|
الإلياذة أو قصيدة القوة
إنَّ البطل الحقيقي، الموضوعَ الحقيقي، مركزَ الإلياذة هو القوة؛ القوة التي يستعملها الرجالُ، القوة التي تُخضِع الرجالَ، القوة التي تنقبض أمامها أجسادُ الرجال. فالنفس البشرية لا تفتأ تظهر لهم وهي تغيِّرها علاقاتُها مع القوة، تجرُّها وتعميها القوةُ التي تعتقد النفسُ امتلاكَها، تنحني تحت وطأة القوة التي تخضع لها. فالذين كانوا قد حَلَموا بأن القوة أصبحت، بفضل التطور، شأنًا من شؤون الماضي، أصبح في إمكانهم أن يروا في هذه القصيدة وثيقةً؛ والذين يعرفون كيف يميزون القوةَ، اليوم كما في الماضي، في مركز التاريخ البشري بِرُمَّته يجدون فيها أجمل المرايا وأصفاها. القوة هي ما يُحوِّل أيَّ شخص يخضع لها إلى شيء. فعندما تمارَس حتى نهايتها، تجعل الإنسانَ شيئًا بالمعنى الأكثر حرفية، لأنها تجعله جثةً. يكون هناك شخصٌ ما، وإذْ بعد لحظة ليس هناك أحد. إنها لوحةٌ لا تملُّ الإلياذة من تقديمها لنا:
... كانت الخيولُ البطل شيءٌ يُجَرُّ خلف عربة في الغبار:
... في كل جهة، كانت الخيولُ إنَّ مرارةَ مثلِ هذه اللوحة نتذوقها صِرْفةً، دون أنْ يَعِنَّ أيُّ خيالٍ مُعَزٍّ يُزيلُها ولا أيُّ بقاء مواسِ ولا أيةُ هالةِ مجدٍ أو وطنٍ باهتة.
روحُه خارجَ أعضائه طارت، ذهبتْ إلى هادِس [إله الجحيم]، ما هو جارح أكثر أيضًا، بقدر ما تكون المقارنةُ مؤلمةً، الاستذكارُ المفاجئ، الذي لا يلبث أنْ يُمْحَى، لعالَمٍ آخر، عالَمِ السلام والعائلة البعيد والعابر والمؤثر، هذا العالَم الذي يكون فيه كلُّ رجُل مُعَوَّلاً عليه في نظر من يحيطون به.
كانت تصرخ على خادماتها ذوات الشعر الجميل في المنزل لا شك أنَّ ذلك المسكينَ كان بعيدًا عن الحمَّامات الساخنة. ولم يكن الوحيد. فالإلياذة كلُّها تقريبًا تدور بعيدًا عن الحمَّامات الساخنة. وقد جرت دائمًا الحياةُ الإنسانية كلُّها تقريبًا بعيدًا عن الحمَّامات الساخنة. القوة التي تقتل هي شكْلٌ مختصر وبدائي من القوة. فكم تتنوع القوة الأخرى في طرائقها وكم تُفاجئ في آثارها، إنها القوة التي لا تقتل؛ أي القوة التي لم تقتلْ بعد. ستقتل بالتأكيد، أو ربما ستقتل، أو هي معلَّقة فقط بالكائن بحيث يمكن أنْ تقتلَ في أية لحظة؛ وفي جميع الأحوال تُحوِّل الإنسانَ إلى حجر. ومن سلطة تحويل الإنسان إلى شيء بجعله يموت تنبثق سلطةٌ أخرى مدهشة أكثر مما ينبغي ألا وهي سلطة صنع شيء من إنسان مازال في قيد الحياة. إنه حي، فيه روح؛ مع ذلك فهو شيء. غريب أنْ يكون لشيء روح؛ حالة غريبة للروح. من يقول كم يلزمها في كل لحظة لكي تتكيف معه وتلتوي وتنطوي على نفسها؟ فهي لم تُخْلَقْ لتسكنَ شيئًا؛ وعندما تُرغَم على ذلك لا يعود هناك شيء فيها إلاَّ يعاني من العنف. إنَّ الرجل الأعزلَ العاريَ الذي يصوَّب عليه سلاحٌ يصبح جثةً قبل أنْ يُلْمَسَ. منذ لحظة كان يفكر ويتصرف ويأْمل:
كان يفكر ساكنًا. يقترب الآخرُ، مأخوذٌ بمجامع نفسه لكنه فهِمَ سريعًا أنَّ السلاحَ لا يحيد، ومع أنه مازال يتنفس، لم يعدْ سوى مادة، ومع أنه مازال يفكر، لم يعدْ في وسعه التفكير في شيء:
هكذا تكلَّم هذا الولدُ اللامع لـﭙريام[3] عندما يتوسل غريبٌ أعزل إلى محارب خارجَ أية معركة فإن ذلك الغريب غيرَ محكوم عليه بالموت في النتيجة؛ ولكنَّ استعجالَ المحارب قد يكفي ليقضيَ على حياة الغريب. هذا يكفي لكي يفقدَ جسدُه خاصيةَ الجسد الحي. فقطعة الجسد الحي تُعبِّر عن الحياة قبل كل شيء من خلال الانتفاضة؛ إنَّ رِجْل الضفدع تنتفض عند الصدمة الكهربائية؛ والمنظر القريب لشيء مروِّع أو مرعب أو ملامسته يُحْدِث انتفاضةً في أي كتلة من اللحم أو الأعصاب أو العضلات. إنَّ مثل هذا المتوسِّل وحده فقط لا يهتز ولا يرتعش؛ إذْ لم يعدْ يجوز له ذلك؛ ستلمس شفتاه الموضوعَ الأكثر رعبًا في نظره:
لم يرَ أحدٌ ﭙريامَ الكبيرَ يدخل. يتوقف، إنَّ مشهد رجُلٍ يُختزَل إلى هذه الدرجة من المصيبة يُجمِّد مثلما يُجمِّد منظرُ الجثة إلى حد ما:
مثلما عندما تستولي الفاجعةُ القاسية على أحدهم، عندما في بلده ولكنْ لم تكنْ سوى لحظة، وسريعًا يُنسى، حتى، حضورُ الرجل الشقي:
يقول. والآخرُ، وهو يفكر بأبيه، يرغب أنْ يبكيَه؛ لم يدفعْ أخيلُ أرضًا، بحركةٍ منه، العجوزَ المتشبثَ بركبتَيه عن قسوة قلب منه؛ فكلام ﭙريامَ وهو يتذكر أباه العجوزَ أثَّر بهما إلى حد البكاء. لقد وجد نفسَه، ببساطة، حرًا في مواقفه وحركاته إلى درجة أنَّ الذي كان يلمس ركبتَيه ليس رجُلاً متضرعًا إنما جسمٌ لا حِراكَ به. إنَّ للبشر من حولنا، بمجرَّد حضورهم، سلطةَ إيقافِ كل حركة من الحركات التي يشرع بها جسدُنا وكبحِها وتعديلِها، وهذه السلطةُ من شأنهم وحدهم؛ فعابرُ السبيل لا يُغيِّر اتِّجاهَ سيرنا عن طريقٍ بالطريقة نفسِها التي تُغيِّرها لافتةٌ إعلانية، ولا ينهض المرءُ ولا يمشي ولا يعود يَجلس في غرفته عندما يكون وحيدًا بالطريقة نفسِها التي يفعلها عندما يكون عنده زائر. ولكنَّ هذا التأثيرَ الغامضَ للحضور البشري لا يمارسه الرجالُ كحركة نفاذ صبرٍ يمكن أنْ تَحْرِمَ من الحياة حتى قبل أنْ يكونَ لأي خاطرٍ الوقتُ بأنْ يحكم عليهم بالموت. أمامهم، هُم، يتحرك الآخرون وكأنهم هُم غير موجودين؛ وهُم بدَورِهم في الخطر الذي يحيق بهم يتحولون في لحظة إلى لا شيء، يحاكون العدم. عندما يُدفعون يسقطون، وعندما يسقطون يبقون أرضًا مادامت المصادفةُ لم تُدخِلْ في ذهن أحدٍ ما فكرةَ إنهاضهم. ولكنْ عندما يتم إنهاضُهم في نهاية المطاف ويُكرَّمون بكلام ودِّي لا ينتبهون إلى أنْ يأخذوا هذه القيامةَ على محمل الجد ويجرؤوا على التعبير عن رغبة ما؛ فقد يعيدهم صوتٌ غاضب حالاً إلى الصمت: يقول، ويرتجف العجوزُ ويخضع. فالمتضرعون، على أية حال، ما إنْ يُستجاب لهم، يعودون بشرًا كغيرهم. إلاَّ أنَّ هناك كائناتٍ أشقى يصبحون أشياءَ طيلة حياتهم دون أنْ يموتوا. ليس هناك في نهاراتهم أيُّ لعب ولا أي خلاء ولا أي حقل فارغ لشيء قد يأتي من ذاتهم. فهم ليسوا بشرًا يعيشون حياةً أقسى من الآخرين ويصنَّفون اجتماعيًا أدنى من الآخرين؛ إنما هم صنف آخر من البشر، حلٌّ وسط بين الإنسان والجثة. فأنْ يكون الكائنُ الإنساني شيئًا يعني أنَّ هناك تناقضًا من الناحية المنطقية؛ ولكنْ عندما يتحول المستحيل إلى واقع فإنَّ التناقض يصبح تمزقًا في النفس. يتطلع هذا الشيءُ في كل لحظة إلى أنْ يكون رجُلاً، امرأةً، ولا يبلغ ذلك في أية لحظة. إنه موت يمتد على طول الحياة، حياةٍ جمَّدَها الموتُ طويلاً قبل أنْ يقضيَ عليها. إنَّ العذراءَ ابنةَ أحدِ الكهنة، ستعاني هذا المصيرَ:
لن أسلِّمَها. فقد أخذَتْها الشيخوخةُ من قبلُ، ستعاني منه المرأةُ الشابة، الأم الشابة، زوجة الأمير:
رُبَّما يومًا ما في أرغوس
Argos سوف تحيك النسيجَ لأخرى ويقاسيه الطفلُ وريثُ الصولجان الملكي:
سيذْهبْنَ بلا شك إلى عمق السفن المجوَّفة، إنَّ مصيرًا كهذا، في نظر الأم، مرعب لطفلها كالموت نفسه؛ يتمنى الزوجُ لو أنه مات قبل أنْ يرى زوجتَه تخضع لهذا المصير؛ يدعو الأبُ أنْ تأتيَ كلُّ مصائب على الجيش الذي أخضعَ ابنتَه لهذا المصير. ولكنْ عند من وقع عليهم، يمحو القدَرُ القاسي جدًا اللعناتِ والثوراتِ والمقارنات والتأملات في المستقبل والماضي ويكاد يمحو الذاكرة. ليس على العبد أنْ يكون وفيًا لمدينته وأمواتها. إنه عندما يتألم أو يموت واحدٌ من هؤلاء الذين جعلوه يفقد كلَّ شيء والذين دمَّروا مدينتَه وقتلوا ذويه أمام عينيه، عند ذلك يبكي العبد. ولِمَ لا؟ في حين أنَّ البكاء وحده مسموح له. بل مفروض عليه. ولكنْ ألا تكون الدموع، في العبودية، على وشك أنْ تجريَ ما إنْ تستطيع ذلك دون أنْ تخضع للعقاب؟
تقول باكيةً، والنساءُ تئنّ، لا يُسمح للعبد أنْ يُعبِّرَ عن أي شيء مهما كانت المناسبةُ، اللهمَّ إلاَّ عمَّا يمكن أنْ يسرَّ سيِّدَه. ولهذا، إنْ كان هناك من شعور يمكن أنْ يظهر وينعشه قليلاً في حياة كئيبة إلى هذا الحد فلن يكون سوى حُبِّ السيِّد؛ وكلُّ طريق آخر مسدودٌ أمام نعمة المحبة، كمَثَلِ حصانٍ مكدَّن تسدُّ عليه حِبالُ الكدْن والرَّسَنُ واللِّجامُ كلَّ الطرق إلاَّ طريقًا واحدًا. وإذا ما لاحت، بمعجزةٍ ما، بارقةُ أملٍ في أنْ يصبحَ [ذلك العبدُ] يومًا ما، وبِمِنَّةٍ ما، شخصًا [معتبَرًا]، فإلى أيِّ حد يمكن أنْ يُحتمَلَ الامتنانُ والحبُّ لأناسٍ لا بدَّ لماضٍ معهم مازال قريبًا أنْ يوحيَ بالرعب:
زوجي الذي أعطاني له أبي وأمي المحترمة، لا يفقد المرءُ أكثر مما يفقده العبدُ؛ فهو يفقد كلَّ حياة داخلية. لا يستعيد منها شيئًا زهيدًا إلاَّ عندما تلوح إمكانيةُ تغيير المصير. هذا هو جبروت القوة: لقد ذهب هذا الجبروتُ بعيدًا كجبروت الطبيعة. فالطبيعة أيضًا، عندما تدْخلُ الحاجاتُ الحيوية في اللعبة، تمحو كلَّ حياة داخلية وحتى ألمَ الأم:
لأنه حتى نيوبي
Niobé
ذات الشعر الجميل فكَّرَتْ بالأكل، لم يسبقْ قطُّ التعبيرُ بمثل هذه المرارة عن بؤس الإنسان، ذلك البؤس الذي يجعله عاجزًا حتى عن الشعور ببؤسه. إنَّ القوةَ التي يستعملها الآخرُ قاهرةٌ للنفس مثل الجوع المفرِط، عندما ترتكز على سلطة دائمة في الحياة والموت. إنها جبروتٌ باردٌ وقاسٍ كبرودته وقسوته عندما تمارسه المادةُ الجامدة. والإنسانُ الذي يكون الأضعفَ في أي مكان يكون في قلب المدن وحيدًا أيضًا، أكثرَ وحدة من وحدة الإنسان الضائع في وسط الصحراء.
هناك برميلان موضوعان على عتبة زيوس، كذلك تسحق القوةُ بلا رحمة، وكذلك تكسر، بلا رحمةٍ، من يمتلكها أو يعتقد امتلاكَها. إذْ لا أحد يمتلكها فعلاً. فالبشر لا ينقسمون، في الإلياذة، إلى مهزومينَ وعبيدٍ ومتضرعين في جهة، وإلى منتصرين وقادةٍ في جهة أخرى؛ ليس فيها إنسانٌ واحد لم يُجبَرْ في لحظة ما على أنْ ينحنيَ تحت وطأة القوة. فالجنود، على الرغم من كونهم أحرارًا ومسلَّحين، لا تقلُّ معاناتُهم من الأوامر والإهانات:
كلُّ امرئٍ من الشعب كان يراه ويصرخ في وجهه، لقد دفع ثيرسيتُ Thersite ثمنَ كلماته غاليًا مع أنها معتدلة وتشبه الكلماتِ التي نطقَ بها أخيلُ.
ضربَه؛ فانحنى له، وجرت دموعه سريعًا، إلاَّ أنَّ أخيلَ نفسَه، ذلك البطلَ صاحِبَ الكبرياءِ، الذي لا يُهزَم، يَظهَر لنا منذ بداية القصيدة باكيًا من الإهانة ومن ألم الضعف بعد أن اختُطِفَتْ أمام عينيه المرأةُ التي كان يريد أنْ يتَّخِذَ منها زوجةً له دون أنْ يجرؤَ على الحيلولة دون ذلك.
... لكنَّ أخيلَ لقد أهان أغاميمنونُ أخيلَ بكلام مقصود ليُظهِرَ أنه هو السيد:
... كذلك لتعلم ولكنْ بعد عدة أيام يبكي القائدُ الأعلى بدَوره ويُجبَر على الخضوع والتضرع ويتألم من قيامه بذلك عبثًا. إنَّ ذُلَّ الخوفِ لم يرحمْ هو الآخرُ أحدًا من المقاتلين. فالأبطال يرتعدون خوفًا كغيرهم. إنَّ تحدِّيَ هكتورَ كافٍ لترويع جميع اليونانيين دون استثناء، إلاَّ أخيل وذويه الغائبين:
قال، وسكت الجميع والتزموا الصمت؛ ولكنْ ما إنْ يتقدم أجاكسُ Ajax حتى يغيِّرَ الخوفُ جهتَه:
الطرواديون، رعشةُ هلعٍ توهن أعضاءهم؛ وبعد يومين، يحسُّ أجاكسُ Ajax، بدَوره، بالرعب:
زيوسُ الأبُ، من الأعالي يثير في قلب أجاكسَ الخوفَ. لقد حصل لأخيلَ نفسِه ذات مرة أنِ ارتجفَ وأخذَ يئنُّ من الخوف أمام نهر، حقًا، وليس أمام رجُل. ليس هو وحده، فالجميع يَظهَرون لنا مهزومين قطعًا في لحظة ما. إنَّ القدَرَ الأعمى يساهم أكثر من الشجاعة في تحتيم النصر، ذلك القدَر الذي يُرمَز إليه بميزان زيوس الذهبي.
في هذه اللحظة وضع زيوسُ الأبُ ميزانَه الذهبي. يضع القدَرُ، لشدة عماه، ضربًا من العدل، هو الآخرُ أعمى، ليعاقِبَ الرجالَ المسلَّحين بعقوبة الثأر؛ لقد صاغت الإلياذةُ هذه العقوبةَ في كلمات قبل الإنجيل بزمن طويل وباستخدام الكلمات نفسها تقريبًا: أريسُ Arès [إله الحرب] عادل، ويقتل من يقتلون. إذا كان مقدَّرًا لجميع البشر منذ ولادتهم أنْ يعانوا من العنف فإنَّ هذه هي حقيقة تُغلِق أمامها قوةُ الظروف القاهرة عقولَ البشر. ليس القوي قويًا بالضرورة أبدًا، ولا الضعيف ضعيفًا بالضرورة، ولكنْ كلاهما يجهل ذلك. هما لا يعتقدان أنهما من الجنس البشري نفسه؛ ولا الضعيف يرى نفسه صِنْوَ القوي، ولا يُرى كذلك. إنَّ من يمتلك القوةَ يمشي في وسط غير مقاوم، دون أنْ يكون هنالك شيءٌ في المادة البشرية حوله من شأنه أن يثير، بين الاندفاع إلى الفعل وبين تنفيذه، هذه المسافةَ القصيرة التي يسكن فيها الفكر. حيث ليس للفكر مكان ولا للعدل ولا للحصافة. ولذلك، يتصرف الرجالُ المسلَّحون بقسوة وجنون. فينغرس سلاحُهم في [جسد] عدوٍّ أعزل جاثم على رُكَبِهم؛ وينتصرون على رجل يُحتضَر واصفين له الإهاناتِ التي سيتعرض لها جسدُه؛ فأخيلُ يذبح اثنَي عشر فتىً على محرقة ﭙـاتروكل بلا تكلُّفٍ مثلما نقطف نحن زهورًا لوضعها على قبر. وعندما يستخدمون سلطتهم، لا يشكُّون البتةَ في أنَّ نتائجَ أفعالهم ستجعلهم يخضعون عندما يأتي دَورُهم. عندما كان في استطاعتهم، بكلمة، أنْ يُسكِتوا شيخًا عجوزًا ويجعلوه يرتجف خوفًا ويخضع، فهل فكَّروا بأنَّ لعناتِ الكاهن مهمة في نظر العرَّافين؟ وهل أحجموا عن خطف المرأة التي يحبها أخيلُ عندما عرفوا أنهما لا يمكنهما إلاَّ أنْ يخضعا؟ وهل كان في استطاعة أخيل أنْ يفكِّرَ، وهو يستمتع برؤية اليونانيين البائسين يهربون، بأنَّ هذا الهربَ الذي سيستمر وينتهي حسب إرادته سوف يضع حدًا لحياة صديقه ولحياته هو؟ وهكذا فإنَّ مَن منحَهم القدَرُ القوةَ هلكوا لاعتمادهم عليها أكثر مما ينبغي. لا يمكن إلاَّ أنْ يهلكوا. لأنهم لا يرون محدوديةَ قوَّتهم ولا يرون علاقاتِهم مع الآخر كتوازنٍ بين قوى غيرِ متكافئة. فالآخرون لا يفرضون على حركاتهم زمنَ التوقف هذا الذي تصدر عنه نظرتُنا فقط إلى أقراننا، ويستخلصون من ذلك أنَّ القدَرَ أعطاهم كلَّ الرخصة ولم يعطِ من هم أدنى منهم شيئًا. عندئذٍ، يذهبون أبعد من القوة التي يمتلكونها. يذهبون أبعد حتمًا، جاهلين محدوديتَها، فيُسَـلَّمون عندئذٍ إلى المصادفة إلى غير رجعة، ولا تعود الأمورُ تخضع لهم. قد تخدمهم المصادفةُ أحيانًا؛ وأحيانًا أخرى تضرُّهم. وهاهم الآن عراة معرَّضون للشقاء، دون دروع القوة التي كانت تحمي أنفسَهم ودون شيء يفصلهم بعد الآن عن الدموع. إنَّ هذا القِصاصَ الصارم "الذي لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلاَّ أحصاها" والذي يعاقب تلقائيًا على سوء استخدام القوة كان الموضوعَ الأول للتأمل عند اليونانيين. إنه يشكِّلُ روحَ الملحمة؛ فهذا القِصاصُ الذي يحمل اسمَ نيميسيس Némésis [ربة الانتقام] هو المحرِّك للتراجيديات التي كتبَها [الشاعرُ التراجيدي] إسخولوس Eschyle؛ وقد انطلق الفيثاغوريون وسقراطُ وأفلاطونُ من ذلك ليتفكَّروا في الإنسان والكون. وأصبح المفهوم مألوفًا في كل مكان دخلَتْ فيه الحضارةُ اليونانية. وربما هذا هو المفهوم اليوناني الذي بقي تحت اسم كارما في بعض بلدان المشرق المتأثرة بالبوذية؛ ولكنَّ الغرب أضاعه ولم يعدْ لديه في أية لغة من لغاته حتى ولو كلمة تُعبِّر عنه؛ فأفكار الحد والقياس والتوازن التي من المفروض أنْ تحدِّدَ سلوكَ الحياة لم يعدْ لها سوى استخدامٍ حرفي في التقانة. نحن لسنا مهندسي مساحة إلاَّ أمام المادة. لقد كان اليونانيون في البداية مهندسي مساحة في تعلُّم الفضيلة. فسَيرُ الحرب في الإلياذة لا يقوم إلاَّ على لعبة الأرجوحة هذه. يشعر المنتصِرُ الآن أنه لا يُهزَم، مع أنه قد يكون قبل عدة ساعات قد اختبر الهزيمة؛ إذْ إنه نسيَ أنْ يستخدم النصرَ كشيء سوف يمضي. ففي نهاية اليوم الأول من المعركة التي ترويها الإلياذةُ، ربما كان في استطاعة اليونانيين المنتصرين أنْ يحصلوا، بلا شك، على موضوع جهودهم، أيْ هيلين وثرواتها؛ على الأقل إذا افترضنا، كما فعل هوميروسُ، أنَّ الجيش اليوناني كان على حق باعتقاده أنَّ هيلين كانت في طروادة. وقد أكد فيما بعد الكهنةُ المصريون، الذين من المفروض أنْ يعرفوا ذلك، أكدوا لهيرودوت بأنها موجودة في مصر. على أية حال، لم يعد يريد اليونانيون شيئًا هذا المساء:
"لن نَقْبلَ اليوم لا أموالَ ﭙـاريسَ، إنَّ ما يريدونه ليس أقلَّ من كل شيء. يريدون كلَّ ثروات طروادة غنائمَ وكلَّ القصور والمعابد والبيوت رمادًا وكلَّ النساء والأطفال عبيدًا وكلَّ الرجال جثثًا. لقد نسوا أمرًا دقيقًا؛ وهو أنَّه ليس في مقدورهم الحصول على كلّ شيء. لأنهم ليسوا في طروادة. قد يصيرون فيها غدًا؛ وقد لا يصِلون إليها. لقد استسلم هكتورُ، في اليوم نفسِه، للنسيان نفسِه.
لأنني أعرف ذلك جيدًا في أحشائي وفي قلبي؛
ولكنْ فلْـيُـدْرِكْني الموتُ ولْيغطِّني الترابُ ما هو الشيءُ الذي لم يقدِّمْه في هذه اللحظة لكي يتجنبَ أهوالاً اعتقدَ أنها محتومة؟ ولكنه لا يمكن أنْ يقدِّمَ شيئًا إلاَّ ويضيع سُدىً. في غداة اليوم التالي، يهرب اليونانيون هربًا يُرثى له، حتى إنَّ أغاميمنونَ نفسه كان يريد أنْ يُبحِرَ من جديد. إنَّ هكتورَ الذي حقق عندئذٍ، بالتنازل عن أشياء قليلة، رحيلَ العدوِّ بأهون سبب لا يريد بعدُ حتى أنْ يسمح لنفسه بالرحيل صِفْرَ اليدين:
أشعِلوا النيرانَ في كل مكان ولْيصعدْ ضوؤها إلى السماء لقد تحققت رغبتُه؛ وبقي اليونانيون؛ وفي اليوم التالي، ظهرًا، جعلوا منه ومن ذويه موضوعًا يُرثى له:
هُمْ، عبر السهل، كانوا يهربون كأنهم أبقارٌ مستنفِرة خلال وقت العصر، استعاد هكتورُ تفوُّقَه، ردَّ اليونانيين ثم هزمهم، ثم طرده ﭙـاتروكلُ وجُنْدُه المرتاحون. وانتهى الأمرُ بِِـ "ﭙـاتروكلَ" الذي كان يسعى وراء مصلحته فيما يتجاوز قواه إلى أنْ تعرَّضَ، وهو جريح دون درع يحميه، لسيف هكتور، وفي المساء، يقابِلُ هكتورُ المنتصرُ رأيَ "ﭙـوليداماس" Polydamas الحصيفَ بتوبيخات قاسية:
"الآن وقد تلقَّيتُ من ابن كرونوس الماكر في اليوم التالي، ضاع هكتورُ. فقد جعله أخيلُ يتراجع عبر السهلِ باتساعه، وسيقتله. فقد كان دائمًا أقوى الاثنين في المعركة؛ وبعد راحة عدة أسابيعَ، كم يسيطر عليه الثأرُ والانتصار على عدوٍّ منهك! هاهو هكتورُ وحيدًا أمام أسوار طروادة، وحيدًا تمامًا، ينتظر الموتَ ويحاول أنْ يَحْمِلَ نفسَه على مواجهته.
يا للحسرة! لو مررتُ خلف الباب والسور، لن ينجوَ هكتورُ من أي ألم أو خزي، فالآلامُ والخزيُ نصيبُ الأشقياء. وحدَه، مجرَّدًا من كل هيبةِ قوة، لم تمنعْه الشجاعةُ، التي أبقتْه خارجَ الأسوار، من الهرب:
هكتورُ الذي تأخذه قشعريرةٌ عندما يراه، لم يحْمِلْ نفسَه وهو جريح حتى الموت، يزيد نصرَ المنتصر من خلال تضرعات عقيمة: أتوسل إليكَ بحياتكَ ورُكبتَيكَ وأهلِكَ... ولكنَّ الذين كانوا يسمعون الإلياذةَ كانوا يعرفون أنَّ موتَ هكتور من شأنه أنْ يعطيَ أخيلَ فرحًا قصيرًا، ويعطي موتُ أخيل الطرواديين فرحًا قصيرًا، وإبادةُ طروادة تُفرِح الآخيين Achéens لأمد قصير. وهكذا يسحق العنفُ مَن يصيبُه. ويبدو، في نهاية المطاف، خارجًا عمن يلجأ إليه مثلما هو خارج عمن يعاني منه؛ عندئذٍ، تولَد فكرةُ القدَر الذي يكون فيه الجلاَّدون والضحايا أبرياءَ على حد سواء ويكون فيه المنتصرون والمنهزمون إخوةً في الشقاء نفسِه. إنَّ المهزوم هو سبب شقاء المنتصر مثلما يكون المنتصرُ سببَ شقاء المهزوم.
وُلِدَ له ولدٌ واحد، لحياةٍ قصيرة؛ وحتى، إنَّ استخدامًا معتدلاً للقوة، والذي من شأنه أنْ يتيح النجاةَ من الدوامة، يتطلب فضيلةً أكثر من إنسانية، فضيلةً نادرةً ندرةَ كرامةٍ في الضعف مستمرة. عدا عن ذلك، فإنَّ الاعتدالَ لا يخلو هو الآخر من مخاطر؛ ذلك لأنَّ الهيبةَ التي تُشكِّل أكثرَ من ثلاثة أرباع القوة تتكون قبل كل شيء من اللامبالاة المهيبة للقوي بالضعفاء، [تلك] اللامبالاة المُعْدية إلى درجة أنها تنتقل إلى من هم موضوع اللامبالاة. ولكنْ ليس الفكرُ السياسي عادةً هو الذي يحض على التطرف. إنما إغواء التطرف يكاد لا يقاوَم. هناك كلمات رصينة تقال أحيانًا في الإلياذة؛ كانت كلماتُ ثيرسيتُ Thersite كذلك في أعلى درجاتها. كما كانت كذلك كلمات أخيل الغاضب:
لا شيءَ يعادل حياتي، حتى كل الخيرات التي يقال ولكنَّ الكلماتِ الرصينةَ تفضي إلى الفراغ. إذا نطق بها مرؤوسٌ يعاقَب ويسكت؛ وإذا نطق بها رئيسٌ لا يلتزم بها في أفعاله. هناك دائمًا عند الضرورة إله يحضُّ على الضلال. في النهاية، تختفي من الذهن فكرةُ أنه يمكننا التخلص من الفعل الذي يقدمه القدَرُ على أساس النصيب، أي فعل القتل والموت:
... نحن الذين قضى زيوسُ كان هؤلاءِ المقاتلون فيما مضى، مثلهم مثل مقاتلي كرانّ Craonne بعد ذلك بزمن طويل، يشعرون بأنهم مدانون جميعًا[5]. لقد وقعوا في هذا الموقف بأبسط فخ. في البداية، كانوا مرتاحي البال مثلما يكون المرءُ دائمًا عندما يكون لديه قوة وأمامه الفراغ. أسلحتهم بين أيديهم؛ والعدو غائب. إننا دائمًا أقوى بكثير من العدو الغائب، إلاَّ إذا كانت نفوسُنا يحطِّمُها صيتُ ذلك العدو. فالغائب لا يفرض نيرَ الضرورة. ولا ضرورةَ تَظهَر أيضًا في ذهن من يذهبون هكذا، ولذلك يذهبون وكأنهم يذهبون إلى اللعب، إلى قضاء إجازة خارج إطار الضغط اليومي.
أين ذهبَتْ تبجُّحاتُنا عندما كنا نُظهِر شجاعتَنا وحتى عندما تُختبَر الحربُ فإنها لا تنفكُّ تَظهَر في الحال على أنها لعبة. فالضرورة الخاصة بالحرب مرعبة، غير الضرورة المرتبطة بأعمال السلام؛ ولا تخضع لها النفسُ إلاَّ عندما لا يعود في إمكانها التخلُّصُ منها؛ فمادامت تنجو منها فإنها تقضي أيامَ ضرورةٍ فارغةً، أيامَ لعبٍ وحُلُمٍ اعتباطيةً ووهمية. عندئذٍ، يصبح الخطر مجرَّدًا، وتصبح الحيواتُ التي ندمِّرها كألعابٍ يكسرها طفلٌ وتصير لا أهمية لها أيضًا؛ البطولة هي صنعةٌ مسرحية ملطَّخة بالتباهي. فضلاً عن ذلك، إذا تدفَّقَت، للحظةٍ ما، شحنةُ حياة لتُضاعِفَ قوةَ العمل، فإننا نعتقد أننا لا نقاوَم باسمِ معونةٍ إلهية تحمي من الهزيمة ومن الموت. الحرب سهلة إذًا ومحبوبة حبًا وضيعًا. إلاَّ إنَّ هذه الحالةَ لا تدوم عند أغلب الناس. وسيأتي يومٌ يجعل فيه الخوفُ والهزيمةُ وموتُ الأصحاب الأعزَّاءِ نفسَ المقاتل تخضع تحت قهر الضرورة. ولا تعود الحربُ إذْ ذاك لعبةً أو حُلُمًا؛ ويعي المحارِبُ أخيرًا أنَّ الضرورةَ موجودةً واقعيًا. إنها واقع قاسٍ، أقسى من أنْ يُحتمَل، لأنه يشتمل على الموت. وعندما نشعر بأن الموت أصبح ممكنًا في الواقع، فلا يمكن تحمُّل فكرة الموت، إلاَّ إذا جاءت على ومضات. صحيح أن مصيرَ كل إنسان الموتُ وأن الجندي قد يشيخ في المعارك؛ ولكن العلاقة بين الموت والمستقبل عند من تخضع نفوسهم لنيرِ الحرب ليست نفسها عند باقي البشر. فالموت عند الآخرين هو حد مفروض مسبقًا على المستقبل؛ هو في نظرهم المستقبل نفسه، المستقبل الذي تُحدِّده لهم مهنتُهم. أما أنْ يكون الموتُ لبعض الرجال مستقبلاً لهم فذلك منافٍ للطبيعة. عندما تجعل ممارسةُ الحرب إمكانيةَ الموت التي تحملها كلُّ لحظة ملموسةً فإن الفكر يصبح عاجزًا عن الانتقال من يوم إلى آخر دون المرور بصورة الموت. عندئذٍ، يصبح الذهنُ متوترًا وكأنه لا يستطيع تحمُّلَ ذلك إلاَّ وقتًا قصيرًا؛ ولكن كل فجر جديد يجلب الضرورةَ نفسَها؛ وتُطوَى الأيامُ على الأيام لتصنع دفاتر السنين. وتعاني النفسُ من العنف كلَّ يوم. كلَّ صباح، تتشوَّهُ النفسُ بأية رغبة [أو طموح]، لأن الفكر لا يمكنه السفر عبر الزمن دون المرور بالموت. كذلك تمحو الحربُ كلَّ فكرة عن الهدف، حتى فكرة أهداف الحرب. إنها تمحو حتى فكرة إنهاء الحرب. لا يمكن تصور إمكانية موقف عنيف إلى هذا الحد مادمنا لسنا فيه؛ ولا يمكن تصور نهايته عندما نكون فيه. وهكذا لا نفعل شيئًا للوصول إلى هذه النهاية. لا يمكن لليدين أن تتوقفا عن حمل السلاح واستعماله أمام عدو مسلَّح. من المفروض على الفكر أن يتدبر أمرَه لإيجاد مخرج؛ وقد فقدَ كلَّ مقدرة على القيام بأي شيء لهذا الغرض. فهو منشغل بكُلِّـيَّته لتعنيف نفسه. إنَّ المصائب الجِسام التي لا تطاق تستمر، دائمًا بين البشر، سواءً فيما يخص العبودية أم الحرب، تحت قوة ثقلها وتبدو هكذا من الخارج سهلةَ الاحتمال؛ تستمر لأنها تقضي على الوسائل اللازمة للخروج منها. مع ذلك، فإن النفس الخاضعة للحرب تستغيث من أجل الخلاص؛ لكنَّ الخلاصَ نفسَه يَظهَر لها على شكل مأساوي، متطرف، على شكل هدم. إن من شأن نهاية معتدلة معقولة أنْ تُعرِّيَ أمام الفكر مصيبةً لا يمكن احتمالُ حتى ذكراها لشدة عنفها. إننا لا نُصدِّق أن جميع الأشياء من رعب وألم واستنفاد قوى وجرائمَ وأصحابٍ محطَّمين يمكنها ألاَّ تعودَ تنهش النفسَ إذا ما أغرقَتْها نشوةُ القوة. إنَّ ما يؤلم هو عدم تمكُّنٍ جهد بلا حدود من أنْ يُقدِّمَ سوى فائدةٍ معدومة أو محدودة.
ماذا؟ أنتركُ ﭙريامَ والطرواديين يتفاخرون ما أهمية هيلين عند عوليس Ulysse؟ وحتى ما أهمية طروادة المليئة بالثروات التي لا تعوِّض خرابَ إيثاكي Ithaque؟ إن أهمية هيلين وطروادة فقط هي أنها سبب إراقة دماء اليونانيين وذرف دموعهم؛ إنه عندما نستولي يمكننا أن نستوليَ على الذكريات المروِّعة. فالنفس التي يجبرها عدوٌّ ما على هدم ما وضعتْه الطبيعةُ فيها تعتقد أنها لا تشفى إلاَّ بتدمير ذلك العدو. في الوقت نفسه، يثير موتُ الأصحاب الغالين منافسةً كئيبة على الموت:
آه! الموتَ حالاً إنْ كان صديقي لا بد أنه فاليأس نفسُه، إذَنْ، يدفع إلى الهلاك والقتل:
أعرف جيدًا بأن قدَري أنْ أهلك هنا، إن الرجُل الذي تسكنه هذه الحاجةُ المزدوجة إلى الموت ينتمي، مادام أنه لم يصبح غيرَ ذلك، إلى صنف مختلف غير صنف الأحياء. أيَّ صدى يمكن أن تجده الأمنيةُ الخجولة بالحياة لدى مثل هذه القلوب عندما يتوسل المهزومُ لتتاح له رؤيةُ النهار مرةً أخرى؟ إنَّ امتلاكَ السلاح من جهة وفقدانَه من جهة أخرى ينزعان من الحياة المهدَّدة كلَّ أهمية تقريبًا؛ فكيف لمن دمَّر في داخله فكرةَ أنَّ رؤيةَ النور شيء جميل أنْ يحترمَ الحياةَ في هذه الشكوى المتواضعة التي لا جدوى منها؟
أنا على رُكْبتَيكَ، يا أخيلُ؛ ارأفْ بحالي، أشفِقْ علَيَّ؛ أيَّ رد يلقى هذا الأمل الضعيف!
هيَّا يا صديقي، متْ أنتَ أيضًا! لِمَ تشكو إلى هذا الحد؟ ينبغي، من أجل احترام حياة الآخر عندما يكونُ قد شوَّهَ نفوسَنا بلا شك طموحٌ في العيش، بذلُ جهد في الشهامة يفطر القلب. ولا يمكن أنْ نفترض أنَّ أحدًا من المحارِبين الذين وصفهم هوميروسُ قادرٌ على بذل مثل هذا الجهد، إلاَّ اللهمَّ ذلك الذي يحتل بطريقةٍ ما مركزَ القصيدة، أيْ ﭙـاتروكل الذي "عرف كيف يكون لطيفًا مع الجميع"، والذي لم يرتكبْ في الإلياذة أيَّ شيء عنيف أو وحشي. ولكنْ كم نعرف، خلال عدة آلاف من السنين عبر التاريخ، من البشر الذين أظهروا كرَمًا إلهيًا فائقًا؟ من غير المؤكَّد أنْ نتمكن من عدِّ اثنين أو ثلاثة منهم. ونظرًا لعدم وجود مثل هذه الشهامة فإنَّ الجندي المنتصر يكون أشبهَ بكارثة طبيعية. عندما تمتلكه الحربُ فإنه، مثَلُه كمَثَل العبد، وإنْ بطريقة أخرى، يصبح شيئًا، وتفقد الكلماتُ سلطانَها عليه مثلما تفقد سلطانَها على المادة. فكلاهما، إذا ما مسَّتْه يدُ القوة، يقع تحت تأثيرها الذي لا يخطئ والذي يجعل الذين تمسُّهم إما بُكْمًا أوصُمًَّا. هذه هي طبيعة القوة. فالقدرةُ التي تمتلكها القوةُ والتي تتمثل بتحويل البشر إلى أشياء قدرةٌ مزدوجة وتمارَس على وجهين؛ فهي تُحجِّر نفوسَ من تقع عليهم ونفوسَ من يستعملونها، ليس بالطريقة نفسها ولكنْ بالمقدار نفسه. وهذه الخاصية تبلغ أعلى درجاتها وسط الأسلحة ابتداءً من اللحظة التي تتجه فيها المعركةُ نحو اتِّخاذ القرار. إن المعارك لا تتقرَّر بين رجال يحسبون ويخططون ويتخذون قرارًا وينفذونه، بل بين رجال مجرَّدين من هذه الملَكات، متحولين، هابطين إما إلى مرتبة الجمادات التي ليست سوى منفعلة وإما إلى مرتبة القوى العمياء التي ليست سوى مندفعة. وهذا هو سر الحرب الأخير، وتُعبِّر عنه الإلياذةُ من خلال التشبيهات المستخدَمة فيها، حيث يَظهَر المحارِبون إما مشابهين للحريق والفيضان والريح والحيوانات الضارية وأي سبب أعمى للكارثة وإما مشابهين للحيوانات الخائفة والأشجار والماء والرمل وكل ما يسيِّره عنفُ القوى الخارجية. إن اليونانيين والطرواديين يخضعون، بالتناوب، من يوم لآخر، وربما من ساعة لأخرى، لوجهَيْ التحوُّل كليهما:
كأنما انقضَّ عليهم أسدٌ يريد قتلَ أبقار إن فن الحرب ليس سوى فن إحداث مثل هذه التحولات، ولم يكن العتادُ والطرائقُ وحتى الموت الذي يلحق بالعدو سوى وسائل لتحقيق هذه الغاية؛ والغرض الوحيد لهذا الفن هو نفس المقاتلين ذاتها. ولكن هذه التحولات تشكِّل دائمًا لغزًا، والآلهة هي التي تقوم بها، الآلهةُ التي تحرِّك مخيِّلةَ البشر. مهما يكنْ من أمرٍ فإنَّ خاصيةَ التحجير المزدوجة هذه ضروريةٌ للقوة، فلا يمكن لنفسٍ وُضِعَتْ على تماسٍّ مع القوة أنْ تنجوَ منها إلاَّ بمعجزة. ومثل هذه المعجزات نادر وقصير. إنَّ طيشَ من يستخدمون، دون احترام، البشرَ والأشياءَ الذين هم تحت رحمتهم أو يظنون ذلك، واليأسَ الذي يجبر الجنديَّ على التدمير، وهزيمةَ العبد والمهزوم، والجرائمَ، كلَّ ذلك يساهم في رسم لوحة موحَّدة للرعب. القوة بطلُها الوحيد. ينتج عن ذلك رتابةٌ كئيبة، إنْ لم يكنْ هنالك لحظاتٌ مضيئة متناثرة هنا وهناك؛ لحظات قصيرة وإلهية يكون فيها للبشر روح. الروح التي تستيقظ هكذا، للحظةٍ، لكي تضيع بعد ذلك بقليل تحت وطأة سلطان القوة، تستيقظ نقيةً لا عيب فيها؛ فلا يظهر فيها أيُّ شعور غامض معقَّد أو اضطراب؛ يكون فيها مكان للشجاعة والمحبة فقط. وأحيانًا يجد المرء كذلك نفسَه يتشاور مع نفسه، عندما يحاول، مثل هكتور أمام طروادة، دون اللجوء إلى الآلهة أو إلى البشر، أنْ يواجهَ وحدَه القدَر. وباقي اللحظات التي يجد فيها البشرُ ذاتَهم هي اللحظات التي يحبون فيها؛ في الإلياذة لم يغبْ تقريبًا أيُّ شكل نقي من أشكال الحب بين البشر. إنَّ تقليد الضيافة، حتى بعد عدة أجيال، يتغلب على عماية المعركة:
كذلك أنا ضيفكَ المحبوبُ في رحاب أرغوس... إنَّ حب الولد لوالدَيه وحُبَّ الأب والأم لولدِهما يشار إليهما باستمرار إشارةً مختصرة بقدر ما هي مؤثِّرة:
أجابت ثيتيس
Thétis،
وهي تذرف دمعًا: وكذلك الحب الأخوي:
إخوتي الثلاثة الذين وَلدَتْهم أمٌّ واحدة إنَّ الحب الزوجي المحكوم بالفاجعة يتمتع بصفاء مدهش. فالزوج، عندما يذكر إهاناتِ العبودية التي تنتظر المرأةَ المحبوبة، ينسى الإهانةَ التي تُدنِّس سلفًا حنانَهما بمجرَّد ذكرها. لا شيء أبسط من الكلام الذي توجِّهه الزوجةُ إلى من سيواجه الموتَ:
... خيرٌ لي، وليست الكلماتُ الموجَّهة إلى الزوج الميت بأقلَّ من ذلك تأثيرًا:
زوجي، لقد مِتَّ قبل تقدُّمِكَ في السن، شابًا جدًا؛ وأنا، أرملتَكَ،
لأنكَ، وأنتَ على فِراش موتِكَ، لم تمدُدْ لي يديكَ، إن أجمل صداقة، تلك الصداقة التي تجمع رفاق المعركة، كانت موضوعَ الأناشيد الأخيرة:
... ولكنَّ أخيل إلاَّ أنَّ أنقى نصر للحب وأسمى نعمة للحروب هي الصداقة التي تصعد إلى قلوب الأعداء الفانين. فتقضي على النهم إلى الثأر للابن القتيل وللصديق القتيل، وتمحو بمعجزة أكبر أيضًا المسافةَ بين المتفضِّل والمتوسِّل، بين المنتصر والمهزوم:
لكنْ عندما تهدأ رغبةُ الشرب والأكل، إنَّ لحظاتِ الرحمة هذه نادرةٌ في الإلياذة، ولكنها تكفي لكي تُظهِرَ بأسف بالغ ما يفعله العنفُ وما سيفعله من هلاك. مع ذلك، فإن من شأن مثل هذا التراكم لأعمال العنف أنْ يكون باردًا دون نبرة مرارة مستعصية يكون لها وقْع مستمر، على الرغم من أنه يشار إليها بكلمة واحدة، وحتى غالبًا بوقْف في بيت الشِّعر أو بتدوير (ربط المعنى بالبيت التالي) (rejet). إنَّ هذا الجانبَ هو ما يجعل الإلياذةَ شيئًا فريدًا، بالإضافة إلى تلك المرارةِ المنبثقة عن الحنان والتي تنسحب على جميع البشر، ثابتةٍ كنور الشمس. فالنبرة لا تنفكُّ تشوبها المرارةُ دائمًا وكذلك لم تهبطْ أبدًا إلى مستوى الشكوى. إنَّ العدلَ والحب الَّذَينِ لا يستطيعان، إلاَّ نادرًا، أنْ يحتلاَّ مكانًا في هذه اللوحة من التطرفات وأعمال العنف الظالمة يغسلانها بنورهما دون أنْ يتأثرا بغير النبرة. لا يُستهان بأي شيء ثمين سواءً كان مقدَّرًا له الفناء أم لا؛ وبؤسُ الجميع يُعرَض بلا رياء ولا ازدراء، فلا أحدَ فوق الظرف المشترك لجميع البشر أو تحته؛ وكلُّ ما تمَّ تدميرُه مؤسف. كذلك، فإنَّ المنتصرين والمهزومين أولو قربى، شأنُهم شأن الشاعر والمستمع. إنْ كان هنالك من فرق فهو أنَّ مصيبة الأعداء قد تكون أكثر ألمًا.
كذلك سقط هناك، غارقًا في نوم برونزي، أيُّ نبرة تُستخدَم لذكر مصيرِ يافعٍ باعه أخيلُ في لِمْنوس!
أحدَ عشرَ يومًا مرَّت وهو يمتِّع قلبَه بين ظَهْرانَيْ من يحبهم، ومصير [العملاق] أوفورْبَ Euphorbe [ابن أورانوس (السماء) وغايا (الأرض)] الذي لم يرَ إلاَّ يومًا واحدًا من الحرب: يبلِّلُ الدمُ شَعرَه بشعر آلهة الجَمال Grâces الماثل... وعندما يبكون هكتورَ: ... حارس الزوجات العفيفات والأطفال الصغار تكفي هذه الكلماتُ لإظهار العفة التي تُدنِّسها القوةُ ولإظهار الأطفال الخاضعين لقوة السلاح. ويصبح ينبوع طروادة ذو الأبواب موضوعَ حسرة مؤلمة عندما يجتازه هكتور ويعدو لإنقاذ حياته المحكوم عليها:
كان هناك مغاسلُ واسعة، قريبة، تجري الإلياذةُ بكاملها تحت ظل المصيبة الكبرى بين البشر، وهي تدمير مدينة. وهذه المصيبة لن تَظهَرَ ربما أكثر تمزيقًا للقلب فيما لو كان الشاعر مولودًا في طروادة. لكن النبرة لا تختلف عندما يتعلق الأمر بالآخيين الذين يهلكون بعيدًا عن وطنهم. إنَّ الإيحاءاتِ السريعةَ لعالَمِ السلام تؤلم، بمقدار ما تبدو هذه الحياةُ الأخرى، حياةُ الأحياء هذه هادئةً وعامرة:
طالما أنَّ الوقت فجر والنهار يطلع، إنَّ كلَّ ما هو غائب عن الحرب وكل ما تدمِّره الحربُ أو تهدِّده يغلَّف بالشِّعر في الإلياذة؛ ووقائع الحرب لم تغلَّفْ شِعرًا على الإطلاق. فالانتقال من الحياة إلى الموت لم يحجبْه أيُّ تحفُّظ:
عندئذٍ قفزَتْ أسنانُه [من مكانها]؛ وخرجَ من الجهتين فالوحشية القاسية لوقائع الحرب لم تموَّهْ بأي شيء، ذلك لأن المنتصرين والمنهزمين لم يكونوا محطَّ إعجاب ولا ازدراء ولا كراهية. فالقدَرُ والآلهة يقررون دائمًا المصيرَ المتغير للمعارك. ويكون النصرُ والهزيمة، ضمن الحدود التي يعيِّنها القدَرُ، في يد الآلهة الذين يتمتعون بسلطان مطلق في ذلك؛ فهم دائمًا الذين يسببون حالاتِ الجنون والخيانات التي تعيق السلامَ كلَّ مرة؛ فالحرب شأنهم الخاص، وليس لديهم من محرِّك لها سوى النزوة والمكر. أما المحارِبون، فالتشبيهاتُ تُظهِرهم، سواءً كانوا منتصرين أم منهزمين، حيواناتٍ أو أشياءَ لا يمكن أنْ تُعبِّرَ لا عن إعجاب ولا عن ازدراء، بل فقط عن الأسف بأنَّ في إمكان البشر أنْ يتحولوا بهذه الطريقة. إنَّ العدالة الاستثنائية التي تُلْهِم الإلياذةَ تمتلك ربما أمثلةً لا نعرفها، ولكنْ ليس هناك من يحذو حذوَها. إنه ليشقُّ علينا أنْ نعرِفَ أنَّ الشاعر يوناني وليس طرواديًا. يبدو أن نبرة القصيدة تشهد مباشرةً على أصل الأطراف الموغلين في القِدم؛ فالتاريخ لن يقدِّم لنا ربما أيَّ توضيح بهذا الشأن على الإطلاق. إذا كنا نوافق ثوسيديدَ [ثوكيديدوس] Thucydide [مؤرخ يوناني، أثينا 460 – 395 ق. م.] على الاعتقاد بأن الآخيين عانَوا بدَورهم من الغزو بعد ثمانين سنة من تدمير طروادة، فإنه يمكننا أن نتساءل إنْ لم تكنْ هذه الأناشيدُ، التي لم يُذْكَرْ فيها اسمُ الحديد إلاَّ نادرًا، أناشيدَ هؤلاء المهزومين الذين عانى بعضُهم النفيَ. فهُمْ، مجبَرين على العيش والموت "بعيدًا عن الوطن" كاليونانيين الذين سقطوا أمام طروادة، وفاقدين كالطرواديين مُدُنَهم، كانوا يجدون أنفسَهم ثانيةً في المنتصرين الذين كانوا آباءهم مثلما يجدون أنفسَهم في المهزومين الذين كانوا يشبهونهم في البؤس؛ كان بإمكان حقيقة هذه الحرب التي كانت لا تزال قريبةً أنْ تَظهَرَ لهم عبر السنين دون أنْ تحجبَها لا نشوةُ الكبرياء ولا الإهانة. يمكنهم أنْ يتصوروها في الوقت نفسِه في المهزومين وفي المنتصرين، فيعرفون بذلك ما لم يعرفْه قطُّ المنتصرون ولا المنهزمون نظرًا لعماهم. ليس هذا إلاَّ حُلُمًا؛ ولا يمكننا في الأغلب إلاَّ أنْ نتأمل في أزمنة سحيقة. مهما يكن من أمر، فإن هذه القصيدة تمثل شيئًا عجائبيًا! فالمرارة فيها تُعزى إلى سببها الوحيد فقط ألا وهو خضوع النفس البشرية للقوة، أيْ للمادة في نهاية المطاف. هذا الخضوع هو نفسه عند جميع البشر، مع أن النفس تعزوها إلى أمور مختلفة وذلك حسب درجة الفضيلة. لا أحد مستثنى منها في الإلياذة، مثلما أنه لا أحد مستثنى منها على الأرض. ولا أحد ممن يرضخ لها يُحتقَر على ذلك. إنَّ كلَّ شيء داخل النفس أو في العلاقات الإنسانية ينجو من سلطان القوة يصبح محبوبًا، ولكنْ يحَبُّ حبًا مؤلمًا، بسبب خطر التدمير الكامن فيه باستمرار. هذه هي روح الملحمة الحقيقية الوحيدة التي يمتلكها الغرب. وما الأوديسة إلاَّ محاكاة بارعة للإلياذة تارةً وللقصائد الشرقية تارةً أخرى؛ والإنياذة l'Énéide[6] إنما هي محاكاة، على الرغم من براعتها، شوَّهها فتورُ أسلوبها والتنميقُ والذوقُ المنحرف. إنَّ أغانيَ الملاحم لم تعرفْ كيف تبلغ هذا السمو لعدم وجود العدالة. فموتُ العدو لم يشعرْ به المؤلِّفُ والقارئ، في أغنية رولان، على أنه موت رولان. إنَّ التراجيديا الأتِّيكية [اليونانية]، أو على الأقل تراجيديا أسخيلوس Eschyle وسوفوكلوس Sophocle، هي استمرار حقيقي للملحمة. إذْ إنَّ فكرةَ العدل تضيء جوانبَها دون أنْ تتدخَّل فيها بتاتًا؛ وتظهَر فيها القوةُ بقسوتها الباردة مصحوبةً على الدوام بنتائجَ وخيمة لا ينجو منها لا من يستخدمها ولا من يعاني منها؛ إنَّ ذُلَّ النفس تحت الإكراه لا تخْفيه ولا تغلِّفه رأفةٌ لينة وليس عرضةً للازدراء؛ فهناك أكثر من كائن جرحَتْه إهانةُ الفاجعة وقد كان فيها محطَّ إعجاب. إنَّ الإنجيل هو آخِرُ تعبيرٍ عن العبقرية اليونانية وأروعَه، مثلما أنَّ الإلياذةَ أولُ تعبير عنها؛ فروحُ اليونان لا تَظهَر فيه من خلال الأمر بالبحث عن إقصاء كل خير آخر غير "مملكة أبينا السماوي وعدله" فحسب، بل من خلال البؤس الإنساني الذي يتطرق إليه، وذلك عند كائن إلهي وبشري في الوقت نفسه. تُظهِر رواياتُ آلام المسيح أنَّ روحًا إلهية متَّحدة بالجسد قد أتلفَتْها المصيبةُ فارتعدَتْ أمام العذاب والموت وشعرَتْ، وهي في أعماق ضيقها، بانفصالها عن البشر وعن الله. إنَّ شعور البؤس الإنساني يعطيها نبرةَ البساطة هذه والتي هي علامة العبقرية اليونانية والتي صنعَتْ قيمةَ التراجيديا الأتِّيكية والإلياذة. إنَّ بعض الكلمات تؤدي لحنًا قريبًا، على نحو غريب، من لحن الملحمة، فالفتى الطرواديُّ الذي أُرسِلَ إلى هادس [الجحيم] على الرغم من أنه لم يكُ يريد الذهابَ يخطر على الذاكرة عندما يقول المسيح لبطرس: "شخص آخر سيوثقكَ ويقودكَ إلى حيث لا تريد." هذه النبرة لا تنفصل عن الفكر الذي أوحى الإنجيلَ؛ لأنَّ الشعور بالبؤس البشري شرطٌ للعدل والحب. فمن يجهل إلى أي حد تجعل الثروةُ المتغيرةُ والضرورةُ النفسَ البشريةَ متعلقةً بهما لا يمكنه أنْ يرى كأقرانه ولا أنْ يحبَّ كحبه لنفسه هؤلاء الأشخاصَ الذين جعلَت المصادفةُ بينه وبينهم هوةً سحيقة. لقد أدى تنوُّعُ الإكراه الذي يُثقِل كاهلَ البشر إلى خلْق وهْمٍ مفاده أنَّ أجناسًا متمايزة بينهم لا يمكنها التواصل. من غير الممكن أنْ يحِبَّ المرءُ ويكونَ عادلاً إلاَّ إذا عرفَ سلطانَ القوة وعرفَ كيف لا يقيم لها وزنًا. إنَّ الروابطَ بين النفس البشرية والقدَر، بمقدار ما تصنع كلُّ نفس قدَرَها، وإنَّ ما تُحوِّلُه الضرورةُ التي لا ترحم في النفس أيًا كانت تحت رحمة القدَر المتغير، وإنَّ ما يمكن أنْ يبقى سليمًا لا عيبَ فيه بفعل الفضيلة والنعمة، إنَّ كلَّ ذلك مادةٌ يكون الكذبُ فيها مستسهَلاً وخادعًا. فالكبرياء والإهانة والكراهية والازدراء واللامبالاة والرغبة في النسيان أو التجاهل، كلُّ ذلك يساهم في الإغراء على الكذب. ليس هنالك، بصورة خاصة، من شيء أندر من تعبير صائب عن المصيبة؛ عندما نصِفُها فإننا نتظاهر دائمًا تقريبًا بالاعتقاد تارةً بأنَّ السقوطَ ميلٌ فطري لدى الشقي وتارةً أخرى بأنَّ النفسَ قد تجلب النحسَ دون أنْ تظهر عليها علاماتُه ودون أنْ يُغيِّرَ جميعَ الأفكار بطريقته الخاصة به. كان اليونانيون يتمتعون، في غالب الأحيان، بقوة نفس تتيح لهم ألاَّ يكذبوا على بعضهم؛ وكانوا يجازَون على ذلك فقد عرفوا كيف يبلغون أعلى درجات البصيرة والصفاء والبساطة في كل شيء. إلاَّ أنَّ الروحَ التي انتقلَت من الإلياذة إلى الإنجيل مرورًا بالمفكرين والشعراء التراجيديين لم تتخطَّ إلاَّ نادرًا حدودَ الحضارة اليونانية؛ ومنذ أنْ أُبيدت اليونانُ لم يبق منها إلاَّ انعكاساتٌ. يعتقد كلٌّ من الرومان والعبريين أنهم ناجون من الشقاء البشري، فأما الرومانُ فلِكَونِهم أُمَّةً اختارها القدَرُ لتكونَ سيِّدةَ العالَم وأما العبريون فبفضلٍ من إلههم بمقدار ما يطيعونه تمامًا. كان الرومانُ يحتقرون الغرباءَ الأعداء والمهزومين ومرؤوسيهم وعبيدهم؛ وهكذا لم يكن لديهم لا ملاحمُ ولا تراجيديات. إذْ كانوا يستبدلون التراجيدياتِ بألعاب المصارعين. وكان العبريون يرون في المصيبة علامةً على الخطيئة، وبالتالي سببًا شرعيًا للاحتقار؛ كانوا يرون أعداءهم المهزومين ممقوتين حتى من الله ومحكومًا عليهم بالتكفير عن جرائمهم، مما يجعل القسوةَ مسموحةً وحتى ضرورية. ولذلك ليس هنالك أيُّ نص من العهد القديم يقدِّم نبرةً مشابهة لنبرة الملحمة اليونانية، إلاَّ ربما بعض أجزاء من نشيد أيوب. كان يُنظَر الرومان والعبريين بإعجاب وتتم قراءتُهم وتقليدهم في الأفعال والأقوال ويُذْكَرون كلما اقتضى تبريرُ جريمة، وذلك على مر عشرين قرن من المسيحية. إضافةً إلى ذلك، لم تنتقلْ روحُ الإنجيل صافيةً إلى الأجيال المتلاحقة من المسيحيين. فمنذ الأزمنة الأولى ساد اعتقادٌ برؤية علامة نعمة عند الشهداء من خلال تحمُّل العذاب والموت بفرح؛ وكأنَّ آثارَ النعمة بإمكانها أنْ تذهبَ عند البشر أبعدَ منها عند المسيح. كان على هؤلاء الذين يعتقدون بأنَّ اللهَ نفسَه، عندما أصبح بشرًا، لم يستطعْ أنْ يرى أمام عينيه قسوةَ القدَر دون أنْ يرتجفَ من الضيق، كان عليهم أنْ يفهموا أنَّ الذين يستطيعون أنْ يترفَّعوا في الظاهر عن الشقاء البشري هم وحدَهم الأناسُ الذين يُموِّهون قسوةَ القدَر أمام أعينهم من خلال اللجوء إلى الوهم والنشوة والخيال. إنَّ الإنسانَ الذي لا يحميه درعُ الكذب لا يمكنه أنْ يتحمل القوةَ دون أنْ تصيبَه في أعماق نفسه. يمكن للنعمة أنْ تَحوْلَ دون أنْ تُفسِدَ هذه الإصابةُ الإنسانَ، ولكنها لا تحول دون حدوث الجرح. ونظرًا لنسيان ذلك، فإنَّ المنقولَ المسيحي لم يعرفْ أنْ يستعيدَ من جديد، إلاَّ نادرًا جدًا، البساطةَ التي تجعل كلَّ جملة من روايات آلام المسيح مؤثِّرةً جدًا. من جهة أخرى، فإنَّ عادةَ تغيير الدين بالإكراه قد حجَبَتْ آثارَ القوة على نفوس من يستخدمونها. على الرغم من النشوة القصيرة التي أحدثَها خلال عصر النهضة اكتشافُ الأحرف اليونانية، فإنَّ عبقرية اليونان لم تُبْعَثْ على مر عشرين قرنًا. لقد ظهر منها شيءٌ عند [الشاعر فرانسوا] ﭭيلُّون François Villon وشكسبير وسرﭭـانتِس وموليير، ومرةً عند راسين. لقد كُشِفَ البؤسُ البشري فيما يخص الحبَّ من خلال مدْرسة النساء وفيدر؛ إنه عصر غريب بالأحرى حيث لم يكنْ مسموحًا، خلافًا لعصر الملاحم [والبطولات]، رؤيةُ بؤس الإنسان إلاَّ في الحب، بدلاً من أنْ تكونَ آثارُ القوة في الحرب والسياسة مغلَّفةً لا محالة دائمًا بالمجد. قد يكون في إمكاننا أيضًا ذِكْرُ أسماء أخرى. ولكنْ لا شيءَ مما أنتجَتْه شعوبُ أوروبا يعادل القصيدةَ الأولى المعروفة التي ظهرت عند أحد هذه الشعوب. سوف يعثرون من جديد ربما على العبقرية الملحمية عندما يعرفون ألاَّ يأْمنوا جانبَ القدَر في شيءٍ وألاَّ ينظروا بإعجاب إلى القوة وألاَّ يَكرَهوا الأعداءَ وألاَّ يحتقروا الأشقياءَ. من غير المؤكَّد أنْ يحصلَ ذلك قريبًا. ترجمه عن الفرنسية: محمد علي عبد الجليل *** *** *** [1] إنَّ ترجمة المقاطع المذكورة ترجمة جديدة. وكل سطر يترجِم بيتًا شعريًا يونانيًا، حيث نُقِلَتْ ترابطاتُ الأبيات والتدويرات rejets والمعاظلاتُ [ارتباط معنى القافية بمعنى البيت التالي] enjambements نقلاً دقيقًا؛ ورُوعيَ، بقدر الإمكان، نظامُ الكلمات اليونانية داخل كل بيت. (حاشية سيمون ﭭـايل.) [2] أثينا بنت زيوس: إلهة الفكر والفن والعلوم والصناعة والتي باسمها تسمَّت مدينةُ أثينا. وتُقابِل المينيرﭭـا la Minerve عند الرومان. (المترجِم) [3] ﭙريام Priam: آخر ملوك طروادة، له من زوجته هيكوب Hécube: هكتور وﭙاريس وكاسندرا. (المترجِم) [4] القَسْورة: اسم من أسماء الأسد؛ ورد ذكره في القرآن الكريم: (فما لهم عن التذكرة مُعْرضين؟ كأنهم حُمُرٌ مستنفِرة، فرَّتْ من قَسْوَرَة.) المدَّثِّر 49-51. (المترجِم) [5] في نيسان / أبريل 1917، كان المتمردون يغنُّون أغنيةَ كرانّ Craonne التي تنتهي لازمتُها هكذا: "لأننا جميعًا مُدانون. نحن المضحَّى بنا." [6] قصيدة ملحمية كتبها الشاعرُ اللاتيني ﭭيرجيل من 12 نشيدًا (29 – 19 ق. م.) وتتحدث عن استيطان الطرواديين في إيطاليا وتأسيس روما. (المترجِم)
|
|
|