|
علم نفس الأعماق
اتَّجهت نظرياتُنا التطورية إلى التركيز على نموِّ نفس الطفل عبر صلتها بالناس الآخرين وعلى دخول الطفل إلى المجتمع الإنساني: يتعلَّم رموزَه وقواعدَه وقيمَه، فارِزًا ومطوِّرًا استقلاليتَه الذاتيةَ ومعزِّزًا ما يُعرَف بـ«الوظائف التنفيذية للأنا»، بحيث تتخذ هذه مكانها في عالم من الذوات الفردية المستقلة، المنفصل بعضها عن بعض. لكن ثمة ثقافات ما تزال حيَّة في عالم اليوم لا تتصور تطور الطفل فقط في العلاقة مع الأسرة أو من خلال انتسابه إلى المجتمع البشري. في بعض المجتمعات القبلية، يصاحب كلَّ شخص، طوال حياته، حيوانٌ طوطمي يُسمَّى باسم الطفل أو بأية أسماء أخرى، ووظيفته أن يجسِّد صلة الطفل بعالم الطبيعة؛ وأي تهديد للحيوان الطوطمي يُعتبَر أيضًا تهديدًا للشخص الذي يعتقد أنه يشاركه هويتَه. في الجنوب الغربي للولايات المتحدة، تحتفي قبائل الهوپي Hopi للعلاقة بين الطفل وعالم الطبيعة بتمثيل شعائري لاعتقادهم بأن المواليد الجُدُد ينبثقون من العالم السفلي عبر سُرَّة الأرض. يبقى الطفل إبان الأيام العشرين الأولى في عتمة هذا التحول؛ بعدئذٍ، عند الفجر، يُحمَل إلى الشرق ويقدَّم إلى الشمس البازغة، بينما أمه تقول: «هذا هو ابنك». لذا يقر الهوپي باعتمادهم على دورات الطبيعة وإيقاعات الزمن اليومي، ولا ينضم الطفل إلى المجتمع البشري فحسب، بل وإلى مجتمع الأرض أيضًا.
تمهيد يناقش
هذا المقال ظاهرة الدَّمْج identification
بوصفها التعبيرَ النفساني عن أبكر
ارتباط عاطفيٍّ يقيمه الطفل مع هوية شخص آخر.
ويقترن هذا الارتباط العاطفي الناشئ، بحسب
التنظير الفرويدي، بِصِلة لَبِيدية (نسبة إلى
اللبيدو libido)
موازية مع ذلك الشخص الآخر. سيبدأ
المقال النقاش حول مجموعة المعاني الجذرية
التي يتضمنها مصطلح "الدمج" من وجهة
النظر اللغوية، ويشدد على المعنى الجذري
المحدَّد، أي سياقه الانعكاسي أو
المطاوعي، الذي تمَّ تطبيقه في أدبيَّات
التحليل النفسي. بعدئذٍ، سيشرح المقال
المضمونين النفسانيين المتناقضين تناقضًا
مطلقًا لمصطلح "الدمج" في تلك الأدبيات:
المضمونَ الإيجابي الذي يشير إلى الشعور
بالإضفاء المثالي، والمضمونَ السلبي (أو
المَرَضي) الذي ينوِّه عن الشعور بالعدوانية،
كما في تنظير آنا فرويد اللاحق. سيتضح، إذن،
أن هذين المضمونين النفسانيين المتناقضين
ناشئان عن الطبيعة الازدواجية، أي
المتأرجحة، لظاهرة الدمج من حيث كونُها شكلاً
مشتقًّا من أشكال الطور الفمِّي في التطور
اللبيدي وتطور الأنا. وعلى فَرْض أن ظاهرة
الدمج تهيِّئ المحيط النفسي لظاهرة عقدة
أوديپ وتمهِّد السبيل لها – تلك الظاهرةِ
الأكثر ألفةً في التطور اللبيدي وتطور الأنا
–، سيشرح المقال، علاوة على ذلك، مساهمة
الدمج في العكس الآنيِّ لعقدة أوديپ، ومن
ثمَّ في تحطيمها الحتمي، بالإشارة إلى بضعة
أمثلة من الأعراض المَرَضية النفسية. بعد
ذلك، سيتطرق المقال إلى التمييز الذي وضعه
لاكان بين ما يُسمى بالدمج الخيالي
والدمج الرمزي، ذلك التمييز غير اليسير
إدراكهُ نظرًا للتغيرات النظرية الملحوظة
التي قد خضع لها مسبقًا في مؤلَّفاته. أخيرًا،
سيبيِّن المقال أن العلاقة المتبادلة بين
الدمج وعقدة أوديپ الآنفة الذكر لعلاقةٌ
متصارعة بين ضدَّين، علاقة تلقي الضوء على
النواحي التطورية للأنا بوصفها ماهيةً
نفسانية. |
|
|