|
الـدَّمْــج (= التماهي) تمهيد يناقش
هذا المقال ظاهرة الدَّمْج identification
بوصفها التعبيرَ النفساني عن أبكر
ارتباط عاطفيٍّ يقيمه الطفل مع هوية شخص آخر.
ويقترن هذا الارتباط العاطفي الناشئ، بحسب
التنظير الفرويدي، بِصِلة لَبِيدية (نسبة إلى
اللبيدو libido)
موازية مع ذلك الشخص الآخر. سيبدأ
المقال النقاش حول مجموعة المعاني الجذرية
التي يتضمنها مصطلح "الدمج" من وجهة
النظر اللغوية، ويشدد على المعنى الجذري
المحدَّد، أي سياقه الانعكاسي أو
المطاوعي، الذي تمَّ تطبيقه في أدبيَّات
التحليل النفسي. بعدئذٍ، سيشرح المقال
المضمونين النفسانيين المتناقضين تناقضًا
مطلقًا لمصطلح "الدمج" في تلك الأدبيات:
المضمونَ الإيجابي الذي يشير إلى الشعور
بالإضفاء المثالي، والمضمونَ السلبي (أو
المَرَضي) الذي ينوِّه عن الشعور بالعدوانية،
كما في تنظير آنا فرويد اللاحق. سيتضح، إذن،
أن هذين المضمونين النفسانيين المتناقضين
ناشئان عن الطبيعة الازدواجية، أي
المتأرجحة، لظاهرة الدمج من حيث كونُها شكلاً
مشتقًّا من أشكال الطور الفمِّي في التطور
اللبيدي وتطور الأنا. وعلى فَرْض أن ظاهرة
الدمج تهيِّئ المحيط النفسي لظاهرة عقدة
أوديپ وتمهِّد السبيل لها – تلك الظاهرةِ
الأكثر ألفةً في التطور اللبيدي وتطور الأنا
–، سيشرح المقال، علاوة على ذلك، مساهمة
الدمج في العكس الآنيِّ لعقدة أوديپ، ومن
ثمَّ في تحطيمها الحتمي، بالإشارة إلى بضعة
أمثلة من الأعراض المَرَضية النفسية. بعد
ذلك، سيتطرق المقال إلى التمييز الذي وضعه
لاكان بين ما يُسمى بالدمج الخيالي
والدمج الرمزي، ذلك التمييز غير اليسير
إدراكهُ نظرًا للتغيرات النظرية الملحوظة
التي قد خضع لها مسبقًا في مؤلَّفاته. أخيرًا،
سيبيِّن المقال أن العلاقة المتبادلة بين
الدمج وعقدة أوديپ الآنفة الذكر لعلاقةٌ
متصارعة بين ضدَّين، علاقة تلقي الضوء على
النواحي التطورية للأنا بوصفها ماهيةً
نفسانية. الشرح من
حيث المنظور اللغوي، تُستعمَل الصيغة
الاسمية، المصدرية، "الدَّمج" أو "الدُّموج"
للدلالة على مجموعة المعاني الجذرية
المتميزة والمرتبطة بعضها ببعض ارتباطًا
مجرَّدًا، تلكَ المعاني الجذريةِ التي
تحدِّدها التغييراتُ الجوهرية في المحتوى
التصوري ideational
content للصيغة
الفعلية "دَمَج". وتتحدَّد هذه
التغييرات الجوهرية بدورها تبعًا لقوى
التكافؤ المقصودة التي تفرض عددَ العبارات
الاسمية وأنواعَها، أي المفاعيل بالإضافة
إلى الفاعل، ضمن إطار الصيغة الفعلية
وكمونيَّتها في الاقتران بهذه العبارات
الاسمية. وعلى ذلك، تنسجم قوى التكافؤ
المقصودة مع مجموعة السياقات الدلالية
للصيغة الفعلية، التي يمكن إيجازها على النحو
التالي. -
أولاً، في
السياق المتعدِّي الأحادي للصيغة الفعلية
"دَمَج"، تعيِّنُ قوةُ التكافؤ المقصودة
لهذه الصيغة عبارةً اسميةً خارجيةً واحدة، أو
مفعولاً خارجيًّا واحدًا ليس إلا، نحو: دَمَج
فلانٌ في الشيء أي دخل فيه واستحكم فيه. -
ثانيًا، في
السياق المتعدِّي الثنائي للصيغة الفعلية
"دَمَّج"، تحدِّد قوةُ التكافؤ المقصودة
لهذه الصيغة مجموعةً مؤتلفة من عبارتين
اسميتين خارجيتين، أو مفعولين خارجيين، نحو:
دَمَّج فلانٌ فلانًا في الشيء ودَمَّج فلانٌ
شيئًا في الشيء أي أدخلهما فيه وجعلهما
يستحكمان فيه. -
ثالثًا، ما
بين السياق المتعدِّي الأحادي والسياق
المتعدِّي الثنائي، ينشأ ما يسمَّى بالسياق
الانعكاسي، أو المطاوعي، للصيغة الفعلية "دَمَج"
أو "دَمَّج"، بحيث تخصِّصُ قوةُ التكافؤ
المقصودة لهذه الصيغة مجموعةً مؤتلفةً من
عبارة اسمية داخلية، أو مفعول داخلي، وعبارة
اسمية خارجية، أو مفعول خارجي، نحو: دَمَج/دَمَّج
فلانٌ نفسَه في فلان، ودَمَج/دَمَّج فلانٌ
نفسَه في الشيء أي أدخل نفسه فيهما وجعلها
تستحكم فيهما (= تماهى فيهما)[2]. وهكذا،
على وجه التعميم، يتضح أن ثمة، في المحتوى
التصوري للصيغة الاسمية "الدَّمْج"،
ثلاثة معانٍ جذرية متميزة من خلال سياقاتها
الدلالية على الأقل، وأن المعنى الجذري، في
سياقه الانعكاسي أو المطاوعي، على وجه
التحديد، ليبدو المعنى الذي يحتل مكان
الصدارة في خضم أدبيات التحليل النفسي، حيث
لا يعني بالضرورة مصطلحُ "الدَّمْج" في
هذا السياق إثباتَ المرء هُويَّته إثباتًا
متعمَّدًا أي واعيًا. ذلك لأن الحالة
النفسانية، إنْ كانت مثالاً من أمثلة الدمج،
لتتجلَّى على ما يظهر في مستويين هامَّين من
مستويات التمثيل النفساني، أو التطور
النفساني بالأحرى، مستويين ليس من السهل
إدراكهما فيما يتعلق بالإطار الكلِّي
لعمليتَي التطور اللبيدي وتطور الأنا. ففي
المستوى الأول، تتمثل الحالة النفسانية، من
جهة، في شكل ناقص النموِّ إبان مرحلة
الطفولة، بحيث إن الحدَّ الفاصل بين المفعول
الداخلي، أو الشخص/الشيء الداخلي، وبين
المفعول الخارجي، أو الشخص/الشيء الخارجي،
غيرُ قابل للإدراك بعد، فتنجم عن ذلك محايدةٌ
للتمييز الصارخ بين العالم الباطني، أي
النفس، والعالم الظاهري. في
مستوى التمثيل النفساني هذا، ليس بوسع الطفل
أن يميز أيَّ معنى من معاني الهُوية خاصٍّ به؛
إذ إن عجزه عن إدراك الحدِّ الفاصل المشار
إليه قبل قليل يمكن عزوُه إلى "صراعه"
الحتميِّ – صراع الطفل – مع أطوار أخرى، أو
حتى فروعها، من أطوار التطور اللبيدي وتطور
الأنا. وفي المستوى الثاني، تتمثل الحالة
النفسانية، من جهة ثانية، في شكل أكثر نموًّا
إبان مرحلة الطفولة، بحيث إن الحدَّ الفاصل
بين الشخص/الشيء الداخلي وبين الشخص/الشيء
الخارجي، قابلٌ للإدراك في ظل الظروف
الحاضرة، فينشأ عن ذلك إحياءٌ، لامحايدة،
للتمييز الصارخ بين العالم الباطني (= النفس)
والعالم الظاهري. في مستوى التمثيل النفساني
هذا، إذن، في مقدور الطفل أن يميز "معنى"
ما من معاني الهُوية خاصًّا به، لأن مقدرته
على إدراك الحدِّ الفاصل المنوَّه عنه تجيز
له أن يولِّد إما شعورًا بالإضفاء المثالي
وإما شعورًا بالعدوانية نحو الشخص/الشيء
الخارجي (= العالم الظاهري)، بحيث تتمُّ
مخاطبة هذا الشعور الأخير بلغة المحاربة
النفسانية من خلال التدخل المباشر لآلية من
آليات الدفاع بشكل أو بآخر. وعلى وجه القياس،
يظهر أن هذين الشعورين بالإضفاء المثالي
وبالعدوانية يناظران مضمونَي الدمج الإيجابي
والسلبي (أو المَرَضي)، على الترتيب، كما
سيتمُّ إيضاحه بعد قليل. وبطريقة
مشابهة فيما يبدو، يستخدم فرويد مصطلح "الدمج"
غالبًا في مؤلَّفاته بالإشارة إلى المعنى
الجذري في إطار سياقه الانعكاسي (أو المطاوعي)،
ليؤكد الظاهرة النفسانية التي ينزع الطفل
بواسطتها إلى الاستيلاء الكلِّي أو الجزئي
على سمة خاصة، أو أكثر، كان قد أدركها
واستوعبها في الشخص/الشيء الخارجي. ومن ثمَّ،
يؤدي هذا الاستيلاء الكلِّي أو الجزئي إلى أن
هُوية الطفل (أو "معناها" المُدْرَك)
تخضع لسلسلة من التحولات المثيرة للعاطفة عن
طريق سلسلة موازية لها من حالات الدمج التي
تمر مرورًا تدريجيًّا إلى حدٍّ ما[3].
ووفقًا لذلك، يمكن للدمج في هذا السياق أن
يعبِّر عن ارتباط الطفل العاطفي الأكثر
بُكورًا بهوية شخص أو شيء، بحيث إن "معنى"
الهوية المُدْرَك يشير إلى المفعول الداخلي (أي
النفس أو العالم الباطني) وأن هوية الشخص أو
الشيء المُرْتَبَط بها تنوِّه عن المفعول
الخارجي (أي العالم الظاهري)[4].
ففي ظاهر الأمر من هذه القرينة، تستلزم أيةُ
حالة من حالات الدمج كينونتين نفسانيتين على
أقلِّ تقدير: كينونة تباشر فعل الدمج، أي
الشخص الذي يدمج نفسَه في شخص أو شيء، وكينونة
تحرِّض على القيام بفعل الدمج، أي الشخص أو
الشيء اللذين يدمج شخصٌ نفسَه في أحدهما. فأما
الشخص الذي يدمج نفسَه في شخص أو شيء (سمِّهِ
من الآن فصاعدًا "الدامج" identifier)
فيتجسَّد في الوجود الفعلي للمولود؛ وأما
الشخص أو الشيء اللذين يدمج شخصٌ نفسَه في
أحدهما (سمِّهِ قياسًا "المدموج" identified)
فيتجسَّد في السِّمة الخاصة، أو مجموعة
السمات الخاصة، التي تمَّ إدراكها
واستيعابها في الوالد ذي الجنس المماثل أو
أية نيابة، إنسانية أو غير إنسانية، تنوب
منابه. وهكذا
يمكن للعلاقة الناشئة بين الدامج والمدموج،
في حدِّ ذاتها، أن تفضيَ إلى البناء النفساني
للدامج، إذ يبدو في هذه الحالة أن ثمة تقاربًا
عاطفيًّا ملحوظًا بين الكينونتين؛ أو يمكن
للعلاقة الناشئة، على النقيض من ذلك، أن
تتأوَّج في الهدم النفساني للدامج، إذ يظهر
في هذه الحالة أن هناك تباعدًا عاطفيًّا بين
الكينونتين بدلاً من التقارب. يتضح،
إذن، أن هذا التناقض المطلق بين بناء الدامج
النفساني، من جهة، وبين هدمه النفساني، من
جهة ثانية، ليدلُّ على أن للدمج مضمونين
متناقضين تناقضًا مطلقًا، أحدهما إيجابي
والآخر سلبي (أو مَرَضي)، ذينك المضمونين
اللذين يوازيان توليد الشعور بالإضفاء
المثالي والشعور بالعدوانية، كما أشير
إليهما آنفًا. فيما
يتعلق بالمضمون الإيجابي للدمج، قد يفضي
فحوى العلاقة بين الدامج والمدموج إلى البناء
النفساني للدامج، بناءٍ يسير باتجاه التكوين
النفساني للمدموج إنْ لم "ينحرف" هذا
التكوين عن اتجاهه أصلاً، كما يمكن رصدُ ذلك
البناء رصدًا علميًّا في المسار "السوي"
لعمليتَي التطور اللبيدي وتطور الأنا. ففي
هذه الحالة، قد يعيد البناءُ النفساني ذاتَه
في الحضور المتواصل للتقارب العاطفي بين
الدامج والمدموج، حضورٍ يطيل بتواصله بقاءَ
ما تمكن تسميتُه بسلسلة تدريجية من أشكال
إعادة البناء النفساني للدامج، أو من تحولات
بنَّاءة نفسانيًّا بالأحرى، عن طريق سلسلة
تدريجية موازية لها من حالات الدمج التي لا
تدعو إلى التنفير والانسلاب. وعلى ذلك، يمكن
ضرب المثَلين النموذجيين لفحوى العلاقة بين
الدامج والمدموج بمضمونها الإيجابي على
النحو التالي: تدمج
الطفلة نفسها في الأم (أو في المرأة التي تنوب
عن هذه الأخيرة)، ويدمج الطفل نفسه في الأب (أو
في الرجل الذي ينوب عن هذا الأخير). فيدل ذلك
المضمون الإيجابي على نوع من الإضفاء المثالي
من طرف الدامج، إضفاءٍ بوصفه وسيلةً عاطفيةً
يتخذ الدامجُ بواسطتها المدموجَ مثلاً أعلى
أو نموذجًا يُحتذى[5].
لهذا السبب، فإن الصلة اللبيدية التي تميل
إلى النشوء عن الدمج الإيجابي لَصلةٌ تتسم
بطابع شكلٍ مشتقٍّ من أشكال تركيز الطاقة
النفسية cathexis
على الشيء (أو "توظيفها"، كما
في اللغة الألمانية)، تركيز يتسم، بدوره،
بطابع رابطٍ نرجسي من روابط "اشتهاء الجنس
المماثل" homosexual،
إذ ليس في الواقع شكلُ تركيز الطاقة النفسية cathexis
هذا سوى شكل آخر من أشكال تمثيل
الشيء[6]. وهكذا،
على ما يبدو، تتكشَّف هذه الصلة اللبيدية عن
تغايُر سافر بينها وبين الصلة اللبيدية التي
تنزع إلى الانبثاق عن ظاهرة عقدة أوديپ
الأكثر ألفة، تلك الظاهرةِ التي تبيِّن أن
تركيز الطاقة النفسية على الشيء ليتسم، على
العكس من ذلك، بطابع رابطٍ "غيريٍّ" من
روابط "اشتهاء الجنس المغاير" heterosexual،
كما سيتم تفصيله بعد قليل. وبالتالي، تحثُّ
ظاهرة الدمج، بصرف النظر عن طبيعة مضمونه،
على الاقتراح بأن العلاقة الحاضرة التي تنشأ
فعلاً بين الدامج والمدموج ليست، من حيث
المبدأ، سوى تكرار مباشر أو غير مباشر لعلاقة
ماضية سبق لها أن نشأت بين الوالد والجدِّ
ذوَي الجنس المماثل، أو مَن ينوب عن الأخير،
إذ يظهر أن هذا التكرار العِبْرزمنيَّ diachronic
يضفي على ظاهرة الدمج صفتين
نشوئيتين متلازمتين تتعلق إحداهما بنشوء
الكائن الحي ontogenetic
وتتعلق الأخرى بنشوء النوع phylogenetic. وفيما
يخص المضمون السلبي، أو المَرَضي، للدمج، من
جهة ثانية، فقد يسهم فحوى العلاقة بين الدامج
والمدموج في الهَدْم النفساني للدامج، بدلاً
من بنائه، هدمٍ يسبِّبه اتجاهُ التكوين
النفساني للمدموج إنْ "انحرف" هذا
التكوين عن اتجاهه أصلاً، كما يمكن أيضًا
رصدُ ذلك الهدم رصدًا علميًّا، ولكنْ في
المسار "غير السويِّ" لعمليتي التطور
اللبيدي وتطور الأنا. ففي هذه الحالة، قد
يتفاقم الهدم النفساني ذاتُه في الحضور
المستمرِّ للتباعد العاطفي بين الدامج
والمدموج، حضور يُخضِعُ الدامجَ، إذا جاز
التعبير، لسلسلة تدريجية من أشكال إعادة
الهدم النفساني، أو تحولات هدَّامة
نفسانيًّا بالحري، عن طريق سلسلة تدريجية
موازية لها من حالات الدمج التي تدعو إلى
التنفير والانسلاب. وهكذا، لكي يتمَّ إبطالُ
مفعول التأثيرات الوشيكة لهذا الهدم
النفساني – من طرف الدامج –، تتحول ظاهرة
الدمج إلى آلية فعَّالة من آليات الدفاع defence
mechanisms، آليةٍ تشير إلى ما
يُسمَّى بـ"الدمج في المعتدي"، أي دمجُ
الدامجِ نفسَه في شخص أو شيء معتدي، على حدِّ
تعبير آنا فرويد[7]،
مع أن أباها (أي زيغموند فرويد نفسه) كان قد
ألمع إلى تضمينات هذه الآلية في سياق حديثه عن
التجارب البغيضة المرعبة التي يدركها الطفل
– أي الدامج – ويستوعبها بغية السعي وراء "اللذة
من مصدر آخر"[8]. ويتضح
أن اللجوء الجلِّي إلى آلية الدفاع هذه
لَلجوءٌ إنْ هو إلا محاولة تنطوي على التمرد
والعصيان، محاولة تتيح للدامج فرصة التضلُّع
من ضَرْب من ضروب الحَصَر النفسي anxiety
أو حتى الرُّهاب phobia،
ومن ثمَّ التغلُّب عليهما. إذ يحدث اللجوء
الجلِّي إلى آلية الدفاع تلك في مواقفَ
تبيِّن أن الدامج يحاول أن يدمج نفسَه في سمة
خاصة من سمات المدموج، أو أكثر، ذات طابع
عدواني، سمة خاصة لم يزل الدامج يقاسي منها
خلال تجربته مع المدموج، ممَّا يولِّد في
الأول الشعور بالعدوانية، كما تمَّ ذكره
آنفًا. ثمة
أمثلة نموذجية على فحوى العلاقة بين الدامج
والمدموج بمضمونها السلبي (أو المرضي) تشير
إلى طفل يتحقق من وجود معلِّم صَفيق ليس غير،
فإذا به يقلِّد كِشْرةَ هذا المعلم تقليدًا
لاإراديًّا، أو تشير إلى طفلة تتخيَّل حضورَ
شبح مُروِّع فحسب، فإذا بها تتظاهر بأنها هذا
الشبح تظاهرًا "إراديًّا". وهكذا، فمن
خلال المحاكاة الإرادية أو اللاإرادية لسمة
خاصة من سمات المدموج التي تم إدراكها
بطابعها العدواني، يقوم الدامج، على ما يبدو،
بتحويل نفسه تحويلَ العارف من سلوك
المُنفعِلية الدفاعية إلى سلوك الفاعلية
الهجومية، تحويل يُبدي للعِيان العكسَ
الفعلي لأداء الدامج الذي كان يؤدي دور
المعتدَى عليه ثم صار يؤدي دور المعتدِي ذاته.
لهذا السبب، فإن الصلة اللبيدية التي تميل
إلى النشوء عن الدمج السلبي (أو المرضي) لا
يمكن اعتبارها صلةً تتسم بطابع الرابط
النرجسي الآنف ذكره (كما هي الحال في الدمج
الإيجابي)، بل يمكن اعتبارها صلةً تتسم بطابع
الرابط السادي–المازوخي، ذلك الرابط الذي
ليس في الواقع سوى انصهار غير سويٍّ لدوافعَ
لبيديةٍ وعدوانية[9]. وبناءً
على ما تقدم، فإن هذا التغايرَ الصارخ بين
مضمونَي الدمج الإيجابي والسلبي (أو المَرَضي)
لَيفترض مقدمًا أن له طبيعةً ازدواجية (أي
متأرجحة)، طبيعةً تشدد على ظاهرة الدمج
بوصفها شكلاً مشتقًّا من أشكال الطور الفمِّي
في التطور اللبيدي وتطور الأنا، حيث يتم في
هذا الحين كُنونُ الرغبة في الشخص أو الشيء (الخارجي)،
ومن ثمَّ يُصار إلى تحطيم هذا الشخص أو الشيء
في حين آخر (كما يتجلَّى ذلك، على وجه الضبط،
في الممارسة الفعلية لآكل لحم البشر cannibal
الذي يُبدي في البداية توقًا عاطفيًّا شديدًا
إلى التهام ألدِّ خصومه، ولكنه في النهاية
يلتهم مُساكِنيهِ الأكثر حميميةً)[10]. يتضح
على ما يظهر، إذن، أن التغايرَ الصارخ بين
مضمونَي الدمج الإيجابي والسلبي (أو المَرَضي)
هذا لَقابلٌ للمقارنة بالتمييز الجلِّي بين
النزوع إلى المَصِّ الفمِّي والنزوع إلى
العَضِّ الفمِّي (لدى الرضيع)، كما يدل
حرفيًّا مَعْنَيا هذين المصطلحين، ذلك
التمييز القياسي الذي تمَّ وضعه بين طورين
فرعيين للطور الفمِّي[11].
وبما أن المِنطقة اللبيدية لفتحة الفم لَهي
المنطقة الأساسية للإثارة الحسية/الجنسية (أي
المصدر الرئيسي للحصول على اللذة) في الطور
الفمِّي، فإن الدامج الذي يركِّز رغبته
الحسية/الجنسية على شخص أو شيء (خارجي)
تركيزًا لاواعيًا في الطور ذاته لا ينزع إلى
دمج نفسه دمجًا إيجابيًّا في هذا الشخص أو
الشيء بوصفه شخصًا أو شيئًا مثاليًّا (أي
العالم الظاهري الذي يقيم الدامجُ معه علاقةً
مثالية)، بل ينزع إلى دمج نفسه دمجًا سلبيًّا (أو
مَرَضيًّا) في الشخص أو الشيء عينه، دمجًا
يفضي بالدامج إلى إضماره حساسيةَ التعرُّض
للنَوَسان المَسِّي–الانقباضي manic-depressive
oscillation
الخطير في مراحلَ لاحقة.
وهكذا، إذا ركَّز الرضيع رغبته الحسية/الجنسية
على ثدي الأمِّ تركيزًا لاواعيًا – علمًا بأن
هذا الثديَ لهو ذلك الشيء الخارجي الوحيد
الذي يتيح له تمثيلَ العالم الظاهري في الطور
الفمِّي – فسوف يؤدي التركيزُ الرَغَبيُّ
الناشئ بالرضيع إلى دمج نفسهِ في الثدي دمجًا
سلبيًّا (أو مَرَضيًّا)، دمجًا لا بدَّ له من
أن ينوسَ فيما بعد بين التملُّك العدواني
للأمِّ بالإضافة إلى ثديها، من جهة (وهذا ما
ينمُّ عن النوسان المَسِّي)، وبين خُسرانه
المخيِّب الأمل للشخص الخارجي (أي الأم) أو
الشيء الخارجي (أي الثدي) أو كليهما معًا، من
جهة ثانية (وهذا ما ينطوي على النوسان
الانقباضي). وفضلاً عن ذلك أيضًا، حتى في حالة
دمج المولود نفسَه دمجًا إيجابيًّا في الوالد
ذي الجنس المماثل (أو مَن يقوم مقامه)، فإن
التعبيرَ المفرط إفراطًا غير سويٍّ عن
الارتباط العاطفي الذي يقيمه الدامج مع هوية
المدموج من أثر ذلك الدمج "الإيجابي"،
لَتعبيرٌ سوف يصير به المصير إلى ظهور أعراض
مشابهة (إنْ لم تكن الأعراضَ عينَها تمامًا)
للنَّوَسان المَسِّي–الانقباضي الخطير،
وخصوصًا حين يستحثُّ المدموجُ هذا الارتباطَ
العاطفي استحثاثًا مفرطًا ويشدِّد عليه
تشديدًا نرجسيًّا زائدًا عن حدِّه، تشديدًا
إنْ هو إلا ذريعة يتخذها المدموج لكي يسُدَّ
عددًا محددًا من الثغرات النفسانية (أو
الثلمات النفسانية بالحري) في وعيه الذاتي
المتقلقل. وبالتالي، سوف ينحو التغايرُ
الصارخ بين مضمونَي الدمج الإيجابي والسلبي (أو
المَرَضي) نحوَ المحايدة الجذرية في هذه
الحالة، ومن ثمَّ يتجه الدمجُ في الاتجاه "المنحرف"
لمضمونه السلبي (أو المَرَضي) في آخر الأمر،
الأمر الذي يُنذِرُ بابتداء المسار "غير
السوي" لعمليتَي التطور اللبيدي وتطور
الأنا. ومما
ينتج عن ذلك أن ظاهرة الدمج، في حالة الغياب
"المؤجَّل" لمضمونه السلبي (أو المَرَضي)،
لَظاهرةٌ تهيِّئ، على ما يبدو، المحيطَ
النفسي لظاهرة عقدة أوديپ وتمهِّد السبيل
لها، نظرًا لاشتقاق الظاهرة الأولى، بمقتضى
طبيعتها الازدواجية (أي المتأرجحة)، من شكل من
أشكال الطور الفمِّي في التطور اللبيدي وتطور
الأنا. بالإضافة إلى هذا، يُعتبَر الطورُ
الفمِّي، كما تدلُّ المنطقة الأساسية
للإثارة الحسية/الجنسية في الطور ذاته دلالةً
واضحة، يُعتبَر الطورَ الأكثر بُكورًا بين
الأطوار الثلاثة التي تحدِّد الفترة
المعروفة بالدور ما قبل الأوديپي (ذلك الدور
الذي يبدأ بالطور الفمِّي oral،
وبعده يُستأنَف بالطور الشرجي anal،
ثم ينتهي بالطور القضيبي phallic).
وعلى الرغم من تحديد الدور ما قبل الأوديپي،
قد تستمر ظاهرة الدمج في سَرَيان تأثيرها في
الحضور "الناشئ" لظاهرة عقدة أوديپ حين
تباشر سَرَيان تأثيرها هي الأخرى، بحيث يفضي
هذان السَّرَيانان بالدامج إلى إبدائه نوعين
متفرِّدين من الارتباط العاطفي: -
أولاً،
ارتباط عاطفي مع الوالد ذي الجنس المماثل (كما
هي الحال في الدمج)؛ -
وثانيًا،
ارتباط عاطفي مع الوالد ذي الجنس المغاير (كما
هي الحال في عقدة أوديپ). وعلى
ذلك، يمكن ضرب المثلين النموذجيين لهذين
النوعين المتفرِّدين من الارتباط العاطفي
على النحو التالي: إن
الطفلة التي تدمج نفسها في الأم (أو في المرأة
التي تنوب منابها) لَتأخذُ في التنمية
الحقيقية لتركيز طاقتها النفسية على الأب (أو
على الرجل الذي يقوم مقامه)؛ وإن الطفل الذي
يدمج نفسه في الأب (أو في الرجل الذي ينوب
منابه) لَيشرعُ في الإنماء الحقيقي لتركيز
طاقته النفسية على الأم (أو على المرأة التي
تقوم مقامها). وكما سبق ذكره في الكلام على
المضمون الإيجابي للدمج، فإن الصلة اللبيدية
التي تنشأ عن الدمج لَتختلفُ اختلافًا
جوهريًّا عن الصلة اللبيدية التي تنجم عن
عقدة أوديپ: فبينما توحي الصلة اللبيدية
الأولى إلى تركيز الطاقة النفسية تركيزًا
يتسم بطابع رابطٍ نرجسيٍّ من روابط "اشتهاء
الجنس المماثل"، تشير الصلة اللبيدية
الأخيرة إلى تركيز الطاقة النفسية تركيزًا
يتسم، على النقيض من ذلك، بطابع رابطٍ "غيريٍّ"
من روابط "اشتهاء الجنس المغاير". ويستمر
هذان النوعان المتفرِّدان من الارتباط
العاطفي (أو الصلة اللبيدية) بسَرَيانَي
تأثيريهما جنبًا إلى جنب لفترة معينة من
الزمن دون الممارسة المباشرة لأيٍّ من
التأثيرين على الآخر، إذ يتضح أن هذه الحالة
تشدد على التباعد النفساني بين هذين النوعين.
بعدئذٍ، تبدأ الفترة الحتمية لتداخلهما
الذاتي، فيتمُّ "دمجُ" النوعين واحدهما
في الآخر، إذا صحَّ القول، ويتبيَّن أن هذه
الحالة تشدد على التقارب النفساني بدلاً من
التباعد. وبالتالي، يتجلَّى الحضور الطبيعي
لعقدة أوديپ ناشئًا عن هذا التداخل الذاتي،
وخاصة حين يعكس الدمج مضمونه السلبي (أو
المَرَضي) أو حين "يتخذ مظهرًا عدائيًّا"،
على حدِّ تعبير فرويد[12]. ومما
ينتج عن ذلك أيضًا أن التعبيرَ المسرف
إسرافًا غير سويٍّ عن الارتباط العاطفي الذي
يلازم، أو عن الصلةِ اللبيدية التي تلازم،
الدمجَ بمضمونه "الإيجابي" لَتعبيرٌ
يمكن له أن يحثَّ بسهولة العَكْسَ الفعليَّ
لعقدة أوديپ، بحيث إن العكسَ الفعلي هذا
يجسِّم تحولاً نفسانيًّا يميل الدامج من
خلاله إلى الإنماء الحقيقي لتركيز طاقته
النفسية على المدموج ذاته. ووفْقًا للتحول
النفساني المجسَّم، إذن، قد يشير العكسُ
الفعلي لعقدة أوديپ إلى حالات تمثِّلُ شكلاً
مشتقًّا من أشكال تركيز الطاقة النفسية على
الشخص/الشيء، ذلك التركيز الذي يتسم بطابع
رابطٍ نرجسيٍّ من روابط "اشتهاء الجنس
المماثل"، كما هي الحالة في الدمج. ففي
حالات كهذه، فإن التمييز بين الإضفاء
المثالي، أي إضفاء الدامجِ صفةً مثالية على
المدموج، كما سبق ذكره، وبين ما تمكن تسميته
بالتشْييء اللبيدي، أي اختيار المولودِ
الدامجِ للوالدِ المدموجِ ذي الجنس المماثل،
بوصف هذا الأخير شيئًا لبيديًّا، لَتمييزٌ
إنْ هو إلا تمييز متطابق بين النزعة
الكينونية، أي النزعة التي يريد الدامجُ من
خلالها أن يكون مثلَ كينونة المدموج، وبين
النزعة المِلكية، أي النزعة التي يريد
الدامجُ من خلالها أن يملِك كينونة المدموج
بدلاً من أن يكون مثلها، على الترتيب[13][14]. وبما
أن حدوثَ نشوءِ الدمج بمضمونه "الإيجابي"
حدوثٌ ممكنٌ مسبقًا (أي ممكنٌ حتى قبل أن
ينمِّيَ الدامجُ أيَّ شكل من أشكال تركيز
الطاقة النفسية على الشخص/الشيء)، فإن
التمييزَ بين النزعة الكينونية (أو الإضفاء
المثالي) وبين النزعة المِلكية (أو التشْييء
اللبيدي)، إذن، لَتمييزٌ مرهون بوجود الكيفية
(أو عَدَمها) التي يسعى بها الارتباط العاطفي (أو
الصلة اللبيدية) إلى صياغة الأنا المكنونةِ
في الدامج على غَرارة الأنا المكنونةِ في
المدموج. إذ لدى العكس الفعلي لعقدة أوديپ، من
وجهة النظر هذه، يميل الدمج، على ما يبدو، إلى
إظهار "مَكْنُونِ" طبيعته الازدواجية (أي
المتأرجحة) إظهارًا أكثر جلاءً في سياق تحليل
أعراض معينة من الأعراض المَرَضية النفسية.
وهكذا، في الدراسات الميدانية لأعراض
العُصاب neurosis،
من جهة، قد يولِّد عَرَضُ الدامجِ عَرَضَ
المدموجِ ذاتَه حين يُبدي الأولُ نزعةً
كينونية نحو الأخير (أي حين يُضفي عليه صفةً
مثالية)، كما هي الحال في البنت الصغيرة (التي
خضعت لتحليل فرويد) التي كانت تحاكي إصابةَ
أمِّها بالسعال المبرِّح محاكاةً إرادية. ففي
هذه الحالة، يتجلَّى العَرَض العُصابي في
تعبيره عن الرغبة العدائية للبنت الصغيرة في
أن تَحِلَّ محلَّ أمِّها، بينما كانت (أي
البنت) في الوقت ذاته تنمِّي تركيز طاقتها
النفسية على أبيها تنمية حقيقية من أثر
شعورها بالذنب[15].
وفي الدراسات الميدانية لأعراض الهَرَع hysteria،
من جهة ثانية، يمكن أيضًا لِعَرَض الدامج أن
يولِّد عَرَضَ المدموج ذاتَه، ولكن حين
يُظهِر الأولُ نزعةً مِلكية نحو الأخير (أي
حين يشيِّئه تشييئًا لبيديًّا) بدلاً من
النزعة الكينونية، كما هي الحال في البنت
الشابة دورا (التي خضعت لتحليل فرويد أيضًا)
التي كانت هذه المرة تقلِّد إصابةَ أبيها
بالنَّزْلة الشُّعَبية المعذِّبة تقليدًا
"لاإراديًّا". ففي هذه الحالة، يتجلَّى
العَرَض الهَرَعي في تعبيره عن تنمية البنت
الحقيقية لتركيز طاقتها النفسية على أبيها من
جراء عطفها وقلقها الصادقين عليه، بينما كانت
في الوقت عينه تُضمِرُ رغبةً لاعدائية في
اعتناقها empathy
لسَقام أمِّها العاطفي إضمارًا
واعيًا لا رياءَ فيه[16].
وبالتالي، يتبين أنه ليس للدامج، في أثناءَ
تخلُّل العكس الفعلي لعقدة أوديپ، سوى أن
يقوم بدمج نفسه في سمة خاصة مُفرَدة من سمات
المدموج ليس غير، سواء كانت نزعة الدامج نحو
المدموج نزعةً كينونيةً ذات طابع عدواني أم
نزعةً مِلكيةً ذات طابع لاعدواني. وفي
هذا الصدد، ينظرُ لاكان من طرفه إلى السمة
الخاصة المُفرَدة هذه باعتبارها "دالاًّ"
signifier
له مدلولهُ signified،
وذلك بمقتضى محلِّه كعنصر في نظام تفاضلي
لدوالٍّ لها مدلولاتها أيضًا، دالاًّ تمَّ
تمثيلُه في البدء كرمز أصلي (أو كمجرد دالولٍ sign
ليس إلا)، فتمَّ من ثمَّ إشرابه تحت
تأثير ما يسميه لاكان بـ"الدمج الرمزي"،
ذلك المصطلح الذي يعني بحرفيته "دَمْج
النفسِ (أي نفسِ الدامج) في الدال" على وجه
التحديد[17]. ففي
الممارسة الفعلية للتحليل النفسي، يجري
النظر إلى الدمج الرمزي هذا كمصطلح يدل في
نهاية المطاف على "دَمْج النفسِ (أي نفسِ
الدامج) في العَرَض"، فيدلُّ من ثمَّ بدوره
على ما تمكن تسميته الآن بـ"الدالِّ
العَرَضي" (كما يتجلَّى ذلك واضحًا في
العَرَضَين الآنف ذكرهما: عَرَضِ محاكاة
السعال المؤلم وعَرَضِ تقليد النَّزْلة
الشُّعَبية الموجعة). ومما يجدر ذكره هنا أن
مصطلح الدمج الرمزي سبق له أن خضع لتغيرات
نظرية ملحوظة في مؤلَّفات لاكان: فمن جهة،
تمَّ تعريف المصطلح بفحوى "دَمْج النفسِ (أي
نفسِ الدامج) في الأب" لدى العكس الفعلي
لعقدة أوديپ؛ ومن جهة أخرى، تمَّ تعيين
المصطلح ذاته، على النقيض من ذلك، بمغزى "دَمْج
النفسِ (أي نفسِ الدامج) في الصورة المقدَّسة
للآخَر (الـimago
أو الأمَجية الذهنية)" في إطار
نظرية وراثية للأنا، نظريةٍ تشير إلى هذا
الآخَر باعتباره الوالدَ المدموجَ ذا الجنس
المماثل وفقًا للمسار النفساني الطبيعي
لظاهرة الدمج، كما هي الحالة اللااستثنائية
في التنظير الفرويدي[18].
وفي كلٍّ من النقيضين، فضلاً عن ذلك، تمَّ
أيضًا التغايُرُ السافر بين الدمج الرمزي
كعملية نفسانية "متطوِّرة" وبين ما
يدعوه لاكان بالدمج الخيالي كعملية
نفسانية "بدائية" أكثر بُكورًا في
التطور اللبيدي وتطور الأنا، تلك العمليةِ
التي تدلُّ على "دَمْج النفسِ (أي نفسِ
الدامج) في الصورة المقدَّسة للذات (الـimago
أو الأمَجية المرئية)" في طور
المرآة. إذ يدرك المولودُ (الإنسانيُّ) في هذا
الطور الشكلَ الأكثر "بدائية" لتحقُّق
الذات المنعكس، ومن ثمَّ يستوعبه استيعابًا
يتهلَّلُ له قبولاً واستحسانًا (على العكس من
حالة المولود الحيواني الذي يَظهر أنه يمتعض
من شكل "تحقُّقِ الذات المنعكس، ويمُجُّه
حين يرى صورته في المرآة للمرَّة الأولى).
وهكذا، يتبيَّن أن الدمج الخيالي يدخل على
وجه الحصر ضمن نطاق المَنْظِم الخيالي[19]،
فيشير عندئذٍ إلى سلسلة التحولات النفسانية
التي يخضع لها الدامج خضوعًا محتومًا لدى
انتحاله صورةً مرآوية خاصَّة به، صورةً
بوسعها أن تكون بمثابة ذلك الشيء الذي يجسِّد
عَتَبة العالم الظاهري (أو العالم المرئي في
حدِّ ذاته)[20].
لهذا السبب، فإن إشرابَ تلك الصورة المرآوية
الذي يحدث تحت تأثير الدمج الخيالي لَيوحي
إلى ما تمكن تسميته الآن بـ"الدالِّ
المرآوي" (وذلك بالقياس الضدِّي إلى ما
تمَّت تسميته بالدالِّ العَرَضي المشار إليه
قبل قليل). وعلى الرغم من توكيد التغاير
السافر بين الدمج الرمزي والدمج الخيالي، على
هذا النحو، إلا أنه لا يعني بالضرورة دخولَ
الدمج الرمزي ضمن نطاق المَنْظِم الرمزي
حصرًا وغيابَ صلتهِ المطلقَ بنطاق المَنْظِم
الخيالي: لقد تمَّ إضفاءُ صفة "الرمزية"
على الدمج الرمزي لمجرد أن هذا الدمج يمثل
المرحلة الأخيرة لانتقال الدامج من نطاق
المَنْظِم الخيالي إلى نطاق المَنْظِم
الرمزي عن طريق النظام التفاضلي للدوالِّ (انظر
الحاشية: 19). يبدو مما تقدم، إذن، أن الباعث
الرئيسي على التغيرات النظرية الملحوظة هذه
لَيكمن في الصعوبة البالغة في تحديد الوسيط
"المادِّي" الحاسم (الدالِّ أم الصورة
المقدَّسة)، ذلك الوسيطِ الذي يمكن له أن يفضي
إلى تكوين أنا ذات شكل متطور إلى حدِّ ما،
نظرًا لشكلها "البدائي" قبل حدوث العكس
الفعلي لعقدة أوديپ وشكلها "الأقل بدائية"
بعد حدوث هذا العكس. ويظهر
مما تقدَّم أيضًا أن حدوثَ العكس الفعلي
لعقدة أوديپ حدوثٌ ينبِّئ عن مستهلِّ تحطيمها
الحتمي (تحطيمٍ يتكشف بدوره عن حلٍّ وتفكُّكٍ
لا مفرَّ منهما)، إذ يمكن وصف هذه العقدة
وتحطيمها الحتمي بصفتين نشوئيتين متلازمتين
تتعلق إحداهما بنشوء الكائن الحي ontogenetic
وتتعلق الأخرى بنشوء النوع phylogenetic،
كما هي الحال في ظاهرة الدمج. فأما الصفة
النشوئية الأولى (أي نشوء الكائن الحي) فتشير
إلى خيبات الأمل لدى الظهور "الطبيعي"
لعقدة أوديپ، تلك الخيبات المؤسية التي
يعانيها الطفل من خلال تجربته مع العالم
الظاهري (أو المرئي). وأما الصفة النشوئية
الأخيرة (أي نشوء النوع) فتوحي إلى الآنيَّة
المقدِّرة لتحطيم العقدة ذاتها (أي أجله
المسمَّى قَبْليًّا) حين يبدأ الطورُ اللاحق
عملَه في التطور اللبيدي وتطور الأنا (كما
يتجلَّى ذلك، على وجه المقارنة، في الأسنان
المؤقتة (أي الرَّواضع) حين تميل إلى السقوط
لكي تفسح المجال لشروع الأسنان الدائمة في
النمو). ولهذا السبب عينه، تتبيَّن أيضًا
الطبيعة الازدواجية (أي المتأرجحة) لعقدة
أوديپ من عِناد المولود في بحثه الدؤوب عن
مصادر إشباع رغبته الحسية/الجنسية في الحصول
على اللذة، بحثٍ يتراوح بين تبنِّيه إزاءَ
الوالد موقفًا ذكوريًّا (أو فاعلاً) تارةً
وبين تبنِّيه موقفًا أنوثيًّا (أو منفعلاً)
تارةً أخرى. إذ يتقلَّب هذا التبنِّي، على وجه
التناظر، بين نزعة الدامج الكينونية (أو نزعة
إضفائه المثالي) نحو المدموج حينًا وبين نزعة
الدامج المِلكية (أو نزعة تشْييئه اللبيدي)
نحو المدموج حينًا آخر، كما تمَّ ذكره آنفًا.
غير أن الطور القضيبي المشارَ إليه سابقًا
أيضًا (ذلك الطورَ الذي يحدث في الدور ما قبل
الأوديپي من التطور اللبيدي وتطور الأنا)
لَيمكن له، فضلاً عن ذلك، أن يتزامن مع عقدة
أوديپ قبل تحطيمها الحتمي تزامنًا يضع
التشديد على الفرق الحاسم بين جنسانية sexuality
الذكورة وجنسانية الأنوثة، مع أن
كلاًّ من الجنسانيتين يخضع للطور القضيبي
ذاته في سلوكية الطفولة. وعلى ذلك، يتجسَّد
هذا الفرق الحاسم بين الجنسانيتين بمجراه "الطبيعي"
في قبول الأنثى عقدةَ الإخصاء castration،
ومن ثمَّ رضوخها لهذه العقدة باعتبارها
حقيقةً بغيضة تمَّ إنجازها على مَضَض، من
جهة، وفي خشية الذكر الدفينةِ من عقدة
الإخصاء نفسها، ومن ثمَّ رفضه إمكانيةَ
حدوثها الموحِش، من جهة ثانية[21]. وهكذا،
فإن التحطيم الحتمي لعقدة أوديپ لَيدل دلالةً
أكيدةً على بداية إذعانها لكمية معيَّنة من
الكَبْت repression
(أي الكَبْت الأوَّلي)، ذلك الكَبْت الذي يتم
من جرَّائه قمعُ النشوء الابتدائي للدوافع
الغَرَزية في الأنا الغائبة (بطبيعتها
الشهْوية) والذي يتوقف عليه (أي الكَبْت)
المجرى "الطبيعي" لجميع أطوار التطور
اللبيدي وتطور الأنا (الشاهدة). لهذا السبب،
فإن الراسبَ المتضائل، فيما يبدو، لعقدة
أوديپ (أو للطور القضيبي، بقدر ما يتعلق الأمر
به كذلك) لَينذرُ ببدء فترة جمود عاطفي ولبيدي
تُعرَف بـ"الدور الكُمُوني"، ذلك الدور
الذي ينتهي في سنِّ البلوغ على وجه التقريب.
ففي هذا الدور، إذن، تَوْهُن أشكالُ تركيز
الطاقة النفسية على الشخص/الشيء ليصار إلى
التخلِّي عنها، ومن ثمَّ إلى استبدال شكل (أو
أكثر) من أشكال إشراب الدمج بها، بحيث يجري
إشرابُ "السلطة" المُدْرَكة للمدموج في
الأنا (الشاهدة) المكنونةِ في الدامج (بطبيعتها
العقلانية)، إشرابٌ يشكِّل في نفس الدامج
النواةَ لتطور الأنا العليا superego
(بطبيعتها الرقيبة). وبالتالي، تميل الأنا
العليا هذه إلى انتحال الصرامة التي "يفرضها"
المدموج وإلى إدامة تحريمه الأخلاقي للصلات
السفاحية incest
(إنْ بانت إرهاصاتها في الدور
الأوديپي) لكي تمنع الأنا (المكنونةَ في
الدامج) من إعادة تنمية أشكال تركيز الطاقة
النفسية ذاتها وذلك عن طريق تقويضها الجنسي[22]
أو تطبيعها اللبيدي[23]. يتبيَّن
من هذا الشرح، إذن، أن العلاقة المتبادلة بين
أعمال ظاهرة الدمج وبين أعمال ظاهرة عقدة
أوديپ لَعلاقةٌ متصارعة بين ضدَّين، علاقةٌ
تذكِّر، على ما يظهر، بالمضمون الإيجابي
والمضمون السلبي (أو المَرَضي) للظاهرة
الأولى (أي الدمج). إذ يتجلَّى مضمونا ظاهرة
الدمج، على الترتيب، في إسهامها غير المباشر
في الانتقاض الجنسي (أو التطبيع اللبيدي)
لأشكال تركيز الطاقة النفسية على الشخص/الشيء
(انتقاضٍ (أو تطبيعٍ) يُفْضي بهذه الأشكال إلى
مُساماتها أو تحويلها إلى بواعثَ عاطفية)، من
جهة، وفي تأسيسها المباشر لأنماط بدائية من
أشكال تركيز الطاقة النفسية ذاتها (أنماطٍ
تتمثَّل في الدوافع الغَرَزية البدائية في
الأنا الغائبة خلال الدور ما قبل الأوديپي)،
من جهة ثانية. ويبدو، وفْقًا لذلك، أن الترسيخ
(المبكِّر) لظاهرة الدمج بأيٍّ من مضمونَيها
ليلعب دورًا ذا أهمية كبيرة في الارتقاء
النفساني وفي الارتداد النفساني لهوية
الدامج، دورًا يتوقَّف في أغلب الأحوال على
التكوين النفساني لهوية المدموج. ففي حين أن
الدمج بمضمونه الإيجابي يساعد على نشوء الأنا
العليا دون التدخل المباشر لأية آلية من
آليات الدفاع الأخرى، يميل الدمج بمضمونه
السلبي (أو المَرَضي) إلى الاتحاد بآلية من
آليات الدفاع، فيمثل أحدَ أسلحة الأنا (الشاهدة)
الأكثر فاعليةً ويحضُّها على قَهْر أعراض
الحَصَر النفسي أو حتى الرُّهاب. وهكذا،
تسلِّط علاقةُ الصراع المتبادل بين الدمج
وعقدة أوديپ الضوءَ على المحتوى اللبيدي
والعاطفي للأنا وتضع التوكيدَ على بواكير
جانبها التطوري بوصفها ماهيةً نفسانية. خلاصة والخلاصة،
يتكشف الدمج، بمعناه الجذري ذي السياق
الانعكاسي (أو المطاوعي)، عن التعبير
النفساني الأكثر بكورًا في التطور اللبيدي
وتطور الأنا، تعبيرٍ يعبِّر به المولودُ عن
ارتباطه العاطفي مع هوية شخص آخر (الوالد ذي
الجنس المماثل أو من ينوب منابه). وتصاحبُ هذا
الارتباطَ العاطفي، فيما يبدو، صلةٌ لبيدية
موازية مع ذلك الشخص الآخر، صلة تتبدَّى كشكل
مشتقٍّ (أو أكثر) من أشكال تركيز الطاقة
النفسية على الشخص/الشيء، إذ يتصف هذا
التركيز بدوره بصفة "اشتهاء الجنس المماثل".
فبينما يميل الدمج بمضمونه الإيجابي إلى
التأثير بمقتضى الصلة اللبيدية ذات الطابع
النرجسي (فتولِّد في الدامج الشعور بالإضفاء
المثالي نحو المدموج)، يسعى الدمج بمضمونه
السلبي (أو المَرَضي) إلى العمل وفقًا للصلة
اللبيدية ذات الطابع السادي–المازوخي (فتولِّد
في الدامج الشعور بالعدوانية نحو المدموج). من
هنا، يضع هذا التغايرُ الصارخ بين مضموني
الدمج التشديدَ على طبيعته الازدواجية (أي
المتأرجحة) ويَسِمه بسمة مشتقَّة من سمات
الطور الفمِّي في التطور اللبيدي وتطور الأنا
(ذلك الطور المهيمن في الممارسة الفعلية
لأكلة اللحم البشري)، مما يؤدي بالدامج إلى
إضماره حساسيةَ التعرُّض للنَوَسان المَسِّي–الانقباضي
الخطير في مراحلَ لاحقة. بالإضافة إلى ذلك،
يهيِّئ الدمجُ ذاتُه المحيطَ النفسي لظاهرة
عقدة أوديپ الأكثر ألفة ويمهِّد السبيل لها،
تلك الظاهرة التي تتمثل أيضًا كشكل مشتقٍّ (أو
أكثر) من أشكال تركيز الطاقة النفسية على
الشخص/الشيء، ولكن يتصف هذا التركيز، على
النقيض، بصفة "اشتهاء الجنس المغاير"،
فيعمل بحسب الصلة اللبيدية ذات الطابع "الغيري".
وبالتالي، ينزع الدمج إلى إسهامه في العكس
الفعلي لعقدة أوديپ، فيحوِّل صفةَ تركيز
طاقتها النفسيةِ إلى صفة "اشتهاء الجنس
المماثل" (وكأن ظاهرة الدمج "تدمج"
نفسها في عقدة أوديپ). يعني ذلك أن التمييز
الضمني بين الإضفاء المثالي (أي إضفاء الدامج
صفةً مثالية على المدموج) وبين التشييء
اللبيدي (أي اتخاذ الدامج المدموجَ شيئًا
لبيديًّا) يناظرُ التمييزَ الصريح بين النزعة
الكينونية والنزعة المِلكية. من هذه الحيثية،
يظهر أن الدمج يُبدي طبيعته الازدواجية (أي
المتأرجحة) إبداءً أكثر جلاءً في أعراض معينة
من الأعراض المَرَضية النفسية، إذ ليس للدامج
سوى أن يقوم بدمج نفسه في سمة خاصة مُفرَدة من
سمات المدموج ليس غير في أثناءَ تخلُّل العكس
الفعلي لعقدة أوديپ. وعلى ذلك، تتجسد هذه
السمة الخاصة المفردة باعتبارها "دالاًّ"
يتم تمثيله كرمز أصلي (أو كمجرد دالول)، ويتم
من ثمَّ إشرابه تحت تأثير الدمج الرمزي
ليدلَّ في النهاية على "دَمْج النفسِ (أي
نفسِ الدامج) في العَرَض"، فيوحي بدوره إلى
تشكيل ما تمكن تسميته بالدالِّ العَرَضي (على
خلاف التشكيل الأبكر لما تمكن تسميته
بالدالِّ المرآوي في طور المرآة). وهكذا، فإن
العكس الفعلي لعقدة أوديپ ينبِّئ بمستهلِّ
تحطيمها الحتمي (أي حلِّها وتفكُّكها)،
تحطيمٍ يبيِّن إذعانَها للكبت الأوَّلي، من
جهة، ويضع التوكيد على ذروة الصراع المتبادل
بينها وبين ظاهرة الدمج، من جهة ثانية.
أخيرًا، يسلِّط هذا الصراع المتبادل بين
الدمج وعقدة أوديپ، بدوره، الضوءَ على
المحتوى اللبيدي والعاطفي للأنا وعلى بواكير
جانبها التطوري بوصفها ماهيةً نفسانية. *** *** *** المراجع -
Abraham, K. (1927): Selected papers.
Hogarth Press. -
Freud, A. (1937): The Ego and the
Mechanisms of Defence. International Universities Press, Inc. -
Freud, S. (1900): The
Interpretation of Dreams. Penguin Freud Library, vol. 4. -
Freud, S. (1905a): Three
Essays on the Theory of Sexuality. Penguin Freud Library, vol. 7. -
Freud, S. (1905b): Fragment
of an Analysis of a Case of Hysteria. Penguin Freud Library, vol. 8. -
Freud, S. (1920): Beyond the
Pleasure Principle. Penguin Freud Library, vol. 11. -
Freud, S. (1921): Group Psychology
and the Analysis of the Ego. Penguin Freud Library, vol. 12. -
Freud, S. (1924a): The
Dissolution of the Oedipus Complex. Penguin Freud Library, vol. 7. -
Freud, S. (1925): Some Psychical
Consequences of the Anatomical Distinction Between the Sexes. Penguin Freud
Library, vol. 7. -
Freud, S. (1931): Female Sexuality.
Penguin Freud Library, vol. 7. -
Fromm, E. (1979): To Have or to Be.
Abacus. -
Lacan, J. (1953): “Some reflections
on the ego.” International Journal of Psychoanalysis, 34:11-17. -
Lacan, J. (1960-1) :
Le Séminaire. Livre VIII. Le Transfert. Paris :
Seuil. -
Lacan, J. (1966a):
Écrits: A Selection.
Trans. A.
Sheridan. Routledge
(1997). -
Lacan, J. (1966b): Écrits.
Trans. B. Fink.
Norton (2006). -
Lagache, D. (1962) :
« Pouvoir
et personne ».
L’évolution psychiatrique, 1:111-119. [1]
من مواليد دير الزور (سورية). دكتور في
اللسانيات التطبيقية من جامعة مدينة دبلن،
دكتور في اللسانيات النظرية من ترينيتي
كولدج، دبلن، حامل ماجستير في الدراسات
التحليلية النفسية من ترينيتي كولدج،
دبلن، ويحضِّر حاليًّا للدكتوراه في
الدراسات التحليلية النفسية. [2]
لاحظ، هنا، أن الصيغة الفعلية في اللغة
الإنكليزية تختلف عن نظيرتها في اللغة
العربية في السياق المتعدِّي الأحادي
والسياق المتعدِّي الثنائي. فأما في السياق
المتعدِّي الأحادي، فيدل المعنى الجذري
للصيغة الفعلية على تعيين هوية شخص أو شيء،
مثلاً: He could not identify the writer of this book.
(= لم يكن بوسعه التعرُّف إلى
مؤلِّف هذا الكتاب.). وأما في السياق
المتعدِّي الثنائي، فيشير المعنى الجذري
للصيغة الفعلية ذاتها إلى المماثلة أو
المطابقة بين شخصين أو شيئين، مثلاً: She was always
identifying Stalin with Hitler. (= كانت
على الدوام تقارن ستالين بهتلر.). [3]
مما يجدر ذكره، من ناحية أخرى، أن فرويد
يستخدم مصطلح "الدمج" أيضًا بالإشارة
إلى المعنى الجذري في إطار سياقه المتعدِّي
الثنائي، وذلك من خلال تنظيره حول عمل
الحلم the
dream-work
تحديدًا. ففي هذا السياق، يضع فرويد
التوكيد على علاقة المماثلة أو المطابقة
بين شخصين أو شيئين (انظر الحاشية 2) ليضع
التوكيد على المقايسة بين عمليتي "الدمج"
و"الاستبدال" substitution.
وهكذا، فإن العملية التي يتم بواسطتها "دمج"
صورة (حلمية) في صورة (حلمية) أخرى، على سبيل
المثال، لتقايس العملية التي يتم بواسطتها
"استبدال" صورة (حلمية) بصورة (حلمية)
أخرى، لمجرَّد أن الصورتين (الحلميتين)
المعنيتين متماثلتان أو متطابقتان (قا:
فرويد، 1900، ص 231 وما يتبعها، ص 431 وما
يتبعها، إلخ). [4]
قا: فرويد، 1921، ص 134. [5]
قا: فرويد، 1921، ص 134 وما يتبعها. [6]
بما
أن تمثيل الشيء يشير إلى التمثيل النفساني
للمفعول الخارجي أو للعالم الظاهري (أي
الشخص/الشيء الذي يوجد خارج النفس أو
العالم الباطني)، وأن المفعول الداخلي يدل
على نفس الفاعل ذاتها بالمعنى اللغوي (أي
السياق الانعكاسي، أو المطاوعي،
للدمج الذي تمَّ ذكره في بداية الشرح)،
يُؤمَل من القارئ ألا يخلطَ خطأً بين
المفعول الداخلي، بوصفه إحدى الكينونتين
النفسانيتين الأساسيتين للدمج، وبين
الكينونة النفسانية التي اكتسبت أهمية
المفعول الخارجي، بوصفه إحدى الكينونتين
النفسانيتين الأساسيتين للدمج أيضًا. فإذا
تم تمثيل المفعول الداخلي تمثيلاً
نفسانيًّا ليكتسب أهمية المفعول الخارجي،
فللمفعول الداخلي، عندئذٍ، أنْ يشابهَ تلك
الصورة التي تحدُث "بدئيًّا" في عوالم
التخيل (الفنتازيا) والخيال والتفكير
الحالم وحلم اليقظة. لهذا السبب، كثيرًا ما
يجري في أدبيات التحليل النفسي الخلطُ خطأً
بين مصطلح "الدمج" بمعناه الحالي وبين
معاني مصطلحات أخرى، مثل مصطلح "التذويت
الحقيقي" internalization
(= إضفاء صفة ذاتية حقيقية على الشخص/الشيء)
ومصطلح "التذويت التخيلي" incorporation
(= إضفاء صفة ذاتية تخيُّلية (فنتازية) على
الشخص/الشيء)، وما أشبه ذلك. [7]
قا: فرويد، آ.، 1937، ص 109 وما يتبعها. [8]
قا: فرويد، 1920، ص 286؛ فرويد، 1931، ص 383 وما
يتبعها. [9]
قا: لاغاش، 1962، ص 111 وما يتبعها. [10]
قا: فرويد، 1905 آ، ص 116 وما يتبعها؛ فرويد، 1921،
ص 135. [11]
قا: أبراهام، 1927. [12]
قا: فرويد، 1921، ص 134. [13]
من المحتمل جدًّا أن يكون هذا التمييز
الأخير بين "النزعة المِلكية" و"النزعة
الكينونية" (الذي وضعه فرويد، كما أشير
إليه في النص) مصدرَ الإلهام المباشر لكتاب
إريش فروم نملك أو نكون (1979)، ذلك الكتاب
الألمعي الذي يفرض نفسه قولاً وفعلاً (على
الرغم من أن النسيان يكاد أن يطويَه في هذا
الزمن، ويا للأسف!). في هذا الكتاب، يلقي
فروم الضوء على أسلوبين متميزين من أساليب
الوجود ويشدد على أهميتهما في الصراع
الضدِّي إزاء روح الإنسانية: أحدهما أسلوب المِلكية
والآخر أسلوب الكينونة. فأما أسلوب
المِلكية فهو الأسلوب الوجودي المهيمن في
المجتمعات الصناعية الحديثة (والمجتمعات
النامية التي تحذو حذوها) نظرًا لتركيزها
الرَّغَبي المفرط إفراطًا غيرَ سوي على
القيم الدنيوية، من ناحية (كما هي الحال في
"الشغَف" المِتلاف للمرء بتكديس رؤوس
الأموال ومراكمة الأملاك الخاصة وما أشبه
ذلك)، وعلى القوة الوهمية، من ناحية أخرى (كما
هي الحالة في استرقاق المرء نفسَه سعيًا
وراء التعزيز أو المحافظة على منزلته "الأكاديمية"
أو "البيروقراطية" أو "السياسية"
أو حتى "الاجتماعية"). ومما لا ريب فيه
أن أسلوب المِلكية هذا لأسلوب وجودي تتجذر
أصولُه في صفات مميزة، كالجَشَع والحَسَد
والتملُّك، تلك الصفات النموذجية التي
تتصف بها ما يُعرف بالشخصية الشرجية (=
الإستية). وأما أسلوب الكينونة فهو الأسلوب
الوجودي البديل لأنه يتجلَّى في الاقتناء
الجمالي للمتعة الصِّرْف (أي المحض) من خلال
التجربة الجمعية المشترَكة ومن خلال
النشاط الحقيقي البنَّاء، لا الهدَّام منه.
يتضح، إذن، أن أسلوب الكينونة هذا لأسلوب
وجودي مبني في الأساس على الحُبِّ
اللامُتغرِّض (أو الحُب الإلهي، حقيقةً،
بقطع النظر عن أيِّ اعتبار ديني تدِّعيه
جماعةٌ أو يزعمه فرد) وعلى تسامي القيم
الإنسانية فوق القيم الدنيوية. [14]
قا: فرويد، 1921، ص 135. [15]
قا: فرويد، 1921، ص 136. [16]
قا: فرويد، 1905 ب، ص 119 وما يتبعها. [17]
قا: لاكان، 1– 1960، ص 431 وما يتبعها. [18]
قا: لاكان، 1953، ص 12؛ لاكان، 1966 آ، ص 22 وما
يتبعها؛ لاكان، 1966 ب، ص 95 وما يتبعها. [19] فيما
يتعلق بالعمل الذهني تحديدًا، ثمة في
التنظير اللاكاني ثلاثةُ مناظمَ أساسيةٍ
يمكن إيضاحها باختصار على النحو التالي:
أولاً، المَنْظِم الخيالي the
imaginary order: يدخل ضمن نطاق هذا
المَنْظِم عالمُ المدلولات وتنشأ فيه،
بدئيًّا، العلاقةُ النرجسية (الثنائية) بين
الأنا والصورة المرآوية في طور المرآة، تلك
العلاقةُ التي تنبني في الأساس على الوهم
والإغراء والمظاهر الخادعة. ثانيًا،
المَنْظِم الرمزي the
symbolic order: يدخل ضمن نطاق هذا
المَنْظِم عالمُ الدوالِّ (بدلاً من عالم
المدلولات) وتتكوَّن فيه، بعدئذٍ،
العلاقةُ "الغيرية" (الضدِّية) بين
الأنا والآخَر في إطار خطاب اللاوعي، تلك
العلاقةُ التي تنبني في الأساس على بنية
الرغبة في أثناء عقدة أوديپ، نظرًا لافتقار
الدوالِّ إلى الوجود الإيجابي. ثالثًا،
المَنْظِم الواقعي the
real order: ينتمي إلى نطاق هذا
المَنْظِم عالمٌ يناقض المَنْظِم الخيالي
بمدلولاته ويقاوم المَنْظِم الرمزي
بدوالِّه في آنٍ واحد، فيوحي في نهاية
المطاف إلى استحالة القول الحقيقي بوجه
العموم، استحالةٍ مردُّها في الأصل إلى كون
المدلولِ ذا طبيعةٍ زائفة، من طَرَف، وكون
الدالِّ ذا طبيعةٍ سلبية، من طَرَف ثانٍ. [20]
قا: لاكان، 1966 آ، ص 2 وما يتبعها؛ لاكان، 1966
ب، ص 76 وما يتبعها. [21]
قا: فرويد، 1924، ص 320 وما يتبعها؛ فرويد، 1925،
ص 332 وما يتبعها. [22]
قا: فرويد، 1924، ص 319. [23]
قا: لاكان، 1966 آ، ص 2؛ لاكان، 1966 ب، ص 76. |
|
|