|
الميتافيزياء الكوانتية لديفيد بوهم
توماس
ج. جرمين
فإن تبديل العين يبدِّل
كلَّ شيء. ~ وليم بليك، المسافر العقلي تمثِّل
ورقة ديفيد بوهم حول الجسد/المغزى، المنشورة
بعد وفاته، إرثًا لا يُقدَّر بثمن، ومخطَّطًا
يضع الأساس للصرح الميتافيزيائي الضخم الذي
كان يتبلور في ذهن المؤلِّف في أيامه الأخيرة.
كما أن من البيِّن أيضًا في العمل التعاوُني
غير المنتهي الذي كان ينجزه بوهم عند مماته أن
تفكيره كان يتطوَّر بسرعة باتجاه أنموذج
إرشادي للعقل والمادة جديد كلَّ الجِدَّة،
يدلُّ على الطريق إلى سواحل مشهد علمي/فلسفي
مازال بِكرًا. ولعله قد كُتِبَ على بوهم، على
نحو ما، مثله كمثل موسى، ألا يحظى بمشاهدة
الأرض التي قادتْه إليها رؤياه إلا من بعيد
وحسب. فإذا كان الأمر على هذه الحال، فإنه
منوط بنا، كأنما بإيحاء من تَرِكَة بوهم
الكريمة، أن نكمل رحلته الاكتشافية الفريدة
إلى تلك البحار الشاسعة، المجهولة المسالك،
لما سوف أسمِّيه "الميتافيزياء الكوانتية". ثنوية العقل والمادة لكنَّ
مطروح هذه الورقة هو أن فكرة الجسد/المغزى سوف
تتيح نوعًا من الظهور يضعنا في تماسٍ مع
الواقع المجهول أساسًا أفضل بكثير من ثنوية
العقل والمادة، مع تقسيمها الإضافي بين
الفاعل والفعل والمفعول به. ~
ديفيد بوهم
(1994) إن
المشكلة الميتافيزيائية لثنوية عقل/مادة
مشكلة ملازمة لفيزياء اسحق نيوتن الكلاسيكية
ومكمِّلتها الفلسفية، تجاربية جون لوك.
فالواقع، بحسب هذا الأنموذج الإرشادي الذي
هيمن على الفكر الغربي إبان القرون الثلاثة
الأخيرة، يُرى في المقام الأول بوصفه خارج
الراصد ومستقلاً عنه. وبالفعل فإن الراصد
يُختزَل إلى وجهٍ مُهمَل نسبيًّا من وجوه كون
شاسع، تحيط سيرورة تفكيره أو تفكيرها إحاطةً
غير تامة بزاوية ضئيلة منه وحسب. فالوعي في
كون نيوتن ولوك، إذن، في أحسن الأحوال،
مجرَّد ظاهرة ثانوية ذاتية من ظواهر واقع
موضوعي؛ أي أن العقل تقزِّمه المادة، إن لم
نقل إنها تمحوه تمامًا. اشتقَّت
ثنوية عقل/مادة هذه نَسَبَها الفلسفي من
رونيه ديكارت، الذي كانت في نظره نتيجةً
طبيعيةً لصياغته مُركِّبي المكان والزمان
كتجريدين رياضيين محضين. وهكذا لم يَصِرِ
الواقعُ الموضوعيُّ، مرئيًّا عبر الخيوط
المستقيمة للشبكة الديكارتية، خارجيًّا
وحسب، بل مطلق أيضًا، يتبع جملة لا محيد عنها
من القوانين الكونية التي يمكن منها تعيين
كافة النتائج تعيينًا يقينيًّا. ومن موقع
الرؤية هذا، قُلِّصَ الوعي الإنساني إلى
مقامِ أداةٍ فجَّة للتمييز بين غرض وآخر. استنادًا
إلى صورة بوهم لعلاقة عقل/مادة بوصفها
مُقايِسة للقطبين المغناطيسيين المتضادين في
وسع المرء حقًّا أن يتوقع بأن المسعي
النيوتوني/الديكارتي إلى قطع المغناطيس، إذا
جاز القول، بعزو واقعية فائقة إلى القطب
المادي، لا بدَّ أن تنتج عنه ببساطة إعادةُ
تكوُّن قطب عقلي جديد. وفي الواقع أن التقاطُب
الأقصى عقل/مادة للمادية العلمية قد ولَّد
ضدَّه: صعود مثالية مساوية له في جذريَّتها،
كما اعتنقها المطران بركلي والأفلاطونيون
الجُدُد، أنكرت على العالم الماديِّ أيةَ
واقعية خارج العقل البشري. إذ إنه، إذا كان في
وسع الماديين أن يشيروا إلى ديموقريطس
التماسًا للنظرة القائلة بأن المادة عبارة عن
قُسَيْمات كتومة، موضعية، فإن المدرسة
المعارِضة يمكنها أن تورِدَ أفلوطين: بما
أن الهيولى ليست لا النفس ولا العقل، ... بل نوع
من عدم التعيُّن، ... فإنه لا يستحق تسمية
الأيس، بل يستحق أن يدعى ليسًا ... يسكن من غير
مقام، غير مرئي بذاته، وعصيًّا على رغبة ذاك
الذي يريد أن يدرك طبيعته. من هنا عندما لا
يدركه أحدُهم، فإنه يكون، على نحوٍ ما
حاضرًا، لكنْ لا يمكن أن يراه ذاك الذي يُمعِن
في الاجتهاد لمشاهدته. يصعب
هنا مقاومة التمتُّع بالسخرية الكبرى:
ميتافيزياء أفلوطين المناوئة للمادية تستبق
استباقًا مروِّعًا الميكانيكا الكوانتية
لورثة نيوتن الفكريين، حيث المقتطَف السابق
إيراده في حكم تلاوة مرجعية ممكنة لنظرية
موجة شرودنغر ولايقين هايزنبرغ. لكن، ربما،
ليس هناك ما يدعو للعجب إلى هذا الحدِّ، بما
أن المثالية الجذرية تقوم على ثنوية عقل/مادة
بمقدار ما يقوم عليها ضدُّها القطبي: المادية
الجذرية. من هنا فإن ثنويات قُسَيْم/موجة
وراصد/قابل للرصد يمكن أن تُرى بوصفها مشتقة
حتمًا من الشرخ الحاصل في الوعي، بعيدًا عن
العالم الطبيعي، بصرف النظر عن أيِّ جانب من
جانبي الصدع يتم الانطلاق منه. إن
انشقاق عقل/مادة القطبي، في نظر ديفيد بوهم،
على كونه قَطْعًا اعتباطيًّا في مجرى "الأيس"
[الوجود] غير المنقسم، كان، مع ذلك، مفيدًا (تمامًا
على غرار فكرة القطبين المغناطيسيين
المصطنَعة) كعَوْنٍ في تذهُّن العمليات التي
لا توصَف لمستوى واقع لطيف أعمق. وبذلك فقد
نقول، بدون مجانبة الدقة، بأن بوهم رَدَمَ
الشِّقة بين العقل والمادة بالمضيِّ إلى ما
تحتها، إلى النصِّ التحتي الذي حِيكَ منه
المتجلِّي. فقد سلَّم بوهم بوجود عالم غير
مادي من المعلومات المحضة، هو "النظام
المنطوي" الذي تنبسط منه الظواهر القابلة
للرصد كافة، ويبطِّن عالم الواقع المتجلِّي
المألوف، أو النظام المنشور، على حدِّ مصطلحه. من
المهم أن نفهم بأن بوهم لم يتصوَّر النصَّ
التحتيَّ المنطوي المبطِّن للأحداث
المتجلِّية كمجرَّد أنموذج إرشادي يفيد في
تفسير الظواهر الكوانتية، لكن كوصف حرفي
للواقع كما هو. وهذه المقاربة الأنطولوجية
الشجاعة تقف على طرف نقيض من مجرى التفكير
السائد في فيزياء القرن العشرين، التي تخلَّت
عن الأنطولوجيا نهائيًّا لصالح مقاربة
إبستمولوجية محضة. تعيين واقع كوانتي كان
النموذج النيوتوني/الديكارتي الميكانيكي
للكون يتضمَّن هدفًا نهائيًّا مفاده اشتقاق
معادلة واحدة من شأنها أن تصف الظواهر
المادية كلَّها. وفي القرن العشرين أنجز
الفيزيائيون النظريون هذا الهدف على هيئة
معادلة شرودنغر، لكنهم وجدوا أن الواقع الذي
تصفه المعادلة عشوائي، لامتعيِّن، لا
يُخترَق حجابُه، ولا ينقسم، بينه وبين وما
توقعوه بونٌ شاسع. وهكذا، بين ليلة وضحاها،
تبخَّر العالَم المُطَمْئِن للقُسَيْمات ما
تحت الذرية المتموضعة محليًّا إلى ضبابة
شبحية كلِّية الحضور من الاحتمالات
الإحصائية، أشار إليها أينشتاين غير
المصدِّق بوصفها ميدان أشباح غشبنشترفِلد! إذا
ذاك سعى المنظِّرون الكوانتيون الرئيسيون،
يقودهم نيلز بوهر، في ردَّة فعل أشبه بردَّة
فعل الدكتور فرانكنشتاين، إلى احتجاز
مخلوقهم المشين في المختبَر: قبول شكل موجة
شرودنغر الشبحية كصياغة رياضية مفيدة من أجل
التنبؤ بالنتائج الاختبارية، لكن، في آونة
واحدة، مع إنكار أن موجة الاحتمال هذه تعكس
بالفعل واقعًا كوانتيًّا. وهكذا، تحت لواء
تفسير كونبهاغن لبوهر، تمَّ حلُّ عجز
الفيزياء الحديثة عن إعادة وضع الجنيِّ
الكوانتي في قارورة أنطولوجية برمي القارورة
بعيدًا. فعلى المستوى الكوانتي، على الأقل،
حُكِمَ على الواقع بأنه، صميميًّا، غير قابل
للعلم. ومع
ذلك فقد بقي لدى العديد من زملاء بوهر تعلُّق
قويٌّ بفكرة أكثر تقليدية، ألا وهي أن المسعى
العلمي عبارة عن بناء نموذج متناسق لما هو
موجود، وليس مجرَّد جملة رَهَقية من القواعد
لتفسير نتائج تشكيلاتها الاختبارية
المستنبَطة. فكان البديل حتمًا، لدى الذين
استنكفوا عن اتباع بوهر في مذهب ميتافيزيائي
أعمى، يتضمن زيارة جديدة للركنين
الديكارتيين التوأمين للمادية العلمية:
ثنوية عقل/مادة والزمان/مكان الموضوعي (وإن لم
يكن مطلقًا، بحسب أينشتاين). كان
البديل المعقول لمقاربة "لا نعرف شيئًا"
لتفسير كوبنهاغن هو رؤية تابع الموجة (المعروف
بمعادلة شرودنغر) بوصفه يمثِّل رياضيًّا،
بحدِّ ذاته، واقعًا كوانتيًّا. لكن خصائص مثل
هذا العالم الكوانتي – ألا وهي: اللاتعيُّن،
اللامحلية، اللازمنية، الترابطية الشاملة –
هي من التعارُض من حيث الأساس مع صفات العالم
الماكروسكوبي بحيث إن المقاربة الأنطولوجية،
على ما يبدو، لا بدَّ أن تتسبب في شرخ جديد في
نسيج واقع موحَّد – هذه المرة لدى اختيار
الخطِّ الفاصل المناسب بين المجالين
الكوانتي والكلاسيكي. لقد كان بوهر، بمباشرته
التي تميَّز بها، قد قطع هذه العقدة الغوردية
بافتراضه اعتباطيًّا أن في المجموعة إجماعًا
إحصائيًّا للظواهر الكوانتية على سلوك
كلاسيكي بحت: حدِّ التقابل المزعوم. فبالأخذ
بهذا الافتراض، يمكن النظر إلى جهاز قياس
جهاري بوصفه كلاسيكيًّا بحتًا؛ وبذلك يمكن
للشرخ بين العالمين الكوانتي والكلاسيكي أن
يتوضَّع بشكل ملائم على الحدِّ بين أجهزة
الاختبار والقُسَيْم ما تحت الذري. لسوء
الحظِّ، فشلت الصياغة الرياضية للميكانيك
الكوانتي، كما بسطها جون فون نويْمَن في
أوائل الثلاثينيات، في دعم الوجود المفترَض
لخطٍّ زاهٍ يفصل بين الصفات الجيدة التعيين
لأداة القياس وبين الكمونات غير المتعيِّنة
في صميم تابع موجة شرودنغر. وبدلاً من ذلك،
تخفَّفتْ صياغة فون نويْمَن الرياضية للكون
تمامًا من الركنين الديكارتيين التوأمين
للفيزياء الكلاسيكية، مستبدلة فضاء هيلبرت
اللانهائي الأبعاد بالزمكان الرباعي
الأبعاد، ومُصِرَّة على التخلُّص من أنموذج
واقع منفصل. من هنا فإن صياغة فون نويْمَن
تتطلَّب أن توصَف سائر السيرورات الفيزيائية
بعبارة اصطفاف لانهائي من الكمونات عاجزة
صميميًّا عن التحقُّق بدون شفاعة كيان غير
فيزيائي ملازم لعملية القياس – أي كيان وجد
فون نويْمَن نفسه مرغمًا منطقيًّا على
مُماهاته مع الوعي. وبذلك حصلنا على سخرية
سامية مفادها الجمع بين إنشاء رياضي صارم
يعبِّر عن نموذج ماديٍّ بحت للكون يفضي إلى
أنموذج جذريِّ المثالية: الوعي هو الذي يخلق
الواقع! فهل
الأنطولوجيا الكوانتية تقودنا، إذن، حتمًا
إلى ثورة كوبرنيكية مضادة، تمنح الإنسانية،
أو بدقة أكبر، الوعي الإنساني، من جديد،
المنزلة المركزية في المخطَّط الكوني؟ كذلك
فإن التَبِعات الإشكالية لصياغة فون نويْمَن
لا تنتهي عند هذا الحدِّ، لأننا ما لم ننكر
الوجود الفيزيائي للكون، السابق للتطور
البيولوجي للوعي الإنساني، فإننا مجبَرون
على تعريف الوعي تعريفًا أوسع من تعريفه في
سياق العقل البشري الفردي. نحن، في الواقع،
مجبَرون، على الأقل، على النظر في إمكانية أن
يكون الكون، بمعنى ما، واعيًا وعيًا يتجلَّى
في الكلِّ غير المنقسم، لكنه كذلك يتخلَّل
الواقع نزولاً حتى مستوياته المتناهية دقة
ولطافة. في سياق "أرواحية" كوانتية كهذه،
يمكن النظر إلى الوعي الإنساني منبثقًا من
الوعي الكلِّي المتخلِّل الكلَّ، عبر سيرورة
مشابهة لانهيار تابع الموجة إلى الشكل
الموضعي لقُسَيْم مرصود. التكاملية والزمان/مكان هناك
مكان تكون فيه الأضداد صحيحة على حدٍّ سواء. ~
وليم بليك،
زواج النعيم والجحيم إن
الوحدة الأساسية والتواكُل بين ما دعاه بليك
بالأضداد هو مفهوم نشأ مع هيراقليطس
وفيثاغوراس وصار عقيدة مركزية في كيمياء
باراكِلْسُس: "الأدنى مماثل للأعلى؛
والأعلى مماثل للأدنى." فعلى
غير قطبي مثالي/مادي للفلسفة الاتباعية، رأى
هذا المنقول الباطني أشفاع الروح والمادة،
النور والظلمة، الزمن والأبدية، الأعلى
والأدنى، بوصفها مبادئ متكاملة، كلا حدَّيها
متجذِّر في الماهية الإلهية. فالعقل الكلِّي
– "الإله المستتر" عند الكيميائيين –
محتجب وفاعل في المادة، بمقدار ما يفعل في
عالم الوعي، أو كما عبَّر بليك عن ذلك شعريًّا: الله
في أدنى المعلولات كما هو أيضًا في أعلى العلل. بحسب
مدرسة الفكر الرؤيوية هذه، كانت أسطورة
أوزيريس، الذي قُطِّعَتْ أوصالُ جسمه الإلهي
ونُثِرَت في كلِّ أرجاء العالم المادي، هي
النمط البدئي لانبثاث العقل في المادة. فمع أن
النور مستترٌ في المادة، "النور يضيء في
الظلمة"، على حدِّ عبارة القديس يوحنا في
بشارته، فإنه
يضفي الصورة على هيولى العالم المادة التي
تبقى، بغير ذلك، مائعة. منطلِقًا
من مبدأ التكاملية الأساسي عينه، توصَّل
ديفيد بوهم إلى أنموذج للعقل/مادة ملفت
الشَّبَه، فيه تنقاد القُسَيْمات ما دون
الذرية في حركتها بمعلومات فاعلة مدوَّنة في
حقل من الكمون الكوانتي يتواصل مع الكون
بأسره. إن بوهم (1994)، كما عهدناه، يتروَّى في
اختيار ألفاظه، مفسِّرًا الفروق الدقيقة
الخاصة التي يضفيها على فكرة المعلومة information:
"الأمر الحاسم هنا هو أننا نلفت النظر إلى
المعنى الحرفي للكلمة، أي in-form،
الذي يشير إلى إضفاء شكل form
على شيء أو بثِّ شكل في شيء." من
السهل إساءة تفسير نظرية الموجة القائدة
المزعومة كإحياء لليقينيات المألوفة
للفيزياء الكلاسيكية، مع وجود قُسَيْم
مُمَوْضَع، ملموس، يتقاذفه حقلُ طاقة
فيزيائي. لكن بوهم، في كتاباته الأخيرة،
يتجشم مشقة عظيمة ليفسِّر بأن الحقل الكوانتي
لا يبذل أية قوة على القُسَيْم، وبأن كلا
القُسَيْم والحقل غير موجودين إلا في النظام
المنطوي الذي يبطِّن الواقع المتجلِّي.
وبالفعل، بعيدًا عن الإياب إلى الشبكة
الديكارتية ما قبل الكوانتية للمكان/زمان،
تطرح نظرية بوهم، للمرة الأولى، أنطولوجيا
لاديكارتية للمكان/زمان تقابِل صياغة فون
نويْمَن الرياضية لفضاء هيلبرت: الفكرة
الأساسية هي إدخال مفهوم جديد للنظام، ندعوه
النظام المنطوي أو الضمني. وهذا ينبغي
المقابلة بينه وبين مفاهيمنا المعتادة
للنظام القائمة على أفكار ديكارت. فالشبكة
الديكارتية (ممتدةً إلى النظائر المنحنية
الخطوط)، التي تصف ما هو من حيث الأساس نظام
محلِّي، ما فتئت السمة الثابتة الوحيدة في
الفيزياء إبان كافة التغيرات الأساسية التي
حدثت في غضون البضعة قرون الماضية. غير أنه في
المجال الكوانتي، يبيِّن هذا النظام قصوره،
لأن الخصائص الفيزيائية لا يمكن عزوُها بما
لا لبس فيه إلى بنًى وسيرورات مُحكمة التعيين
في الزمكان مع بقائها ضمن فضاء هلبرت. ما
نقترحه هنا هو أن هذا التبايُن بين المفاهيم
الفيزيائية (أي قُسَيْم/موجة، موقع/عزم)
وتَبِعات المعادلات الرياضية ينشأ لأن
المفاهيم الفيزيائية وثيقة الالتحام بفكرة
ديكارت عن النظام، وهذا ينتهك المضمون
الجوهري للميكانيكا الكوانتية. فما نحتاج
إليه هو فكرة عن النظام تنسحب على مفاهيمنا
كافة، الفيزيائية منها والرياضية، بما
يتَّسق مع هذا المضمون. فكما
يمكن النظر إلى المصوِّر الاتِّباعي بوصفه
أنموذجًا للنظام الديكارتي، بالتقابُل فيه،
نقطة مقابل نقطة، بين الصورة والموضوع
المصوَّر، يستمد بوهم من الهولوغرام
أنموذجًا عن نظامه المنطوي، الذي يكون شكل
الموضوع برمَّته منطويًا في كلِّ نقطة من
نقاط الصورة. بذلك فإن "مركِّبتا مكان/زمان
لا تظهران منفصلتين في النظام المنطوي، بل
تندمجان في كلِّية غير منقطعة، نوعٍ من
المكان القَبْلي، يحيط كلٌّ جزء عديم الأبعاد
منه بالمكان/زمان كلِّه." وبذلك يمكن النظر
إلى مسار قُسَيْم عبر المكان/زمان بوصفه حركة
كلِّية، أي تفتُّحًا متواليًا في المكان/زمان
لشكل أبدي واحد في المكان القَبْلي: أيًّا
كان ما يدوم مع شكل ثابت فإنه يبقى بوصفه
تفتُّح نموذج متكرِّر ومستقر يتجدَّد على
الدوام بالانطواء ويضمحل بالتفتح. وعندما
يتوقف التجدُّد يتوارى الشكل... وفكرة وجود
كيان دائم، ذي هوية معطاة، سواء كان قُسَيْما
أو أيَّ شيء آخر، هي بالتالي، تقريب في أحسن
الأحوال... مع
أن بوهم لم تتوفر له فرصة استخلاص غير
المضامين الأولية لهذا الأنموذج الثوري
الجِدَّة فمكن الممكن أن نرى في الحركة
الكلِّية نوعًا من النقل السينمائي
المتوالي، أي المؤطَّر، لنصٍّ تحتي منطوٍ
يوجد خارج المكان/زمان، أو بتعبير أكثر
مجازية، التفتح المتوالي للأبدية في الزمان
وللاَّنهاية في المكان. وهنا أيضًا يبدو
إلهام وليم بليك الشعري مذهلَ العلمِ بالغيب: كيف
لك أن تعرف أن كلَّ طائر يشق الطريق الهوائي، ما
هو إلا عالَم شاسع من الحبور، مستغلق على
حواسك الخمس؟ قد
يتبيَّن كذلك أن الطبيعة المتوالية لتفتح
الحركة الكلِّية في المكان/زمان هو نتيجة
طبيعية منطقية لمبدأ التكاملية لبوهر (الذي
ليس مبدأ هايزنبرغ في اللايقين إلا حالة خاصة
منه). وتبعًا للتكاملية فإن بعض مجموعات
المرصودات الفيزيائية لا يمكن أن تُعرَف في
تَصَاقُب المكان/زمان نفسه، لأن المُعامِلات
الرياضية المقابِلة لهذه الصفات المقترِنة
لا يُستبدَل واحدُها بالآخر؛ أي أن الدور
الذي تُطبَّق المعامِلات وفقًا له يشكل فرقًا.
والحالة هذه فإن تغييب الأحداث الماضية في
الزمان/مكان، الذي هو سِمَة النظام المنشور
أو المتجلِّي قد يكون، من منظور معين،
ضروريًّا للحيلولة دون انتهاك التكاملية
التي تنجم من الرصد المتواصل لصفات مقترِنة. لكن
مبدأ بوهر في التكاملية يُملي أيضًا بأن
معرفة كافة الصفات المتكاملة لا غنى عنها
لتشكيل صورة تامة عن الواقع. من هنا، بما أن
الكمونات المتعارضة لا يمكن أن تتجلَّى في
المكان/زمان نفسه، فإن الصورة التامة يجب أن
تقدَّم على "أقساط"، إذا جاز التعبير، مع
اختفاء كلِّ إطار من الأنظار قبل تجلِّي
مبناه المكمِّل. بمقتضى ذلك فإن الواقع
المتجلِّي ليس متواصلاً، لكنه، عوضًا عن ذلك،
مؤلَّف من متوالية سينمائية من التجسُّمات من
النصِّ التحتي، كلُّ تجسُّم منها منفصل بما
يخصُّه بوهم باسمِ "زمن الطيران الحر"
المتصل بزمن بلانك. إن
الاتصالية الظاهرة للواقع، بالتالي، يجب أن
تُعزى إلى الضرب نفسه من الثبات البَصَري
الذي يعلِّل وهم استمرارية العرض في السينما.
وهذا، إذن، يشي بنفسه بوصفه أنموذجًا لدور
الوعي، الذي، على غرار الإلهة إيزيس، يسافر
عبر مياه المكان/زمان الهيولية، جامعًا
ولاحمًا الأوصال المقطَّعة لجسم أوزيريس،
الكل غير المنقسم للنظام المنطوي: غير
أنه يمكن لمثل هذه السيرورات العقلية من
الاستغراق الداخلي واللطافة غير المحدودين
أن تستدمج محتوى الذاكرة مع باقي محتويات
الإدراك في كلِّيات... الوعي والنظام المنطوي بالاستمرار
على خطى بوهم في رفض ثنوية عقل/مادة، يصير من
المعقول أن نفترض بأنه، كما أن الظواهر
المادية تجلِّيات لنظام منطوٍ يتفتح، كذلك
فإن ظواهر الوعي قد تُعتبَر كتفتح نصٍّ تحتي
لازمني، لامكاني، يبدو عشوائيًّا ("يبدو"،
لأن نصَّ هذه الصفحة، منظورًا إليه بوصفه
الترادف التراكمي لحروف فردية، يمكنه أن
يؤوَّل بوصفه سيرورة إحصائية عشوائية). وفي
النهاية، على أكثر المستويات لطافةً، يكون
النظام المنطوي للكونين المادي والنفسي
نظامًا واحدًا؛ لكنْ بالوسع الاستدلال على
وجود تدرُّجات تتدخل من مستويات متناهية في
اللطافة، تقوم فيها أحواضٌ مشتركة للمعلومات
بالربط بين وعي الصحو واللاوعي، وبين العقل
الفردي ونفسٍ كلية. تقوم
النفس الفردية بتشييد تجريد الذاتية بمجرَّد
فصل نفسها عمَّا يصفه بليك بـ"القطع
المتناثرة لهذا الجسم الخالد"، أي بذور
الوعي الكوني المزروعة في كلِّ مكان، حتى
أَضْأَل أخاديد المادة. لكن الكمونات
اللانهائية لأجزاء العقل المتناثرة التي
ينبغي على الذات أن تعرِّفها بوصفها خارجية
سوف تمثِّل الآن معلومات خامدة الفاعلية،
بالمعنى نفسه الذي تقوم به الكمونات
الكوانتية غير المحقَّقة للإلكترون المرصود
في نظرية بوهم. وبهذا، كما ألمعنا سابقًا،
يمكن للوعي الفردي أن يتجرَّد من حوض وعي
مبطِّن، على النحو نفسه الذي يمكن فيه
لصُرَّة الموجة الكوانتية المرصودة أن تنجم
عن انهيار تابع موجة إجمالي. هذا
وإن وعي الذات يستلزم، بدوره، لاوعي تلك
الأجزاء من العقل التي ليست ذاتًا، كذلك لأن
من صميم كافة المظاهر القابلة للرصد ألا
تتجلَّى الصفات المتكاملة في آن معًا.
وبالعكس فإن اختبار اللاوعي، أي العقل
المتخطِّي للحدود التي تفرضها محدودية
الذات، هو النوم أو تغييب الوعي. وكما أن شكل
القُسَيْم يدوم من خلال التلاقي والتباعُد
المستمرين لموجات متفتحة عن حقل منطوٍ من
الكمون الكوانتي، كذلك يمكن النظر إلى الوعي
بوصفه الشكل المنشور الذي يدوم من خلال
التلاقي والتباعُد المستمرين لموجات متفتحة
عن حقل غير واعٍ من الكمون النفسي. ليس
للوعي الفردي، إذن، مثله كمثل مُقابِله –
قُسَيْم المادة الفردي – وجودٌّ مستمر، بل
بالأحرى تفتحٌ سينمائي متوالٍ للمضمون
اللانهائي للاوعي، أو، كما يعبِّر بوهم: "فعل
اللانهائي في نطاق المنتهي." وبهذا، في
أثناء ساعات الصحو، يتفتح مضمون اللاوعي،
العشوائي، غير المحلِّي، اللازمني،
اللاشيئي، والكلِّي الاشتباك، على ما
يُفترَض، من أجل أن يُبقي، بالخلق المتجدِّد،
الشكل المنشور للوعي. ههنا، أيضًا، أنموذج
يعلِّل خاصية الوعي البالغة التحيير تلك:
أنه، من لحظة إلى أخرى، مستمر الاختلاف، لكن (على
افتراض غياب داء نفسي) يكرِّر شكلاً ثابتًا. بذلك
فإن تطبيق حركة بوهم الكلِّية تطبيقًا
متماسكًا على العقل والمادة معًا يجبرنا على
النظر في الدور المركزي لما سمَّاه فرويد
فاعلية الحلم في المحافظة على الوعي صحيحًا؛
إذ إن النموذج المتكرِّر والمستقر الذي يتفتح
في غضون ساعات الصحو ينبغي أن يتجدَّد في
أثناء ساعات النوم (أو أحلام اليقظة) عبر
استبطان خبرة الصحو في النصِّ التحتي
المفكَّك للاوعي. والبديل عن استبطان الحلم
لخبرة الصحو ينجم حتمًا عن طبيعة الحركة
الكلِّية: "عندما يتوقف التجدُّد يتوارى
الشكل." مرة
أخرى، تبرهن المنقولات المتافيزيائية
القديمة عن علمها العجيب بالغيب بخصوص
صياغاتنا الناشئة. ففي الأساطير الهندوسية
يتفتح العالم المتجلِّي، مثل زهرة لوتس، من
حلم فشنو الكوني: فشنو،
باعتباره الماء الكوني عينه، ذلك المحيط
اللانهائي من سائل جوهر الحياة، الذي تنشأ
منه كلُّ الظواهر المتمايِزة لعناصر الكون،
والذي يجب أن تتوارى فيه من جديد.
(هايْنريش تسِمِّر) إن
لغة الأحلام الرمزية ما تحت النصِّية، مثلها
كمثل موجة بوهم القائدة، التي تقود وتشكِّل
درب الإلكترون، تُعلِم العقل الواعي: "رموز
الأحلام هم الرُّسُل القادمون من الأجزاء
الغريزية والعقلانية من العقل البشري،
وتأويلها يُغني فقر الوعي." وبما
أن الوعي يُعاد خلقُه على الدوام من النظام
المنطوي للاوعي فإن إمكانية أن يتبدَّد
الشكلُ المتجدِّد دومًا أو ينفك إمكانيةٌ
حقيقية دومًا ووشيكة الحدوث. وبالتأسيس على
أنموذج الحركة الكلِّية، قد نتوقع أن ينجم
مثل هذا الانفكاك إما عن قصور في استبطان خبرة
الصحو، أي من اضطرابات في الأحلام، وإما من
قصور في تفتح النصِّ التحتي في حياة الصحو.
وفي حين ينزع الأول إلى يكون مصدرًا للأدواء
في النفس الفردية فإن الثاني قد يتجلَّى هو
الآخر كاضطراب في الكتلة النفسية للبشرية ككل. أحد
الأمثلة الواضحة على هذا الاضطراب النفسي في
التفتح على المستوى المجتمعي هو ما يشير إليه
يونغ بـ"ضياع النفس البدائية" – وهي
متلازمة تقطع الإنسانية المعاصرة فعلاً عن
الطاقة اللانهائية لطبقات اللاوعي الأعمق.
فكما لحظ ديفيد بوهم، يرى الفردُ العالمَ،
ضمن مكتِّفة الشخص الاتباعية للقرن العشرين،
بوصفه "جملة من القطع الميكانيكية
المفكَّكة، واحدة منها هي الذات".
وبانقطاعها عن صلتها باللانهائي، تتقلَّص
النفس إلى عبثية إدراكها نفسه. وإذ يُحرَم
العالم المادي من ظلِّ اللاوعي الوارف الذي
يُمِدُّه بالطاقة، يتخذ هيئة باردة، نائية،
معادية، ورتيبة، خالية من العاطفة أو اللون. هذا
المَوات في الطاقة النفسية أو عرقلة تفتحها
يتعزَّز بالسيرورة المكمِّلة للاستبطان:
فالمعنى الميكانيكي العديم الحياة، مطبَّقًا
على الخبرة الواعية، يطبع جمودَه على النصِّ
التحتي للنفس، بحيث إن تفتحها في الوعي يصير
غير متوافق مع الإدراكات الخلاقة. المدهش
هو أن ميكانيكا ديفيد بوهم قادته إلى تلك
البصيرة عينها التي ألهمت قصائد وليم بليك
الرؤيوية: حالة البشرية الساقطة هي حالة
فقدان ذاكرة، بحيث إن صحوة النفس على
ينابيعها الأبدية تبدأ بكيفية إدراك جذرية
الجِدَّة (بوهم، 1994): لقد
رأينا بأن الإنسان لانهائي من حيث الكمون. فهل
الإنسان فعليًّا نهائي أو لانهائي؟ مادام
معنى المنتهي هو ما يسيطر على وعيه فإنه يكون
فعلاً هذا المغزى المنتهي. لكن عندما يرى
إنسانٌ ما حقًّا المعنى الجديد بأن الإنسانية
ليست مضطرة إلى البقاء على هذا النحو من
المحدودية فإنه سوف يكف فعليًّا عن أن يكون
محدودًا. سوف يبدأ بالانفتاح على اللانهائي،
وسوف يتمكَّن من العمل الخلاق في كلِّ شوط من
أشواط الحياة، الفردية والجماعية. لعلنا
أن نتميِّز دنوَّ ألفية جديدة، بِصِلتها
النمطية البدئية مع الحركات الدورية للنظام
المنطوي، في الأشعة الأولى لانبلاج فجر إدراك
جديد للعقل، إدراك تعاود فيه الإنسانيةُ
اكتشافَ القدرة الفعالة للوعي على تحويل
الواقع. *** *** *** |
|
|