|
الإنسان والإنسان الآلي[1] يعني التقدم في الوجود إمعانًا في الوحدة.
تيار ده شاردان لم تعد وحدةُ الإنسانية نظريةً فلسفية أو
شعورًا عاطفيًّا، بل حقيقةٌ تتجسَّد أمام
أعيننا أكثر فأكثر. وهي حقيقة لا يقرُّها
العلم وينادي بها فحسب، بل إنها تزداد
تكريسًا وتبلورًا بنموِّ العلم والتكنولوجيا
وتقدمهما. وفي هذا البحث نضع الإنسان من
الطبيعة في الموقع الذي جعله فيه عالِمُ
التطور الكبير تيار دُهْ شاردان، حيث اعتبر
الإنسانية نموذجًا جديدًا لمتعضِّية
يتحتَّم عليها تحقيقُ إمكاناتٍ جديدة لتطوير
الحياة على كوكب الأرض. فالإنسان هو، من جهة
أولى، ثمرة صيرورة طويلة من التطور، تُقاس
بعمر الأرض نفسها، أي بعدَّة مليارات من
السنين؛ وهو، من جهة أخرى، النقطة الفاصلة من
عملية التطور، حيث تعي هذه العمليةُ فيه
ذاتَها وتصبح قادرةً على توجيه نفسها. وبطريقة أبسط
نقول: إن الإنسان – وقد بات يملك من العلم
والقدرات التقنية والمعارف المختلفة عن نفسه
وعن الطبيعة ما يملك – يجد نفسه أمام أحد
طريقين: 1.
فإما المضيُّ
قُدُمًا في عملية التطور، أو بعبارة أخرى، في
عملية الحياة على الأرض، التي هي، في الوقت
نفسه، عملية تفتُّحه ونموِّه الخاص؛ وهذا
يتطلَّب ويعني وقفةً لهذا الإنسان مع نفسه
ومراجعةً وتأمُّلاً في جميع وجوه نشاطه
وأشكالها. 2.
وإما العمل على إعاقة هذه العملية
ومحاولة وقفها، عن وعي أو عن غير وعي، والعودة
بها إلى الوراء؛ وهذا ما يحدث عندما يتجاهل
الإنسان دوره في هذه الصيرورة ويستمر في
إشباع أنانيَّته واستهلاكه الفارغ، ساعيًا
وراء رفاهية مزعومة تقودُه، من حيث لا يدري،
إلى حتفه. كلُّنا يعلم
اليوم مدى الضرر الذي نُلحِقُه بالبيئة
ومخاطر نضوب الطاقة وتغيُّر المناخ والخلل
الديموغرافي والفيروسات المستجدَّة، فضلاً
عن مخاطر الأسلحة النووية والكيميائية
وغيرها، وأخيرًا كلَّ المشاكل التي يمكن أن
تتمخض عنها آخرُ التقنيات الحديثة، كاستنساخ
البشر والهندسة الوراثية، وإذا صدقتْ حدوسُ
أدباء الخيال العلميِّ ونجحت مساعي العلماء:
الروبوت. منذ أكثر من
خمسين عامًا، حذَّر العالم الأمريكي الكبير
نوربرت وينر من مغبَّة التطور الكبير الذي
كان ينتظر علوم الأتمتة والمعلوماتية، وبوجه
عام، علم السيبرنيتيكا،[2]
فكتب في مقدمة كتابه الشهير السيبرنيتيكا
أو علم التحكم والاتصال في الآلة والحيوان: إن
الذين أسهموا في العلم الجديد يجدون أنفسهم
في وضع أدبيٍّ لا تتوفَّر فيه الراحةُ
التامَّة. لقد أسهموا في ولادة علم جديد يشتمل
على تحسينات تقنية تنطوي على احتمالات عظيمة
للخير والشر. ولا نملك إلا أن نسلِّمها للعالم
القائم من حولنا، وليس لنا الخيار حتى في هذه
الأفكار. إن أفضل ما نستطيع فعلُه هو أن نسعى
إلى جعل الجمهور العريض يفهم الاتجاه
والنتائج التي يحملها في طيَّاته العملُ
الراهن. ثمَّة من يؤمنون أن الخير الذي
يقدِّمه هذا المجال من البحث نحو فهم أفضل
للإنسان والمجتمع يفوق الإسهام الذي يقوم به
من أجل تركيز القوَّة. إنَّني أكتب هذا في
العام 1947، وأنا مضطر إلى القول إن هذا الأمل
ضعيف جدًّا. السيبرنيتيكا كان كتاب وينر
المذكور – وهو عالم رياضيٌّ كبير – ثمرة عمل
استمرَّ عدة سنوات، واشترك فيه مع الطبيب
وعالم الفسيولوجيا آرتورو رونبرت، وأيضًا مع
المهندس الكهربائي جوليان بيجيلو، وفيه
كرَّس وينر أسُس علم جديد يُعتبَر، في شكل من
الأشكال، مجالاً لإسهام اختصاصات وفروع
مختلفة من علوم كان يبدو أنْ لا رابط بينها. لقد نشأت
السيبرنيتيكا – وهي نظرية رياضية بالدرجة
الأولى – من دراسة منظومات الإدراك
والتحكُّم، سواء في الآلات المصنَّعة أو في
الكائنات الحية، كآلية ثبات درجة حرارة
الجسم، أو تنسيق الحركات مع الحواس، إلخ.
ويصفه بعضهم بأنه العلم الذي يشرح فيه
الفسيولوجيون للمهندسين كيف يبنون الآلات،
ويشرح فيه المهندسون للفسيولوجيين كيف تسير
الحياة. وهو وصف يتجاوز بالتأكيد الطبيعة
الرياضية لهذا العلم. يقوم العلماء
إذًا بتحليل الطرق التي تتبعها الكائنات
الحية لأداء وظيفة معيَّنة أو تحقيق هدف ما؛
ويُوَصِّفون هذه المنظومات بأشكال رياضية،
تمهيدًا للإفادة منها في تطوير آليَّات تحاكي
تلك المنظومات وتقلِّدها.[3] السيبرنيتيكا
إذًا علم شمولي، يهتم بدراسة عمليات الاتصال،
أو تلقِّي المعلومات وتخزينها ومعالجتها
وتبادلها، وعمليات التحكُّم، أي استخدام
المعلومات في توجيه عمل منظومة معيَّنة، آلية
كانت أو حية. وتتقاطع السيبرنيتيكا مع عدد
كبير من العلوم: فهي تقوم على أسُس رياضية تجد
تطبيقاتها في المعلوماتية والأتمتة والطبِّ
والتعليم وعلم الاجتماع والاقتصاد إلخ.
ولعلَّ أهمَّ مجالات بحث واهتمام
السيبرنيتيكا وتطورها هو علم الإنسان الآلي
أو الـRobotics. تُشتَقُّ كلمة
"روبوت" Robot
من كلمة تشيكية تعني الخادم أو العبد. وقد
استخدمَها للمرة الأولى الكاتب التشيكي Karel Kapek في نصٍّ مسرحيٍّ له في العام 1920 يتحدَّث
فيه عن آلة قام باختراعها أحد العلماء تستطيع
إنجاز جميع الأعمال التي يقوم بها البشر عادة.
وتروي القصة أن العالِم شاء فيما بعد أن
يطوِّر هذه الآلة بحيث تستطيع أن تشعر
بالسعادة وبالألم. فعندئذٍ أحسَّتْ تلك الآلة
بالظلم وثارَتْ على سيِّدها. ومع ذلك فإن
فكرة الإنسان الآليِّ لم تعد، منذ وقت طويل،
موضوع حديث الأدباء وكتَّاب الخيال العلميِّ
فقط، بل إمكانية يتحدث عنها كبار العلماء،
بدءًا من نويْمَن ووينر، رائدا المعلوماتية
والسيبرنيتيكا، ومسعًى تعمل على تحقيقه
اليوم كبرى مراكز البحث في العالم. فمن المعروف أن روبوتات متعدِّدة الأشكال
باتَتْ موجودةً في كثير من المواقع، وتعمل
بدلاً من الإنسان وتنفِّذ مهامها بدقة
وبأمانة، فتُحيل الأشخاص إلى التقاعد، وترفع
نِسَبَ البطالة بين الناس. لكن السؤال
الأهمَّ، الذي يعمل العلماء والمهندسون على
تحقيقه، هو التوصُّل إلى نوع من الروبوتات
أكثر تفوُّقًا وذكاءً، قادرة على التعلُّم
واكتساب المهارات، وأيضًا على صنع روبوتات
أخرى مشابهة لها، أي على التكاثر. ويعني ذلك،
بعبارة أخرى، التوصُّل إلى روبوت يستحق تسمية
"الإنسان الآليِّ". ثمة سؤالان
يُطرَحان إذًا: يتعلَّق الأول بالحدِّ الذي
يمكن أن تصل إليه الآلةُ المبرمَجة من حيث
القدرة على أن تكون آلةً ذكية، أي
بالإمكانيَّات التي يمكن أن يصل إليها
الذكاءُ الصنعيُّ مقارنةً مع ذكاء الإنسان؛
ويدور السؤال الثاني حول إمكانية وجود آلة
قادرة على التكاثر الذاتيِّ. الذكاء
والذكاء الصنعيُّ تزداد
ازديادًا متسارعًا وظائفُ الحاسب وقدراتُه.
فهو يقوم اليوم بكثير من الوظائف التي كانت،
حتى وقت قريب، وقفًا على البشر: الترجمة من
لغة إلى أخرى، سواء لنصٍّ مكتوب أو مقروء،
وصياغة الأسئلة حول موضوع معيَّن، والتعليق
على شؤون الساعة الراهنة انطلاقًا من وجهة
نظر معيَّنة، وتأليف الموسيقى، وحلِّ
المسائل الرياضية والعلمية المتنوِّعة،
وممارسة ألعاب الداما والشطرنج، وغير ذلك
كثير. وتندرج جميع هذه النشاطات تحت اسم
اصطلاحيٍّ واحد: برامج الذكاء الصنعي. يُعتبَر تعريف
الذكاء، بشكل عام، مشكلةً علمية وفلسفية
عالقة. أما الذكاء الصنعيُّ فهو فرعٌ من علوم
البرمجة في المعلوماتية. ونقرأ حول تعريفه في
موسوعة Universalis
الفرنسية: ليس
ممكنًا أن نعطي الذكاء الصنعيَّ تعريفًا
موحَّدًا يقبله جميع العاملين في هذا المجال.
ويمكن تعريفه بطريقة عامة جدًّا كنهج يسعى
لجعل الحاسب قادرًا على إنجاز مهمَّات
تتطلَّب الذكاء فيما لو أراد أن يقوم بها
إنسان. ينطوي هذا
التعريف على فكرة شديدة الأهمية، مفادُها أن
أيَّ نشاط يقوم به برنامج من برامج الذكاء
الصنعيِّ عبر الحاسب، كلعب الشطرنج على سبيل
المثال، يتطلَّب، في حالة الإنسان، حدًّا
معيَّنًا من الذكاء، دون أن يعني ذلك أبدًا أن
الحاسب، أو بالأصح البرنامج، يقوم بعمله بنفس
الطريقة التي يقوم بها الإنسان، أي بذكاء.
وبمعنًى آخر، ينطوي هذا التعريف على إشارة
ضمنية إلى أن برامج الذكاء الصنعيِّ ليست
ذكية بالضرورة. من جهة أخرى، يُهمِل هذا
التعريف مجموعة هامة من برامج الذكاء
الصنعيِّ تُقابِل نشاطاتٍ إنسانيةً لا تحتاج
إلى أيِّ ذكاء خاصٍّ، كالتقاط الأشياء مثلاً. يبدو الأمر
كما لو أن قدرة برامج الحاسب بدأت في مجالات
معيَّنة تضارع، بل وتتفوق على قدرات الإنسان.
وخير مثال على ذلك لعبة الشطرنج التي توصَف
بأنها لعبة الأذكياء. وشهيرةٌ هي المباراة
التاريخية التي جرت منذ أعوام وانتصر فيها
حاسبٌ مزوَّد ببرنامج خاصٍّ Deep
Blue على بطل العالم في اللعبة،
الروسيِّ كاسباروف. هل صحيحٌ إذًا
أن ما يسمَّى الذكاء الصنعيَّ قادر على
التفوُّق على ذكاء الإنسان؟ نبقى ضمن مثال
الشطرنج: هل يعني أن يتغلَّب برنامجٌ، عَمِلَ
على تصميمه مبرمجون ولاعبُوا شطرنج
مميَّزون، على بطل العالم أن الآلة قد أصبحت
أكثر ذكاءً؟ علينا، لكي نجيب على هذا السؤال،
أن نعير انتباهَنا إلى الطريقة التي يلعب بها
الحاسبُ الشطرنج، أو بعبارة أخرى، الطريقة
التي تصمَّم بها برامج الألعاب أو البرامج
الذكية بشكل عام. يمتلك الحاسب
المؤهَّل للوصول إلى هذه الدرجة من التفوق في
اللعبة حيِّزًا كبيرًا جدًّا من الذاكرة
وسرعة فائقة جدًّا في تحليل المعلومات. إنه
يستطيع إذًا، عند كلِّ نقلة، تحليل كمية
كبيرة من الحالات (المواقف) التي يمكن أن
تؤدِّي إليها هذه النقلة، وحتَّى عدد كبير من
النقلات التالية، أي حتى مرحلة متقدِّمة
جدًّا في اللعب؛ إنه، بعبارة أخرى، يستطيع أن
يختبر جميع ردود الخصم الممكنة وجميع
المسارات التي يمكن أن تُفضي إليها. وبقليل من
المبالغة نستطيع القول إن الحاسب يستعرض
عددًا هائلاً من الأدوار الممكنة، ويختار
دورًا رابحًا منها! إنه يلعب كما لو كان يعرف
مسبقًا نقلة الخصم التالية ويجهِّز نفسه
للردِّ عليها! من الأهمية
بمكان أن نذكر أيضًا أن لاعب الشطرنج الآليِّ
قادر على التعلُّم من أدواره السابقة، سواء
الرابحة منها أو الخاسرة. فعندما يخسر دورًا،
على سبيل المثال، فإنه يخزِّن هذا الدور في
ذاكرته، فيتجنب في المرَّة التالية تكرار نفس
النقلات بدءًا من مرحلة معيَّنة تحدِّدها
قواعد مسبقة أو خبرة أخرى سابقة. تسمَّى
البرامج القادرة على التعلُّم بـ"المنظومات
الخبيرة"؛ وهي شديدة الأهمية في تطبيقات
الذكاء الصنعيِّ. كما أنها تنطوي على فكرة
شديدة الأهمية: إن الروبوت العتيد قادر على
التعلُّم واكتساب الخبرة. يشبه لاعب
الشطرنج الآليِّ، بوجه عام، الآلة الحاسبة
المبرمجة. إن الأخيرة تستطيع إنجاز عدد كبير
من العمليات الحسابية المعقدة بأسرع مما
يستطيع أيُّ رياضيٍّ بارع باستخدام الورق
والقلم. إن تفوق لاعب الشطرنج الآليِّ يشبه
هذا النوع من التفوق لا أكثر. أما الإنسان
فيلعب الشطرنج بطريقة مختلفة تمامًا: إنه
يستعرض من بين عشرات الإمكانيات (النقلات)
المتاحة له عددًا قليلاً منها، ويحلِّل
الإمكانات التي تؤدِّي إليها لعدد صغير جدًّا
من المراحل التالية (مقارنةً بالحاسب). لكن
اللاعب قد لا يختار أيًّا من النقلات التي
دَرَسَها، بل يختار نقلةً أخرى تخطر في باله
في اللحظة التي يمدُّ يده فيها ليحرِّك قطعة
أخرى؛ وفي أحيان كثيرة تكون هذه النقلة هي
مفتاح انتصاره. وهذه حقيقة يدركُها كلُّ من
لَعِبَ الشطرنج بدرجة مقبولة من الكفاءة؛ وهي
حقيقةٌ تتكرَّر بأشكال مختلفة في كلِّ
الأعمال التي تتطلَّب بشكل ما ذكاءً أو
موهبةً إنسانيين، بدءًا من لَعِبِ الشطرنج
وانتهاءً بالأعمال الفنية والأدبية أو
الاكتشافات العلمية الكبرى. إنَّها لحظات
الإبداع أو الإشراق، إذا جاز التعبير. يوضح هذه
الفكرة حوارٌ مبتكر يعرضه أحد الرياضيين
اللامعين كما يلي: يوجَّه سؤالٌ إلى لاعب
شطرنج كبير قادر على هزيمة جميع خصومه: "كيف
تستطيع هزيمة كلِّ اللاعبين الآخرين؟"
فيجيب: "لديَّ قواعد معيَّنة أطبِّقها في
الانتقال إلى اللُّعبة التالية." يعلِّق
عندئذٍ المستمعون ساخطين: "إنَّه ليس
بمفكِّر كبير أبدًا. فما يفعلُه هو عملية
ميكانيكية محضة." ولعلَّ من الجدير بلاعب
شطرنج مبدع بحق أن يجيب على مثل هذا السؤال
كما يلي: لا أعرف أنا نفسي كيف أهزم خصومي! نخلص إلى
القول بأنَّ برامج الذكاء الصنعيِّ مازالت
تنمو وتتطوَّر تطورًا كبيرًا، وأن الإمكانات
أمامها مفتوحة وواسعة. لكن علينا أن ننتبه، في
الوقت نفسه، إلى أن ذلك يمكن أن ينعكس سلبًا
على طُرُق تفكيرنا وعلى إمكاناتنا الفكرية
الحقيقية إذا جعلناها مثالاً، في الوقت الذي
يجب علينا فيه أن نعمل على إيقاظ طاقاتنا
الكامنة وإمكاناتنا الحدسية والإبداعية التي
لا يمكن للحاسب مجاراتُها. ومع ذلك فإن السؤال
حول الحدِّ الذي يمكن أن يقارب فيه الذكاءُ
الصنعيُّ إمكاناتِ الإنسان يبقى، على المدى
البعيد، سؤالاً مفتوحًا. أما في
المقاييس الحالية فنستطيع القول إن أيَّ
تقدُّم تقنيٍّ أو برمجيٍّ لن يردم الهوَّة
الكبيرة بين الإنسان والآلة التي تقوم أصلاً
على فارق في مستوى النظام الذي يعمل فيه كلٌّ
منهما، كما أعلن منذ زمن بعيد جون فون نويْمَن. كان نويْمَن
أحد العلماء الروَّاد في بناء أوائل الحاسبات
الإلكترونية وتصميمها، ممَّن قادهم هذا
العمل إلى دراسة مقارنة بين الحاسب والدماغ،
سعيًا إلى تمييز الطريقة التي يعمل بها
الأخير وفهمها. فقام بوضع دراسة عن الدماغ
الإنسانيِّ تكاد تبدو دراسةً قام بها
بيولوجيٌّ أو حتى عالم نفساني. وانطلق في
دراسته للدماغ من إدراك الوجوه الرياضية
للجملة العصبية، ابتداءً من التفريق بين
إمكانات عمل المنطق ودقَّة الرياضيات الذي
يحاكي الفرق بين الانقطاع والاستمرار.
فالمنطق، أي المنطق الثنائي، أي الـ0,1،
جازمٌ ومنقطع؛
أما الرياضيات فمستمرة ودقيقة. وإذا وَجَبَ
على حاسب إنجازُ عمليات حسابية لها تعقيد ما
ينجزه النظام العصبي فيجب عندئذٍ تزويدُه
بالتجهيزات اللازمة لأداء درجة عالية، بل
درجة لانهائية من الدقة؛ وهذا غير ممكن بسبب
تراكم أخطاء التقريب. في حين يمتلك النظام
العصبيُّ جزءًا حاسبًا من هذا القبيل يعمل في
مستوًى أرفع من النظام.[4]
يوضح نويْمَن أن أشكال رياضياتنا، أو
بالأصَّح، المنطق الذي تقوم عليه الرياضيات
– وهو المنطق الثنائي – غير كافٍ لدراسة
الرياضيات القائمة وراء عمل الجهاز العصبيِّ.
فنحن هنا أمام بنية مختلفة عن تلك التي
تَطبَّعنا عليها، ويقترح بناء منطق أكثر
تعقيدًا وأكثر قربًا من الاستمرار. نخلص إلى
القول بأن تطوير الذكاء الصنعيِّ مازال يعتمد
على تطوير طُرُق البرمجة وعلى الإفادة من
الإمكانات الكبيرة للمعالجات والذاكرات. لكن
تحقيق قفزة نوعية يتطلب إبداع قواعد جديدة في
المنطق أو رياضيات تقوم على منطق مختلف. لكن
ما هو شديد الأهمية في هذا النوع من الدراسات
هو ما يمكن أن يكمل دراسات علماء البيولوجيا
والأعصاب والأطباء وعلماء النفس حول معرفتنا
لأنفسنا ولبنياننا الداخليِّ. إن تزايد فهمنا
لآلية عمل الدماغ يمكن أن يكون طريقًا لكشف
طاقات كبيرة كامنة فينا، بشكل أو بآخر،
وإيقاظها. تلعب المنظومات الخبيرة – وهي
البرامج القادرة على التعلُّم وعلى الإفادة
من تجاربها، إذا جاز القول – دورًا كبيرًا في
المحاولات الحديثة لتصميم الروبوت. إن تصميم
آلية تمكِّن الروبوت من الرؤية، على سبيل
المثال، تعني، باللغة الإنسانية، تزويده
بأحد أعضاء الحس. وحتى وقت قريب، كان مثل هذا
الروبوت يزوَّد بلائحة ضخمة عن الأشياء التي
يمكن أن يراها وأن تعترضه، وبتعليمات
للتصرُّف حيال كلِّ أمر منها، حتى يكون
قادرًا في النتيجة على التحرُّك وسط مجموعة
من الحواجز. بعبارة أخرى، إن تصميم الروبوت
كان يتمُّ على أساس أن يكون قادرًا، بدءًا من
لحظة تشغيله، على التجوُّل في المكان
المُعَدِّ له دون اصطدام. لكن رودني
بروكس، مدير مخبر الذكاء الصنعي في معهد
ماساتشوستش التقني MIT في الولايات المتحدة، يعمل على
رأس فريق من المختصِّين على إنجاز روبوت
بناءً على فكرة قدرة التعلُّم والاختبار أكثر
مما يعتمد على وجود قاعدة كبيرة من التعليمات
المسبقة. وهو يؤكِّد قائلاً: إننا
لن ننجح في صنع روبوتات ذاتية الحركة والعمل
بالفعل إلا إذا كانت متجسِّدةً في إطار
ماديٍّ واقع في عالم حسِّيٍّ. وليس المقصود
هنا عالمًا معرَّفًا به بلائحة من الخصائص،
كما هي الحال في النَمْذَجَة المعلوماتية، بل
عالم ديناميكي ومتغير. يشرح
فرانشِسْكو فاريلا، المختص في بيولوجيا
الأعصاب ومدير الأبحاث في مخبر العلوم
العصبية الإدراكية في المركز القومي للأبحاث
العلمية CNRS
في فرنسا، ذلك قائلاً: إذا
توصَّلنا إلى بناء آلة لا تعرف أيَّ شيء
مسبقًا عن محيطها، لكنَّها مزوَّدةٌ بحلقات
حسِّية–حركية فعَّالة، أي أنها قادرة على
تحسُّس محيطها بطريقة ما والحركة تبعًا لهذا
الإحساس، فما الذي ستفعله؟ ستقوم بالتنزُّه
في كلِّ مكان مثل حشرة وستختبر حلقة الفعل/ردِّ
الفعل الخاصة بها، حتى تصير قويةً بما يكفي
لكي تتأقلم في أية بيئة بعد عدد من الأجيال.
ومن المفترض أن يكون ممكنًا، على هذا الأساس،
أن تنشأ مدلولاتٌ مثل "مرغوب، غير مرغوب"
وفئاتٌ شاملةٌ من نمط صفوف الأشياء، وصولاً
إلى اللغة. للوصول إلى
ذلك تُستخدَم طرقٌ آلية إلكترونية أو طرقٌ
يتمُّ فيها إدخال مواد عضوية. يُجرَّب في
اليابان، مثلاً، تزويد بعض هذه الآلات
الصغيرة بقرني استشعار لنوع من الفراشات. إن
فرعًا جديدًا من التكنولوجيا يزاوج بين
البيولوجيا والإلكترونيات يسمَّى Bionics،
يتطوَّر فاتحًا آفاقًا واسعةً أمام تطوير
الروبوت، وربما أيضًا أمام تطوير الإنسان.
ويتابع فاريلا شارحًا: سوف
نقوم إذًا بعمل التطور: فبدلاً من بناء
روبوتات فائقة القدرات، يكلِّف الواحد منها
ملايين الدولارات، نقوم بتصنيع آلاف
الدُّوَيْبات الصغيرة، مع اختلافات بسيطة
بينها، ثم نتركها في الطبيعة ونختار الأكثر
مقاومةً بينها؛ أي أننا نقوم بتحقيق سياق
تطوريٍّ صنعي. "سياق تطوري
صنعي..." تعيدني هذه العبارة إلى مقدمة هذا
البحث، إذ تحدَّثتُ عن سياق التطور الطبيعي،
الذي نمثِّل ثمرةً له، والذي يجب علينا في هذه
المرحلة أن نكون موجِّهين له، فاعلين فيه، لا
منفعلين وحسب. هل يجب علينا إذًا المضيُّ في
دفع سياق التطور الصنعيِّ المذكور، وبشكل
عام، في دفع عملية التقدم نحو إنجاز الإنسان
الآليِّ أو الاقتراب من إنجازه؟ يُسأل فاريلا،
في حوار مع مجلة La Recherche
الفرنسية نُشِرَ في العام 1998، حول
إمكان ابتكار آلة شبيهة بالأحياء، فيؤكِّد
تمامًا تلك الإمكانية. ويسأله محاورُه: "لكن
ذلك يخيف الناس؛ فهو يذكِّرهم بفرانكنشتاين."
فيجيب قائلاً: "يتوقف ذلك على البعد
الأخلاقيِّ للعلم. إنني أقول إن ذلك ممكن. أما
أن نقرِّر ذلك جمعيًّا وأن نصنعه فهو أمر آخر." ومع ذلك فإن
الطريق قد بدأ، لا في غياب قرار جمعيٍّ وحسب،
بل دون علم العامة والخاصة من الناس، الذين قد
لا يصدِّق أغلبهم هذه الإمكانية حتى يرونَها
في الصحف وعلى الشاشات، كما حدث مع النعجة
دوللي ذائعة الصيت. لا أريد القول
إن على العلم وقف هذه الطريق، بل عليه بالأحرى
محاولة تفهُّم ما يجري وضبطه، ومحاولة قراءة
ما يتمخض عنه. إن نظرة شمولية لواقع العلوم
المختلفة في الوقت الراهن تجعلنا نستخلص ما
يلي: أولاً: إن تطور
علوم المعلوماتية والإلكترونيات
والروبوتيكا إلخ، من جهة، وعلوم البيولوجيا
والطب إلخ، من جهة أخرى، وتفاعلها المتبادل
يصبُّ، من جهة، في تكريس وحدتنا (بتطور وسائل
التواصل والمعلوماتية، وبالتالي بتوحيد
اهتماماتنا وحتى عاداتنا، فضلاً عن وحدة
مصيرنا)؛ ومن جهة أخرى، في زيادة معرفتنا
لأنفسنا على مستوى التكوين الفسيولوجي
والعصبي والنفسي إلخ. وبشكل عام، إذا أردنا
استخدام لغة تيار دُهْ شاردان، نقول إن
تقدُّم العلم المتزايد يعني تشكُّل وتبلور
حقل النوسفير Noosphère،
أي الطبقة
الواعية أو المفكِّرة على الأرض. إن في ذلك
كلِّه دافعًا كبيرًا إلى المضيِّ قُدُمًا في
الإيمان بهذه العلوم ودعمها. ثانيًا: إن
جميع المساوئ التي يمكن أن تنتج عن تطبيق هذا
العلم أو ذاك، في مختلف نواحي الحياة، تتعلق
بخيارات تطبيقنا أكثر مما تتعلق بتقدُّم
العلوم نفسها؛ أي أنها، في الجوهر، تتعلق
بمبادئنا وقيمنا الأخلاقية، لا بالنتائج
المعرفية لهذه العلوم. وينطبق هذا القول لا
على الروبوتيكا فقط، بل وعلى جميع فروع
العلوم التي يمكن أن تقودنا تطبيقاتُها إلى
الخير أو إلى الشر. وفي النتيجة،
فإن وجود إمكانية استخدام نتائج العلم في
تطبيقات تسيء إلى القيم الإنسانية ليس سببًا
يدعونا إلى وقف البحث في هذا الفرع من العلوم
أو ذاك، وإن كان يتطلَّب منَّا أن نقف مطولاً
عند تطبيق معيَّن أو استثمار معيَّن لنتيجة
علمية ما. إن جزءًا كبيرًا من مشكلة العلم
وتطبيقه يكمن في أن ما يوجِّه طريق العلم،
بدرجة كبيرة، هو العقود الهادفة إلى
الاستثمار التجاريِّ أكثر مما هو الدافع
المعرفيُّ والعلميُّ البحت. ثالثًا: إن علم
الروبوتيكا آخذٌ في التطور أكثر فأكثر، وكلُّ
الإمكانات مفتوحة أمامه. لقد عوَّدَنا الخيال
العلميُّ عبر التاريخ ألا يبقى خيالاً إلى
الأبد! إننا في طريقنا إلى صناعة الإنسان
الآلي. وإذا كان ذلك سيتحقَّق في يوم ما فلا
بدَّ أننا سنصنعه على صورتنا ومثالنا، وسننقل
إليه، بالتالي، قيمَنا ومبادئنا. فأن يكون
صورةً ما عن فرانكنشتاين، أو أن يكون مجرَّد
خادم طيِّب يلبِّي حاجاتنا، أمر يعبِّر
بالضرورة عن حقيقتنا الخاصة. إن الإنسان
الآليَّ، إذا تحقَّق في يوم من الأيام،
فسيكون ثمرة أفكارنا وعلمنا. إنه شيءٌ ما
منَّا إذًا. بل يمكن أن يكون ما فيه منَّا ليس
مجرَّد أفكارنا. فمع علم الإلكتروبيولوجيا أو
الـBionics
صار يمكن أن يُطعَّم الإنسان بذواكر
إلكتروعضوية مثلاً. ولا شكَّ أن الإنسان الذي
سيخرج قريبًا من الأرض ويبدأ بالعيش في
الفضاء، مقبلٌ على تحولات كبيرة على الصُّعُد
الجسمية نفسها. فالإنسان الآليُّ المقبل قد
لا يكون منفصلاً جدًّا عن الإنسان نفسه. في حديثه عن
وحدة الإنسان يقول عالم النفس الكبير بيير
داكو في كتابه المعروف علم النفس الحديث
وطرقه المدهشة: هكذا
فإن الإنسانية اليوم مولود جديد. وحسب تقديري
الشخصي [الكلام
لداكو] فإني أعطي هذا المولود عمرًا بين
الثالثة والسادسة من السنين، إذا أردنا أن
نقابل بين عمر الإنسانية وعمر الإنسان، على
افتراض أنه ستون عامًا. أعتقد، من
جهتي، أن داكو يبالغ قليلاً في تقدير عمر
الإنسان، وأرى أن الإنسانية ما تزال جنينًا
في رحم الأرض؛ أو هي، كما يعبِّر ميخائيل
نعيمه، مولود جديد ما يزال في القمط. وفي جميع
الأحوال، أحب أن أشبِّه الإنسانية، على هذا
الصعيد، بطفلة صغيرة تلهو بدمية من قماش
محشوَّة بالقطن. إن لهو الطفلة بالدمية، الذي
نراه مجرَّد لَعِبٍ، هو تعبير عميق عن شوق
مبكِّر وفطريٍّ إلى الأمومة. ولربما لا تكون
محاولات اختراع الروبوت سوى تعبير نفسيٍّ عن
شوق الطفلة الصغيرة – الإنسانية – إلى
الأمومة أيضًا! وكما تكبر صاحبة الدمية وتصبح
أمًّا حقيقية في يوم من الأيام، يمكن أن نرى
الإنسانية تكبر وتضع مولودًا في يوم من
الأيام. وكما يكون مولود المرأة جزءًا منها،
يكون مولود الإنسانية، الإنسان الجديد. وهو
شيء لا نستطيع كثيرًا تصوُّر ماهيَّته: هو شيء
مختلف جدًّا عن هذه اللعبة السخيفة التي
اسمها الروبوت؛ هو جزء من هذه الإنسانية
نفسها. إنها مجرَّد فكرة أطرحها للتأمل.
ولكلِّ واحد أن يرى ما يناسبه. ثمة تطور
علميٌّ متواصل، متعدِّد الفروع، بعضُ نتائجه
تطبيقات وابتكارات عديدة ومتنوِّعة، كثيرٌ
منها مهمٌّ ومفيد، وكثيرٌ أيضًا لا يعدو أن
يكون رغوةً وكماليات لا فائدة منها، بل يمكن
أن يكون شديد الضرر في أحيان أخرى. لكن ما هو
أهم من ذلك كلِّه أن ثمة سياقًا آخر يوازي
تطوُّر العلم – ولعلَّه الجوهر والأساس. إنه
سياق تفتُّح الإنسان ونموِّه ووحدته. وما يجب
أن نسعى نحوه هو أن نفهم هذا السياق ونجعل منه
العاملَ الموجِّهَ والقائدَ للتقدم العلميِّ
والتقني في كلِّ فروع العلم، وليس العكس. *** *** *** [1]
ألقي هذا البحث محاضرةً ضمن
برنامج محاضرات الجمعية الكونية للعام 1998؛
ولا شكَّ أن تطورات كبيرة قد حصلت منذ ذلك
الحين على صعيد الروبوت. [2]
السيبرنتيكا علمٌ يقوم في
أساس الثورة التقنية التي نشهدها الآن؛
ويمكن تلخيصه بأنه دراسة وتحليل الطرق التي
تعمل بها الطبيعة والكائنات الحية
المختلفة من أجل الاستفادة من هذه الطرق في
تطبيقها على الآلات الذاتية الحركة، أي
الأوتوماتيكية. [3]
نذكر، على سبيل المثال، أن
فكرة بناء الذواكر الكهربائية في بدايات
عصر الحاسب كانت فكرةً أدخلها العالِم
العظيم فون نويْمَن الذي صمَّم ذواكر أولى
الحاسبات بناءً على تصوُّره لآلية عمل
الدماغ الإنساني. [4]
يمكن لحاسب ما أن يحسب بسرعة
كبيرة قيمة العدد π
حتى درجة معينة من الدقة (التقريب). ويمكن
لهذه الدرجة أن تكبر تبعًا لتطور الحاسب،
لكنها تبقى درجة محدودة. أما الإنسان فهو
الوحيد القادر، من حيث المبدأ، على متابعة
الحساب حتى أية درجة غير محدودة من الدقة،
وإنْ بثمن أكبر من الزمن.
|
|
|