|
إبستمولوجيا
هناك مفهومان خَلَقا هوَّةً بين ما كنا نعنيه بالعِلْم منذ اليونان القديمة وبين ما نعنيه اليوم بهذا الاسم؛ هذان المفهومان هما مفهوم النسبية ومفهوم الكَمّ أو الكوانتا quanta. فالمفهوم الأول أحدث ضجةً كبيرةً لدى عامة الناس؛ بينما لا يكاد يُعرَف اسمُ المفهوم الثاني. يعود تاريخُ هذين المفهومين إلى بداية هذا القرن، وكانا مخرِّبَينِ بالطريقة نفسها، أيْ بإدخالهما في العلْم تناقضًا مقبولاً ومؤكَّدًا. فيما يتعلق بالنسبية، ليس المقصود هنا النسبيةَ المعمَّمة التي تقوم على توسيعِ مفهومِ النسبية ليشملَ جميع الحركات، ذلك المفهومِ الذي لم يكُن الميكانيكُ التقليدي يطبِّقه سوى على الحركات المستقيمة أو المنتظمَة؛ وهي فكرة من شأنها بالتأكيد أنْ تقدِّمَ على الأقل مواضيعَ للتفكير لا حدَّ لغناها. المقصود هو النسبية الخاصة التي لم تكنْ تسميتُها موفَّقةً بتاتًا، لأنه قلَّما يكون لها صلة بمفهوم نسبية الحركة. إنها نظرية سهلة جدًا بمجرد أنْ نصرفَ النظرَ عن فهمها.
كان الكتاب والعلماء على حد سواء يعتبرون نقل المادة من مكان إلى آخر بشكل آني أو شبه آني، بحيث تختفي من مكان لتظهر في مكان آخر، من أكثر أفكار الخيال العلمي خيالية وبعدًا عن إمكانية التحقيق. ومع ذلك فهذه الفكرة ترجع إلى عصور سابقة، وقد عرفت حضارات كثيرة قصصًا أسطورية أو شعبية عن أشخاص استطاعوا الانتقال من مكان إلى آخر، أو تواجدوا في أكثر من مكان في الوقت نفسه... إلخ. وعرف هؤلاء الأشخاص في الأدبيات الشعبية في بلادنا بأصحاب الخطوة! ولكن... لقد ظلت فكرة الانتقال الآني في المكان من الخيال والخيال العلمي حتى اخترع فريق من الفيزيائيين والمعلوماتيين في عام 1992 وسيلة لبناء نسخة مطابقة لجسيم في موضع الهدف! وكانت صرختهم آنذاك أنهم اخترعوا النقل عن بعد في يوم واحد. وقد حققوا ذلك اعتمادًا على ظاهرة تناولها أينشتين منذ ثلاثينيات القرن الماضي، ووفقها يمكن لجسيمين كوانتيين أن يظلا في ظروف معينة متصلين برباط غير مادي وغامض!
العلم ذلك الابن الضال لمرحلة الحداثة. ولعله يزداد ضلالة بعد أن راح التاريخ الإنساني، في الألفية الثالثة، يتخفَّف، قليلاً أو كثيرًا، من أثقال الأيديولوجيا. بدا للوهلة الأولى، منذ منتصف القرن التاسع عشر، على وجه التقريب، أن ثمة تعايشًا سلميًا بين المعارف العلمية ومثيلتها الإنسانية. توافق صامت بين الطرفين على تقاسم الأسرار التي قيل إن الاستحواذ عليها مقدمة موضوعية لمصادرة الكون. والأرجح أنه سرعان ما تحول علاقة انتهازية، بالمعنى الإيجابي، بينهما على قاعدة أن كلاً منهما يحتاج إلى الآخر في الترويج لمقولاته المعقدة. ومع ذلك، لم يكن من شأن هذين المتسابقين إلى احتلال الذاكرة الإنسانية الحديثة، أن يلتزما بالعقد الصامت بينهما. بدا أن كلاً منهما يسعى إلى الإدعاء بأنه الأوفر حظًا لامتلاك الحقيقة في الزمن المعاصر. بدليل أن الفلسفة بالتحديد أخذت تزعم أن لديها شرعية مرجحة لتصبح هي علم المستقبل لتضفي بذلك على نظرياتها في التجريد الذهني ملامح حيوية من الواقعية المتشددة للعلم. بالمثل، وجد العلم فرصة ذهبية ليضفي على نظرياته الصعبة شيئًا كثيرًا من انفتاح الفلسفة وسواها على الذاكرة الإنسانية الحديثة. وفي النتيجة أن كليهما استُخدم، بشكل أو بآخر، مطيَّة جاهزة، إذا صح القول، لهذه الأيديولوجيا أو تلك وهي تتقدم رويدًا رويدًا لتجبر التاريخ على تقديم استقالته بقوة الإكراه. بدت الأيديولوجيا الاشتراكية، منذ قيام الاتحاد السوفياتي، الأكثر تحرشًا بالعلم لحمله على الانصياع لتوجهاتها الواقعية المزعومة. وجدت في العلم ضالتها المنشودة. سرعان ما استدرجته إلى كنفها ثم وضعته في الإقامة الجبرية.
مستمرة...
|
|
|