|
بين أركون وأبي زيد...
المفكر الفرنسي المابعد حداثوي الراحل محمد أركون لم يخرج في بحوثه كلها عن نقد ما يمكننا تسميته الدوغما الإسلامية، وحاول، من خلال تطبيقاته الإسلامية، تكوين ما يمكن أن يعرف بالإسلاملوجيا أيديولوجية علمية تقرأ النص الأسلامي. والخطاب الأركوني في الحقيقة لم يخضع لتفكيكية على مستواه البحثي، من قبل مفكرين عرب أو إسلاميين أو ما بعد حداثويين، وربما خضع لذلك من قبل مفكرين أجانب. لا نعرف في الحقيقة. تحول محمد أركون إلى مرجع لا يستهان به، بعد أن ترجمه الباحث السوري هاشم صالح باقتدار وجهد واضح إلى العربية، وتحول إلى مرجع لتيارات فكرية تحت عنوان واحد هو العلمانية. لهذا أعتقد أننا جميعًا لم نتعامل مع محمد أركون إلا قراءة، وللقراءة انحيازاتها المسبقة أو المحايثة لها. محمد أركون مفكر فرنسي بامتياز، وترجمته لا تختلف عن ترجمة ميشيل فوكو أو جاك ديريدا أو جيل دولوز، من مفكري وفلاسفة ما بعد الحداثة، ذات المنبت الفرنسي، والتي لم تستطع أن تستوطن لاحقًا في أرضيات أخرى، لا أميركية – رغم الاحتفاء ببعض رموزهم اميركيًا كجاك دريدا، لكنه احتفال بقي بروتوكوليًا – ولا ألمانية ولا بريطانية... على سبيل المثال، فكيف لها أن تستوطن عندنا؟ محمد أركون لمجرد أن تبدأ بقراءته، تجد نفسك أمام مفكر صادم، لا شيء عنده لا يخضع للنقد والمساءلة على صعيد التراث الإسلامي. هذا ما تراه للوهلة الأولى وربما يستمر معك طويلاً، ولكن بعد تعودك على نصه، ونسيجه المفاهيمي، يظهر لك جانب آخر في فكره. لا يمكن قراءة أركون والتعامل معه خارج الفضاء المفاهيمي والتاريخي لما يسمى تيار ما بعد الحداثة، هذا التيار الذي كان يعاني من ضيق يصل حد الاختناق جراء الكارثة، التي تمحورت أصلاً حول حدث واقعي ونتائجه الكارثية، لا يحتاج إلى كثير من السيميائيات لتفكيكه، وهو الحرب العالمية الثانية وما تركته من ويلات على المجتمع الأوروبي والعالم، وظهور حركات احتجاجية متعددة، وعلى كل المستويات، وتعتبر بلا أدنى تردد أن الحرب العالمية الثانية هي، بشكل أو بآخر، نتاج للعقل التنويري، وما أفرزه من مركزية مفرطة. كان لا بد من إعدام ذلك العقل بصفته محركًا للتاريخ الأوروبي المعاصر، وبالتالي إعدام كل منتجاته العلمية – هايدغيرية جديدة من التقنية – وغير العلمية – عودة قصوية إلى نتيشه – فكان مفهوم سلطة هذا العقل الشمولي هو الذي يحتاج إلى تفكيك بالنسبة لهذا الفضاء الفرنسي فهؤلاء هم الذين – وبمعنى من المعاني – ورثوا الإرث النيتشوي والهيدغيري وساروا به إلى تخومه القصوى. ولقد لعبت الظروف العالمية الجديدة (تعمُّق الإحساس بفقدان المعنى، تراجع الإيديولوجيات والأفكار الكبرى بل سقوطها لاحقًا...) في ازدهار الاتجاهات التي تنتقد أمرَّ الانتقاد العقل والعقلانية وكلَّ نطاقات الفكر الكلي والقيمي، وبالتالي، وصول مشارف العدمية واليأس المطلق من كل تنوير مزعوم وممكن كما يقول عثمان أشيقرا... في هذا الفضاء جرت النقلة الأركونية من الفيلولوجية إلى السيميائية، وبدون توسطات. فكان النص الإسلامي هو السلطة التي تقف وراء تخلفنا كعالم إسلامي عمومًا وعربي خصوصًا. في كتابه المهم تاريخية العقل الإسلامي كما ترجمه هاشم صالح، تجد نفسك أمام عوالم جديدة، لا تنتمي أنت لها، ولا تنتمي هي إليك، يتحول فيها النص القرآني إلى محرك للتاريخ وقواه في العالم الإسلامي، وتغيب كل الفاعليات الأخرى التي أنتجت وتنتج تخلفنا، أو لاحقًا عدم التحاقنا بالتنوير الأوروبي، وهذه قضية تنبه لها أركون بعد أن أنجز جل مشروعه المابعد حداثوي في نقد العقل الإسلاموي! لأنه بعد هذه الدراسات التفكيكية وتأسيس بداية لما سميناه الإسلاملوجيا – الإسلاميات التطبيقية – بحث سيميائي لنص أدب القرآن بوصفه كذلك... أطلَّ على حالة من العدم – بعد أن أعدم كل الأيديولوجيات التي يتبناها العقل الإسلامي هذا. "فنقده الإيديولوجيات العربية يأتي أقسى وأشد، فهو لا يراها أكثر من أساطير مؤدلجة أو أيديولوجيات أسطورية، ويتأسف لكونها لم تفهم ضرورة القطع مع الماضي والتراث من الناحية المنهجية ومقاربتهما، أي الماضي والتراث، مقاربة انتربولوجية تاريخية". (محمد حداد في مقاله في "الحياة" عن أركون). أيُّ ماضٍ الذي يجب أن تقطع معه، هل هو ماضيها الراشدي أم الأموي أم العباسي أم العثماني أم الاستعمار الغربي التقليدي، أم دولنة منطقتنا برمتها نفطيًا وإسرائيليًا؟ فكان لا بد أن ينتشل مشروعه من هذه العدمية، فكانت دعواته الأخيرة لهذا الالتحاق بالعودة الإسلامية لتبني تنوير القرن الثامن عشر. هذه قراءتي لأركون وهي قراءة هاو لا باحث ولا مختص. أيضًا لاحظت أن تشدده العلماني أتى بعد هذه الدعوة التنويرية، ليدعونا من خلالها للانخراط في الحداثة! وهل نحن ما زلنا خارج هذا النعيم؟ بغض النظر إن كنا نتنعم به أم نكتوي بناره فقط. وهذا طبيعي عند أركون لأنه تغيب عنه القوى الفاعلة في كل عصر مررنا به... ودور هذه القوى في إنتاج إدراكنا للعالم، وأشكال انخراطنا فيه. السؤال الذي لم أجد له إجابة في الحقيقة: هل يوجد لدينا عقل إسلامي، هكذا، واحد لا يحول ولا يزول؟ وهل يوجد لدينا أيضًا عقل عربي واحد؟ مشروع الجابري الذي أخرج العلمانية لمصلحة تصالح إسلامي عربي مع العقلانية والديموقراطية. هنا يحتاج المرء جديًا إلى الوقوف أمام مشروع نصر حامد أبي زيد، لأنه برأيي المشروع الأهم من حيث غوصه في تفاصيل الواقع التاريخي دون إسنادها لكيان معلق ومتعالٍ تحت اسم عقل واحد عربي أو إسلامي. هل أبقت الرأسمالية على عقل واحد في كل الكرة الأرضية؟ كأن نقول عقل هندي وعقل صيني وعقل ياباني... إلخ. نعم ربما "أبقت على عقل غربي أصبح هو عقل العالم" وهذه لم تكن تغيب عن مشروع نصر حامد أبي زيد. أبو زيد كان قارئًا لحركة التاريخ بتفاصيلها، وبتموضعات القوى الفاعلة وغير الفاعلة فيها التي تنتجنا على كل الصعد والمستويات، كان منخرطًا سياسيًا واجتماعيًا في الصراع الدائر في مصر والعالم العربي. هذا الانخراط هو ما أعطى لمشروع نصر حامد أبي زيد خصوصيته، وانخراطه الفعلي في طين المجتمع المصري، ودور القوى كلها في إنتاج ما نحن فيه... فقر وإرهاب وفساد سياسي ومالي وتنظيمات إسلامية وسيطرة غربية وطغمة سلطات حاكمة... إلخ. هذا التاريخ هو الذي يشكل عقولنا، وليس نصًا قرآنيًا، يحمِّله كل واحد منا ما يراه... تعددية العقل التي هي عقل العالم غربيًا... هذا ليس تقليلاً من مشروع الراحل محمد أركون وما قدمه من إضافات لا يستهان بها، تساهم في إغناء معارفنا ومدراكنا لما نحن فيه، وهذا يكفيه عزاء في أنه بقي محدود التأثير في العالم العربي!! *** *** *** النهار |
|
|