|
النقل الكوانتي للمادة
كان الكتاب والعلماء على حد سواء يعتبرون نقل المادة من مكان إلى آخر بشكل آني أو شبه آني، بحيث تختفي من مكان لتظهر في مكان آخر، من أكثر أفكار الخيال العلمي خيالية وبعدًا عن إمكانية التحقيق. ومع ذلك فهذه الفكرة ترجع إلى عصور سابقة، وقد عرفت حضارات كثيرة قصصًا أسطورية أو شعبية عن أشخاص استطاعوا الانتقال من مكان إلى آخر، أو تواجدوا في أكثر من مكان في الوقت نفسه... إلخ. وعرف هؤلاء الأشخاص في الأدبيات الشعبية في بلادنا بأصحاب الخطوة! ولكن... لقد ظلت فكرة الانتقال الآني في المكان من الخيال والخيال العلمي حتى اخترع فريق من الفيزيائيين والمعلوماتيين في عام 1992 وسيلة لبناء نسخة مطابقة لجسيم في موضع الهدف! وكانت صرختهم آنذاك أنهم اخترعوا النقل عن بعد في يوم واحد. وقد حققوا ذلك اعتمادًا على ظاهرة تناولها أينشتين منذ ثلاثينيات القرن الماضي، ووفقها يمكن لجسيمين كوانتيين أن يظلا في ظروف معينة متصلين برباط غير مادي وغامض! بلى، إن هذا أشبه بكلام الأساطير منه بكلام العلم، لكن، ربما حان الوقت ليثبت العلم، بعد كل الإنجازات التي وصل إليها، أنه قادر على المضي أبعد في عالم العجائب والسحر. ومع ذلك، وكما سنرى، فإن النقل عن بعد الذي توصل إليه العلم اليوم يختلف عن تصورات الخيال العلمي اختلافًا جذريًا. هكذا، بعد أن كان النقل عن بعد مجرد فضول نظري، إذا بالنقل الكوانتي يصبح حديث العلماء التجريبيين. في عام 1997، استطاع فريق من الفيزيائيين نقل الحالة الكوانتية لحبيبة ضوء، أي الفوتون، نقلاً كوانتيًا عن بعد! وفي حزيران من عام 2004 تم تحقيق خطوة جديدة وهامة. فقد نجح فريقان منفصلان في النقل عن بعد لحالة كوانتية لذرة. ويحاول العلم اليوم الاقتراب من الخيال العلمي أكثر وأكثر، فهل سنرى قريبًا النقل عن بعد لجزيئات ولو صغيرة؟ اختراع النقل الكوانتي مصطلح النقل عن بعد téléportation كان قد اخترع من قبل الكاتب الأمريكي شارل فور في بداية القرن العشرين. ثم استخدم عدة مرات من قبل كتاب الخيال العلمي للإشارة إلى أنماط من نقل المادة، حيث تحول هذه الأخيرة أولاً إلى طاقة ثم يعاد تكوينها عند نقطة الوصول أو الهدف بعد أن تكون المادة قد نقلت عبر الفضاء. لكن في الصيرورة الكوانتية التي تم اكتشافها عام 1992 يأخذ "النقل عن بعد" معنى مختلفًا بعض الشيء: فالأمر يتعلق هنا بنقل الحالة الكوانتية لجسيم، أو لمنظومة كوانتية أكثر تعقيدًا، دون نقل فعلي للجسيم نفسه، على الرغم من أنه من المستحيل فيزيائيًا معرفة الوصف الدقيق للحالة الكوانتية المتضمنة في التجربة! ويبدو للوهلة الأولى أنه من المستحيل تحقيق هذه المهمة. فإذا كان من المستحيل معرفة الحالة الكوانتية لجسيم، فكيف يكون بالإمكان نقلها إلى مكان محدد دون نقل الجسيم الذي يتضمنها؟ مع ذلك، فإن هذه النقطة بالذات هي التي تسمح بعملية النقل عن بعد الكوانتية والتي تجعل في الوقت نفسه وجودها أمرًا مذهلاً. لقد اختار العلماء الذين قاموا بالتجربة هذا المصطلح (النقل عن بعد) بسبب تشابهات كثيرة مع المفهوم نفسه في الخيال العلمي: فهناك ضرورة "تدمير" الحالة الأصلية لكي نعيد بناءها في مكان أبعد، الأمر الذي يعني أنه لن يوجد أبدًا أكثر من "نسخة" منها في الوقت نفسه؛ وهناك أيضًا المعلومة الكلاسيكية التي يجب أن تنقل بين نقطة الانطلاق ونقطة الوصول، الأمر الذي يوافق نقلاً للطاقة؛ وأخيرًا، بسبب الاختلاف الكبير مع مفهوم النقل الشائع، الذي يفترض أن المرسل يعرف بالضبط نقطة الوصول، الأمر الذي ليس صحيحًا بالضرورة بالنسبة للنقل عن بعد. لقد جذب المصطلح عند نشره باللغة الإنكليزية teleporting في مقالة علمية الوسط الإعلامي كما والعلمي. وقد اعتقد العلماء منهم في البداية أن الأمر يتعلق بمصطلح حسي أو مفرط. لكنهم عندما بدأوا بقراءة المقالة راحوا يتابعونها بشغف حيث كانت تقدم أفكارًا جريئة من أجل إنجاز مهمة فيزيائية تتعلق فعلاً بما يمكن تسميته النقل عن بعد!. وفي تلك الفترة، في بداية التسعينيات، لم يكن الفريق الذي اكتشف النقل عن بعد يعرف إلى أي درجة سوف تكون هذه التجربة مفيدة فيما بعد. لكنهم بالمقابل كانوا متأكدين من أهميتها القصوى. لقد شدت أولى التجارب الناجحة في النقل الكوانتي عن بعد انتباه الإعلام أكثر بكثير مما فعلته النظرية التي طرحت مبدأ النقل عن بعد قبل خمس سنوات. وكان السبب في ذلك أن العلماء نشروا هذه المرة نتائج التجربة في مجلات علمية واسعة الانتشار مثل Nature أو Science، بل وكذلك لأن إنجاز مثل هذه التجارب كان يبرهن مرة جديدة أن الواقع كان يتوافق تمامًا مع التنبؤات في الفيزياء الكوانتية. ومع كل تجربة جديدة كان البرهان يصبح أكثر وضوحًا وكانت وسائل إعلام عديدة تعيد نشر النتائج مع كل ما يحمله ذلك من أحلام إلى قرائها. أما بالنسبة للعلماء الذين وضعوا أسس هذه التجارب فإن تأثير هذا المفهوم على العلم وخاصة على الحساب الكوانتي، هو الذي بدا الأكثر جوهرية وجدة. وفي الحقيقة فإن التجارب على النقل الكوانتي عن بعد تتعلق أكثر بكثير بتطور المعلوماتية الكوانتية منها بالتجهيزات التي تنقل الأجسام أو حتى الأشخاص! بدأت القصة في آب من عام 1992 عندما قرأ شارل بنيت Charles Bennett من IBM مقالاً منشورًا لآشر بريز Asher Peres وبيل ووترز Bill Wootters فقام بتمريره إلى جيل براسار Gilles Brassard. وكان كاتبا المقال قد بينا فيه أنه إذا كنا نريد الحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات حول حالة منظومتين كوانتيتين متطابقتين، فمن الممكن أن يكون من المفضل وجود المنظومتين في الموضع الفيزيائي نفسه. فإذا كانت إحدى المنظومتين موجودة في مختبر شخص وليكن اسمه أليس، والمنظومة الأخرى في في مختبر شخص يدعى بوب، فمن الممكن إجراء أي نوع من القياس على كل من المنظومتين، لكن جمع النتائج الحاصلة سيعطي عمومًا معلومات أقل مما لو كانت المنظومتان الكوانتيتان مجتمعتين فزيائيًا لكي تقاسا معًا. بعد فترة وجيزة، اقترح جيل براسار على بيل ووترز المجيء إلى مونريال لعرض أفكاره، وهو أمر قام به في تشرين الثاني من السنة نفسها. وكان قد دعا أيضًا شارل بنيت وكلود كريبو لمعرفته باهتمامهما بهذه المحاضرة. لكنه يقول "إن المحاضرة تجاوزت كافة توقعاتنا". كان ووترز يشرح في بعض اللحظات كيف أن أليس وبوب يمكن أن يحسنا دقة قياساتهما في تبادل المعلومة الكلاسيكية، لكن دون الوصول أبدًا إلى النتائج التي كان يمكن الوصول إليها لو كانت المنظومتان الكوانتيتان، المتطابقتان أصلاً، متحدتين أو مجتمعتين في مكان واحد. وعندها، طرح بنيت المعروف عنه طرحه للأسئلة بشكل عفوي في المناقشات سؤاله الذي يبدو بلا معنى للوهلة الأولى: "لماذا لا نعطي لأليس ولبوب جسيمًا EPR؟ فذلك لا يضر بشيء؟!" وقال ووترز إنه لم يطرح هذا السؤال أبدًا، وتابع محاضرته! لكن ما هو جسيم EPR؟ إنها جسيمات تأتي دائمًا زوجًا زوجًا. وهي تعبِّر بامتياز عن ظاهرة كوانتية بحتة معروفة باسم "التشبيك intrication" (entanglement). وهي، باختصار، ظاهرة لا مكافئ لها في الفيزياء الكلاسيكية. كان الفيزيائي دافيد بوم قد عرضها وفق الصيغة المبسطة التالية: يمكن لفوتونين ضمن ظروف معينة أن يصدرا من المنبع نفسه بحيث أن استقطابهما يكون متعاكسًا مهما كان القياس الذي يخضعان له طالما كان القياس نفسه. يشكل هذان الفوتونان عندها زوجًا من الجسيمات EPR. فإذا قسنا استقطاب أي من الفوتونين عند أي زاوية كانت فإننا سنعرف عندها كيف سيتفاعل الفوتون الثاني عند تطبيق القياس نفسه عليه. وليس للموضعين النسبيين للفوتونين في لحظة القياس أية أهمية. فيمكن أن يكونا عند طرفي المجرة المتقابلين، ويؤكد لنا الميكانيك الكمومي أن ذلك لن يغير من النتيجة! كان ألبرت أينشتين قد برهن في عام 1935 بالتعاون مع بوريس بودولسكي وناثان روزن، أن التشابك intrication كان نتيجة محتمة لقوانين الميكانيك الكمومي. ولا بد أن نعرف أن أينشتين، الذي كان رغم كل شيء قد ساهم في تأسيس الميكانيك الكمومي، ونال من أجل ذلك جائزة نوبل للفيزياء عام 1921، قد أمضى جزءًا طويلاً من حياته وهو يسعى للبرهان أن هذه النظرية غير كاملة على هذا النحو. ولنكن دقيقين، فهو لم يكن يشكك بتنبؤاته النظرية، بل على العكس كان يعتقد بوجود حقيقة تحتية كانت تسمح بتفسير هذه النتائج والأفكار. وكان يرى بشكل خاص أن جهازًا للقياس لا يستطيع سوى الكشف عن المعلومات الموجودة سلفًا في المنظومة المقاسة: وهذا ما كان يسميه "عناصر الحقيقة". وعلى العكس تمامًا، كان الميكانيك الكمومي وعلى رأسه نيلز بور يؤكد أن هذه "الحقيقة" ليست سوى "خديعة": فهي غير موجودة قبل أن يجبرها جهاز القياس على الظهور. على سبيل المثال، إذا قيس فوتون مستقطب عموديًا بشكل قطري، فليس ثمة ما يجبره على الاختيار بين أكثر من 45 درجة أو أقل من 45 درجة، حيث للنتيجتين الحظ نفسه بالتحقق والظهور. ووفقًا للميكانيك الكمومي، لا يمكن لأي فوتون أن يحصل إن صح التعبير على استقطاباته الخطية (الأفقية مقابل العمودية) والقطرية (أقل أو أكثر من 45 درجة) المحددة بشكل آني متزامن. للوهلة الأولى، يبدو أن التشبيك يثبت وجود عناصر الحقيقة هذه التي تحدث عنها أينشتين. وكانت حجة أينشتين، التي عدَّلها بوم، هي أن استقطاب الفوتون غير المقاس بواسطة زوج من الـ EPR يجب أن يتوافق مع عنصر من عناصر الحقيقة هذه. ويتحدد هذا الأخير أيًا كانت زاوية قياس الاستقطاب طالما أن هذه المعلومة يمكن أن تعرَّف دون أن يكون عليها التفاعل مع الفوتون. وحده الفوتون الآخر في زوج الفوتونات هذا يتخلخل بواسطة جهاز القياس. لقد وقع هذا الاكتشاف مثل ضربة الصاعقة في سماء كوبنهاغن، حيث كان يعمل نيلز بور. وقد تطلب الأمر أكثر من ثلاثين سنة قبل أن يستطيع الإيرلندي جون بل البرهان أن التشبيك غير متوافق مع أي تفسير مؤسس على عناصر الحقيقة هذه! ومنذ ذلك الوقت أجريت تجارب عديدة كان يقودها في البداية آلان أسبكت في جامعة أورساي وبرهنت حقيقة هذه الظاهرة. وعودة إلى المحاضرة التي كان يلقيها ووترز، وسؤال بنيت خلالها، فقد أنتهت إلى سهرة مناقشات مطولة في مكتب جيل براسار، وكان يوجد بالإضافة له وللمحاضر ووترز ولبنيت كل من كريبو وريتشارد جوزا، وكان عضوًا في فريق براسار العلمي. وحاول هؤلاء العلماء الذين استفزهم سؤال بنيت أن يتصوروا كيف يمكن لمقاسمة زوج من الجسيمات من نوع EPR بين الكاشفين أليس وبوب أن تساعدهما. ولم يتطلب الأمر أكثر من 24 ساعة قبل أن يفرض النقل الكوانتي عن بعد نفسه على هذه المجموعة كأداة ثورية ستسمح بحل مسائل كثيرة في الفيزياء، وأولها مسألة القياس الأعظمي لمنظومة كوانتية. إذ كان يكفي للكاشف أليس أن يستخدم التشبيك الذي يتقاسمه مع بوب لكي ينقل له عن بعد نسخة من المنظومة الكوانتية. وعندها يصبح لدى بوب منظومتين متطابقتين ويستطيع بالتالي الحصول على القياس الأعظمي. وقد توصل هذا الفريق من العلماء الذي اجتمع بمبادرة لإلقاء محاضرة إلى قناعة فورية بأن اكتشافهم هذا كان يتجاوز كثيرًا موضوع المحاضرة وسؤال بنيت، إلى مسائل أكثر جوهرية في الفيزياء! وعندها تمت دعوة آشر بريز للانضمام إليهم ليكتمل نصاب العلماء المساهمين في هذا الاكتشاف. وبعد أحد عشر يومًا من سؤال بنيت الذي لا معنى له، في 2 كانون الأول 1992، قدم هؤلاء العلماء باسمهم جميعًا مقالتهم الشهيرة إلى المجلة العلمية Physical Review Letters. لقد ارتكز اكتشاف النقل الكوانتي عن بعد على مبادئ أساسية. ففي حدود التعريف الذي قدمه هؤلاء العلماء للنقل الكوانتي، كان المبدأ الأساسي الذي قادهم إلى هذا الاكتشاف هو أن مفهوم التشبيك intrication الكمومي عبارة عن نوع من "قناة" للنقل تستطيع الاندماج مع قناة نقل كلاسيكية لنقل حالات كوانتية. وذلك مفاجئ بلا شك لأن الحالات الكوانتية لا يمكن أن تقرأ كاملة ولا أن تنسخ بشكل كامل. وبالتالي، دون التشبيك لا يمكن أن يتحقق النقل الكوانتي، لأن أي منهج كلاسيكي أو طريقة أو تقنية جهارية لا تسمح بنقل أو وصل ما لا يمكن قراءته أو نسخه! ومن دون التشبيك فإن الطريقة الوحيدة المعروفة لنقل حالة كمومية مجهولة من أليس إلى بوب هي بأخذ الجسيم الحامل للحالة من الكاشف أليس إلى الكاشف بوب. وبفضل التشبيك يصبح بالإمكان نقل الحالة الكوانتية نحو بوب حتى دون معرفة أين توجد بالضبط. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن التشبيك وحده لا يسمح بالاتصال: فلا بد من وجود رسالة كلاسيكية لإتمام النقل عن بعد. وهذه الرسالة لا يمكن أن تتم بأسرع من سرعة الضوء وفقًا لأينشتين. جرت أولى تجارب النقل عن بعد في عام 1997 بواسطة الفوتونات، ثم في عام 2004 بواسطة ذرات. لكن إلى أبعد من ذلك، ربما لا يزال الوقت مبكرًا للحديث عن نقل لمجموعة من الذرات. يقول براسار: "لقد قمنا ببحثنا ضمن المجال العلمي البحت. ويجب ألا ننسى أننا اخترعنا النقل الكوانتي عن بعد في وقت لم يكن فيه مجال المعلوماتية الكوانتية قد ترسخ كما هو الحال اليوم. ومنذ ذلك الحين زادت ميزانية الأبحاث في مجال المعلوماتية الكوانتية مئات الملايين من اليوروات". فلعل السنوات القادمة ستحمل لنا مزيدًا من المفاجآت في مجال النقل كوانتي عن بعد!! لكن ما الذي حدث في عام 2004؟ لقد استطاع الفيزيائيون نسخ حالة كوانتية لذرة على ذرة أخرى. كان النجاح مزدوجًا. إذ كانت المرة الأولى التي يتم فيها نقل ذرة عن بعد. وإضافة إلى ذلك، فقد أصبح التحكم بالنقل الكوانتي عن بعد مضبوطًا بشكل كامل مع الذرات. وقد توصل إلى هذه النتيجة فريقان بشكل منفصل، أحدهما نمساوي والآخر أمريكي. ويمكن وصف التجربة التي قاما بها بالنقل الدقيق للخصائص الكوانتية لذرة إلى ذرة أخرى، دون أن يتفاعل هذان الجسمان بشكل مباشر. كانت تلك المرة الأولى التي يتم فيها نقل المادة بحصر المعنى، لأن المرات السابقة كلها كانت تتعلق بفوتونات، أي بجسيمات لا كتلة لها عمليًا. وكانت هاتان التجربتان تتميزان بتحسين هام جدًا في تقنيات النقل الكوانتي عن بعد: فقد كانتا تجربتين "محددتين". فعلى عكس التجارب السابقة تم للمرة الأولى بشكل كامل إنجاز المخطط النظري للنقل عن بعد الذي وضع قبل 11 عامًا. وبعبارة أخرى فإن النقل عن بعد بات يُحقَّق "على الطلب" بنجاح كامل 100%. وكان أحد أهم التطبيقات التي بدأ العلماء يدرسون إمكانية تنفيذها هو استخدام النقل الكوانتي في الحواسب الكوانتية المستقبلية. "الصدفة نفسها" أو حول أساس النقل الكوانتي إن أساس النقل الكوانتي هو أحد الخصائص الكوانتية الأكثر تميزًا، وهو ما يسمى بالتشبيك intrication. فعندما يتشابك جسيمان نحصل دائمًا على النتيجة نفسها (أو على نتيجة مكملة) عندما نقوم بالقياس نفسه على كل منهما. وعلى الرغم من أن نتيجة قياس ما لا تكون محددة مسبقًا في الفيزياء الكمومية، فإن التشبيك يعطي بالتالي "الصدفة ذاتها" لقياسين ينجزان بشكل مستقل من قبل شخصين مختلفين، جرت العادة كما رأينا على تسميتهما بأليس وبوب. إضافة إلى ذلك، فإن هذه العلاقات تظل قائمة مهما كانت المسافة التي تفصل أليس وبوب في المكان وفي الزمان، فيمكن لكل منهما أن يجهل أين يوجد الآخر. فيمكن أن يكونا في المستقبل أو في الماضي، أو فيما تسميه النسبية "في مكان وزمان آخرين" (أي مفصولين بحيث أن أية إشارة لا يمكن أن تمر من أحدهما إلى الآخر). إن هذا المفهوم ليس جديدًا، بل يعود إلى مؤسسي الميكانيك الكمومي، مثل شرودنغر وأينشتين، لكن مؤخرًا فقط بدأ العلماء الفيزيائيون والمعلوماتيون يلحظون خصوبته العظيمة في مجال المعلوماتية. ويستثمر النقل الكوانتي عن بعد التشبيك بطريقتين. بداية كـ "قناة للنقل عن بعد". فإذا كان أليس وبوب يملكان زوجًا من الجسيمات المشبكة، فيمكنهما القيام بالنقل عن بعد عن طريق هذه القناة: فالجسم، أو بشكل أدق حالته الكوانتية، ينحل في موضع من الفضاء ليتحول في موضع آخر إلى طاقة. فإذا تساءلنا من أين يمرُّ هذا الجسيم؟ فإن العلماء سيقولون لنا إن السؤال خاطئ أساسًا. فهو لا يمر عبر أي مكان، على الأقل في فضائنا العادي. وفي الواقع، فإن هذه الحالة الكوانتية تكون قد انتقلت عن بعد بفضل الرابط القائم بواسطة الصلات الكوانتية. يتدخل التشابك أيضًا خلال "قياس بل" الذي تقوم به أليس للحصول على المعلومة الكلاسيكية التي سوف ترسلها إلى بوب لتسمح له بإعادة تكوين وخلق حالة الجسيم الأصلي. فبشكل من الأشكال تسأل أليس هذه الحالة كما والجسيم من بين الزوج الذي تم تشبيكه الذي تملكه: "ما هي حالتك النسبية؟". ففي الفيزياء الكلاسيكية من المستحيل قياس كمية نسبية لمنظومتين، مثل الزاوية بين سهمين، دون الحصول بشكل متزامن على المعلومة حول حالة كل من المنظومتين (حول توجه كل من السهمين). ولكن ذلك ممكن في الفيزياء الكوانتية بفضل عملية التشبيك! ففي هذه الحالة، أي في المنظومتين اللتين يتم عليهما قياس بل، يكون الجسيم المراد نقله عن بعد والجسيم من الزوج المشبك الذي تأسره أليس، مستقلين في البداية. ولكن بعد القياس تصبح هاتان المنظومتان مشبكتين بالضرورة. فوتون واحد في الفيزياء الكوانتية، يغير القياس بشكل عام حالة المنظومة المقاسة، المؤلفة هنا من الجسيمين. ويقود هذا التغيير في هذه الحالة تشابك الجسيمين طيلة صيرورة القياس لأن معرفة "حالتهما النسبية" تحدد العلاقة بين الإجاباتين اللتين يعطيهما كل من الطرفين. وفي الوقت نفسه تكون الحالة الكوانتية التي نرغب في نقلها قد دمِّرت. فلكي نقوم بعملية النقل عن بعد يلزمنا جسيمات متشابكة. فأين نجد هذه الجسيمات؟ لم يطرح أخصائيو البصريات الكوانتية هذا السؤال طيلة سنوات. لكنهم بعد الثمانينيات والتجارب الرائدة لكل من جون كلوزر وآلان آسبكت، بدأوا يعرفون كيف ينتجون ببساطة أزواجًا من الفوتونات المتشابكة. وتشتمل الطريقة الأكثر شيوعًا على إرسال حزمة ليزرية في بلورة ذات خصائص ضوئية خاصة، توصف بأنها "غير خطية". فعندما تكون المعاملات التجريبية معدة بشكل جيد، يتحول عدد من هذه الفوتونات في الحزمة الليزرية إلى أزواج من الفوتونات المشبكة، بطول موجة أكبر. مع ذلك كان استخدام الفوتونات كحوامل للنقل عن بعد يطرح إشكاليات تجريبية كبرى. فإنجاز قياس بل ضوئي يتطلب أن يتفاعل الفوتونان. غير أن هذه الجسيمات معروفة بعدم تفاعلها عمليًا! ففي الفراغ تتصادم الفوتونات دون أن تتفاعل. أما في المادة، الشفافة بالطبع، فإن الفوتونات لا تتفاعل إلا بشكل غير مباشر. فالحقل الكهربائي لكل فوتون يؤثر على إلكترونات المادة، التي تؤثر بدورها من خلال رد الفعل على الحقل الكهرمغنطيسي للفوتون الآخر. لكن الحقل الكهربائي لفوتون واحد ضعيف جدًا بحيث لا يسمح بتفاعل حقيقي مع فوتون آخر. في منتصف التسعينيات، اقترح ساندو بوبسكو حلاً لهذه المشكلة. وهذه الفكرة هي التي سمحت على بساطتها لفريق فرانسيسكو دو مارتيني من جامعة روما بتحقيق أول تجربة للنقل عن بعد كوانتيًا في منتصف عام 1997. حيث كان يكفي أن ترمِّز أليس الحالة الكوانتية التي ترغب في نقلها على فوتون من الفوتونين المتشابكين اللذين لديها. ويستخدم هذا الترميز بالطبع سمة للفوتون مختلفة عن الصفة المشبكة مع الفوتون التوأم له. فعلى سبيل المثال، إذا كان أليس وبوب يتقاسمان زوجًا من الفوتونات إصداراتهما متشابكة، فإن أليس تستطيع أن ترمز أو تشفر الحالة التي يجب نقلها عن بعد في استقطاب فوتونها. ولا يتطلب قياس بل عندها اقتران سوى كميتين فيزيائيتين لنفس الفوتون، وهو أمر أسهل بكثير من اقتران فوتونين. قياس بل إن استقطاب وانبعاث فوتون يمكن اقترانهما بسهولة بفضل عازل الاستقطاب، وهو جهاز لا يسمح بمرور سوى الفوتونات المستقطبة باتجاه معطى، ويعكس بالكامل الفوتونات المستقطبة بشكل عمودي. إن انبعاث فوتون مستقطب في الاتجاه المطلوب لا يتأثر، في حين أن الاستقطاب العمودي يؤدي إلى انحراف الانبعاث بزاوية 180 درجة (نقول عندها إن الفوتون منعكس). نستطيع بالتالي القيام بقياس بل بشكل كامل باستخدام عوازل الاستقطاب تليها عدادات الفوتونات. إن هذا الترميز على الفوتون نفسه للحالة الكوانتية الأصلية وللتشبيك مع الفوتون التوأم، حتى وإن كان يسمح بتحقيق نقل عن بعد بنجاح تصل نسبته إلى 100%، لم يكن كافيًا تمامًا. وفي الحقيقة، لا يمكن للحالة الكوانتية المراد نقلها أن تكون مجهولة من قبل الذي يحضر الزوج المتشابك من الفوتونات لأن على هذا الأخير أن يوجه أو يدير استقطاب أحد فوتوني الزوج تبعًا لهذه الحالة. ولهذا لم يكن العلماء على المسار النظري تمامًا للمخطط المقترح في البداية. إضافة إلى ذلك، فإن هذه الطريقة لا تسمح لبوب بأن ينقل بدوره الحالة التي لاحظها، الأمر الذي يستبعد بالتالي عددًا من التطبيقات على النقل عن بعد كوانتيًا (مثال ذلك التجارب التي بدأت بشكل مكثف على الهاتف المحمول الكوانتي قيد الاختبار). كان من الضروري بالتالي العثور على وسيلة لكي يتفاعل فوتونان بطريقة تكون أقرب ما يكون للمخطط الأصلي للنقل عن بعد. وهذا ما قام به في نهاية عام 1997 أنطون زيغلر وفريقه. وتعود الفكرة التي اعتمد عليها في الأساس إلى هارلد وينفرتشر، وهي ترتكز على ملاحظة أننا إذا كنا نريد القيام بقياس بل جزئي، أي أن احتمال نجاحه أقل من 100%، وغير كامل، فإن مرآة بسيطة نصف شفافة تكون كافية. ونعرف في الحقيقة أنه إذا وقع فوتونان لهما طول الموجة نفسه والاستقطاب نفسه على الوجهين المختلفين لمرآة من هذا النوع في الوقت نفسه، فإن الصيرورة التي يجتاز بها الفوتونان المرآة تتداخل بطريقة تدميرية مع تلك التي من خلالها ينعكس فيها كلا الفوتونين. وهكذا، فإن الفوتونين يُكشفان بشكل إجباري من الجانب نفسه للمرآة. وبشكل أعم، فإن ذلك يبقى صحيحًا طالما كان الفوتونان الساقطان في حالة استقطاب متناظر (أي لا يتغير شيئ إذا بدلنا الفوتونين). وعلى العكس، إذا كان الفوتونان في حالة غير متناظرة الاستقطاب في البدء فإنها ينبعثان عندها كل منهما من أحد طرفي المرآة. ثمة في هذا الوضع حيث يكون استقطاب الفوتونات إما عموديًا أو أفقيًا أربع حالات ممكنة فقط: ونتحدث عندها عن حالات بل الأربع التي يجب تمييزها. غير أن واحدة فقط من بين هذه الحالات غير متناظرة. وهذا الاحتمال الأخير قابل بالتالي لقياس بل ضوئي. فعندما نضع كاشفين على أحد طرفي مرآة ويكشفان في اللحظة نفسها فوتونًا، فإننا نعرف أننا ضمن هذه الحالة. فقياس بل هذا بالتالي قياس جزئي طالما أنه لا ينجح سوى مرة من أربع مرات وسطيًا. وهكذا فقد اشتملت التجربة النمساوية هذه المرة في النقل عن بعد على ثلاثة فوتونات بشكل فعلي، فوتون أصلي وزوج من الفوتونات المتشابكة، لكنه زوج غير كامل طالما أننا لا نستطيع نقل سوى ربع الفوتونات وسطيًا، وذلك بنسبة من النسَخ المطابقة تصل إلى 85%. وهذا لا يعتبر سيئًا أبدًا. وتم تحسين الطريقة في عام 2002 على يد فراسيسكو دو مرتيني وفريقه، حيث أوصلوا احتمال نجاح قياس بل إلى 50%. وحصل ذلك أيضًا بواسطة مرآة نصف شفافة، لكن الكشافات كانت تقيس أكثر استقطاب الفوتونات المكتشفة من على جهتي المرآة. وقد نجح هذا الفريق عندها بتمييز حالتين من الحالات الأربع الممكنة بدلاً من حالة واحدة. ويعتقد العلماء أنه من غير المرجح أن يستطيع أحد الوصول إلى نتيجة أفضل، فالنظرية الكوانتية تشير إلى أنه مع جهاز ضوئي خطي، مثل المرآة نصف الشفافة، لا يمكن بحال من الأحوال القيام بـ "قياس بل" يكون فعالاً في كل مرة. من المنفصل إلى المستمر قد تجعلنا هذه النتائج نعتقد أنه كان يجب استخدام تجهيزات ضوئية غير خطية لقياس بل. وهذا ما حاول القيام به في عام 2001 فريق العالم يانوا شيه من جامعة ماريلاند في بالتيمور، باستخدام التفاعل في بلورة غير خطية بين فوتونين كانا مستقلين في البداية. مع ذلك كان هذا التفاعل عمليًا ضعيفًا جدًا جدًا. فكان احتمال نجاح قياس بل لا يتجاوز 10-10. وقام شيه لكي ينجز التجربة في زمن معقول بإرسال مليارات الفوتونات في اللحظة نفسها والتي تحمل كلها الحالة نفسها المراد نقلها عن بعد. ووافق معاملات تجربته بحيث ينجح قياس بل مرة من كل مائة مرة وسطيًا. كانت تلك محاولة جيدة لكن كان من الصعب البناء عليها والاستمرار. وفي الواقع، من أجل إنجاز نقل عن بعد تحديدي déterministe، ينجح في كافة المحاولات، كان لا بد من تغيير المقاربة بشكل جذري. وهذا ما كان قد قام به في عام 1998 جيف كيمبل وفريقه من معهد التكنولوجيا في كاليفورنيا، حيث نقلوا عن بعد "متحولات مستمرة" محمولة بواسطة حزم ضوئية بدلاً من نقل حالات محددة منفصلة محمولة بواسطة فوتونات فردية، ولكن حصل ذلك على حساب تشوه كبير في نوعية النسخ التي تم الحصول عليها. وهذا أيضًا ما نجح في الوصول إليه بشكل مواز في عام 2004 فريق رينر بلات، من جامعة إينسبروك، وفريق ديفيد وينلاند من المعهد الوطني للتكنولوجيا في كولورادو، إنما هذه المرة مع ذرات وليس فوتونات. التطابقية fidélité النموذجية كانت نتائج الفريقين التي نشرت في العدد نفسه من مجلة Nature تحقق قفزة جديدة تبرر الاهتمام والحماس الذي قوبلت به بين أخصائيي الفيزياء الكوانتية كما وبين الجمهور عمومًا. فمن جهة، وبالدرجة الأولى، كانت التجربتان قد حققتا، على الرغم من اختلافهما التقني الطفيف إنما تطابقهما من حيث المبدأ، النقل الكوانتي عن بعد وفق المخطط المطلوب تمامًا، أي على الطلب كما يمكن أن يقال. فقياس بل كان يعمل هنا في كافة الحالات، ولم يعد من المهم اختيار المعطيات بعد بدء التجربة على عكس التجارب السابقة. هذا لا يعني بالطبع أن هاتين التجربتين كانتا كاملتين. ففي الحالتين لم يكن تطابق الحالة المنقولة عن بعد سوى بنسبة 75%. ومع ذلك فهي نسبة مرتفعة، وهي تبرهن بشكل خاص أن النقل عن بعد قد تم فعليًا بفضل القناة الكوانتية. ومع هذه التجارب أصبح بإمكان أليس وبوب أن يحضرا حالة تشابك مقدمًا، ثم يطلقان عملية النقل الكوانتي عن بعد عندما يرغبان. ووفق هذه الصيرورة يتحقق قياس بل كامل (أي أنه يتم تمييز الحالات الأربع)، وتعاد تمدية (أي الإعادة إلى الحالة المادية) الحالة البدئية على ذرة أخرى يمكننا استخدامها نظريًا على الأقل في صيرورة كوانتية جديدة. من جهة أخرى، فقد أدخلت هذه التجارب النقل الكوانتي إلى المجال المادي بحصر المعنى. فعلى عكس الفوتونات، فإن للذرات ميل طبيعي للتفاعل مع محيطها. لهذا فإن إحدى الصعوبات الرئيسية تكمن في عزلها، بحيث لا تتعرض حالاتها الكوانتية إلى أي تغير أو تعديل بسبب تفاعلات غير مرغوب فيها مع المحيط. ويجب كذلك تلافي اختفاء زوج الذرات بسرعة. بل ويجب أيضًا أن يتمكن العلماء من السيطرة على الذرات بدقة كافية من أجل إقامة اقترانات قوية بينها، وذلك في لحظة قياس بل على سبيل المثال، الأمر الذي يمثل تحديًا متعارضًا مع شرط العزل الشديد. استخدم الفريق النمساوي ثلاثة أيونات من الكالسيوم، مخزنة في "فخ للأيونات" على مسافة 5 ميكرومتر الواحدة عن الأخرى. ويتم ترميز الحالة المراد نقلها على حالتي طاقة لهذا الأيون، وتكون الحالة الأساسية حالة فائقة الاستقرار، حيث مدة حياتها من رتبة ثانية واحدة. ويتم الانتقال بين هذين المستويين بدفقات من اللايزر من الضوء الأحمر، بطول موجة 0.729 ميكرومتر، الأمر الذي يسمح بضبط الذرات وتحريكها كل منها بمعزل عن الأخرى. وللتأكد من أن دفقات اللايزر هذه لا تؤثر سوى على الأيون نفسه في كل مرة، قام المجربون بوضعها في البؤرة بشكل دقيق جدًا بينما طوروا تقنية خاصة سميت "حجب" الأيونات الأخرى. أيونات البيريليوم تم إنجاز العمليات التي تتطلب تفاعل أيونين، من أجل إيجاد زوج متشابك من الأيونات كما ومن أجل قياس بل، بمساعدة متوالية مناسبة من دفقات الليزر. ولم تكن الأيونات تقرن بشكل مباشر، إنما عبر وساطة مقدار مشترك بينها هي الثلاثة، وهو موضع مركز كتلة المجموعة. يمكن لزوج الأيونات المشتبكة أن يحفظ لمدة من رتبة مائة ميلي ثانية، في حين أن صيرورة النقل عن بعد بحصر المعنى (قياس بل ونقل المعلومة والعملية على الجسم في كاشف بوب) لا تتطلب سوى 2 ميليثانية. ولهذا فنحن قريبون جدًا بالفعل من الفكرة النظرية التي وفقها يشكل التشابك بالفعل مصدرًا، يمكن أن نستخدمه عندما يكون ذلك ضروريًا، من أجل القيام بالنقل عن بعد على سبيل المثال أو في تقنيات وتطبيقات أخرى كثيرة. تميزت تجربة الفريق الأمريكي بأنها استخدمت ثلاثة أيونات بيريليوم. وتم ترميز الحالة المراد نقلها عن بعد على مستويي طاقة من بنية سويات الطاقة في الذرة في الحالة الأساسية لهذا الأيون. بالمقابل، فإن اقتران أيونين وهو أمر ضروري من أجل إنتاج التشبيك و"قياس بل" ارتكز على طريقة تنقل فيها الأيونات ضمن الفخ. وأخيرًا، لم يلجأ الأمريكيون إلى طريقة الحجب من أجل إرسال الأيونات بشكل فردي، بل اعتمدوا على تقنية انتقال الأيونات في مناطق منفصلة في "فخ للأيونات متعدد القطاعات". وعلى الرغم من أن الأيونات المتشابكة، في هاتين التجربتين لنقل الذرات عن بعد، لم تكن متباعدة عن بعضها سوى ببضعة ميكرومترات، فليس ثمة ما يعارض نظريًا زيادة هذه المسافة. إن التقدم المستمر في بناء أفخاخ للأيونات سيسمح لنا أن نأمل بتحقيق زيادة المسافة هذه. إضافة إلى ذلك، يعود الفضل إلى هاتين التجربتين في إنجاز أفخاخ الأيونات التي تعتبر اليوم كأحد العوامل الرئيسية في إنجاز الحواسب الكوانتية مستقبلاً. ولهذا فقد رأى العلماء في هاتين التجربتين أهمية أبعد من مجرد البرهان على إمكانية تحقيق النقل الكوانتي عن بعد للذرات. ما هو مستقبل النقل عن بعد؟ ماذا بعد نقل الذرات عن بعد؟ هل سيكون من الممكن نقل الأجسام الأكثر تعقيدًا؟ جزيء أو فيروس أو حتى إنسان؟ وما هي حدود النقل عن بعد؟ للإجابة عن ذلك لنعد إلى أسس النقل عن بعد كوانتيًا. فلنقل الأجسام لا بد من توفر "قناة نقل عن بعد" غير مادية. إنها منظومة من الأجسام المتشابكة. غير أن حجم الأجسام التي يمكن أن تتشابك محدود من خلال الظاهرة المسماة اللاإتساقية décohérence، وهي ظاهرة تصف المرور من العالم الكوانتي، عالم اللامتناهي في الصغر، إلى العالم الكلاسيكي، عالم التجربة الحسية. في نهاية التسعينيات بين فريق أنطون زيغلر أن الفوليرين، وهي عبارة عن جزيئات كروية مؤلفة من نحو ستين ذرة من الكربون، يمكن أن تسلك كأجسام كوانتية. من هنا فإن خطوة واحدة فقط تفصلنا عن تشبيك الفوليرين ثم نقلها عن بعد كوانتيًا. لكن مع هذا، فإن الفوليرين هي جزيئات كبيرة الحجم ومكونة من ذرات متطابقة لا تتحرك بعضها بالنسبة للأخرى. فهي ليست نموذجية بالنسبة لمعظم الجزيئات التي تسهل تخلخلاتها الداخلية اللاإتساقية. ولكي نستطيع أن ننقل عن بعد جزيء بروتين أو فيروسًا أو كائنًا بشريًا، وهو كائن مؤلف من ألف مليار مليار مليار ذرة، فإننا سنواجه مشكلة جديدة تتمثل في كمية المعلومات التي يجب معالجتها. ويجب أن نذكِّر أنه لم يتم حتى الآن النقل الكوانتي سوى لخاصية كوانتية واحدة مزدوجة محمولة على فوتون أو على ذرة. ولهذا يبقى نقل الأجسام المحسوسة من مجال الخيال العلمي. لكن على الرغم من أن النقل عن بعد في الخيال العلمي، وفي برامج مثل ستار تريك، حيث نرى نقلاً آنيًا للمادة، أمر غير ممكن، فإن النقل الكوانتي للذرات يقترب كثيرًا مما نجده في برامج الخيال العلمي من حيث الفكرة والمنهج. فالمادة تظل في مكانها، في الكاشف المصدِّر، كما يجب أن تكون موجودة أيضًا في الجانب الآخر في الكاشف المتلقي، لكن البنية المدرجة في "المادة المصدرة" تنحلُّ، بينما تكتسب "المادة المتلقية"، التي كانت في البدء بلا أي بنية، تكتسب تحديدًا البنية المنقولة عن بعد. إن هذا التقسيم بين "مادة – طاقة" من جهة، و"بنية – حالة كوانتية" من جهة أخرى، كان قائمًا منذ أرسطو: بما يعرف بالجوهر المادي والشكل. فالجوهر المادي لا ينقل، لكن يمكن فعلاً نقل الشكل. توفي آشر بيريز أحد أعضاء الفريق الذي اقترح في عام 1992 فكرة النقل الكوانتي للمادة، في أول كانون الثاني 2005، وكان يحب دائمًا في مثل هذه المناسبة عند الحديث عن آفاق النقل الكوانتي للمادة ذكر إجابة قصيرة رد بها على سؤال أحد الصحفيين حول ما إذا كان بالإمكان نقل الفكر إضافة إلى الجسد، فأجاب: "لا، لا يمكننا أن ننقل سوى الفكر!". |
|
|