|
|
آذار 2004
|
في هذا
الإصدار
|
|
|
لم تعد وحدةُ الإنسانية نظريةً فلسفية أو
شعورًا عاطفيًّا، بل حقيقةٌ تتجسَّد أمام
أعيننا أكثر فأكثر. وهي حقيقة لا يقرُّها
العلم وينادي بها فحسب، بل إنها تزداد
تكريسًا وتبلورًا بنموِّ العلم والتكنولوجيا
وتقدمهما. وفي هذا البحث نضع الإنسان من
الطبيعة في الموقع الذي جعله فيه عالِمُ
التطور الكبير تيار دُهْ شاردان، حيث اعتبر
الإنسانية نموذجًا جديدًا لمتعضِّية
يتحتَّم عليها تحقيقُ إمكاناتٍ جديدة لتطوير
الحياة على كوكب الأرض. فالإنسان هو، من جهة
أولى، ثمرة صيرورة طويلة من التطور، تُقاس
بعمر الأرض نفسها، أي بعدَّة مليارات من
السنين؛ وهو، من جهة أخرى، النقطة الفاصلة من
عملية التطور، حيث تعي هذه العمليةُ فيه
ذاتَها وتصبح قادرةً على توجيه نفسها.
البحث
عن المعرفة الكاملة حلمٌ راود الإنسان
منذ آلاف السنين. فما أساطيره ودياناته
القديمة وفلسفاته وسِرَّانياته وشعائره إلا
تعبيرات عن محاولة سبر أغوار المطلق وتمثُّل
شكل الحقيقة. لقد أراد الإنسان أن يعرف
العالم، فاخترع أدوات كثيرة، منها الحساب
ومنها الفيزياء. ومذ ذاك، أصبح دور العلوم
دورًا رائدًا في تقدُّمه وازدهاره. ولكن، إلى
أيِّ حدٍّ ستستمر العلوم في تقديم المعرفة
للإنسان؟ هل التقدم العلمي لانهائي وبلا
حدود؟ أم أن هناك حدودًا للعلم لا يستطيع
تجاوزها؟ وما الذي يقدِّمه العلم فعلاً؟ هل
يكتشف العلمُ القانونَ الطبيعيَّ، أم يصفه،
أم يفسِّره؟ وكيف نميِّز بين هذه الحالات؟ ما
هي النظرية العلمية؟ وإلى أيِّ حدٍّ تُعتبَر
مبادئ الفيزياء وقوانين الطبيعة والثوابت
الكونية التي يكتشفها العلم حدودًا لا تقبل
التغيير أو التعديل؟ ألا يمكن أن يقودنا
العلم إلى عوالم جديدة مختلفة كليًّا عن
مداركنا، وحتى عن قوانيننا العلمية الحالية؟
هل يستطيع العلم، في النهاية، أن يصل بنا إلى
معرفة كاملة ونهائية؟ وإذا كانت الفيزياء
تستطيع تفسير كلِّ شيء فماذا سيحصل عندئذٍ
للنوع البشري، الذي يقوم تطورُه، بل ووجوده،
على تقدُّم المعرفة؟
|
|
|
|
تمثِّل
ورقة ديفيد بوهم حول الجسد/المغزى، المنشورة
بعد وفاته، إرثًا لا يُقدَّر بثمن، ومخطَّطًا
يضع الأساس للصرح الميتافيزيائي الضخم الذي
كان يتبلور في ذهن المؤلِّف في أيامه الأخيرة.
كما أن من البيِّن أيضًا في العمل التعاوُني
غير المنتهي الذي كان ينجزه بوهم عند مماته أن
تفكيره كان يتطوَّر بسرعة باتجاه أنموذج
إرشادي للعقل والمادة جديد كلَّ الجِدَّة،
يدلُّ على الطريق إلى سواحل مشهد علمي/فلسفي
مازال بِكرًا. ولعله قد كُتِبَ على بوهم، على
نحو ما، مثله كمثل موسى، ألا يحظى بمشاهدة
الأرض التي قادتْه إليها رؤياه إلا من بعيد
وحسب. فإذا كان الأمر على هذه الحال، فإنه
منوط بنا، كأنما بإيحاء من تَرِكَة بوهم
الكريمة، أن نكمل رحلته الاكتشافية الفريدة
إلى تلك البحار الشاسعة، المجهولة المسالك،
لما سوف أسمِّيه "الميتافيزياء الكوانتية".
ثنوية العقل والمادة
|