الجسد، العقل، الروح:
جيوش السلام
في أوائل الثمانينيات،
التقيت بإرنستو كاردينال في بيركلي، وكان آنذاك وزيرًا للثقافة في الحكومة
الساندينية في نيكاراغوا، ولم يكن نصيرًا للاعنف بالتأكيد. كنت متلهفًا لسؤاله
عما إذا كانت جماعات "شاهد على السلام
Witness for Peace" في بلده قد ساعدت، بشكل ما، على ردع
هجمات "الكونترا". وكما تذكرون، هي الجماعات التي تعرَّف فيها متطوعون
مصادفة،
كصديقتي سو سيفرين، على التأثير الوقائي لتواجد غير مسلح. لكني كنت في الوقت
نفسه أشعر بشيء من القلق، لأنني كنت أعرف أنَّ اللاعنف ليس من ضمن اهتماماته.
وما كان لي أن أشعر بذلك، فقد قال لي بحماس كبير: «نحن بحاجة للمزيد من هذه
الجماعات وعلى وجه السرعة، فحيثما كانوا يتواجدون لم يكن للعنف من وجود!».
ابتداءً
من
الرابع من أيلول/سبتمبر 1920 وحتى التاسع منه، عُقِدَتْ في كالكوتا
Calcutta
دورةٌ استثنائيةٌ لحزب المؤتمر
Congrès.
ولم يكنْ غاندي يريد الانتظارَ حتى يبدأ المؤتمرُ لكي يطلقَ حملةَ اللاتعاون وذلك
خلافًا لعدة مطالبَ وُجِّهَتْ إليه. وعلى الرغم من المعارضة التي لاقاها فقد فرضَ
"سياستَه في اللاتعاون اللاعنفي التدريجي" مضيفًا إلى الأهداف المرتبطة بمسائل
الخلافة والبنجاب "الاستقلالَ في سنة واحدة" لا أقلَّ ولا أكثر من ذلك. وبرَّرَ هذا
الخيارَ مبَـيِّـنًا أنَّ استقلالَ الهند هو الضمان الوحيد لكي لا تتكرَّرَ في
المستقبل الإساءاتُ التي ارتُكِبَتْ بحق شرف الأمة. وقد أكَّدَت الدورةُ العاديةُ
للمؤتمر التي افتُتِحَتْ بتاريخ 26 كانون الأول/ديسمبر 1920 في ناغبور
Nagpur
والتي شاركَ فيها زهاءُ 15000 مندوب إقليمي أكَّدَت قراراتِ دورة كالكوتا.
هذا
الكتاب شهادةٌ على العنف: بواعثه، آليات اشتغاله، منطقه التبريري... وذاك العمى
الذي يجعلنا لا نرى في عنفنا الخاص سوى ردِّ فعل "مشروع" على عنف آخر.
غنيَّةٌ هي الحرب اللبنانية بالدروس والدلالات. ذلك أن العنف الذي أنتجته
وظهَّرته لا يحدُّه نموذج واحد من نماذج العنف المعروفة. فهذه الحرب لم تقتصر
على دول، كتلك الحروب التي شهدتها أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية؛ ولا هي
مجرَّد حرب استقلال بين حركة تحرُّر وطني وقوة استعمارية. ثم إنها ليست من صنف
حروب الهويات الطائفية أو الإثنية فحسب، كتلك التي عرفتها افريقيا وبلاد
البلقان. تبدو هذه الحرب اللبنانية عصيَّة على التصنيف، لأنها في الواقع خليط
من كل تلك الحروب. فلقد كانت حربًا بين دول، لكنها في الوقت نفسه كانت حربَ
استقلال وطني ضد محتلٍّ اختلفت هويته من مرحلة إلى أخرى ومن فريق داخلي إلى
آخر. وكانت حربًا طائفية بين مسلمين ومسيحيين، لكنها شهدت أيضًا صدامات مذهبية
بين سنَّة وشيعة. كذلك كانت عنفًا دمويًا – لعلَّه الأشد دمويةً – داخل جماعة
طائفية أو مذهبية واحدة في بعض الأحيان: "حرب الإلغاء" بين المسيحيين (1990)،
و"حرب إقليم التفاح" بين الشيعة (1987). إلى ذلك يمكن اعتبارها حرب اسرائيل في
لبنان وعلى لبنان، لتنفيذ مشروعها القديم الرامي إلى إنشاء "حلف بين أقليات
المنطقة ضد الأكثرية العربية-الإسلامية"، مثلما هي في الوقت ذاته حرب القيادة
السورية "الأسدية" في لبنان وعلى لبنان، طمعًا في إعادة تكوين "سوريا الكبرى"
بـ"حدودها التاريخية".