أحبُّ،
قبل أن أبدأ حديثي، أن أشير إلى أني لا أهدف أن أجعل من موضوع بحثي هذا تعليمًا
أو إرشادًا يوجِّه الإنسان إلى الطريقة التي تحُول دون تحويل حياته إلى مأساة
وتعاسة. فعلى غير ذلك، يستقيم موضوع البحث في صياغة شاملة على النحو التالي:
لِمَ يحوِّل الإنسان غبطة الحياة إلى تعاسة وشقاء؟
وإذ أتأمل واقع الوجود الإنساني أتساءل في سرِّي: هل الوجود على مستوى كوكب
الأرض سعادة أم تعاسة، غبطة أم مأساة، نعمة أم نقمة، خير أم شر؟ هل هو وجود
يتَّسم بالمعنى أم أنه وجود يخلو من المعنى؟ وهل لهذا الوجود قيمة أم أنه حلم
زائف لا قيمة له؟
لـمَّا كنت أفهم وجودي من وجهة نظر إيجابية، غير سلبية، فإنني أضمِّن الوجود
على مستوى كوكب الأرض المفاهيم الإيجابية المتمثلة بالسعادة، والغبطة، والنعمة،
والخير، والمعنى، والقيمة، والمعرفة، والمحبة، والفضيلة، وأعتبره وجودًا يتميز
باتصاليته الكونية، وأعلم أنني والكون حقيقة واحدة. وفي هذا الفهم،
تتألَّق كونيتي، وينتهي إحساسي المضني بالزوال والتفاهة. وعندئذٍ، أتساءل: لِمَ
يطغى السلب على الإنسان، أو لِمَ يحوِّل الإنسان إيجابية وجوده إلى سلبية
وجوده، وكينونته الكونية إلى وجود زائل يحمل في تضاعيفه الألم السلبي والتعاسة؟
ولِمَ يعتبر الإنسان الذي يأخذ بموقف فكري سلبي وجوده زائفًا، مضنيًا، ويتمسَّك
به في آنٍ واحد؟
تمهيد:
من المفيد جدًا، بالنسبة لمن يريد بلوغ الحكمة، أن يكون عقله قد انشغل لبعض
الوقت بصورة الإنسان الشرير والفاسد بشكل جذري.
لقد ارتبط السؤال عن المنزلة التي تحتلها الحقيقة في المعرفة العلمية في معظم
الأوقات بالتصور العام للواقع الذي يتم التعارف عليه من طرف العقل من ناحية،
والتفسير المنهجي للطبيعة من ناحية أخرى.
لهذا السبب يبدي التساؤل عن الحقيقة الكثير من التحفظ ويضع جملة من المحاذير
أمام كل تعميم متسرع وضد الأحكام الفضفاضة والمواقف الإطلاقية ويحصر اهتمامه
بالأطر المختصة وضمن الميادين الدقيقة.
لقد ألهم التفكير في الحقيقة العديد من التأملات الفلسفية، وذلك لالتباس هذا
المفهوم وعسر التعرف على ماهيتها وكثرة المناهج التي تزعم البحث عنها. إذ يمكن
من جهة الحديث عن قضية صحيحة ولكن يمكن في المقابل الحديث عن صدق مضمونها في
إشارة إلى صلة المعرفة بين الأشياء والمثل التي تتجه نحوها.
مفارقة الكذاب الذي عندما يقول "أنا أكذب" يكون قد قال الحقيقة، وعندما يقول
الحقيقة فإنه يكذب.