بالولد ليكون مسؤولاً منهما وليس العكس، في كون كل مؤلِّف لمنهاج دراسي وكل مفكِّر في طريقة تربوية وكل موظف في مؤسَّسة تربوية... هو خادم للطفل وليس العكس؟! المؤسف في الموضوع هو أننا ننسى هذه الحقيقة البسيطة الواضحة للعيان، وتطغى علينا تجاه أولادنا وطلابنا مشاعر الاستعلاء والفوقية ومن هنا، وفي كثير من الأحيان، المصدر البعيد للتعنيف الأسري والمدرسي، أو في الحالات الأقل حدةً مصدر التعليم التلقيني الذي لا يبحث عن حاجة الطفل وعن رغبته بل بالأحرى عن مهارة المعلِّم والممنهِج والمسؤول والمدير... لا أرى أنَّ هناك "عملاً" بعينه يمكن القيام به لتكريس هذا الاعتبار (الطالب أولاً) بيد أنَّ كلَّ الاقتراحات التي سترد لاحقًا في ما يخصُّ المعلِّم أو المنهاج أو غير ذلك يمكن أن تعطي ثمرها هنا. أشير فحسب قبل الخروج من هذا العنوان الجانبي إلى ضرورة الاهتمام أكثر وأكثر وأكثر بعيد الطالب (30 آذار من كلِّ عام). ثانيًا: التربية والتعليم يرتبط التعليم في رياض الأطفال وفي المدرسة الأساسية والثانوية بـ وزارة "التربية" لا "التعليم"... حقيقةٌ كثيرًا ما تغيب عن الذهن. ما الذي يجب أن يقلقني أكثر: العمل الذي سيتقنه ولدي ويمارسه في المستقبل (طبيب جرَّاح، أو عامل بناء) أو القيم والمثُل والمبادئ التي سيلتزم بها مهما كان عمله (شريف – فاسد، صادق – منافق، مبدئي – انتهازي، إلخ...). إذا كانت الإجابة الأولى ممكنةً عند بعض الأهل، أو حتى عند الكثيرين منهم (وإن كانت غير معلنة) فإنَّ هذه الإجابة لا يمكن أن تكون مقبولةً عندما يُطرَح السؤال على نحوٍ جماعي أي على مستوى المجتمع بجملته: هل نهتمُّ بأن يكون الجيل القادم متعلِّمًا ومثقَّفًا بالدرجة الأولى أو أن يكون صالحًا وشريفًا ونزيهًا ومسؤولاً ومحبًا ومسالمًا وغير فاسد في الدرجة الأولى؟! إنَّ ما نعيشه اليوم من أحداث مؤسفة يؤكِّد وبدون أدنى شكٍّ أنَّ الإجابة الثانية هي ما يمكن أن يشكِّل مصدر سلام البلاد وأمان العباد على المدى البعيد إن لم يكن اليوم. هناك بالتأكيد الكثير من الأطباء الجرَّاحين، لكن بعضهم وإن كان قليلاً يمكن أن يجري عمليات لا ضرورة لها، أو يمكن أن يرهن نفسه لتجَّار الأعضاء البشرية إلخ... وهناك مهندسون كثر لكن بعضهم وإن كانوا قلَّة يمكن أن يراهنوا على متانة البناء من أجل ثمن طنٍّ من الحديد،... واقع الأمر أنَّ تخريج أطباء ومهندسين وخبراء وعلماء قد لا يكون الأمر الأصعب في سياق التربية والتعليم، إنما الأصعب هو تخريج إنسانٍ واعٍ ملتزم مبدئي صادق أمين،... وهذا ما أعتقد أنَّ من الضروري أن نعيد وضعه في الحسبان قبل كل شيء آخر. وفق هذا المنطلق تتراجع إلى المرتبة الثانية مواد طالما اعتُبِرَت أساسية كالرياضيات والفيزياء واللغات وغيرها، لتتقدَّم عليها مواد تربوية مناسبة، شرط ألا تُطرَح هذه المواد بشكل تلقيني حفظي وألا يُقَاس النجاح فيها بطرق القياس المعتادة، هذا إن كان يمكن لذلك أن يُقاس... وفق هذا المنطلق أيضًا يتراجع إلى المرتبة الثانية تمكُّن المدرِّس من مادته الاختصاصية مهما تكن، ليخلي المكان الأول لشخصية المدرِّس القيادية وفكره التنويري ومبادرته ومسؤوليته ووطنيته وأخلاقياته ومُثُله،... ذلك أنَّ "التربية" التي نتحدَّث عنها لا تُمرَّر، بالدرجة الأولى، من خلال مواد بعينها بل من خلال القدوة الحسنة والمثال الحميد والأنموذج الملتزم... ويقودنا هذا إلى العنوان التالي: ثالثًا: المعلِّم أولاً لا أقول المعلِّم أولاً كعودةٍ عن "الطالب أولاً" بل أقولها في سياق خدمة الطالب أولاً. فإذا كان بناء المدرسة والمنهاج واختيار المواد الدراسية وأشياء أخرى كثيرة تدخل في سياق خدمة الطالب وتربيته وتعليمه فإنَّ أهمَّ هذه المكوُّنات على الإطلاق، المكوُّن الذي لا يمكن الاستغناء عنه مهما تطوَّرت التكنولوجيا، والمكوُّن الذي يبقى تأثيره هو الأهم مهما اختلفت المناهج ومهما تعدَّدت نظريات التربية وطرق التدريس، في المدى المنظور على الأقل، هو المعلِّم ثمَّ المعلِّم. أ: بين الموظَّف والرسول لا يغربنَّ عن بالنا ونحن نتحدَّث عن المعلِّم أننا نتحدَّث عن أمرين معًا: الرسالة والمهنة، فالمعلِّم "كاد أن يكون رسولا" كما قال شوقي، والمعلِّم موظَّف يتقاضى راتبًا في الوقت نفسه. ليس صحيحًا، على حدِّ ما تشير الوقائع، أنَّ المعلِّم يستطيع أن يكون رسولاً بشكل كامل، لأنه إنسانٌ لا بدَّ له أن يأكل ويشرب (يمكن أن يكون لكلِّ أمرٍ استثناءاته بطبيعة الحال، لكن ما يهمنا هو الحالة العامة) في حين يؤلم جدًّا أن يتنازل المعلِّم عن الجانب الرسولي في عمله لصالح الجانب الوظيفي. أغلب الظنِّ أنَّ العملية التربوية لا تسير على ما يرام حين يختل التوازن بين هذين المركبين في عنصرٍ أساسي وأول من عناصر التربية والتعليم ألا وهو المعلِّم. من المؤسف أن نرى أنَّ هذا الاختلال في التوازن موجودٌ اليوم بقدر كبير. وأنَّه اختلالٌ لصالح "المهنة" على حساب "الرسالة" وأنَّ هذا الاختلال يلعب دورًا أساسيًا في تراجع الصورة المجيدة للمعلِّم في المجتمع، الأمر الذي يشوِّه العلاقة بين المعلِّم والطالب ويضرُّ أيما ضرر بالعملية التعليمية برمَّتها. هنا تظهر ظهورًا واضحًا العلاقة بين التربية والتعليم، وتظهر أولوية التربية أيضًا، فالمعلِّم لا يأخذ دوره الكامل، حتى على الصعيد الاختصاصي البحت، ومهما كان متمكِّنًا في هذا الاختصاص، إن لم يكن صورةً رائعةً وأنموذجًا مثالاً وقدوةً تُحتَذى في عين الطالب. يساهم المدرِّسون أنفسهم في تشويه الصورة المثالية للمعلِّم أمام الطلبة بشكل خاص وفي المجتمع عمومًا. إنَّ المدرِّس الذي يمدُّ يده (بالمعنى الحرفي للكلمة) ليأخذ من الطالب نفسه (وليس من ذويه، وقد صار هذا أمرًا معتادًا إلى الدرجة التي ينسى فيها الطالب والمعلِّم والأهل على السواء كم هو معيبٌ ومخجل) مالاً مقابل درسٍ خصوصي، هو مدرِّسٌ يختار بإرادته أن يُنقص من احترام هذا الطالب له شاء ذلك أم أبى وعلم بذلك أو لم يعلم. يُرجع معظم المعلِّمين تشوُّه صورة المعلِّم - الرسول إلى أشياء أخرى. منها على سبيل المثال سياسة منع تعنيف الطلاب التي تحاول وزارة التربية المضيَّ قدمًا في تطبيقها. أعتقد أنَّ العكس هو الصحيح فالمدرِّس القادر على كسب احترام طلابه دون أن يكون عنيفًا هو المدرِّس الأنجح، ورغم إقرارنا بالتدني الشديد لراتب المدرِّس قياسًا بمتطلَّبات الحياة البسيطة، يبقى إعطاء الدروس الخصوصية - على النحو التجاري الذي صار شائعًا - من قبل الكثير من المدرِّسين مثالاً هامًا عن أسباب انحراف العلاقة بين الطالب والمعلِّم وتشوُّه صورة الأخير. لا ننسَ أخيرًا أنَّ هذه العلاقة هي واحدةٌ من المفاتيح الأساسية في صحة وسلامة العملية التربوية وأنَّ تردِّيها على النحو القائم أمرٌ يجب ألا يظلَّ على ما هو عليه. أودُّ في هذا المقام اقتراح ما يلي: 1. [مع أنَّ ما أكتبه الآن أمرٌ معروفٌ جدًا، ومع أنَّه صعب التحقيق لأسباب حقيقية أو غير حقيقية فإنَّ من واجبي أن أكتبه] العمل على رفع رواتب الموظفين عمومًا بشكل حقيقي بحيث يكون الراتب ملبِّيًا للحدِّ الأدنى من ضرورات الحياة الكريمة [وهذا يعني عمليًّا أكثر من مضاعفة الراتب]. 2. العمل على رفع رواتب المدرِّسين بشكل خاص، وإعطائهم كلَّ التعويضات الأخرى الممكنة [تعويض أعلى لطبيعة العمل - تعويض ملابس لأنَّ من حقِّ المدرِّس، بل ومن واجبه أيضًا، أن يكون في مظهرٍ مناسب أمام تلاميذه – تعويض هاتف لأنَّ جميع موظفي الحكومة يستطيعون استخدام هاتف مكتبهم خلال عملهم مع مَن يشاؤون إلا المدرِّس الذي إذا أراد أن يستخدم هاتف المدرسة خلال الفرصة للتحدُّث مع المديرية أو الوزارة أو للتواصل مع ذوي الطالب مثلاً فإنه يضع قطعةً نقدية في الحصَّالة وهو لذلك يلجأ لاستخدام هاتفه النقَّال – تعويضاتٌ مناسبة وعادلة في التصحيح والمراقبة إذ من المعروف أنَّ التعويضات المخصَّصة في التصحيح بشكل خاص لا تُصرَف بشكل عادل ولهذا تفاصيله التي يمكن بحثها – إعادة النظر في أجور الساعات الإضافية – مراجعة تعويضات المدرِّسين في المناطق النائية والمحافظات البعيدة عن مكان الإقامة الأصلي...] لا بدَّ مقابل كلَّ هذا من التشدُّد في مراقبة مستوى المدرِّس والتزامه بتطوير إمكانياته وبالدورات التأهيلية التي تنظِّمها الوزارة [ربط الترفيعات ونسبتها بالدورات المتبعة ودرجة النجاح فيها وانعكاسها الفعلي على التدريس على أرض الواقع] كما لا بدَّ من إيجاد طريقةٍ فعَّالة في مكافحة آفة الدروس الخصوصية في غير محلَّها وخصوصًا عندما يعطى الدرس الخصوصي من قبل المدرِّس لأحد طلابه في الصف. 3. يمكن على الصعيد المادي ملاحظة ما يلي: إذا كانت هناك أموال كبيرة ستُخصَّص من أجل التجهيزات المادية "الضرورية" في مشروع النهضة التعليمية العتيدة (حواسب، شبكات، وسائل إيضاح مختلفة...) ومن أجل وضع الخطط التعليمية التفاعلية... فأغلب الظنِّ أنَّ ذلك سيكون مغامرةً كبيرةً جدًا، ورهانًا غير مضمون النتائج إن لم يقترن بنوعية وإمكانيات وقدرات الأشخاص الذين سيكونون مسؤولين مباشرين عن تطبيق الخطط الجديدة واستخدام أدواتها، أي المعلِّمين. ورفع مستوى المعلِّمين، وإخراج أفضل ما لديهم إلى التطبيق ونقلهم من موقع الموظَّف إلى موقع الرسول، أمر غير ممكن، كما أثبتت التجربة العملية، الأمر الذي علينا ألا نعيد تجربته بثمنٍ كبير، دون تقديم الحافز المادي المناسب. إنني أذهب إلى حدِّ القول هنا إنَّ مدرِّسًا موهوبًا وحسن التأهيل وراضٍ بما يجنيه مقابل تعبه، يستطيع أن يكون مبدعًا إلى درجة يمكن أن تغني عن أيِّ تجهيزاتٍ استثنائية وأيِّ خطط موضوعةٍ سلفًا. أمَّا العكس (أي أن تغني التجهيزات مهما كانت حديثة والخطط المسبقة مهما كانت رائدة عن دور المعلِّم الأساسي) فأمرٌ لا أظنه ممكنًا! 4. يرتبط احترام المعلِّم من قبل الطالب باحترام المعلِّم من قبل نفسه كما ذكرت أعلاه ومن الاحترام المتبادل بين المدرِّسين أنفسهم ولكن أيضًا باحترام المعلِّم من قبل المسؤولين التربويين الآخرين (الإدارة – الموجه الاختصاصي – وصولاً إلى موظَّفي التربية على اختلاف مستوياتهم). أستطيع هنا أن أدلي بالشهادة التالية: كنت في إحدى المرَّات أنجز معاملة نقلٍ في مديرية التربية (قبل بداية عامٍ دراسي) وكنت بحاجةٍ لسؤالٍ بسيط يمكن الإجابة عليه بنعم أو لا من قبل إحدى الموظَّفات. كانت تلك الموظَّفة تتحدّث مع رجلٍ ومعه شاب صغير من الواضح أنَّه ابنه، كما أنَّ من الواضح أنَّه كان برفقته لإنجاز معاملة لنقله من مدرسة لأخرى. كانت الموظَّفة تتحدَّث مع الرجل في شأنٍ خاص (ربما تسأله عن زوجته أو شيء من هذا القبيل) وطال بهما الحديث... فحاولتُ مقاطعتهما لأسألها عن حاجتي... فكان ردُّها عليَّ غير لائق بموظَّفة تردُّ على مدرِّس... بعد بضعة أيام وجدتُ ذلك الشاب طالبًا عندي في الصفِّ! طبعًا أنا لا أذكر هذه القصة على سبيل الشكوى الشخصية بل لتوجيه العناية إلى العمل على رفع سوية الموظَّفين – في كلِّ مواقعهم – وبما فيهم المدرِّسين – في التعامل مع الآخرين. 5. يشكِّل عيد المعلِّم فرصةً هامة لتكريس دوره وتذكيره بواجبه وبرسالته، كما يشكِّل فرصةً مناسبة لرفع مقامه أيضًا. ما يجري في كثيرٍ من المدارس إن لم يكن كل المدارس هو تقديم قطع "كاتو" خلال إحدى الفرص مع كأس صغيرة من الشاي (بل ربما يذهب الاحتفال إلى ما هو أضخم من ذلك فتُقدَّم الكولا مع الكاتو بدل الشاي) إلى المدرِّسين الموجودين! أعتقد أنَّ هذه الطريقة في الاحتفال بالمعلِّم تنقص من قدره ولا تزيده. لا أستطيع في هذا المقام إلا أن أذكر بشكل إيجابي الاستضافة التي قام بها السيد رئيس الجمهورية لعدد من المعلِّمين في عيد المعلِّم في أكثر من سنة. إنَّ الاحتفال بعيد المعلِّم يجب أن يتمَّ دومًا على مستوى رفيع، وحتى ضمن المدارس يجب أن يكون لائقًا أو لا يكون أبدًا. (يمكن تنظيم احتفال حقيقي بعد الظهر مثلاً يحضره صف من الطلاب كالصف الحادي عشر – في مدرسة ثانوية إذا كان طلاب الصف الحادي عشر هم المدعوون فإنَّ جميع الطلاب على مدى السنين سيكونون مشاركين - مثلاً وممثِّلين عن الأهالي يختارهم مجلس الأولياء وتُلقى فيه بعض الكلمات ويجري فيه تبادل ونقاش كما لا يخلو من التهنئة ومن الضيافة). 6. يبقى وقد تحدَّثت عن عيد المعلِّم أن أقترح التشدُّد في مكافحة "هدية عيد المعلِّم" لأنَّها باتت – وخصوصًا في مرحلة الحلقة الأولى – عبئًا على معظم الأسر يفرضها العرف كما يفرضها خوف الأهل أن يكون ولدهم هو الوحيد الذي لم يحمل هديةً، دون أن ننسى الجانب المسيء لشخص المعلِّم في هذه الهدية حين تُقدَّم كواجب لا بدَّ منه أو حين يُنظَر إليها كرسالة للمعلِّمة كي تهتمَّ أكثر بالتلميذ. إنَّه لمنظرٌ يؤذي العين والنفس مشهد المعلِّمة عائدةً إلى البيت وفي يدها الكثير من الأكياس في يوم عيد المعلِّم! ب: في التدريب المستمر للمعلِّم لننزعنَّ من خلفيِّتنا الفكرية أولاً أنَّ التدريب يعني مجرَّد المشاركة في دوراتٍ معينة بين وقتٍ وآخر... ولنعوِّد أنفسنا على أنَّ التدريب المستمر هو أمرٌ ضروري وهو أمرٌ ذاتي وهو أمرٌ يجب أن يكون قائمًا في كلِّ لحظة، وأنَّ مصادر التدريب المستمر يمكن أن تكون شخصًا لا نتوقَّعه أو كتابًا ما أو برنامجًا تلفزيونيًا، أو أيَّ شيء آخر... دون أن يعني كلُّ هذا أنَّ الدورات وورشات العمل والندوات على اختلافها هي أمرٌ لا أهمية له. يجب أن تكون الدورات وورشات العمل التطويرية التي تنظَّم على مستوى الوزارة أو المدرسة... لرفع سويات المعلِّمين هي الأمر الأساس، لكنني أعتقد أنَّ المعلِّم الذي لا يبحث عن تطوير نفسه كلَّ يوم، وفي كلِّ المصادر، لن يجني فائدةً من تلك الدورات والورشات، على عكس المعلِّم الباحث في كلِّ وقت ومكان عن الأفضل لنفسه، فسيكون لديه الاستعداد للاستفادة من هذه المناسبات على نحو كبير، بل وللإفادة فيها أيضًا. [تشير كلمة دورة إلى نمط مدرِّب أو أكثر يعطي معلومات أو يعتني بتطوير مهارات مجموعة من المدرِّسين، بينما تشير عبارة ورشة عمل إلى وجود عدد من المدرِّسين الذين يملك كلٌّ منهم ما يعطيه للآخرين دون أن يمنع ذلك وجود منسِّقين للموضوع. إنَّ التمييز بين الإثنين مهم وضروري وغلبة الورشة على الدورة (لا بالاسم فقط) أمرٌ صحي يشير إلى عمل تطوري تشاركي حقيقي]. لنذكرنَّ أنفسنا على الدوام (أيضًا) ولنذكِّرنَّ بعضنا بعضًا، أنَّ الورشات والدورات التدريبية لا تنفصل عن الواقع التطبيقي في المدارس. إنَّ إحدى مصائبنا على ما يبدو هي أننا تعوَّدنا على الفصل بين أمورٍ لا يمكن الفصل بينها. لا يبذل الكثير من المدرِّسين جهدًا كافيًا للنظر في كيفية تطبيق واستثمار مهاراتٍ أو معلوماتٍ أو خبراتٍ يُفترَض أنهم حصلوا عليها في دروةٍ من الدورات. وهم يجدون على الدوام المبرِّر لذلك: نقص تجهيزات، ضيق قاعة الصفِّ، عدم تقبُّل الطلاب، احتجاج الأهالي، غياب أمين المخبر،... إنَّ الدورات التي نظَّمتها الوزارة حول تطبيق المناهج الجديدة (بداية العام الدراسي 2010 – 2011) هي مثالٌ على الحالة التي أقولها، فبغضِّ النظر عن الأعداد الكبيرة من الأساتذة في الدورة وعن مستوى الإعطاء من قبل الموجهين الاختصاصيين وعن أشياء أخرى عديدة يمكن اعتبارها مآخذ على هذه الدورات، كان مقرَّرًا سلفًا عند عدد كبير من الأساتذة الاستمرار في طريقة الإعطاء التقليدية وحسب، وأنا أتحدَّث هنا عن زملاء أعرفهم معرفةً شخصية وسمعت هذا الكلام منهم مباشرةً! أقول قبل الانتقال لموضوعٍ آخر إنَّ المطلوب هنا ليس البحث عن آليةٍ تجبر المدرِّس على تطبيق الجديد الذي يفترض أن يكون قد تعلَّمه، إنما بالأولى خلق حالةٍ من الرغبة الذاتية في استثمار كل معرفةٍ وفي تطبيق كل خبرة جديدة وفي تقديم كل ما يؤخَذ. لا نَغفَلَنَّ قبل كل ما تقدَّم عن التمييز بين التدريب المستمر وبين إعادة التأهيل العميق المطلوب والملح لعدد كبيرٍ جدًا من المعلِّمين وأنا أتحدَّث هنا على الصعيد التربوي قبل أن أتحدَّث على الصعيد العلمي وعلى صعيد طرق التعليم وفنِّ التعامل مع الآخرين قبل صعيد المحتوى الاختصاصي. هذا الموضوع بحدِّ ذاته يحتاج إلى ورشةٍ كبرى أعتقد أنها أولى وأهم من أشياء أخرى كثيرة. رابعًا: الموهبة والتعلُّم أو: مسيرة التعلُّم - التمييز هل يولد المرء شاعرًا أو رسَّامًا أو رياضيًا... أو أنَّه يصبح كذلك؟! هل الموضوع موضوع موهبة أو موضوع اكتساب؟؟ سؤالٌ قديم جديد لا تزال الإجابة عنه بين أخذٍ وردّ. لكني أعيد طرحه لأنَّه سؤالٌ جوهري. لا آتي بجديد إن قلت إنَّه ما من شكٍّ في وجود الموهبة. إذا لم يكن هناك ما يُسمَّى "جينة" الشعر أو "مورِّثة" الرياضيات أو "مَلَكة" الموسيقا (وهذه أمورٌ لا أظنها محسومة) فإنَّ ولادة طفلٍ من أمٍّ تجيد العزف وتمارسه، أو من أبٍ ينظم الشعر ويلقيه أو في بيتٍ يضمُّ مكتبةً كبيرة مختصة بجانب ما، هي أمورٌ تساعد الطفل على التوجه بهذا الاتجاه أو ذاك. لكن ولادة طفلٍ من أمٍّ وأبٍ موسيقيَّين لا يعني بالضرورة أن يصبح الولد موسيقيًا لامعًا لأنَّ الأمر يتطلَّب تمرينًا وعلمًا وتعلُّمًا أيضًا. ينبثق عن هذا الطرح نتيجة هامة على ما أظنُّ وهي أنَّ مسيرة (أو سياق) التعلُّم هو في الوقت نفسه سياق تمييز، بمعنى أنَّ ما يجب أن نضعه في حسباننا، كمدرِّسين وكإدارة مدرسة وكأهل في الوقت نفسه، هو أنَّ الطفل يدخل الروضة فالمدرسة كي يتعلَّم من جهة وكي يميِّز موهبته الخاصة (أو يختارها) ويركِّز عليها من جهة أخرى. وفق هذه النظرة لا يمكن القبول بإلغاء مواد الموسيقا والرسم والرياضة على سبيل المثال من منهاج شهادة التعليم الأساسي ولا حتى إلغاء درجاتها من المجموع العام. أعتقد أنَّ ما تقدَّم الحديث عنه يدعونا إلى التفكير في الفروع الموجودة حاليًا للشهادة الثانوية وفي إمكانية تعديلها وزيادتها وتنويعها. إذا كانت مسيرة التعليم هي مسيرة تمييز (وهذا ما يشير إليه وجود مدارس صناعية وفنية وغيرها...) وإذا كان الاتجاه العام (قبل بلوغ مرحلة التخصُّص الجامعي) يظهر ويتبلور مع انتهاء مرحلة التعليم الأساسي فإنَّ السؤال الذي يُطرح بدلاً من "هل نبقي على مادة الرسم أو هل نبقي على درجات الرياضة في منهاج البكالوريا العلمي" هو: "لمَ لا يكون هناك بكالوريا رياضية أو بكالوريا فنون تشكيلية أو بكالوريا موسيقا، الخ... لا أعرف إن كان مثل هذا النظام متَّبعًا في دول أخرى لكني أعتقد أننا لسنا مجبرين دومًا على تقليد الدول الأخرى وأننا نستطيع في أحيان كثيرة أن نكون من السبَّاقين. أعيد القول إنني أطرح هنا أفكارًا تحتاج إلى دراسة ومتابعة، وإذا كنت أعتقد أنها يمكن أن تكون مفيدةً وناجحة فإنني لا أتمسَّك بها مع ذلك إذا كانت الدراسات العلمية والحجَّة الدامغة تنقضها وتقدِّم أفضل منها. إذا كان هناك مئتي طالبٍ في محافظةٍ ما يثبتون تميُّزًا كبيرًا في الموسيقا مثلاً، فهل الأجدى أن يتابعوا دراستهم في البكالوريا العلمي أو الأدبي (مع كلِّ ما يتطلَّب ذلك من جهد) وأن يتابعوا في الوقت نفسه تنمية مهاراتهم الفنية في معهدٍ عام أو خاص (يعني جهدًا إضافيًا) أم أنَّ الأجدى هو أن تكون لهم مدرسةٌ تدعم وتنمِّي موهبتهم الموسيقية الأكيدة مع إعطائهم ما يلزم ويناسب من مواد أخرى؟ تعبِّر الحالة الأولى عن مجتمعٍ لا يعترف بأهمية الفنِّ وعن أشخاصٍ (طلاب وأهالي) يريدون التوفيق بين الموهبة (كشيءٍ إضافي أو احتياطي أو كمالي) وبين الحصول على فرصة عمل جيدة لا توفِّرها كما يعتقد أغلب الناس إلا بعض الاختصاصات المعروفة. تعبِّر الحالة الثانية عن مجتمع يعترف بالفنِّ وبالرياضة وبكلِّ المواهب بحيث يمكن لصاحبها أن يجد عملاً و"يأكل خبزًا" دون أن يضطر لدراسةٍ أخرى ولعملٍ آخر. إنَّ الانتقال من مرحلة التعليم الأساسي إلى الثانوي يحتاج على نحوٍ عام إلى إعادة نظر. ففضلاً عن إمكانية فتح فروعٍ أخرى في التعليم الثانوي (يمكن التفكير حتى بتقسيم الفرع العلمي إلى رياضيات فيزياء من جهة وعلوم طبيعية من جهة أخرى مثلاً) لا بدَّ من إعادة تقويم وتعديل للطريقة التي يجري بها توزيع الطلاب على الفروع المختلفة بحسب المجموع في شهادة التعليم الأساسي. لهذا الأمر تفاصيله لكنني أذكر على سبيل المثال فحسب أنَّ طلاب الثانوية الصناعية يحتاجون (وفق منهاجهم الحالي) إلى قدرة كبيرة في الرياضيات، في حين لا يحتاج طلاب الفرع الأدبي لذلك ومع ذلك يمكن أن نرى طلابًّا علاماتهم مرتفعة في الرياضيات يدخلون الفرع الأدبي رغم ضعفهم في اللغات أو التاريخ مثلاً، لكنهم اختاروا الفرع الأدبي لأنَّه "أفضل" من "الصناعة" وأسهل من العلمي، بينما نرى في الوقت نفسه طلابًا لا يملكون من الرياضيات ما يؤهِّلهم لدراسة الفرع الصناعي، لكن إمكانياتهم في المواد الأدبية مقبولة أو جيدة، إنما قرَّر لهم مجموع الدرجات دخول الفرع الصناعي! أطرح هذا المثال مع التحفظ الشديد على استخدام درجات المواد المختلفة في شهادة التعليم الأساسي كمعيارٍ حقيقي للمستوى في أيٍّ من الموادّ! يتطلَّب منا كلُّ ما تقدَّم الخروج من فكرة أنَّ الطبيب أفضل من لاعب كرة القدم. إنَّ هذه الفكرة التي تصنِّف الناس وفق اختصاصاتهم أو أعمالهم هي واحدةٌ من الأفكار الاجتماعية التي يمكن، بل ويُطلَب من الميدان التربوي المساهمة في تغييرها. وفق هذه النظرة لن يُنظَر للطالب المتفوِّق في الرياضيات داخل قاعة الصفِّ كطالب أفضل من المتفوِّق في الرياضة، فلكلٍّ منهما موهبته، وسيُطلَب من المتفوِّق في الرياضيات بذل المزيد من الجهد في الرياضة كما سيُطلَب من المتفوق في الرياضة بذل المزيد من الجهد في الرياضيات... وربما يساعد أحدهما الآخر في هذا وذاك. ثمَّة آليات وطرق معروفة تيسِّر للمدرِّسين والإدارة والأهل والطالب نفسه القيام بهذا التمييز معًا (مثل دفتر ملاحظات المدرِّسين الذي يشكِّل جزءًا من ملفِّ الطالب في المدرسة ويرافقه عامًا تلو عام وسجل الأعمال المميزة وغير ذلك من أمورٍ يحتاج تفصيلها إلى مقالٍ مستقل...) ومع ذلك لا تكفي هذه الوسائل وحدها بل إنَّ صياغة المناهج – كما سنبيِّن لاحقًا – يمكن أن تشكِّل جزءًا من عمل التمييز هذا، الذي يلعب فيه المدرِّسون الأكفاء دورًا أساسيًا جدًا. أخلص إلى القول: إنَّ مسيرة التعليم على مدار عقد ونصف (من الروضة حتى الشهادة الثانوية) يجب أن تتركَّز لا حول الطالب فقط (كما صرنا نسمع كثيرًا في الآونة الأخيرة) بل حول الطالب كشخص، حول مؤهِّلاته الخاصة، مواهبة الخاصة، إمكاناته، رغباته وحرِّيَّته في اختيار مستقبله، هذا الاختيار يجب أن يتدرَّب على القيام به على امتداد سنوات دراسته الأساسية والثانوية وصولاً إلى القدرة على ممارسته بشكل كامل. خامسًا: المناهج وطرق التدريس شكَّلت المناهج الجديدة التي بدأ تطبيقها في العام الدراسي 2010 – 2011 موضع جدالٍ كبيرٍ، كما يعرف الجميع، وذلك على مستوى الطلاب وذويهم كما داخل وزارة التربية نفسها. لا أدَلَّ على ذلك من كون الوزارة قد استغنت عن خدمات الشركة التي وضعت هذه المناهج لتكلِّف أساتذةً من ملاك الوزارة أو من المتقاعدين وضع مناهج العام القادم. لن أخوض في تفاصيل نقاط قوَّة ونقاط ضعف الكتب التي طُرِحت وفي مناقشتها [سبق أن قدَّمت بعض الملاحظات إلى وزارة التربية حول كتاب الرياضيات للصفِّ السابع]. ولكنني أودُّ تناول بعض الأمور بعموميةٍ أكبر هنا: أ: تثبت التجربة أنَّ المنافسة هي عاملٌ هامٌّ من عوامل التطوير على مختلف الأصعدة ومنها التربية، والكتب والمناهج المدرسية لا تخرج عن ذلك. ما تزال سياساتنا التربوية تقوم على وحدة المناهج في جميع المدارس انطلاقًا من مبدأ تحقيق تكافؤ الفرص لجميع الطلاب. لكن السؤال الذي بدأ يطرح نفسه بعد فترة طويلة من تطبيق هذا المبدأ هو: هل تحقِّق وحدة المناهج تكافؤًا حقيقيًّا في الفرص؟ (عندما تصل قيمة الدرس الخصوصي في مادة الرياضيات عند أحد الموجهين الاختصاصيين إلى ألفي ليرة سورية أو أكثر في الساعة الواحدة فإنَّ من الواضح أنَّ مبدأ التكافؤ صار حبرًا على ورق!) وحتى لو فرضنا ذلك (تحقُّق التكافؤ) فما هو الأهم: تكافؤ الفرص أو تطوُّر التعليم؟ بمعنى أنه إذا كانت وحدة المناهج بالنسبة لجميع المدارس تحقِّق تكافؤًا في الفرص (وهذا ما لا أظنه صحيحًا) فهل نقبل أن يكون مستوى المناهج هو 3 من 10 مثلاً مقابل تكافؤ الفرص هذا، أو أنَّ الأفضل هو أن يكون المستوى هو 5 من 10 في بعض المدارس وصولاً إلى 9 من 10 في مدارس أخرى، مع التضحية بتكافؤ الفرص؟؟ أعتقد أنَّ الاختلاف في المناهج هو الأمر الطبيعي أكثر، لا بين المدارس العامة (أي مدارس الدولة) والمدارس الخاصة فحسب، بل حتى بين مدارس الدولة بحسب اعتبارات معينة (يمكن أن يكون هناك بعض الاختلافات بين المناطق الريفية والمدنية فمادة تهتم بالتوعية البيئية مثلاً يمكن أن تركِّز على أشياء معينة في الريف تختلف عن أشياء أخرى في المدينة. وحتى في الرياضيات يمكن صياغة بعض الأفكار أو المسائل أو الأمثلة (مع بقائها هي نفسها) ضمن قالب مأخوذ من بيئة ريفية أو مدنية... إلخ. وكمثال آخر أقول إنَّ منهاجًا يُعطى في فترة بعد الظهر يمكن أن يختلف عن منهاجٍ يُعطى في الفترة النظامية وكمثال أخير أيضًا: قد توجد هناك بعض المناطق أو القرى النائية التي يجتمع فيها طلاب من أعمار مختلفة كأن يُجمع طلاب الصفين الثاني والثالث الأساسيين في قاعة واحدة مثلاً... فهذه أيضًا تتطلَّب مناهج خاصة...) ربما كان الحل الأمثل (على مستوى المدارس العامة فقط) هو منهاج شامل يلحظ إتاحة بدائل متعدِّدة بحسب المدرسة والصف (صف مختلط، صف ذكور فقط أو إناث فقط، صف فيه نسبة كبيرة من المعيدين، صف في بيئة ريفية أو صف في بيئة مدنية، إلخ...) أقول قبل أن أختم، إنَّ السماح للمدارس الخاصة باعتماد مناهج مختلفة يعطي فرصةً للوزارة كي تكون منافسًا حقيقيًا في هذا الميدان وربما أثبتت مناهجها أفضليتها وتمَّ اعتمادها على نحوٍ حرٍّ من قبل بعض المدارس الخاصة... يبقى أن أقول إنَّ اختلاف المناهج لا يعني بالضرورة الخروج عن المعايير الأساسية التي تعتمدها وتقرِّرها الوزارة. إنَّ إحدى المثالب التي تؤخذ على توحيد المناهج هي أنَّ المدارس الخاصة الممنوعة من اعتماد منهاج مختلف تلجأ إلى إضافة موادٍ أخرى فنرى على سبيل المثال (إنكليزي المدرسة وإنكليزي الدولة) ونرى أيضًا كتبًا في العلوم بلغة أجنبية، إلخ... ليست نتيجة ذلك سوى جهد وإرهاق إضافي للطالب لا ضرورة لهما من حيث المبدأ. ب: إذا قبلنا أنَّ مسيرة التعليم هي في الوقت نفسه مسيرة تمييز، يصبح من المنطقي أن يلحظ المنهاج مسائل وفقرات تساعد المدرِّس والطالب معًا على اكتشاف تميُّزه أو موهبته في مادة أو أخرى. ثمَّة على العموم مواضيع أو مسائل مفتاحية في كلِّ مادة يمكن أن تؤشِّر لإمكانية إبداع الطالب في هذه المادة بالذات، إنَّ صياغة منهاجٍ يُعنى مسبقًا بناحية التمييز يمكن أن تختلف بشكلٍ كبير عن صياغة منهاجٍ لا يلحظ هذه المسألة. جـ: ترتبط المناهج ولا شك بطرق التدريس المتبعة بدءًا من الطريقة التقليدية الإلقائية التلقينية ووصولاً إلى أحدث الطرق التي تسعى الوزارة إلى تدريب المدرِّسين على تطبيقها، بما في ذلك التعلُّم التعاوني والتشاركي والذاتي ومرورًا بالتعلُّم باللعب والتعلُّم بحلِّ المشكلات، إلخ... لا يختلف اثنان على ضرورة الخروج من الطرق التقليدية الإلقائية التلقينية، لكن ما هو موضع اختلاف بين المدارس التربوية المختلفة هو البدائل المطروحة. أعتقد من جهتي أنَّ تقرير بديلٍ ما (التعلُّم التعاوني مثلاً وهو ما شكَّل موضوع الدورة التدريبية لعشرات آلاف المدرِّسين في مطلع العام الدراسي الماضي) والاستعاضة به عمَّا هو قائم، ليس هو الأمر الأنسب، وأعتقد أيضًا أنَّ طريقة التدريس لا ترتبط بالمنهاج المطروح وحده بل بأمور أخرى عديدة ولذلك أقترح ما يلي: 1- تدريب جدِّي وعميق للمدرِّسين على طرق التدريس المختلفة، 2- توفير (قدر الإمكان) لكلِّ الوسائل اللازمة لتطبيق مختلف هذه الطرق، 3- إعطاء الحرِّيَّة للمدرِّس لتطبيق الطريقة التي يراها مناسبةً لكلِّ درس أو فقرة أو موضوع وبحسب توافر المتطلَّبات اللازمة. إنَّ فكرة وجود خططٍ درسية مسبقة يمكن أن تكون فكرةً ممتازة إذا كان المقصود منها أن تكون أمثلةً عمَّا يمكن للمدرِّس أن يقوم به أمَّا أن تكون هناك خطط درسية مقرَّرة لا يمكن للمدرِّس الخروج عنها فأمرٌ قد يشبه الانتقال "من تحت الدلف إلى تحت المزراب"! د: تتجه معظم الدراسات التربوية الحديثة إلى الحديث عن "التعلُّم" بدلاً من "التعليم" بمعنى أنَّ العملية التي كانت تُسمَّى تقليديًا عملية تعليم يجب أن تكون في الواقع عملية توفير الفرص والأدوات والوسائل والأجواء المناسبة إضافةً إلى الأشخاص المناسبين، ليقوم الطالب بعملية التعلُّم هو نفسه. وفق هذه النظرة يتغيَّر دور المعلِّم من "مدرِّس" إلى "منشِّط" أو "ميسِّر". يمكن الذهاب إلى ما هو أبعد في هذه الفكرة والنظر إلى مرحلة التعليم الأساسي بمجملها على أنَّها مرحلة "تعليم التعلُّم الذاتي". إنَّ المطلوب في نهاية هذه المرحلة هو الوصول إلى شخصٍ قادرٍ على التعلُّم ذاتيًا أي على اختيار ما يريد تعلُّمه واختيار وسائله للقيام بذلك واختيار ما يطلبه من مساعدة من المدرِّس أو الميسِّر،... يتطلَّب تحقيق ذلك عملاً أكثر عمقًا في صياغة المناهج أولاً وفي تطبيق طرق التدريس المختلفة ثانيًا وفي التركيز على تنمية مهارات التعلُّم الذاتي بشكل خاص. سادسًا: المواد الدراسية - ماذا نعلِّم؟! إذا كنا نتحدَّث عن مناهج متنوعة، وإذا كان هذا الحديث يستدعي وضع ضوابط ومعايير (وهي موجودة عمليًا لكنها قابلةٌ للكثير من التطوير بعد) فإنَّ أول سؤالٍ يُطرَح عندما نفكِّر في الضوابط والمعايير هو: "ماذا نعلِّم"... الرياضيات والفيزياء واللغة العربية والتاريخ، إلخ... نعم... ولكن لماذا نعم؟! لماذا الإنكليزية والفرنسية لا إحداهما فقط (مقابل التعلُّم الحقيقي بدلاً من مجرَّد حفظ معاني الكلمات والجمل)؟ لماذا كلُّ هذه الرياضيات؟ لماذا جرى في مرحلة معينة استبعاد بعض أبحاث الجبر (الزمرة مثلاً) ولماذا تمَّ إدخال المعادلات التفاضلية؟! مَن يقرِّر مثل هذه الأمور وعلى أيِّ أساس؟ ولماذا لا يكون على المدرِّسين بشكل عام غير تطبيق ما يجري تقريره ولا يجري أخذ رأيهم بأيَّة طريقة من الطرق؟! يرتبط موضوع إعادة النظر بالمواد ارتباطًا شديدًا بما أشرنا إليه حول موضوع إعادة النظر في الفروع المختلفة، فقد يكون تعليم لغتين في فرع البكالوريا الأدبية أمرًا مناسبًا أو مطلوبًا ولا يكون كذلك في الفروع الأخرى مثلاً...! في جميع الأحوال: أليست هناك بعض المواد التي تشكِّل جزءًا من المنهاج والتي يمكن إعادة التفكير فيها إمَّا لاستبدالها أو حتى لإلغائها؟! أوليس هناك في المقابل مواد أخرى يمكن التفكير في ضرورتها؟! ألا يمكن أن نعيد النظر نحو الفصل بين ما يفترض أن يتعلَّمه الطالب في المدرسة وما يُفتَرَض أن يتعلَّمه في مكان آخر (الجامع، الكنيسة، الحزب،...). أفكِّر مثلاً بمادتي التربية الدينية (المسيحية والإسلامية). لا بدَّ من الاعتراف والقبول بأنَّ نسبةً كبيرةً جدًّا من الطلاب لا يهتمُّون أبدًا بهذه المادة، حتى وإن كانوا من عائلاتٍ مؤمنة تمارس الشعائر الدينية على اختلافها. إنني أدَّعي هنا الحديث بلسان الطلاب أنفسهم الذين يرون أنَّ مكان تعلُّم هذه المواد هو دار العبادة (الجامع والكنيسة بشكل خاص) وأنَّ المعرفة الدينية والإيمان لا يقيَّمان كما تقيَّم بقيّة المواد بل قد يرى البعض أنَّ تقييم المعرفة الدينية والإيمان ليس من اختصاص الآخرين بل هو من اختصاص الله! أقترح بالمقابل وجود مادة يمكن أن تُسمَّى "التربية الروحية" فيها يتعلَّم جميع الطلاب معًا بعض الحقائق التي لا يعترض عليها أحد عن جميع الأديان ولا سيما القيم الأخلاقية المشتركة التي لا يختلف فيها عاقلان، لا في منطقتنا فقط بل في كلِّ العالم، لا التي تُسمَّى "سماوية" فقط، بل التي يشكِّل أتباعها أكثر من ثلث البشرية ونحن نصفهم بالكفَّار وعبدة الأصنام! بل ربَّما يمكن في هذه المادة أيضًا أن يتعرَّف الطالب على التجربة المادية، وعلى العلمانية واللادينية على نحو محايد كليًا. أتحدَّث هنا عن مادة 1- يتعرَّف فيها المواطن السوري، في مرحلة تكوينه الفكري، على شريكه في الوطن بشكل صحيح، فلا تبقى كلُّ فئة منطوية على نفسها ولا يشكِّل المنتمي إلى طائفة ما فكرته عن ابن الطائفة الأخرى من خلال ما يتعلَّمه في طائفته فقط، بل من خلال ما يقدِّمه ابن الطائفة الأخرى عن نفسه أيضًا... ولم لا تكون هناك جلسات حوار يشارك فيها الطلبة أنفسهم بإدارة مدرِّسين قادرين أن يكونوا محايدين... لم لا يكون ذلك بابًا لتنمية روح الحوار في جيل قادم هو مستقبل الوطن. 2- يتعرَّف سوري الغد من خلال هذه المادة على العالم الخارجي، من ناحيةٍ من النواحي على الأقل، بشكل أكثر واقعيةً. إذ أنَّ من المعيب على ما أظنُّ أن نظلَّ، ونحن على علاَّتنا، نرمي الآخرين بالكفر والإلحاد أو بعبادة الأصنام والأوثان، فيما السفير الياباني في دمشق كان أول المبادرين للنزول إلى ما تبقى من نهر بردى لتنظيفه من القمامة! هذا مثالٌ عن مادة يمكن استبدالها على نحوٍ جذري وهي مادة تخصُّ جميع المراحل، لكنني أعتقد أنَّ الموضوع يصبح أكثر دقةً وتطلُّبًا للتمحيص والتفكُّر في الصفوف الدنيا، وكم علينا، على ما أظنُّ أن نولي اهتمامًا أكبر للرسم والموسيقا والرياضية وربما الرقص والتمثيل، وغيرها، بدل تهميشها لصالح الرياضيات واللغات... يمكن التفكير بمادة يمكن أن يكون عنوانها "فنُّ التعامل" وهي مادة ستكون مفيدة جدًّا للمدرِّسين والإداريين بقدر ما للطلاب... كما يمكن التفكير بمادة عنوانها "فنُّ التفكير السليم"!... تُعطى الشطرنج كمادة أساسية في كثيرٍ من الدول، وهو أمرٌ يمكن الاقتداء به أيضًا. أقترحُ أن يُعطى علم الفلك أولويةً كبيرة وأن تكون هناك مادة خاصة بالفضاء والفلك وأعتقد أنَّ لهذا مبرِّرات قوية يمكن مناقشتها. كما ويمكن اقتراح الكثير من الأفكار ليبقى بعضها وتُستبعد أخرى بعد مناقشةٍ موسَّعة ومن الأفضل برأيي أن تكون مفتوحة... يمكن أيضًا أن نفكِّر في إغناء المواد الموجودة نفسها بدروسٍ خارجةٍ عن المألوف أو إثرائيةٍ بطريقةٍ بنَّاءة: لماذا لا نتصوَّر مثلاً حصَّة لغة عربية تُخصَّص لاستقبال شاعرٍ أو مسرحي أو روائي سوري أو عربي، يلقي فيها قصيدة أو حتى يعطي درسًا بطريقة مختلفة؟ لماذا لا نتصوَّر حصَّة رياضياتٍ تستضيف فيها المدرسة أستاذًا جامعيًّا (أو حتى هاويًا للرياضيات) قادرًا على إعطاء بعض الفقرات التي يمكن إدراجها تحت عنوان "رياضيات مسلية"؟... إنَّ واحدةً من الفوائد التي يمكن أن تقدِّمها مثل هذه المناسبات (التي يمكن أن نسمِّيها وجود محاضرٍ زائر في المدرسة) هي فائدة يجنيها المدرِّسون قبل الطلاب فمثل هذه الاحتكاكات خبرة مغنيةٌ جدًّا للمدرِّسين حتى أنَّه قد يمكن تصنيفها في إطار "التدريب المستمرِّ للمدرِّسين". أبعد من ذلك لماذا لا تكون هناك مادة مفتوحة (أو حرَّة) بمعنى أنَّ من الممكن أن يختلف ما يُعطى فيها بين مدرسة وأخرى وبين منطقة وأخرى، ويمكن لاقتراحات الطلاب أنفسهم أن تلعب دورًا في ما يُعطى في هذه المادة التي لا يكون لها بالضرورة امتحان وتقويم [يمكن لهذه الفكرة أن تكون مشغِّلاً لـ "مسؤولي الأنشطة اللاصفية" الذين لا يزالون يتساءلون عن دورهم في المدرسة!]. يمكن أن نتخيَّل على سبيل المثال، مدرسةً يستضيف فيها صفٌٌّ واحد أو أكثر في نفس الوقت ضيفًا من الخارج لحصة واحدة أو أكثر من أجل الاطلاع على موضوعٍ معين؟ يمكن لمسؤول الأنشطة أن ينظِّم مثل ذلك تحت إشراف المدير مثلاً، ويمكن أن نطرح أمثلةً على مثل هذه الأنشطة: - شرطي سير يعطي محاضرةً حول قواعد السلامة المرورية أو إشارات المرور التي يجب على الطالب في هذا العمر معرفتها... - عضو في الجمعية المعلوماتية يعطي موضوعًا عن أهمية الحاسب والأنترنت وأصول استخدامهما بطريقة تتيح الفوائد وتجنُّب المخاطر. - متطوُّع في الهلال الأحمر يعطي دورة عن الإسعافات الأولية. - مختص من مديرية الشؤون الاجتماعية يعطي موضوعًا عن التطوُّع ومجالاته الممكنة (نشر ثقافة التطوُّع). - عضو في جمعية بيئية يعطي محاضرةً عن استهلاك الورق وأثره على البيئة. - رحلة رصد ليلي بالمشاركة مع الجمعية الكونية السورية. - إلخ... (يمكن طرح عشرات الأفكار من هذا القبيل على نحوٍ يغطي العام الدراسي بأكمله، كما أنَّ اقتراحات الطلاب كما أشرنا يمكن أن تغني كثيرًا هذه الفكرة). ليس الهدف من وجود مثل هذه المادة هو مجرَّد التنويع بل إنَّها فرصة لتعرِّف الطالب على ما يوجد في مدينته أو محافظته من جمعيات أهلية وتحفيز له على العمل الأهلي والتطوُّعي، ومحاولة لتعلُّم بعض الأشياء الضرورية من مصادرها وليس من مدرِّسٍ غير مختص بما يكفي. سابعًا: أولياء الأمور يغادر الطفل بيت والديه إلى الروضة أو المدرسة كما لو كان الأمر انتقالاً بين عالَمَين. يكاد التواصل بين الأهل والمدرسة أن يكون معدومًا إلا في قلَّة من الحالات. وفي كثير من الأحيان يقف التواصل، في حال وجوده، عند حدِّ السؤال عن وضع الطفل والاطمئنان على أنَّ أحدًا من أقرانه لا يضربه أو أنَّ علاماته جيدة، وتشكِّل الهدية المقدَّمة إلى المعلِّمة في عيد المعلِّم أو بدون مناسبةٍ أحيانًا جزءًا لا يتجزأ من هذا التواصل! أعرف لجنةً لأولياء الأمور في إحدى المدارس الخاصة يرئسها مالك المدرسة وهو شخص غير متزوج وليس له أولاد وليس المدير الفعلي للمدرسة!! أدعو إلى تشجيع أولياء الأمور (هنا أيضًا يرتبط الأمر بالبيئة التشريعية بقدر ما يرتبط بالتوعية والحثِّ وتقديم الدعم اللازم) على تنظيم أنفسهم في لجان حقيقية على مستوى المدرسة أولاً ثمَّ على مستوى مجموعة مدارس في حيٍّ من الأحياء وصولاً إلى المدينة فالوطن بأكمله. بحيث يكون هناك ممثِّلون حقيقيون عن أولياء أمور الطلاب يشاركون في وضع الخطط والتصوُّرات لكلِّ تطوير ممكن، كما يشاركون في وضع الاقتراحات والحلول لكلِّ مشكلة تُطرَح وينقلون صعوبات أولادهم، في مختلف المجالات (تعليمية – حالة البناء المدرسي – التجهيزات – شؤون المدرِّسين – المناهج إلخ...) إلى المسؤولين المعنيين ويتابعونها لديهم. إنَّ أحد الأهداف الهامة لوجود مثل هذا التنظيم (سمِّها نقابة أو مجلسًا وطنيًا أو جمعية أهلية للأولياء أو أيَّ شيء آخر) هو العمل على توعية ذوي الطلبة بما يخصُّ حاجات أولادهم وفيما يتطلَّب اهتمامهم وعنايتهم (معظم الأهالي ما يزالون يعتقدون أنَّهم بمجرَّد إرسال أولادهم إلى المدرسة قد أخلوا أنفسهم من المسؤولية التعليمية والذين منهم لا يعتقدون ذلك يظنون أنهم يكملون واجبهم عن طريق الدروس الخصوصية... هذا الخطأ المتراكم على مدى عقود في بناء هذه التصورات الغريبة الراسخة في أذهان الأولياء يتحمَّل مسؤوليتها القائمون على الأمور التربوية أكثر من الأولياء أنفسهم الذين يمكن تبرير خطأ النسبة الأكبر منهم بالجهل وعدم التقدير). لا أتصوَّر إمكانية تقدُّم حقيقي في العملية التربوية دون حدٍّ أدنى من توعية الأهل وإشراكهم إشراكًا حقيقيًا في العمل التربوي والتعليمي، حتى يأخذوا دورهم الحقيقي والهام جدًا إلى جانب المعلِّمة والمدرِّس والموجه والمدير... ثامنًا: الأبنية المدرسية لا يحتاج المرء تمحيصًا ولا حتى قوَّة ملاحظة ليكتشف بسهولةٍ بالغة التصميم المتشابه إن لم يكن الثابت للأبنية المدرسية العامة على امتداد سورية، وفي المناطق أو المدن أو القرى التي يمكن أن نرى فيها نمطًا بنائيًا متميِّزًا وطابعًا معماريًا خصوصيًا يأتي بناء المدرسة ليخرق هذا الانسجام وليشذَّ عن هذا النمط! لكن مشكلة عدم انسجام البناء مع محيطه في كثيرٍ من الحالات ليست المشكلة الوحيدة ولا هي الأكبر، فالبناء المدرسي يوحي للكثير من الطلاب بقلعةٍ أو بسجن: سورٌ مرتفع يحيط بالمدرس، باب حديدي كبير، شبكٌ يحيط بالنوافذ! تبقى الأمور الأخرى وهي كثيرة أقل أهمية وهي تحتاج كما العديد من فقرات هذا المقال إلى مقالٍ مستقل ولذلك لا أذهب أبعد في الوصف، بل أتجه مباشرةً إلى المقترحات. لا يمكن هدم كلِّ ما هو موجود والبدء من جديد لذلك يمكن العمل على مستويين: 1) تصميم وتنفيذ الأبنية الجديدة على أسس مختلفة (مع مراعاة الفروق بين الريف والمدينة من حيث توافر المساحات ومتطلَّبات كل مدرسة وانسجام البناء مع المحيط، إلخ...). 2) تعديل ما هو موجود وإن بشكل تدريجي بحيث يصبح أكثر تناسبًا مع المتطلَّبات (إزالة الجدران العازلة بين المدرسة والعالم الخارجي – استبدال الباحات المبلَّطة بباحات ترابية أو عشبية أو أجزاء منها على الأقل – إزالة الشبك عن النوافذ – الاستبدال التدريجي للمقاعد من الطراز العتيق بمقاعد وطاولات حديثة – استخدام ألوان مختلفة للممرات والصفوف يشارك الطلاب في انتقائها وطلائها – إعادة تأهيل البنى التحتية ولا سيما المرتبطة بالمعلوماتية - إلخ...). يمكن من أجل هذا كله اقتراح تكوين لجان فعَّالة تضمُّ مهندسين ومدراء مدارس وخبراء تربويين لوضع برنامج عملٍ ومتابعة الأمر. تاسعًا: التشاركية تتحمَّل وزارة التربية كامل المتطلَّبات المادية في العملية التربوية على مستوى المدارس العامة. وإذا أردنا أن نكون واقعيين اعترفنا بأنَّ هذا العبء الكبير يعيق عملية تطوير التعليم شئنا أم أبينا. ربَّما كان ممكنًا تدارك جزء من هذه الصعوبة إذا استطعنا (عبر نشر ثقافة دعم التعليم بين أصحاب المؤسَّسات الخاصة ورؤوس الأموال وعبر تجديد التشريعات والقوانين التي تساعد في هذا الأمر) إشراك منظَّماتٍ ومؤسَّسات وشخصياتٍ قادرة في تحمُّل هذا العبء المادي. يمكن أن نتصوَّر على سبيل المثال: [دون أن ننسى إشراف وزارة التربية في كلِّ هذه الحالات] - شخصًا غنيًّا يقدِّم جوائز للطلاب الأوائل في المدرسة التي كان هو طالبًا فيها. - مدرسة خاصة تتبنَّى (أو توائم) مدرسةً عامة وتدعمها في إصلاح المقاعد مثلاً أو في تقديم حوافز للمدرِّسين،... - جامعةٌ خاصة تقدِّم دعمًا استشاريًا للمدرِّسين في مدرسةٍ أو مجموعة مدارس قريبة، أو تنظِّم دورات وورشات عمل تربوية لهم أو تشرف مجانًّا على تأهيلهم في مجال المعلوماتية أو اللغات... - أصحاب رؤوس أموال وأشخاص أغنياء من المحافظات المصنَّفة نامية تعليميًا، يقدِّمون بالتنسيق مع الوزارة وعن طريقها مكافآت مجزية لمدرِّسين أكفَّاء ليعملوا في مناطقهم (بدلاً من إرسال المدرسين المعينين حديثًا على الدوام، عن غير إرادتهم، إلى تلك المناطق فتبقى بالنتيجة عند نفس المستوى التعليمي). - دور نشر تقدِّم كتبًا لمكتبات المدارس (هذا لا ينفي أنَّ هناك بعض الكتب التي تستحق من الوزارة أن تشتريها إن لم تُقدَّم وأن تكون موجودة في كلِّ مدرسة). - معمل دفاتر يؤمِّن في مطلع العام الدراسي دفاتر طلاب الصف الأول (مثلاً) أو ربما كل المدرسة في مدرسةٍ واقعة في قرية نائية أو منطقة فقيرة (في أحزمة الفقر حول دمشق مثلاً). - مطعمٌ أو منتزه يستقبل رحلةً لطلاب مدرسةٍ تقع في منطقة فقيرة. أو يقدِّم بطاقات دعوة لمعلِّمين بمناسبة عيد المعلِّم... - مطبعة تتبرَّع بطباعة عددٍ من النسخ لكتابٍ مدرسي مجانًا. ... يمكن تصوُّر عشرات الطرق التي تُتاح فيها إمكانيات المساعدة. بل إنَّ مثل هذه الأمور تحدث في الواقع على نطاقٍ ضيِّق وما علينا عمله هو نشر هذه الثقافة على نحوٍ أكبر وتسهيل الإجراءات القانونية والمكتبية التي تساعد في إتمامها وفي نشرها وزيادتها وليس العكس. يبقى القول إنَّ الهدف من مثل هذه المشاركات ليس العبء المادي فقط بل تنمية روح الانتماء الوطني والمشاركة في بناء الجيل الجديد وزيادة اللحمة الوطنية بين أبناء الشعب. خاتمة أعمل في ميدان التربية والتعليم منذ سبع عشرة سنة على الأقلِّ، ولطالما شعرت تجاه طلابي بمشاعر أخٍ كبير نحو إخوة أصغر... ما تغيَّر اليوم هو أني صرت أبًا، وقد أمضت ابنتي الكبرى سنتها الأولى في الروضة خلال العام الدراسي الماضي... إنَّ كلَّ تغييرٍ إيجابي قادم في التعليم في وطني سيكون مفيدًا لابنتي ولجميع أترابها، وكلَّ تغيير سلبي يمكن أن يحدث – ونرجو ألا يحدث - في التعليم في بلدي سيكون ضارًا لابنتي ولكلِّ جيلها... إنَّ شعوري هذا كان جزءًا من كلِّ فكرة كتبتها ومن كلِّ كلمةٍ نضَّدتها، ولذلك أعتقد أنَّ نيتي كانت وما تزال صادقةً... لقد اجتهدت، فإن أخطأت فلي أجر وإن أصبت فلي أجران. *** *** *** |
|
|