|
خواطر حول العصر "كلُّ
شيء زائل: هذه سُنَّة الحياة؛ وما تبقى مجرَّد
وهم." البوذا
(القرن الخامس ق م) هل
أضحى العالمُ مختلاً؟ هل دخلتِ الإنسانيةُ
وتاريخُها الطويل زمن "الإنسان الأخير"
الذي أعلن مَقْدَمَه الفيلسوفُ نيتشه؟ هل
أضحينا نعيش في زمن الوهم، رغم أو بسبب ما
يُقدَّم لنا، "آنيًّا" ودون انقطاع، من
أحداث ووقائع يومية، وما تسبِّبه لنا هذه
الأخبار من انعكاسات سلبية؟ أم أننا، بالعكس،
بتْنا نعيش الآن زمن تطور وتجديد يشهد ظهور
إنسان جديد، ليس أفضل أو أسوأ مما سبق، إنما
أكثر تناسبًا مع عالم في تطور مستمر. لا
بدَّ أن يكون هناك تيار فكري وسيط، يفصل بين
التيار المتشائم الذي يبشِّر دومًا بحتمية
وقوع المصائب الجسيمة، والتيار الآخر الذي
يعتقد بإمكانية حلِّ مشاكل العالم، إما
بواسطة التقدم العلمي والتكنولوجي وإما
بواسطة العنف والتعصب الأعمى. هذا التيار
الوسيط أو المعتدل يتحلَّى، بكلِّ بساطة،
بالمنطق الفطري الذي يتمتع به أكثر الناس في
معالجتهم السليمة للمشاكل والأمور اليومية،
مما يساعدهم على محاولة تفهُّم أمور العالم
بروح منفتحة ومتسامحة. لا
بدَّ لهذه الزمرة من الناس – وقد يكونون
الأكثر عددًا في العالم – أن يلاحظوا ما وصل
إليه عالم اليوم من مساوئ: عنف جسدي ومعنوي،
تعظيم لمظاهر السلطة والمال، انتشار
الاتِّكالية والفقر بين شعوب العالم، توحيد
متزايد للمنظومات الفكرية والاقتصادية
والمعيشية تحت شعار "العولمية"، إباحية
جنسية مبتذلة مطروحة في كلِّ مكان، خطاب
سياسي واجتماعي عقيم، مبادئ دينية وأخلاقية
مطعون بها، تقاليد اجتماعية ضائعة ونظام
عائلي مفكَّك، منظومة بيئية وطبيعية في خطر،
كوارث طبيعية مدمِّرة، حروب إبادة ومذابح
إثنية وعرقية، مجاعات، إعلام مرئي ومسموع
متواصل يرهق الأعصاب، إلخ. إضافة
إلى هذه اللائحة المرعبة من الكوارث
المدمِّرة، فليسمح لنا القارئ بالإشارة إلى
هذا الجهاز الإلكتروني الصغير المسمَّى بـ"الهاتف
الجوَّال" – هذا الجهاز الضروري، والمزعج
في نفس الوقت، الذي أضحى الناس يستعملونه
بسبب ودون سبب، يلازمُهم في حياتهم ليلاً
نهارًا، حتى كاد أن يصير عضوًا هامًّا من
أعضاء جسمهم، يجعل منهم أسرى دائمين لمشيئته
وعبيدًا لصوت جرسه؛ يسيرون في الطريق،
متحفِّزين في كلِّ لحظة لاستعماله والتحدُّث
به، حتى تخال أنهم يتحدثون مع أنفسهم، تارة
يتجهَّمون وتارة يضحكون، يحركون الأذرع
والأيدي لأسباب لا يعرفها غيرهم، وكأنهم دمى
تحرِّك رأسَها وأطرافَها خيوطٌ خفية. قد
يعترض البعض، مشيرًا إلى أن هذا الجهاز
يُعتبَر تقدمًا تكنولوجيًّا مذهلاً في عالم
الاتصالات. وهذا اعتراض مقبول لا نقاش فيه.
لكننا نكتفي هنا بالردِّ بأن الاستعمال
المفرط واللاعقلاني لهذا الجهاز – كما هي
الحال أيضًا في التعامل مع جهاز الكمبيوتر –
يزيد في عزلة الإنسان ويُبعِده عن محيطه
الطبيعي ضمن العائلة والمجتمع. ربما
تُولِّد هذه الصورة المأسوية للعالم، التي
قصدتُ المبالغة فيها، شعورًا بالإحباط
وانقطاع الأمل في المستقبل. لذا أسارع في
الإشارة إلى أن المجتمعات الإنسانية عانت
كثيرًا من المصائب والمآسي عبر العصور،
وتمكَّنتْ من التغلُّب عليها بفضل التطور
الفكري غير المنقطع للإنسان، ومحاولاته
الدائمة للسيطرة على غرائزه الهمجية
المدمِّرة، في سبيل الحفاظ على كيانه
الإنساني وإعادة بناء أو تطوير دائم لعالم
حضاري يتناسب مع زمنه. من
المسلَّم به اليوم أن الإنسان المعاصر يعاني
معاناة دائمة مما يتلقَّاه من أذى بسبب
الضغوط المعنوية والنفسية، وحتى الجسدية،
التي يتعرض لها يوميًّا، والتي يزيد من
سلبيتها الشعورُ المتزايد عند الإنسان بضعفه
وعدم إمكانه محاربتها، وحتى الاحتماء منها.
ويعود سببُ ذلك إلى تضاؤل المناعة الطبيعية
للإنسان وانحسار، إن لم نقل انعدام، معاييره
الفلسفية والدينية والأخلاقية والاجتماعية
التقليدية. يضاف إلى ذلك جوٌّ سياسي خانق،
عائد لحدث فريد لم يسبق له مثيل في التاريخ،
وهو سعي دولة عظيمة وقوية واحدة إلى السيطرة
الكاملة والمنفردة دون منازع على الكرة
الأرضية برمَّتها. سنحاول
هنا أن نستخلص، ضمن هذه البلبلة، بعض
المواضيع والقضايا التي يجابهها الناس
حاليًّا، والتي تتطلب منهم الاستجابة، على
وجه الضرورة، بحلول مناسبة فورية أو
مستقبلية، تجنبًا للوقوع في كارثة الفوضى
العارمة. 1. عبادة المال "ولا تأكلوا
أموالكم بينكم بالباطل وتُدْلوا بها إلى
الحكَّام لتأكلوا فريقًا من أموال الناس
بالإثم وأنتم تعلمون." القرآن الكريم،
سورة البقرة شكَّل
البحثُ عن سُبُل الراحة المعنوية والمادية،
عِبْر الأزمان، الهدف الرئيسي للإنسان؛ وهذا
بحدِّ ذاته أمر مشروع ومقبول. أما ما هو مرفوض
الآن فهو الولع غير المحدود بالمال والتلهُّف
للحصول عليه بأيِّ ثمن ووسيلة، بغية الوصول
إلى الملذَّات الخادعة والسلطة المزيفة؛ إذ
إن المال يمثِّل قوة الضعفاء. ولا بدَّ أن نرى
في ذلك التفسير المناقض لأفكار الفيلسوف
اليوناني أبيقور (341-270 ق م) الذي كان
يعلِّم أن على الإنسان أن يوجِّه كافة طاقاته
للحصول على المتعة، متعة الفكر والثقافة
وممارسة فضائل الروح، لا المتعة الفظَّة
للحواس والجسد. وقد أرشدنا إلى ذلك
لاحقًا القديس متَّى الإنجيلي الذي حفظ لنا
أمثال السيد المسيح، ومنها مَثَل الزارع.
والزرع هنا يعني كلمة الملكوت، والزارع هو من
يعظ بها: "وأما الذي زُرِعَ في الشوك فهو
الذي يسمع الكلمة، ويكون له من همِّ الحياة
الدنيا وفتنة الغنى ما يخنق الكلمة فلا
تُخرِجُ ثمرًا." من المؤسف أن نلاحظ
الآن بأن ثقافة الروح والعقل ( وليس المقصود
هنا التربية والتعليم) في تراجع مستمر في كلِّ
أنحاء العالم، حتى صار من الضروري الاستعانة
بفانوس الفيلسوف اليوناني ديوجينس (413-323 ق م)
للبحث عن فضائل النفس. 2. الولع
بالعنف "من
يأخذ بالسيف، بالسيف يهلك." الكتاب
المقدس، العهد الجديد قتل قايين – وهو
بِكْر آدم وحواء – أخاه هابيل بسبب الحسد
والبغضاء. فصاح به الربُّ بصوته المرعب بعد أن
نفَّذ جريمته النكراء، قائلاً: " قايين،
ماذا فعلت بأخيك؟" فجاء نسلُه فاسدًا
ومجرمًا على مثاله، وأُطلِقَ عليهم تسمية "بني
البشر" (الكتاب المقدس، العهد القديم). يمكن القول إذًا
بأن البربرية والعنف متأصِّلان في طبيعة
الإنسان. وقد بقيتْ نفسُ الإنسان حتى الآن
منقادة إلى أهوائها وشهواتها، وإلى نزعاتها
الجنونية، رغم ما وصل إليه العالم من تقدُّم
في مجال العلوم والمعرفة. لقد أشرنا سابقًا
إلى مختلف أنواع التأثيرات السلبية التي
يتعرَّض لها الإنسان المعاصر، الموجَّهة
ضدَّ كيانه الجسدي والروحي وكافة حواسه، مما
قد يجعله يضحِّي تضحية لاواعية بجزء من سلوكه
الإنساني لصالح مكاسب بدائية وهمجية. وأذكر في هذا
السياق المؤلِّف دزموند مورِّيس في كتابه حديقة
الحيوان البشرية،
الصادر في لندن في العام 1969، حيث يقارن مقارنة
ممتعة وذكية السلوكَ البشري مع السلوك
الحيواني، وخاصة في حيِّز الإطار المصطنع
للمدن الضخمة، حيث يميل الإنسان إلى الانغلاق
على نفسه في داخلها، كما هي الحال في حديقة
الحيوانات، مستهترًا ومستخفًّا بالدوافع
البيولوجية التي لا يزال مشدودًا إليها. يعتبر
الكاتب أن هناك شروطًا محددة تؤدي، فيما إذا
اجتمع بعضُها إلى بعض ضمن مجتمعات بشرية
معينة، إلى صِدامات عنيفة لاعقلانية وغير
منضبطة. ومن هذه الشروط: -
نمو وتضخُّم القبيلة بشكل
واسع جدًا مع اكتظاظ بالسكان. -
التطور التقني غير المتكافئ
بين المجموعات. -
نمو وتزايد العدوانية ضمن
المجموعات بسبب الشعور بالإحباط. -
ضياع هوية الانتماء
الاجتماعي ضمن القبائل الضخمة. -
اختراع أسلحة متطورة
ومدمِّرة تُطلَق عن بُعد. -
نمو إيديولوجيات ذات أهداف
ومبادئ متناوئة. -
مقتضيات التنافس على المركز
بين زعماء المجموعات، واحتجاب هؤلاء الزعماء
عن الخطوط الأمامية في أثناء الحرب. يبدو
لي واضحًا بأن هذه الشروط مازالت متوفرة في
هذه الحقبة من الزمن. فقد نجمتْ عن تضافرها،
إبان العقدين الأخيرين من القرن الماضي وفي
بداية هذا القرن، حروبٌ طاحنة في آسيا
وأوروبا الوسطى، وصِداماتٌ عنيفة ومدمِّرة
في الشرق الأوسط، وكذلك حروب عرقية ومذابح
جماعية مروِّعة في أفريقيا، وأخيرًا أعمال
إرهابية في كافة أنحاء العالم، نفَّذتْها
جماعات منظَّمة، وحتى بعض الدول. إن
حوادث 11 أيلول 2001، وما تبعها من حرب في
أفغانستان ثم في العراق، إضافة إلى الأحداث
السياسية الأخيرة، تؤكد تأكيدًا ملفتًا ما
ذكره مورِّيس في الفصل الثاني من كتابه، حيث
يقارن تصرفات قرد البابوان الأفريقي المسيطر
مع تصرفات القائد البشري تجاه خطر داهم أو
لردِّ هجوم قادم من خارج الجماعة: إن القرد المسيطر يقف
دومًا في الصف الدفاعي الأمامي في حالة هجوم
من عدوٍّ خارجي، ويلعب الدور الرئيسي كحامٍ
للمجموعة. العدوَّ بالنسبة إليه هو فرد
خَطِرٌ من نوع آخر؛ أما بالنسبة للقائد
البشري فإن العدو يتجسَّد في شكل خصم مشابه
له، ينتمي إلى مجموعة منافسة. في هذه الحال
تكون زعامتُه معرَّضة لتجربة قاسية، ولكنها،
بشكل ما، أقل قسوة مما تكون عليه في حالات
السِّلم؛ إذ إن الخطر الخارجي يحمل معه نداءً
قويًّا للترابط بين أفراد المجموعة
المهدَّدة، مما يسهِّل تسهيلاً ملحوظًا
الإجراءات التي يتَّخذها القائد في حالة
الخطر. فكلما كان القائد جريئًا ومقدامًا في
أفعاله، ظهر بمظهر المتفاني في حماية مجموعته
الواقعة في حالة من الاضطراب النفسي، مما
يجعلها لا تجرؤ على معارضة أفعاله (كما يحصل
عادة في حالة السِّلم)، مهما كانت هذه الأفعال
لاعقلانية. إن القائد القوي، عندما يكون
مستندًا إلى موجة الحماس العارمة التي تجتاح
البلاد في حال الحرب، يأخذ بسرعة بزمام
الأمر، ويسيطر على الوضع الداخلي بسهولة
فائقة، ويتمكَّن من إقناع أفراد المجموعة
الواقعة تحت تأثيره بأن جريمة قتل الآخر، رغم
كونها من أفظع الجرائم، تُعتبَر في هذه
الظروف عملاً مشرِّفًا وبطوليًّا. إنه يحاول
ألا يرتكب أيَّ خطأ؛ ولكنه إذا فعل، فيمكنه
إخفاءه بحجة أن الإعلان عنه قد يهدِّد
معنويات الأمة. أما إذا تمَّ الكشف عنه
علنيًّا بطريق المصادفة فيمكن عزوُه [أي
الخطأ] إلى سوء الحظ وليس إلى قرار خاطئ. في
مثل هذه الأحوال علينا أن لا نعجب إذا اختلق
القياديون الأزمات في أيام السِّلم، أو
المبالغة في التهديدات الصادرة عن دول أجنبية
يُنسَب إليها في هذه الظروف دور العدوِّ
المحتمل. إن مزيدًا من الالتفاف حول القائد
يسمح بالذهاب بعيدًا في تحقيق أهدافه. نُشِرَ
هذا الكتاب منذ أكثر من ثلاثين عامًا؛ ولكنه
يُظهِر بوضوح شديد ما يجري اليوم: الأساليب
التي يعتمدها بوتين تجاه الشيشان، وشارون
تجاه الفلسطينيين، وبوش وبلير تجاه الأفغان
والعراقيين. ولا ننسى، في هذا السياق،
التحذيرات الأمريكية الموجهة إلى سورية
وإيران وكوريا الشمالية التي يُنسَب إليها
دورُ العدوِّ المحتمل. إن هذه الأساليب تؤكد،
بشكل ما، أن الديموقراطيات التي تتجاهل ما
تنطوي عليه من عنف، وحتى من همجية، في بعض
مكوِّناتها، تحتاج دومًا لإنتاج وحوش خارجية
مرعبة، تبرِّر وجودَها كأنظمة ديموقراطية
وإخفاء ما تنطوي عليه من عنف باطن. كان وحشهم
السابق ميلوشيفتش؛ وهو حاليًّا بن لادن وصدام
حسين. 3. التسلُّط والهيمنة، التعصب
واللاتسامح "يا أيها الناس
كُلوا ممَّا في الأرض حلالاً طيبًا ولا
تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدوٌّ مبين." القرآن الكريم،
سورة البقرة "لا وجود للعقل
الذكي دون حرية في القرار، ولا وجود لمجتمع
مزدهر دون عقل ذكي." الولايات
المتحدة أمة فتية ودولة ذات قوة هائلة ورائعة
في مجالات مختلفة وعديدة. كانت الدولة
المؤسِّسة لمنظمة هيئة الأمم، في شكليها
السابق والحالي، ولعبتْ بنجاح، إبان القرن
الماضي، دور المُدافِع العنيد عن الحريات
وحقوق الإنسان في العالم في غضون الحربين
العالميتين الأولى والثانية، وما تبع
الأخيرة من حرب باردة ضد الاتحاد السوفييتي؛
كما كانت العامل الأساسي والمحرِّك للنهضة
الاقتصادية الأوروبية (مشروع مارشال)
واليابانية بعد الحرب العالمية الثانية وما
خلفتْها من دمار شامل هناك. لكنْ من المؤسف أن
نشاهد الآن أن هذه الدولة العظيمة قد
تورَّطت، منذ حوالى عقدين من الزمن، في
سياسات عالمية غير متَّزنة، من الصعب
التكهُّن بنجاحها أو الخروج منها في المستقبل
القريب. عندما
انهار النظام السوفييتي بشكل سريع ومفاجئ
وجدت أمريكا نفسها في موقع الدولة العظمى
الوحيدة المتبقية، التي تقع على كاهلها
مسؤولية الزعامة الإيديولوجية والسياسية
للعالم. من الواضح أن الولايات المتحدة لم تكن
مهيَّأة لحمل هذه المسؤولية وما يفرضُه عليها
هذا الوضع الاستثنائي من مسؤوليات ومهمات
وواجبات متعددة وكثيرة تجاه شعوب دول العالم.
وكان من الواضح أيضًا أنها لم تتمكَّن حتى
الآن من لعب هذا الدور المميَّز على خريطة
العالم. فإن
الولايات المتحدة، في الواقع، قد انتابها
دُوار الغطرسة والكبرياء، وأعماها ما لديها
من ثروات مادية ورغبتُها في التسلُّط
والامتلاك، فتغلبتْ عليها ردودُ أفعالها
البدائية، من فظاظة الطبع وطمع في الامتلاك،
كما كان عليه الأمر سابقًا في زمن السيطرة
الشرسة والقاسية على الأراضي الأمريكية
الغربية، التي رافقها القضاءُ شبه الكامل،
بدون رحمة، على الهنود الحمر، السكان
الأصليين لتلك المناطق. أما بالنسبة لمن
تبقَّى من هؤلاء ناجيًا من الموت فقد
احتُجِزَ ضمن معسكرات جماعية أقيمت على أراضٍ
جرداء، بعيدين عن كلِّ ما يتعلق بنمط حياتهم
وتقاليد عيشهم السابق، مجرَّدين من حقوقهم
المدنية الأساسية ومحرومين من التعليم
وسُبُل العيش. فتكون أمريكا قد حصلت بذلك على
الرقم القياسي المؤسف بأن تكون أول دولة
نظَّمتْ في العالم الحديث معسكرات الاعتقال
الجماعي. إن
الولايات المتحدة تحاول الآن فرضَ رؤيتها
الأنانية الوحيدة الجانب لنظام جديد يرعى
مصالحها الخاصة في العالم. وقد نهجت لتطبيق
هذه الرؤية الخاطئة طرقًا ووسائل تفتقر إلى
العدل والمنطق السليم. كان لا بدَّ أن تثير
هذه الممارسات السيئة جدلاً حادًّا في كافة
أنحاء العالم، مع قيام حركات مناهِضة ورافضة،
يرافقها، في كثير من الأحيان، شعورٌ بالحقد
والكراهية. ونتيجة لهذا الواقع فإن الصراع
القديم بين الشرق والغرب، وما يتمخض عنه، مع
الأسف في أكثر الأحيان، من تعصب في الفكر
والعقيدة، قد ظهر من جديد مع نتائجه الحتمية
من عنف ولاتسامح. تجاه
هذا الخطر المدمِّر الذي يشكِّله التعصب
واللاعقلانية ينبغي على أمريكا أن تتغلَّب
على نزعاتها العدوانية، وأن تكبح محاولاتها
المتكرِّرة للتعبير المثير للمشاعر عن "فحولتها"
وقدراتها التي تثير لاشعوريًا الشك في
حقيقتها. إن رجلاً أو شعبًا يدرك فعلاً
قوَّتَه الحقيقية، مادية كانت أم معنوية، لا
يشعر عادة بضرورة التباهي بها كي يطمئن
ذاتيًّا. ومن
جهة أخرى، فعلى دُعاة التعصب من كلِّ جانب أن
لا يعتبروا أنفسهم بمثابة ذراع الله، وأن لا
يظنُّوا أنفسهم معصومين من الخطأ والمالكين
الوحيدين للعقيدة الصحيحة أو للحقيقة. إن
المعرفة وحدها، وليس الإيمان الأعمى، كفيلة
أن تصنع إنسانًا أفضل. كما عليهم الابتعاد عن
بُغض الآخر وفكر الآخر، وممارسة فضيلة
التسامح، بروح العدالة وذكاء البصيرة. كانت
قرطبة العربية مثالاً ساطعًا ومثاليًّا؛
ولكنها كانت أيضًا، مع الأسف، المثال الوحيد
في هذا المجال. إذ إن روح التسامح والتشوُّق
إلى المعرفة وانفتاح الفكر الذي عمَّ المدينة
في ذلك العصر أنار، وأقلق المتعصبين
والمتطرفين من كلِّ جانب. لقد
أورد الكاتب الفرنسي هربير لوبورييه في كتابه
طبيب قرطبة، الصادر في العام 1974، نصًّا
جميلاً، يبيِّن بيانًا رائعًا ما يمكن أن
ينتج عن التسامح والفكر والثقافة من إبداع
وعظمة. يقول: ليس هناك من مثيل في
تاريخ البشر لنجاح مشابه نتج عن اندماج ثلاث
ثقافات مختلفة، أفرز كلٌّ منها أفضل ما لديه
في سبيل تشييد صرح حضاري مشترك. إن الاتصال
الذي حصل دون جهد بين عبقرية ثلاثة شعوب
مختلفة أساسًا، في مكان جغرافي مميَّز، ولَّد
عملاً مشتركًا رائعًا. لقد وضعتْ الطائفة
العبرية – وهي الأقل عددًا والأقدم وجودًا –
في قاع السلَّة كلَّ ما كان لديها من علم في
البحث والجدل، ومهارة في الأيدي لصنع الأشكال.
كما صاغ فيها الإسلامُ الشعرَ الذي يحمل معه
ريح الصحراء التي لا حدود لها، والأسلوب
الأنيق للحياة، وعظمة الفنِّ المعماري الذي
يتحدى الزمن. أما الشعب اللاتيني فوضع فيها
فكره العملي، وطبيعته الشديدة المقاومة،
إضافة إلى عمله المنظَّم ومنطقه الموضوعي
الواقعي. كان ذلك بمثابة زواج يضمُّ الحبَّ
والعقلانية، يجمع بين الروح والجسد، الحرية
مع احترام الآخر، تيارات العمق مع تموُّجات
السطح. كانت هذه مكوِّنات ما أُطلِقَ عليه
تسمية معجزة قرطبة. أما
اليوم، وفي غياب زواج الحب، فإننا نأمل في أن
يكون الزواج العقلاني حافزًا يخدم المصلحة
المشتركة، و دافعًا كافيًا لأن يجعل الناس
أكثر براغماتيةً وأكثر تسامحًا وأكثر
إبداعًا، حيث لا يوجد هناك أيُّ مبرِّر جيد أو
سيئ لقتل البشر؛ إذ إن مصيرهم المحتوم
يتكفَّل بذلك دون حاجة لمدِّ يدِ العون إليه. ومن
جهة ثانية، فقد تصوَّر الكاتب الفرنسي بول لو
سوليتزر، في روايته مؤامرة الملائكة،
التي
نُشِرَتْ في العام 1996، عالمًا مرعبًا، تسيطر
عليه قوى التعصُّب الديني واللاتسامح التي
تهدِّد بتدمير العالم. وهو يعتبر أن "الإنسانية
لن يدمِّرها فيروس، بل اللاتسامح". في
كتابه هذا يتصوَّر عالم القرن الواحد
والعشرين تهدِّده جماعاتٌ متعصِّبة تنتمي
إلى عقائد مختلفة، تتجمع في منظمات دولية ذات
اتجاهات أصولية. يقول: [...] وكان جون يكره
كلَّ ما يمتُّ بِصِلَة إلى التطرف والأصولية.
كان يكرِّر مرارًا بأن هذا النظام [أي
المنظمات الدولية الأصولية]، مثله كمثل
الأنظمة التوتاليتارية، يهدِّد نهايات
القرن، ويصبُّ تهديدَه على القرن الواحد
والعشرين الذي نتخيَّله كعهد جديد ومكرِّر
للقرون الوسطى، يضمُّ شعوبًا متعصِّبة،
دفعها إلى ذلك مفتِّشو الإيمان، حتى أضحت في
حالة جنون مطبق. إن
الروايات القصصية تكون غالبًا خيالية؛ لكن
الواقع يواكب الخيال في بعض الأوقات، لا بل
يتجاوزه أحيانًا. لنتذكِّر ما قاله في هذا
السياق الكاتب الفرنسي أندريه مالرو منذ
حوالى نصف قرن: "إن القرن الواحد والعشرين
سيكون دينيًّا أو لن يكون." تكهُّن أم واقع؟
المستقبل وحده سيحسم هذا الأمر. 4. العدالة وكرم الأخلاق والنفس "وإذا
حكمتُم بين الناس أن تَحْكُمُوا بالعدل." القرآن الكريم،
سورة النساء "عِشْ، حين تدنو
ساعة الممات، كما ترغب أن تكون قد حييت؛
عامِلِ الآخر كما تريد أن يعاملك." كونفوشيوس
(551-479 ق م) عملتْ
المجتمعات الإنسانية منذ القدم على حماية
نفسها بتشريع قوانين وممارسة العدل بما يتفق
مع القانون. حاول الكثير من الفلاسفة وأساتذة
اللاهوت، منذ قديم الأزمان، تحديد مفهوم
العدالة، دون أن يصلوا إلى اتفاق كامل حول هذا
الموضوع. ليست
الغاية هنا توسيع هذه الفكرة بالذات، إنما
البحث في مفهوم العدالة كما هي مطبَّقة
حاليًّا في العالم، وعلى وجه التحديد ما
يفتقر إليه هذا العالم، في أغلب الأحيان، من
كرم الأخلاق والنفس، دون مزجها مع مفهوم
التضامن في أعمال الخير والإحسان؛ إذ إن هذه
الأخيرة تأتي نتيجة لتداخل أو تضامن في
المصالح أو المصير. فالأولى تمثِّل فضيلة
العطاء التي يتجاوز مفهومُها اعتبارَ
المصلحة، وبالتالي، مفهومَ التضامن. تمتلك
كلُّ دولة نظامَها القانوني وعدالتَها
الخاصة، يقبل بهما عادة مواطنوها دون الكثير
من التذمر، ويعملون بهما عملاً واقعيًّا، حيث
ليس هناك من بديل أفضل. وهناك آخرون يخضعون
على مضض، دون أيِّ أمل في تغيير يحصل في
المستقبل القريب. ولكن ما يلتقي فيه هؤلاء
جميعًا هو المطالبة العلنية أو الصامتة من
حكَّامهم (البلدان ذات الحكم الديموقراطي أو
المحرومة منه) بتشريع قوانين عادلة تطبَّق
أيضًا بعدالة أفضل، آخذةً بعين الاعتبار
حاجتَهم الماسة إلى مزيد من الإنسانية
والسماحة في ممارسة القانون، إضافة للعمل على
وضع حيِّز التطبيق سياسة اقتصادية واجتماعية
متناسقة وذكية، تلتزم بتوزيع عادل للثروات. يوتوبيا
أو خيال؟ ليس تمامًا. حلم؟ ربما. ولكن لماذا
نمنع الرجل العاقل من الحلم، أي أن يأمل في
حياة أفضل؟ علينا ألا ننسى بأن هناك أحلامًا
أصبحت حقيقة في بعض الأحيان. 5. الفلسفة والثقافة "ما قيمة اليقين
إذا ما رافقه الشك؟" هل
تشكو مجتمعاتُنا العصرية من فراغ كبير لا
تملؤه إلا الفلسفة؟ الفلسفة تبدو غائبة في
عالمنا المعاصر، وتبدو صامتة حيال فشل
الإيديولوجيات السياسية وانحرافات العلوم
والتكنولوجيا. إذ كان بإمكانها أن تُخرجَنا
مما نحن فيه من اضطراب وارتباك فكري شديدين،
وتساعدنا في طرح الأسئلة المناسبة وتشكيل
رؤية جديدة للعالم، إضافة إلى تنشيط تيارات
فكرية ونقاش ذكي، ترفع من كرامة الإنسان
وفكره. يُقلِقُنا
المستقبل بحق. إذ إننا نخاف مما ينطوي عليه من
عدم. خوفُنا من المستقبل مردُّه أيضًا أن
الحاضر يتغيَّر ويتجدَّد من لحظة إلى أخرى،
ويدفعنا، بالتالي، إلى ما هو حديث في العالم. أما
الماضي فهو، بالعكس، لا يخيفنا أبدًا. فهو لن
يأتينا بما نخشاه أو ما لا نتوقع حدوثه؛ وفي
ذلك شعور بالاطمئنان نوعًا ما. هذا التفكير
الساذج قد يفسِّر أن عددًا من الناس يلتجئون
حاليًّا إلى الماضي، بالفكر أو بالفعل، مع
نسيان أو تجاهل الحاضر بشكل مقصود أو غير واعٍ. من
الجيِّد أن نبقى أُمَنَاء للماضي وأوفياء
للذاكرة – ولكن أية ذاكرة؟ إذا نجحنا في حفظ
ما ورثناه عن الماضي من معرفة وعلم وفي نقله،
نكون بذلك حافظنا على ما يشكِّل عمق هوية
الإنسان. وبالعكس، فمن السيئ أن نبقى أوفياء
للماضي وحده، في مفهومه المجرَّد، ونتعصَّب
له بعناد وإصرار؛ إذ إن ذلك يؤدي إلى الرجعية
والتعصُّب. يقول أرسطو في هذا السياق: "هل
الوفاء خصلة حميدة أم لا؟ إنه نسبي؛ وبعبارة
أخرى، يتعلق بطبيعة المبادئ التي نريد أن
نكون أوفياء لها." تُعرَّف
الفلسفة تحديدًا بأنها لا تقدِّم أجوبة، إنما
تصوغ الأسئلة. هناك بالتأكيد حاجة ماسة، في
عالمنا المعاصر، إلى معرفة جوهر الأمور، وإلى
وضع اتجاهات فكرية رئيسية لتوجيه مسار الفكر
المشترك. باختصار، هناك مطلب ملحٌّ لكي يتحرك
أساتذة الفكر ليسيروا، على خطى مَن سبقهم من
كبار الفلاسفة، متابعين التواتر الفلسفي
التقليدي، بغية مساعدتنا في فهم العالم. الفلسفة
والثقافة متلازمتان. لذا يندر أن نجد في
التاريخ فيلسوفًا أو رجلاً يتمتع بثقافة
واسعة يحرِّض على العنف والبغض والتعصُّب أو
يحث على أعمال الشر. ينطوي مضمون الثقافة على
فكرة تربية الذات، أي تهذيب النفس. قد نجهل ما
في وسع الفلسفة أن تفعل، لكننا نعلم يقينًا
ماذا يحدث عند غيابها عن الساحة. يجب
أن تتمتع الفلسفة بزمن كافٍ للتفكير حتى لا
تنطق بأكثر مما تعلم. إنها، في جوهرها، "غير
راهنة"، بمعنى أنها متوفِّرة للزمن
القادم، ولا يمكنها تقديم أجوبة فورية
توفيرًا للوقت؛ إن التسرُّع في الجواب هو
عدوُّها. لقد
حاول الفلاسفة الكبار أن يحدِّدوا مفهوم
القضايا الأساسية، مثل: الله، الروح، الحياة
والموت، العدالة، الحرية، الخير والشر،
العقل والفكر، المسؤولية، الدولة، إلخ. بعض
هذه الأمور يشكِّل الآن مواضيع ساخنة في
العالم؛ ومن الضروري أن نحدِّد مفهوم صلتنا
بها وبالعالم، رابطين بين رياضة الفكر وفنِّ
ممارسة الحياة. عَمَدَ
الفلاسفة الإغريق دومًا إلى الحوار، كوسيلة
أساسية للوصول إلى اتفاق بين المشترِكين في
هذا الحوار، مع محاولة الإحاطة بالحقيقة
وحثِّ الكائن على دخول طريق التحوُّل الذي
يصل به إلى الحكمة؛ ومعنى ذلك أن يصير الكائن
إنسانًا أفضل. إن
الإنسان المعاصر، وخاصة الإنسان الغربي،
يخشى الموت. إن رفض الشيخوخة والموت بمثابة
الهروب إلى الأمام، وتحويل الإنسان عن مجرى
الفكر. فهل علينا أن نتعلَّم من جديد كيف
نموت؟ الموت هو جوهر الفلسفة منذ زمن أفلاطون.
يقول الفيلسوف الإغريقي أبيقور: "إن ممارسة
فنِّ الحياة وممارسة فنِّ الموت هما أمر واحد."
إن ترقية الفكرة معناه النظر إلى الأمور من
عَلُ وتأملها من خلال منظور الموت. الحياة
والموت وجهان لعملة واحدة؛ وهذه حقيقة مخفية
حاليًّا في باطن ذاكرة الإنسان. الموت
أم الحكمة؟ "افعل كلَّ عمل في حياتك وكأنه
آخر عمل تقوم به." هذا ما أوصى به ماركوس
أوريليوس، الإمبراطور والفيلسوف الروماني
(121-180). لسنا
هنا في صدد نفي شعور الخوف من الموت أو التمرد
عليه؛ إذ حاول الإنسان، منذ القدم، أن ينتصر
على الموت أو يفرَّ منه بواسطة الفكر أو الدين
أو السحر أو تمجيد خلود الروح، أو حتى بواسطة
التقنية العالمية الحديثة (تجميد الجثث
وحفظها في درجات حرارة منخفضة جدًّا). ولا شك
أن الموت يمثِّل اليقين المطلق. ولكن ربما
أمْكَن التخفيف من رهبته إذا جعلنا شعارنا في
الوجود: "الحياة بأناقة والموت بكرامة." *** *** *** صيدنايا (سورية)، 20
أيلول 2003
|
|
|