كيف السبيل إلى ترجمة النصوص الشائكة؟

مارسيل پروست أنموذجًا

 

جمال شحيِّد[1]

 

تعتمل فيَّ أحاسيس متلاطمة عندما أفكِّر في غائية الترجمة. فمن جهة، ألاحظ أن الكتَّاب العرب يبخسون المترجمين حقَّهم وينظرون إلى المترجمين بشيء من الترفع، المعلَن أو المُضمَر؛ وألاحظ أن دُور النشر التي تتهافت على النصوص المترجَمة لا تقيم وزنًا موضوعيًّا للجهد الذي يبذله المترجمُ وللوقت الذي يكرِّسه لعملية الترجمة. ومن جهة أخرى، أرى أن الشعوب التي تترجم أكثر من غيرها هي الشعوب الأكثر انفتاحًا على العالم، والأكثر تقدمًا وتحضرًا بالتالي. وأرى أيضًا أن كثيرًا من الكتَّاب الكبار مارسوا الترجمة، فواشجوا بين التأليف والترجمة. وبينهم في الأدب العربي: رفاعة الطهطاوي وفرح أنطون وطه حسين وأدونيس ونجيب محفوظ وجبرا إبراهيم جبرا وغسان كنفاني وإدوار الخراط وكثيرون غيرهم؛ وفي الأدب الفرنسي: شارل بودلير وستيفان مالارميه وأندريه جيد وإيف بونفوا ومارسيل پروست الذي سأتوقف عند مسيرته الترجمية.

مارسيل پروست (1871-1922).

بروست مترجمًا وكاتبًا

لا نستطيع ربط پروست بالترجمة إلا عبر مدينة عَشِقَها وهام بها: البندقية. وعندما زارها للمرة الأولى في العام 1900، كان قبل ذلك قد تشرَّب بالنظريات الجمالية التي طَرَحَها جون رَسْكِن في كتابيه عن هذه المدينة: Stone of Venice وSt Mark’s Rest. وفيهما وجد پروست الضالتين اللتين كان يبحث عنهما، ربما بشكل غير واع: حقيقةَ الفن، من جهة، والمدينةَ الأسرارية التي هام فيها وهامت فيه. وراح پروست، مع كلِّ ثغراته باللغة الإنكليزية، يترجم عملين مهمين كتبهما رَسْكِن، وهما: توراة مدينة أميان La Bible d d’Amiens، الذي بدأ بترجمته في العام 1899 ونَشَرَه في العام 1904، والسِّمسم والزنابق Sésame et les Lys، الذي استغرقت ترجمتُه سنتين، إذ نُشِرَ في العام 1906.

جون رسكن (1819-1900).

ومن خلال هذه العملية العسيرة التي اقتضت منه أن يستنجد بأمِّه وبصديقة إنكليزية اسمها ماري نوردلنغِر، حاول پروست أن ينتصر في صراعه المستميت مع اللغة، أو بالأحرى مع اللغتين الإنكليزية والفرنسية، وشاء أن يبني برجه البابلي حجرًا بعد حجر ومدماكًا بعد مدماك، مما جعله يعشق تأويل النصوص الصعبة والمتاهية. وقد فُتِنَ بأسرار اللغة وارتحالات المعاني من لغة إلى أخرى، ووصف بدقَّة غوصَه في لجة اللغة وضباب المعاني ومحاولة الإمساك بالأفكار الخفية.

وعشق پروست المعاني العسيرة الفهم التي لا تتأتى لأيِّ قارئ أو مترجم. وفُتِنَ بمتاهات اللغة وأشكال سرابها. فالمعنى يلتمع أمام المترجم المرتحل. والنص المعشوق لدى پروست هو النص الذي يحتمل أكثر من تأويل. وإذا بالترجمة رحلة في عالم المعاني واستقصاء لها. ومن هنا نشأ عنوان "سباعيته": في البحث عن الزمن المفقود. وكلمة "بحث" هنا لا تعني الشروع في البحث فحسب، بل تعني بخاصة الوصول إلى نتيجة بعد عناء البحث؛ وتعني أيضًا الاستقرار على معنى، بعد مكابدة التفتيش عنه، والتوصل إلى صياغته على هدي الإشارات المنبعثة منه.

وبعد تجربة الترجمة التي استغرقت سبع سنوات من پروست، إذ عانى من صعوبة النص الرَسْكِني، من جهة، ومن الثغرات الكبرى التي كان يشعر بها في تعاطيه مع اللغة الإنكليزية، من جهة أخرى، راح يبحث عن نظرية جمالية قائمة على الدلالات الضبابية والمعاني الملتبسة. وركَّز پروست في هذه التجربة على شاعرية الترجمة وكيفية إخراج المعنى من رحم اللغة المصدر إلى فضاء اللغة الأم التي نُقِلَ إليها. وكأني بها تقول له: "لا تخشَ أن تغوص في أعماقي، أنتَ مني وأنا منك!" وبقي هاجس الترجمة عند پروست حاضرًا وملحًّا حتى وفاته. ولا أعني بـ"الترجمة" هنا النقل من لغة إلى أخرى، بل ترجمةُ الأفكار وإخراجها من ظلام التشكل إلى النور، من ضفة بحر الظلمات والأعاصير إلى اليابسة والبرِّ الآمن، من تكوُّن الجنين في الأحشاء إلى ولادته، ولو عسيرةً كانت.

وهنا يجدر بي أن أقول إن مشروع پروست في الترجمة قام على أداء المعاني الدقيقة وسِمات اللغة الإنكليزية anglicismes، وقام بخاصة على إعادة كتابة النص الأصلي واستيعابه وهضمه، بحيث يفقد غربته وينصهر في اللغة التي شاءها پروست له. وهذه اللغة ليست اللغة "القاموسية" أو اللغة التي تفرضها الأكاديمية الفرنسية، بل هي اللغة المبتكرة، اللغة النابضة بالحياة، اللغة اليخضورية البهية التي أرادها پروست لغةً له. والمترجم المكين والكاتب المبدع هو الذي يحظى بموهبة اللغات ويخترق أسرار النص ("يفك تشفيره"، كما نقول في لغة هذا الزمان) ويصغي إلى "الأصوات" المنبعثة منه. لقد قال ذات مرة في إحدى رسائله:

إن بقيت في ترجمتي بعض الأخطاء، فإنها تتعلق بالأجزاء الواضحة والسهلة، ذلك أنني فكرت مليًّا في الأجزاء الغامضة وأعدتُها مرارًا وتعمقتُ فيها لسنوات طويلة.[2]

الترجمة المتميِّزة، في نظر پروست، هي استجلاء المعاني، دون الادِّعاء بالتوصل إلى الحلِّ الأوحد الأحد، الحلِّ المطلق الذي يفرض نفسه ويتعسف في الفرض. وتجربة الغموض أو "السديمية" la nébuleuse، كما كان يقول، هي التجربة الأثرى والأبهى: هي تجربة إشراقية مرَّ بها كبار الصوفيين والرائين.

هكذا كان بحثي عن پروست

لقد ترجم پروست رَسْكِن، ثم "ترجم ذاته" في سباعيته، مستخدمًا ضمير المتكلم. وكأني به، في هذه النقلة بين ترجمة "الآخَر" (رَسْكِن) وترجمة "الأنا" (پروست)، يتحرَّر من سطوة النص الرَسْكِني ويطلق العنان لذاته بكلِّ حرية. ولكن هذا التحرر ليس إلا وهمًا، لأن پروست بقي في أعماقه متأثرًا بهذه التجربة الترجمية التي استمر يمارسها بعد أن توقف عن ترجمة رَسْكِن. سر الكتابة، في الترجمة أم في التأليف، واحد. سرُّ مدينة البندقية، كما طَرَحَه رَسْكِن، تقمص في مدينة البندقية التي كان يتردد إليها ووصَفَها في رواية ألبرتين المختفية. بكلام آخر، لقد نقل پروست قطع الفسيفساء الرَسْكِنية إلى اللوحة التي رسمها عن ذاته وعن العالم، وغيَّر فقط أماكن هذه القطع. لقد بقي دائمًا ضلعًا من أضلاع المثلث الترجمي

پروست

اللغة الأم

  اللغة الأخرى

حتى بعد أن أصبحت تجربتُه في ترجمة رَسْكِن نسيًا منسيًّا.

عندما زارني طيف پروست

تلقيت منذ أربع سنوات مكالمةً هاتفية من "المركز الفرنسي للثقافة والتعاون" في القاهرة، يسألني إذا كنت أقبل باستكمال ترجمة الجزأين السادس والسابع، بعد أن توفي صديقي إلياس بديوي الذي قدم للمكتبة العربية الأجزاء الخمسة الأولى من "السباعية". تهيَّبتُ في البداية، ليقيني أن النص وعر وشاق، ولأن الذي سبقني إلى ترجمة پروست من كبار المترجمين العرب، وما أنا إلا فتى أخذ عنه الكثير. لقد درسنا في المدرسة نفسها في لبنان، دون أن أجايله، وعملنا مرارًا في الترجمة الفورية معًا. وكنت أُفتَنُ بسرعة بديهته وحسن أدائه وذكائه المتوقِّد الذي كان يوفِّر له دائمًا أفضل الحلول للتخلص من المطبات والمآزق التي تعترض المترجمَ الفوري. وقلت في نفسي بعد تفكير دام أيامًا: اقبلْ واستكمل المشروع الذي بدأه إلياس بديوي، فيكون ذلك تخليدًا لذكراه.

فصدر الجزء السادس في العام 2003، بعنوان "الشاردة" أو ألبرتين المختفية، ثم صدر الجزء السابع والأخير في نهاية العام 2005 بعنوان الزمن المستعاد. وفي هذين الجزأين، حافظتُ على العنوان العام الذي اختاره سلفي، أي "البحث عن الزمن المفقود"، مع العلم أن حرف الجر الذي يسبق العنوان ذو دلالة تخفيفية؛ إذ أراد پروست أن يقول: إنني لا أبحث عن الزمن المفقود، بل إنني في صدد البحث عنه ("في البحث عن الزمن المفقود" À la recherche du temps perdu). وكتبتُ مقدمة بخمس صفحات أوردتُها في بداية الجزء السابع، وطَبَعَتْها جريدة أخبار الأدب في 22 كانون الثاني 2006 ضمن الملف الذي كرَّستْه لپروست بمناسبة انتهاء الترجمة العربية.

وصدرت المجموعة السباعية عن دار "شرقيات" في القاهرة. وكان المرحوم إلياس بديوي قد صدَّر الجزء الأول بدراسة مطولة (70 صفحة) لأكبر اختصاصي في پروست، وهو الأستاذ جان إيف تادييه، ووضع كذلك مجموعة من الحواشي، ارتأيت أن أُكْثِرَ منها في الجزأين اللذين ترجمتهما (أكثر من 200 حاشية). وبلغت صفحات الطبعة القاهرية 2268 صفحة. أما المتن الفرنسي، فيصل عددُ حروفه إلى ستة ملايين حرف. هل النص العربي أشدُّ اختزالاً؟ أظن ذلك حدسيًّا، دون الاعتماد على الإحصائيات الدقيقة التي عُنِيَتْ بالمتن الفرنسي.

وفي هذه المناسبة، صدرت في العام 1983 دراسةٌ لإتيين برونيه Étienne Brunet بعنوان مفردات پروست Vocabulaire de Proust، وهي كناية عن مسرد معلوماتي للمفردات الواردة في السباعية، قارنَها الكاتبُ بالمفردات نفسها التي استعملها مجايلو پروست. فوجد مثلاً أن كلمة "زمان" وردت 1637 مرة في السباعية، وأنه استعمل 42707 مفردات عامة و2976 أسماء علم، بلغ تواتر كليهما 1.267.069 مرة. ووجد الباحث مثلاً أن أوج التنويع المفرداتي كان في جزأي سادوم وعمورة (الجزءان 4 و5 من السباعية). أما الجزء الأخير، فكان أشدَّ اقتصادًا في عدد المفردات. ورأى مثلاً أن الجملة الپروستية أطول مرتين من الجملة التي كتبها أدباءُ زمانه وأنها تبلغ وسطيًّا 30 كلمة.

وأظهرت الدراسةُ ولع پروست بالكلمات العائدة إلى المجتمع الأرستقراطي، أمثال: "فندق" و"شاطئ" و"بحر" و"سد" و"جرف" و"جرسية" و"وردة" و"نجمية" إلخ؛ كما أظهرت اهتمامه بالمفردات العاطفية والحسية والنفسية. ولاحظتْ أن كلمة "امرأة" أكثر ورودًا من كلمة "رجل"، وأن الكلمات الخاصة بالموت والحشرجة قليلة جدًّا؛ وكذلك الأمر بالنسبة للدين والشغل العمالي والمدرسة. ورصد برونيه استعمال الأفعال في المتن، فرأى أن الزمن الفعلي السائد هو الزمن السردي بامتياز عند پروست: الـimparfait.

وكذلك رَصَدَ تواتر أسماء العلم، فوجد أن اسم "ألبرتين" ورد 2360 مرة، ويليه اسم "دو شارلوس" 1294 مرة، ثم "سان لو" 791 مرة. ورأى أن أسماء الفنانين الثلاثة في السباعية متساوية الذكر: 299 مرة لـ"برغوت"، 295 لـ"إلستير"، 302 لـ"فانتوي". ووجد أن پروست قلما استعمل كلمات تتعلق بالتقانة أو كلمات إطنابية تدل على المجد والعظمة والشرف والبطولة. وهذا يدل على أن المعلوماتية تقدِّم خدماتٍ جليلةً للنقد الأدبي وأن الكمپيوتر وسيلة محترمة تساهم في بناء الحدس وترسيخه على أسُس علمية وموضوعية متينة.

پروست في اللغة العربية

هل تستطيع اللغة العربية أن تؤدي نصًّا وعرًا بوعورة النص الپروستي؟ بشكل نظري، أقول إن اللغة العربية مطواعة، تخدم جيدًا مثل هذه النصوص. فإذا أردتَ أن تكون جملتك في غاية الغموض استطعت، وإذا أردتها غايةً في الوضوح، استطعت أيضًا. بالإضافة إلى أنها لغة جمعت، خلال تاريخها الطويل الذي تجاوز الخمسة عشر قرنًا، إمكانياتٍ هائلةً تراكمت مع الزمن، فصارت تعبِّر بالدقة التي تريد وبالمجاز الذي تريد – هذا فضلاً عن كونها لغة تجيد التعبير عن الأمور الحسيَّة وعن شتى الحالات النفسية. ربما تفتقر إلى المصطلحات العلمية الحديثة الخاصة بسبر طبقات الفضاء والمستقبلية والاتصالات الحديثة والمعلوماتية والطاقة النووية؛ ولكنها بارعة وغنية في مجالات التعبير عن العواطف الإنسانية والأحاسيس البشرية. ولهذا فقد انتشر فيها الأدبُ الغنائي، بشتى أشكاله وألوانه. ووضعُها هذا يخلق إمكانياتٍ عديدةً يجعلها تستوعب النص الپروستي، ولو بمشقة.

فعندما يستغرق پروست في تحليل مشاعره المتناقضة ويُغرِقُ أحيانًا في نوازعها – فهو يتألم لهجران فتاته ألبرتين، من جهة، ويصارع عزة نفسه التي تأبى عليه التوسل إليها لتعود، من جهة أخرى – يغوص في تحليل مشاعره المتضاربة إلى أقصى الحدود. وتستطيع اللغة العربية، ربما أكثر من الفرنسية، التعبير عن هذه الحالات، بتفرعاتها كافة. فهذا جبرا إبراهيم جبرا، وهذا إدوار الخراط، يكتبان أحيانًا بلغة تُشابِه لغة پروست، بانطلاقاتها وتردداتها وحبساتها وتوجساتها واستشعاراتها واستبطاناتها وتعجباتها وتساؤلاتها. واستطاع هذان الكاتبان أن يغوصا في أغوار النفس البشرية الحائرة التي لا تتبع منطق أرسطو أو ديكارت أو كانط بالضرورة. يضاف إلى ذلك أنهما أحيانًا يكتبان جملاً متاهية مقصودة، فلا يعرف القارئ في البداية كيف يخرج منها. إنْ هي إلا رحلة ثيسيوس في متاهة المينوتور! ذلك أن نظامها الاشتقاقي غني جدًّا، مما يجعلها لغة حيَّة وراهنية.

هل نستطيع ترجمة پروست إلى العربية ترجمةً ناصعة؟ أجرؤ على تأكيد ذلك، لاسيما وأن فضاءه الروائي تقاطَع كثيرًا مع الفضاء الشرقي. ومع ذلك اعترضتْني صعوباتٌ عديدة في أثناء ترجمته. كنتُ أقع أحيانًا على جمل طويلة تبلغ 35 سطرًا، فأحار في البداية من أين أبدأ؛ مما كان يدفعني إلى قراءة الجملة مرتين وثلاث. وبعامة، كنت أقطِّع هذه الجمل المطولة إلى جملتين أو أكثر. كانت تعترضني أحيانًا صعوباتٌ في تحديد عائد الضمير: il lui a dit – قال "له" أو قال "لها"؟؛ il leur a dit – قال "لهم" أو قال "لهن" أو "لهما" (بالمذكر أو بالمؤنث)؟ وعندما كان النص يتقبل أكثر من تأويل، كنت أتوقف، فأمايز بين التأويلات، وأختار في الأخير تأويلاً آمل أن يكون الأفضل والأنجح.

أما الصعوبات المتمثلة بالإحالات التاريخية أو الفنية أو الفكرية أو الحضارية بعامة، فكنتُ أحلها بالعودة إلى القواميس والموسوعات والمراجع الاختصاصية. وبعامة، كانت هذه الصعوبات أقل وعورة من غيرها.

وإزاء بعض الجمل الغامضة أو الضبابية، كنت أسأل عنها أصدقائي الباحثين في "المعهد الفرنسي للشرق الأدنى". ولدهشتي، قلما كانوا يجدون حلاً، لأن الجيل الشاب في فرنسا يتهيب قراءة پروست. أما المخضرمون، فكانوا يقدِّمون لي حلولاً غير مقنعة أحيانًا. فألجأ عندئذٍ إلى "تشجير" الجملة وجدولتها، علَّني أجد لها حلاً؛ ثم أستقر على مخرج أراه أكثر منطقية من غيره.

تفنن پروست في تحريك جملته وتفعيلها: فتارة هي حلزونية، وتارة هي إهليلجية، وتارة هي دائرية، وتارة هي مستقيمة من دون تعرجات؛ وطورًا هي جرفية، تشبه تضاريس أرض تركتْ فيها البراكينُ كثيرًا من النتوءات والمهاوي. فتقف في البداية أمامها مشدوهًا، فاغر الفم. ثم، إنْ وجدتَ مفتاح الجملة، تستطيع أن تعرب عن خطوطها المتباينة. مما جعلني أقدم على هذه الترجمة هو إعجابي بعبقرية هذا الرجل الذي سماه بعضهم بـ"ملاك الظلام"[3].

پروست: "ملاك الظلام".

كان عليَّ أن أعيد الترجمة ثلاث مرات أو أربع: المرتان الأُوليان مع التحديق في النصين العربي والفرنسي، وفي المرة الثالثة أستأنس بالنص الفرنسي عند الضرورة. أما القراءة الأخيرة، فلتحسين الأداء العربي، بحيث يعطي نصي انطباعًا بأنه كُتِبَ مباشرة باللغة العربية، وزالت عنه روائحُ النص المترجم التي علقتْ به.

لتوضيح فكرتي هذه، أورد هنا مقطعًا من نهاية السباعية باللغتين العربية والفرنسية، يصف فيه پروست ما يتركه الزمنُ على الإنسان من جوائح:

 « Certains hommes, certaines femmes ne semblaient pas avoir vieilli, leur tournure était aussi svelte, leur visage aussi jeune. Mais si pour leur parler on se mettait tout près de la figure lisse de peau et fine de contours, alors elle apparaissait tout autre, comme il arrive pour une surface végétale, une goutte d’eau, de sang si on la place sous le microscope. Alors je distinguais de multiples taches graisseuses sur la peau que j’avais crue lisse et dont elles me donnaient le dégoût. Les lignes ne résistaient pas à cet agrandissement. Celle du nez se brisait de près, s’arrondissait, envahie par les mêmes cercles huileux que le reste de la figure ; et de près les yeux rentraient sous des poches qui détruisaient la ressemblance du visage actuel avec celle du visage d’autrefois qu’on avait cru retrouver. De sorte que, à l’égard de ces invités-là, ils étaient jeunes vus de loin, leur âge augmentait avec le grossissement de la figure et la possibilité d’en observer les différents plans ; il restait dépendant du spectateur, qui avait à se bien placer pour voir ces figures-là et à n’appliquer sur elles que ces regards lointains qui diminuent l’objet comme le verre que choisit l’opticien pour un presbyte ; pour elles la vieillesse, comme la présence des infusoires dans une goutte d’eau, était amenée par le progrès moins des années que, dans la vision de l’observateur, du degré de l’échelle. » (p. 249-250)

ولم تبدُ الشيخوخة على بعض الرجال وبعض النساء، فبقيتْ استدارتهم واستدارتهن ممشوقة، وبقيتْ وجوههم ووجوههن شابةً أيضًا. ولكنك إنْ وقفت قرب وجوههم الصقيلةِ البشرة والناعمةِ الحدود لتكلِّمهم، لظهرتْ مختلفةً جدًّا، كما يحدث لبقعة نباتية ولنقطة ماء أو دم عندما توضع تحت المجهر. وميَّزتُ لطخًا دهنية عديدة تعلو الجلد الذي ظننته صقيلاً، فتقززت نفسي. ولم تقاوم الخطوط هذا التكبير المجهري. كان خط الأنف ينكسر إذا اقتربتَ، ويتفلطح، ويخضع لغزو الدوائر الزيتية نفسها كباقي الوجه؛ وعن كثب كانت العيون تغور تحت جيوب تُدمِّر تشابُهَ الوجه الحالي مع الوجه السابق الذي ظننتَ أنكَ وجدتَه. هكذا بدا لي هؤلاء المدعوون: كانوا شبابًا إنْ نظرتُ إليهم من بعيد، وكانت أعمارهم تزداد مع التكبير المجهري لوجوههم ومع المراقبة الممكنة لشتى مستوياتها؛ كانت الأعمار منوطة بالمُشاهِد الذي ينبغي عليه أن يحتلَّ موقعًا مناسبًا ليرصد تلك الوجوه ويسلِّط نظراتِه البعيدة التي تصغِّر الأشياء، شأنها شأن العدسة التي يختارها البصريُّ للمتقدمين في السن؛ إنها تنظر إلى الشيخوخة كما تنظر إلى النقاعيات داخل نقطة ماء. ولم تنجم كثيرًا عن التقدم في السن، بل عن التقدم في درجات السلَّم، كما يراها المُراقِب." (ص 209)

وأخيرًا، أختم هذه الشهادة بعبارة لإلسا تريوليه، تقول فيها عن الترجمة:

« La traduction… Travail pénible, épuisant, irritant, désespérant. Travail enrichissant, nécessaire aux hommes, qui exige de l’abnégation, des scrupules, de l’honnêteté… Et, évidemment, du talent. »

الترجمة... هي عمل شاق ومرهق ومثير للأعصاب وحافز لليأس. وإنها عمل مُثْرٍ وضروري للناس ويتطلب التفاني ويثير الهواجس ويقتضي النزاهة... وبالطبع يحتاج إلى الموهبة.

دمشق، 31/12/2006

*** *** ***


[1] دكتور في الأدب المقارن من جامعة السوربون الجديدة، يعمل جمال شحيِّد، إلى كونه ناقدًا أدبيًّا، باحثًا ومدرسًا للأدب الحديث في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى، كما يشرف على دروس الترجمة في إطار الدپلوم الجامعي للترجمة الفرنسية–العربية في المركز الثقافي الفرنسي بدمشق. مؤلِّف عدة كتب باللغتين العربية والفرنسية، منها: البنيوية التكوينية، خطاب الحداثة في الأدب، الوعي التاريخي في أعمال إميل زولا ونجيب محفوظ. قاده عمله كمترجم إلى الإبحار في أعمال جبرا إبراهيم جبرا وحنان الشيخ، وهو مهتم كذلك بمبادئ الترجمة الپروستية (البحث عن الزمن المفقود، الجزءان السادس والسابع).

[2] مراسلات پروست، الجزء الثالث، ص 221.

[3] انظر: جيوفاني ماشيا، ملاك الليل، غاليمار، باريس، 1993.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود