السعادة في الحياة الإنسانية

 

ندره اليازجي

 

أحبُّ، قبل أن أبدأ حديثي، أن أشير إلى أني لا أهدف أن أجعل من موضوع بحثي هذا تعليمًا أو إرشادًا يوجِّه الإنسان إلى الطريقة التي تحُول دون تحويل حياته إلى مأساة وتعاسة. فعلى غير ذلك، يستقيم موضوع البحث في صياغة شاملة على النحو التالي: لِمَ يحوِّل الإنسان غبطة الحياة إلى تعاسة وشقاء؟

وإذ أتأمل واقع الوجود الإنساني أتساءل في سرِّي: هل الوجود على مستوى كوكب الأرض سعادة أم تعاسة، غبطة أم مأساة، نعمة أم نقمة، خير أم شر؟ هل هو وجود يتَّسم بالمعنى أم أنه وجود يخلو من المعنى؟ وهل لهذا الوجود قيمة أم أنه حلم زائف لا قيمة له؟

لـمَّا كنت أفهم وجودي من وجهة نظر إيجابية، غير سلبية، فإنني أضمِّن الوجود على مستوى كوكب الأرض المفاهيم الإيجابية المتمثلة بالسعادة، والغبطة، والنعمة، والخير، والمعنى، والقيمة، والمعرفة، والمحبة، والفضيلة، وأعتبره وجودًا يتميز باتصاليته الكونية، وأعلم أنني والكون حقيقة واحدة. وفي هذا الفهم، تتألَّق كونيتي، وينتهي إحساسي المضني بالزوال والتفاهة. وعندئذٍ، أتساءل: لِمَ يطغى السلب على الإنسان، أو لِمَ يحوِّل الإنسان إيجابية وجوده إلى سلبية وجوده، وكينونته الكونية إلى وجود زائل يحمل في تضاعيفه الألم السلبي والتعاسة؟ ولِمَ يعتبر الإنسان الذي يأخذ بموقف فكري سلبي وجوده زائفًا، مضنيًا، ويتمسَّك به في آنٍ واحد؟

وإذا كنت قد ألمحت إلى القضية الأساسية في هذا البحث، وهي فلسفة الإيجاب، فلأنني أسعى إلى وضع خطة تشتمل على بعض التصوُّرات التي قد تُلقي ضوءًا على التساؤل المطروح في عنوان البحث، لتنقذني من جحيم السلب وظلمة العبثية. وتتوضح هذه التصورات في الأطروحات التالية:

1.    الصعوبة والمصيبة: أي لِمَ يجعل الإنسان من صعوبة الحياة "مصيبة"؟

2.    الحياة والمعيشة: أي لِمَ يهمل الإنسان حقيقة الحياة القائمة في المعرفة والحكمة والفضيلة والوعي، ويُغرِق نفسَه في خضمِّ الاستزادة من المعيشة التي تحمل في أحشائها أسباب النزاع والصراع المأساوي؟

3.    السعادة واللذة: أي لِمَ يسعى الإنسان إلى اللذة التي تتجسَّد في الرغبات والشهوات، وتؤدي، في نهاية المطاف، إلى الألم السلبي والإحساس بالتعاسة والإحباط وخيبة الأمل؟

4.    النظريات السلبية: أي لِمَ ينفي الإنسان القيم الإيجابية لوجوده؟ لِمَ يسلب جوهرها وحقيقتها، فيعيش في متاهات العبث واللاجدوى والعدمية؟

أولًا: الصعوبة والمصيبة

تدفعني محبتي إلى بحث موضوع هام يرتبط بالمعنى الذي نضفيه على وجودنا، والأهمية الكبرى التي نعزوها إلى حياتنا، والقيمة الإنسانية التي تعني انتفاء التفاهة. وإذا كنت ألحُّ على تجاوُز التفاهة فلأنني أتصدَّى لهذه الكلمة وأنا أحاور أشخاصًا ينظرون إلى الحياة بمنظار العبث واللاجدوى. فالحياة، في نظرهم، تحمل في طياتها مصائب لا تُحصى، الأمر الذي يجعل منها قضية تافهة لا تستحق العيش والجهد. ولم يتورَّع أولئك الذين حدَّثتهم عن التصريح بأن حياتهم، وإنْ كانت تافهة وحافلة بأنواع المصائب، تمتلئ بـ"المعنى" إنْ كانت تُمِدُّهم بالملذات والمسرَّات. فهم يعتقدون أن مصائب الحياة تواجَه بمسراتها وملذاتها.

1.                المصيبة حدث

لجأت إلى وحدتي، إلى طمأنينتي، أتأمَّل حقيقة حياتي الأرضية، واستغرقت في عالم زاخر بالتصوُّرات والمفاهيم والقيم، فاستخلصت ما يلي:

أ‌.                   أرفض وجود المصائب في الحياة، وذلك خشية أن أُجمِلَها في مصيبة واحدة هي وجودي. وأنا لا أقبل أن يكون وجودي "مصيبة" تشير إلى خلوِّه من المعنى والقيمة.

ب‌.              أعلم أن مفهوم المصيبة نسبي، وأدرك أن ما هو نسبي لا يحتفظ لذاته بجوهر وحقيقة.

ت‌.              أتيقَّن من عدم وجود المصيبة؛ هذا، لأن ما يقع لي ليس أكثر من حدث. ثمة أمور عديدة تحدث لي، ولا يليق بي، وأنا الكائن الذي يعترف بوجود حقيقة كونية شاملة متمثِّلة في كياني ووجودي، أن أدعوها "مصائب".

ث‌.              أعتقد أن الوعي يحدِّد مفهوم الحدث أو قيمته ومعناه، وأجزم أن مستوى الوعي يعيِّن مفهوم الحدث. والحق أن الإنسان الواعي، الكونيَّ في تفكيره وعقلانيته، يعتبر الحدث مجرد صعوبة. أما الإنسان الذي يتصف بوعي متدنٍّ فإنه يعتبر الحدث الذي يقع له، أو يسمع به، أو يراه، "مصيبة". وعلى هذا الأساس، يكون الحدث صعوبة في نظر الواعي ومصيبة في نظر الإنسان غير الواعي الذي لم يحقق وعيه الكامن؛ وقد يكون هذا الأخير مسبِّبًا لمصيبة تحلُّ بغيره.

عندما بلغت هذا المستوى من التحليل، أدركت أن الحياة صعوبة وليست بمصيبة، وأن الأحداث، بأنواعها الاجتماعية والطبيعية، صعوبات تتطلب الوعي الذي يجد لها حلولًا ويدرك قوانينها.

2.                تمثُّل الصعوبة

كيف أستطيع أن أتمثَّل الصعوبة بمفهومها الفلسفي والفكري؟ ولِمَ تكون الصعوبة موجودة على مستوى كوكب الأرض؟ وهل هي سمة خاصة تُلازِم الوجود الأرضي أم أنها مبدأ كوني؟ وهل يوجد توافُق بين مبدأ الصعوبة والوجود المادي؟ وهل يستطيع الإنسان أن ينفذ إلى الحقيقة عبرها؟ وهل يتمكن من الانتصار عليها بالملَكات العقلية والوسائل الجسدية المتاحة له؟ وهل تُعَدُّ الصعوبة إدانة للكائن البشري أم تُعَدُّ وسيلة خلاص وطريقًا يمتلئ بالمعرفة والوعي؟

أسئلة طرحتها على نفسي، ساعيًا إلى إجابة أو إجابات كافية ومبرَّرة. ولقد هدتني بصيرتي إلى النتائج التالية:

أ‌.                   يُعَدُّ كوكب الأرض، وهو أحد كواكب العالم المادي، "أدنى" وجود ضمن سلسلة الوجودات؛ فهو يحتل الدرجة الأولى على السلَّم الصاعد إلى الوجودات أو العوالم الأخرى. والحق أن صفة "أدنى" لا تتضمن مفهوم الانحطاط، إنما تعني الكثافة التي يتميز بها هذا العالم المادي. لذا، تتوافق كلمة "أدنى" مع كلمة "كثافة". ويمكنني أن أقول: إن العالم المادي هو الموضع أو المكان الأكثر كثافة ضمن تتابُع الموجودات الصادرة عن طريق الفيض أو المنبثقة من الكيان الأكثر لطافة.

ب‌.              تُعَدُّ الصعوبة القانون السائد على كوكب الأرض: جميع الأشياء قائمة في الصعوبة، والصعوبة كامنة في قلب كلِّ شيء. الولادة صعوبة، الموت صعوبة، العلم صعوبة، الجهل صعوبة، الحصول على القوت صعوبة، كسب الصديق صعوبة، خسارته صعوبة، تحقيق المثال صعوبة، المرض صعوبة، الفراق صعوبة. ألا نرى أن الصعوبة هي المبدأ المهيمن على كوكب الأرض؟

ت‌.              تُعَدُّ المصيبة حصيلة عدم التغلب على الصعوبة؛ هي إذن نتيجة وليست سببًا. وإذ تضعف قدرتي على التغلُّب، تزداد الصعوبة، وبالتالي، تتحول إلى مصيبة. والحق أن اعتماد هذا التصور يعني أن المصيبة تتضاعف بتناقص الوعي. ثمة سبب أدعوه الصعوبة، وثمة نتيجة أدعوها المصيبة. لذا، يمكنني أن أقول: إن مستوى الوعي هو الذي يعيِّن مفهوم الحدث على نحو صعوبة أو مصيبة.

ث‌.              يوازي العقل الإنساني، لا بل يتجاوز، الصعوبة القائمة في العالم المادي. فبقدر ما تتجلَّى الصعوبة في الطبيعة المادية، يتهيَّأ الإنسان لمجابهتها بعقل يحتويها، ويتجاوزها، ويسمو عليها. وعلى هذا الأساس، يكون العقل أوسع من المادة لأنه يمتدُّ إلى الكون كلِّه. وإذا كانت الطبيعة والعقل كيانًا واحدًا، فلا بدَّ أن تكمن في العقل قدرة تتسع للطبيعة وتتجاوزها. ومن هذه العبارة نستنتج أن الصعوبة الطبيعية كامنة في الصعوبة العقلية، وخاضعة لتسامي العقل عليها. وإذن، كيف يكون العقل، والوعي، والطبيعة، والوجود مصائب أو مصيبة؟

ج‌.                عندما أتساءل عن سبب وجود الإنسان في عالم تهيمن عليه الصعوبة، أجيب قائلًا: إن العقل البشري لا يتطور إلا من خلال الصعوبة. وإذا كان الأمر كذلك، علمنا أن العقل يتخلف ويتقهقر في السهولة. فلا شيء يصقل العقل غير الصعوبة: هي الحافز والدافع إلى الإبداع والخلق والفهم. والحق أن الصعوبات الطبيعية، من هزَّات أرضية وبراكين وأعاصير إلخ، تعلِّم العقل طريقة استنباط القوانين واستدلال المبادئ المتمثِّلة بالعلم. وهكذا، نستنتج أن الصعوبة التي يواجهها الإنسان تصقل قدراته العقلية. وبالإضافة إلى ذلك، نقول: إن توقُّف الصعوبة عند حدٍّ يعني توقف العقل عن المعرفة.

ح‌.                تتمثَّل الصعوبات الخارجية بالظواهر التي نطلق عليها صفة الكوارث والفواجع التي نشاهد آثارها في البراكين والزلازل والأعاصير. والحق أن النتائج الأليمة التي تخلِّفها هذه الصعوبات الخارجية ظاهرة للعيان؛ فهي تدمِّر ما بناه الإنسان، وتزهق أرواح العديدين، وتترك وراءها التعاسة والشقاء. ومع ذلك، لا يحق لنا أن ندعوها مصائب، وذلك لسببين: أولًا، لقدرة الإنسان على الاستفادة من نتائجها؛ إذ إنه يستفيد من الطمي الذي تخلِّفه الأنهار بعد فيضانها، ومن الحمم التي تخلفها البراكين بعد انفجارها، ومن السمِّ الذي تنفثه الأفاعي، ومن احتجاز مياه الفيضانات في سدود تُستعمَل للري، إلخ. وهكذا، نرى أن الإنسان يستمدُّ طاقة من الصعوبات الخارجية. ثانيًا، إن توقُّف الصعوبات الخارجية يعني توقُّف العقل عن المعرفة. فإذا كانت أسرار الطبيعة المادية قائمة في صعوباتها، في المقاومة السالبة المضمونة فيها، يعني هذا أن اكتشاف المزيد من الأسرار، والولوج إلى باطن الصعوبات، يشيران إلى تطور العقل في نطاق المعرفة.

إذا كنَّا نرى الصعوبات الخارجية كوارث تبلغ حدًّا معينًا من الخطر على البشرية، فيجدر بنا أيضًا أن نرى الخطر الناجم من الصعوبات الداخلية. وإذا كان نطاق التدمير الذي تسبِّبه الصعوبات الخارجية محدودًا، وقد يأتي بالخير بعد انقضائه، فإن نطاق التدمير الذي تُحدِثُه الصعوبات الداخلية يكاد لا يُحد. وإذا ما سألنا: ما هي الصعوبات الداخلية؟ وكيف نقيس شدَّتها وسلبها وقدرتها التدميرية؟ أجبنا: الكراهية صعوبة كبرى تؤدي زيادتُها، أو طغيانُها، إلى التدمير. والحرب مظهر للكراهية بلغ أقصاه: ألا تعادل الآثار التدميرية الناتجة عن الكراهية شدة مئات البراكين؟ فإذا كانت البراكين تترك وراءها الحمم النافعة، وتخلف وراءها بقعة مدمَّرة محدودة، فإن براكين الصعوبات الداخلية تقضي على كلِّ شيء ولا تخلِّف الخير في الرقعة المدمَّرة. والحق أن ما ينطبق على الكراهية ينطبق أيضًا على الصعوبات الداخلية الأخرى، كالاستغلال والكبرياء والأنانية إلخ، التي هي بمثابة البراكين التي لا تعرف حدًّا للتدمير. أليست القنبلة النووية والأسلحة الرهيبة الأخرى حصائل صعوبات داخلية مرعبة، لا يسيطر عليها الانسان الذي أوجدها؟ وأين تقف آثار الصعوبات الخارجية بالقياس إلى صعوبات الإنسان الداخلية؟ ألا يجدر بالإنسان أن يتحكَّم في صعوباته الداخلية قبل أن يتحكَّم في صعوباته الخارجية؟ ألا يجدر بالإنسان أن يدرك حقيقته الكونية عبر صعوباته الخارجية والداخلية؟ ويمكنني أن أقول: تنتهي الصعوبات الخارجية إذ تنتهي الصعوبات الداخلية.

خ‌.                يتلازم الوجود مع الوجوب. الوجود قضية معطاة، والوجوب هو الوجود كما يجب أن يكون. ولا شك أن الوجود تعبير عن صعوبة قاسية؛ إذ مطلوب من الإنسان أن يحقق أنبل المبادئ وأسماها، ويستنبط أرقى القوانين في أدنى العوالم، في أكثف العوالم وأكثرها صلابة. وعلى هذا الأساس، يُعَدُّ الانتقال من الوجود إلى الوجوب، وهو تحوُّل متصل، عمليةً شاقةً تشير إلى الصعوبة الكامنة في صلب البنية المادية، المعبَّر عنها بالمقاومة السالبة. وهل ثمة أصعب من تحقيق الوجود المحض، والوجوب الكامل، والنظام الأسمى، والوعي الكوني في عالم الوجود الأرضي الكثيف؟ ألا نعلم أن تحقيق الوجود اللطيف يتمُّ ويكتمل في تحقيق الوجود الكلِّي؟

د‌.                  ترتبط الصعوبة بالوعي، وترتبط المصيبة بانعدام هذا الوعي. لذا، يمكنني أن أقول: إن المصيبة غير موجودة أصلاً لأنها لا تُلازِم جوهر الوجود المحض. وكما ذكرت، ثمة حدث يقع للإنسان؛ ففي كل لحظات حياتنا حدث، في كل لحظة نحيا ونموت، ونموت ونحيا. والحق أن الوعي المرافق للحدث يحدِّد مفهوم الصعوبة، ويقيم انسجامًا بينه وبين الحياة الكلِّية. إذن، فالصعوبة تكمن في انسجام الكائن البشري مع الكلِّ اللامنقسم، فيما تكمن المصيبة في الاعتقاد بالجزئية والانفصال والانقسام. وتكمن الصعوبة أيضًا في إجلال الحياة، وتكمن المصيبة في تحقيرها.

ذ‌.                  تشير اتصالية الكائن الإنساني مع الكل المتجانس في أنحاء الكون إلى تقويم ذاته على نحو متوافق مع هذه الاتصالية التي تتشابك خيوط نسيجها مع الكلِّية والشمول. ولا شك أن صعوبة هذه النظرة، أو هذا الموقف، تكمن في عملية التحقيق. وكما ذكرت في بند سابق، يُعَدُّ الإنسان مسؤولاً عن تحقيق أسمى المبادئ وألطفها في أدنى العوالم وأكثرها كثافة – تلك هي صعوبة الوجود الأرضي. وتشير الانفصالية إلى إحساس بضآلة القيمة، وتفاهة المعنى، في كون لا تُعرَف له حدود – تلك هي المصيبة. وبالإضافة إلى ما ذكرته، تشير الاتصالية إلى اعتبار الإنسان كائنًا ساميًا متعاليًا ومتجاوزًا لوجوده المادي، الأمر الذي يجعله يتسامى على كل ما يشده إلى مركزية الأنا ويقيِّده بمظاهر العيش الزائفة ليحيا حياة العقل والروح. وتشير الانفصالية إلى انقياد الإنسان لرغباته وانفعالاته، الأمر الذي يجعله مشروطًا بمظاهر العيش الخادعة ومقيَّدًا بسلاسل عبوديته، فيقوِّم نفسه من خلالها، ويتيه في عالم التفاهة و... المصيبة.

ثانيًا: التعلق والرغبة والألم السلبي

يتركز البحث في هذا الموضوع في كلمتين يتجلَّى فيهما واقع الموقف، هما: الرغبة والتعلق. فالأنا مشدودة بين طرف هو الرغبة وطرف آخر هو التعلُّق. هما طرفان يتجاذبانها، ويدفعان بها، ويجرَّانها ويسحبانها، ويلهوان بها، ويطيحان بها في نهاية المطاف. هما هاويتان يتأرجح بينهما الإنسان، الذي لا يدرك حقيقة وجوده، في فراغ قاتل. ولا شك أن الإنسان الأناني كائن راغب: إنه يرغب في الأشياء، في السلع، في المتع، في الملذات، في المال الكثير، في السلطة والجاه، في العنف والسيطرة، في الذهب واللآلئ، في الأبناء، إلخ. والإنسان الأناني كائن متعلِّق: إنه يتعلَّق بما يمتلكه وبما يعتقد أنه يخصُّه، ويرفض التنازل عن تعلُّقه؛ كما أنه يضطرب إذ يتخيل خسارة امتداد أناه قبل وبعد فراقه عالم الكثافة. إنه مشدود إلى مركزية أناه، فيصعب عليه فقدها، لأنها تمثل القاعدة التي يبني عليها طمأنينته الآنيَّة أو سلامته المؤقتة أو ضمانته المزعومة. وهو يتمنَّى استمرار تعلُّقه وديمومة ملكيَّته ومملكة أناه. وما تصوُّره للأبدية على هيئة استمرار لوضعه الأرضي إلا رغبة دفينة لمتابعة هذا التعلُّق على مستويات أعلى من الوجود وإخضاع هذا الوجود لسلبية أناه. إنه يحاول مدَّ مركزيته الأرضية أو مركزيته الأنانية إلى مركزية كونية. ولقد حذَّرنا حكماء الماضي وحكماء الحاضر من الوقوع في خطأ من هذا النوع.

ثمة محاولة تقودنا إلى فهم الوضع النفسي الذي يجد الإنسان نفسه فيه راغبًا أو متعلقًا، لنجد أنفسنا نحلَّل هذا الوضع بالطريقة التالية: الإنسان الراغب كائن تعيس، يرفض واقعه ويرنو إلى وضع أو أوضاع أخرى، يتخيَّلها ويسعى إلى إشباعها، اعتقادًا منه بأنها تحقق وجوده. الإنسان الراغب كائن تتأصل فيه فكرة الحرمان والإحباط والألم السلبي، ليحقِّقها في تعويض كاذب؛ ولهذا يتوق إلى توطيد أركان أناه. والإنسان المتعلِّق كائن يعاني من التعاسة يوم يفقد ما حصل عليه وتملَّكه ووحَّده بأناه. الإنسان المتعلق يقاسي خاطرةً تريه زوال ثبات أناه ومملكة رغبته؛ وهو يسعى جاهدًا للاحتفاظ بكل مقومات الأنا التي طرحت ذاتها في المجال الاجتماعي وثبَّتتْ قواعدها فيه. وهكذا، يستولي القلق على الراغب والمتعلق، وتسيطر الكآبة والتعاسة عليهما، لأنهما يقبعان في ظلام الأنا، ويتمسَّكان بمتاهاتها الاجتماعية. لذا، يجد الراغب ذاته قلقًا لأنه محروم من معطيات الأنا أو إطالات الذات وتضخيماتها. ويجد المتعلق ذاته قلقًا وهو يعمل للاحتفاظ بهذه المعطيات والإطالات والتضخيمات. ولا تَبانُ حقيقة هذا التعلق إلا لدى تعرُّض الأنا لفقد قاعدتها المطمئنة في ظواهرها على نحوٍ آني. وعندما نتأمل مبادئ الحكمة نجد في عبارة "ينشأ الألم السلبي من التعلق والرغبة" حقيقة سرمدية. وتتجلَّى عظمة هذا القول عندما نعلم أن الأنا الراغبة هي أنا متعلقة، والأنا المتعلقة هي أنا راغبة، وكلتاهما تدور في حلقة مفرغة. أليس الاحساس بالفراغ قلقًا مرعبًا؟ أليست تغطية الفراغ قلقًا فظيعًا؟ أليس الفراغ النفسي نتاجًا لعدم امتلاء وسببًا للتعاسة؟ أليس الامتلاء وعيًا وحكمة، عقلانية وسعادة؟

ينشأ الألم السلبي من التعلق والرغبة. فلكي يزول هذا الألم يجب على الإنسان إزالة الرغبة والتعلق. فمن التعلق ينشأ الألم، ومن الرغبة تنشأ الحسرة والأسى. يتعلق الإنسان بالأشياء، وبزوالها يتألم سلبيًّا. ويرغب الإنسان في الأشياء، ومن عدم تحقيقها ينشأ الألم السلبي. والحق أن فقدان الأشياء أو عدم تحقيقها وفق ما تفرضه الأنانية يؤديان إلى الألم السلبي.

لقد شدَّد الحكماء على التجرُّد، وأشاروا إلى تجاوُز الإنسان لكل ما ينتمي إلى نطاق الأنا. لقد علَّمونا أن نترك كل شيء لكي لا نتعلق أو نرغب في شيء، ولكي لا يزداد ألمنا السلبي وتتضاعف كآبتنا. ولـمَّا كنَّا نرغب ونتعلق بكلِّ ما يتصل بأنانا فإن الألم السلبي يستمر. ولـمَّا كان الإنسان الأناني لا يدرك المغزى المتضمن في حياته إلا من خلال تعلقاته ورغباته، فإن ألمه السلبي يقوم فيها، سواء حقَّقها أو لم يحققها – هذا، لأن الحصول على شيء والاستزادة منه يعادلان الحرمان منه. ففي حالة الحصول نتعلق، وفي حالة الحرمان نرغب. ويتأرجح الإنسان بين الرغبة والتعلق، فيرى وجوده خاليًا من المعنى. وهكذا، يُعَدُّ الألم الناتج عن اللذة والتعلق والرغبة ألمـًا سلبيًّا يقضُّ مضجع الإنسان ويلقي به في عالم القلق والضياع. أما الألم الإيجابي فيشير إلى تعاطف الإنسان مع وقائع الوجود. هو إحساس الإنسان بالآخر واتحاده معه في حقيقة وجودية عظمى.

ثالثًا: اللذة والألم السلبي

اللذة تعبير عن تلقائية الأنا؛ والأنا تعبير عن سلبية الوجود الإنساني. لذا، تكون اللذة مصدر كلِّ حزن وألم سلبي لأنها تحمل نقيضها دائمًا. ويتمثل النقيض في واقعٍ هو أن كلَّ عمل من أعمال الأنا يحمل فناءه فيه. واللذة تعني مقاومة سلبية تنتج عن جهل الغاية القصوى للحياة الإنسانية – هذا، لأن الأنا تنفعل عندما تقلُّ قابلية الإنسان للفهم والوعي.

ولقد رأيت أن الإنسان يندم على لذَّاته عندما يكتشف عيوبه وأخطاءه؛ إنه يعلم أنه أقدم على لحظة لذة فقد السيطرة فيها على نفسه، وعلى لحظة ضعف استسلم فيها لرغباته، وعلى طمع أبداه في مسألة ما وتورَّط في مشكلة، أو على انتصار وهمي أحرزه وعلم أنه فشل واندحار، وعلى أمنية حققها وعلم أنها كانت من فعل الخيال الجامح، وعلى مجد ناله وعلم أنه كان زائفًا، أو على إحساس خالجه لحدث أليم حل بغيره... إنه يندم على اللحظات التي فقد فيها وعيه، فيتألم سلبيًّا. إذن، فاللذة يعقبها تفكير؛ وفي هذا التفكير يلمس المرء تلقائية أناه فيندم، ويتألم ألمـًا سلبيًّا.

رابعًا: النظريات السلبية الوجودية

تتجسَّد النظريات السلبية في كلِّ نفي للقيم الإيجابية التي تعرِّفنا إلى حقيقة الوجود وجوهره. فإذا كان الوعي إيجابًا كان نفيُه سلبًا؛ وإذا كان الخير إيجابًا كان نفيُه سلبًا أو سلبُه شرًّا؛ وإذا كانت المعرفة إيجابًا كان نفيُها أو سلبُها جهلًا؛ وإذا كانت المحبة إيجابًا كان نفيُها أو سلبُها كرهًا؛ وإذا كانت الجاذبية إيجابًا كان نفيُها أو سلبُها نبذًا؛ إلخ. وإذ نسعى إلى معرفة المواقف السلبية التي تطيح بعرش الإيجابية الكامنة في قلب الحياة والوجود، فإننا نتحدث عن بعض المفاهيم التي تحوِّل نعيم الحياة إلى جحيم:

أ‌.                   الوجود الإنساني رمز للصراع: منذ أن وجد الإنسان وهو يتساءل عن سرِّ وجوده، عن غاية وجوده، وعن موضعه في هذا الكون. وقد تمثَّل هذا التساؤل في صراع عميق في داخله، صراعٍ نتجت عنه أفكار عديدة حيال الوجود، أفكارٌ متناقضة في شتى فروع المعرفة. وقد عبَّرتْ هذه الأفكار، بدورها، عن حيرة الإنسان وعن قلقه واضطرابه، وتبلورت في تيارات فكرية ثلاثة:

1.                صراع الإنسان مع نفسه؛

2.                صراع الإنسان مع المجتمع؛

3.                صراع المجتمع مع ذاته.

يعود ضياع الإنسان في هذا العالم إلى انفصاله عن الحقيقة الكونية وإلى عدم توصُّل العقل إلى معرفة الجوهر الكامن في الوجود. وقد عبَّر هذا الضياع عن ذاته في عبارات تشير إلى "السخط العقلي" و"النقمة النفسية" الطاغية التي تتهم الوجود بالقسوة وعدم الجدوى وانعدام الرحمة.

ب‌.              الإنسان مقياس كلِّ شيء: إذ يخشى الإنسان معرفة جوهره وتحقيق الغاية التي من أجلها وُجِد، يغوص في عالم الخوف والجهل. وفي هذه الحالة، يتنكَّر الإنسان للمبادئ الكونية ويرتاب في حقيقته الإنسانية والكونية.

ت‌.              تمرُّد الإنسان: يلازم التمرد عملية العجز عن معرفة الحقيقة. ويتصل التمرد بالرفض والتخلِّي عن قاعدة فعل أخلاقية سامية. ولمـَّا كان الإنسان يتقاعس عن فهم الوجود والكون ليعلم أنه والكون حقيقة واحدة، فإنه يتمرَّد على هذه الحقيقة ويرفض العالم، فيتألم على نحو سلبي.

ث‌.              استسلام الإنسان للانفعال والقلق: يدل تمرُّد الإنسان على قضايا هامة هي:

1.                تخلِّيه عن صفة التعقُّل التي تمتُّ بصلة كبرى إلى إدراك وجوده؛

2.                تخلِّيه عن الوجدان – "الوجدان ليس شيئًا"، يقول المنفعل في سلب وجوده – وعن قاعدة عمل أخلاقية؛

3.                رفضه لفكرة قَبْلية الوجود؛

4.                رفضه لفكرة تنظيم الوجود على أساس فكرة عاقلة وهادفة؛

ج‌.                الحروب والمآسي الإنسانية تأكيد على اللاعقلانية: ليس تاريخ البشرية سوى تاريخ الحروب، لا تاريخ الفكر والحقيقة. أليس التاريخ، كما يقول هيغل، "هدنة بين حربين"؟ وإذا كان التاريخ يحفل بالحروب، فما معنى أن يحيا الإنسان؟ وإذا كان الموت نهاية كل شيء، فما معنى أن يفكِّر في الحياة؟ وإذا كانت حياة الإنسان وضيعة إلى هذا الحد، حدِّ اللاشيء، فما تعني قيمة وجوده؟ – إذ إن الخوف من الحروب يقوِّض كلَّ نظام لحياته دون أن يدري. ولماذا قُدِّر عليه أن يكون ما لا يريد أن يكون أو أن يمثِّل دورًا لا يناسبه؟ يا لهول الوجود! ألا يعلم الإنسان أنه الوجود، وأنه يعدِّل نفسه ليحقق وجوده؟

ح‌.                لاجدوى الحياة: "الحياة قصيرة ولا تؤخذ على محمل الجد"، قالها جورج برنارد شو في كتابه عودة إلى متوشالح؛ "لا شيء يستحق الجهد"، قالها اللامنتمي؛ إلخ – عبارات عديدة تردَّدت على أفواه السلبيين الذين وجدوا في الحياة عبثًا لا ينتهي. كيف أجتهد والموت في انتظاري؟ ماذا أفعل وأنا لا أستطيع أن أعرف ماذا قد يحدث لي بعد فترة زمنية؟ ألا يعني هذا أن جوهري ينعدم وحقيقتي لا توجد؟ "الأنا المنقذف في العالم"، يصرخ هوسِّرل – هذا الأنا الذي يخضع لحالة مأساوية. أي جدوى أجدها في الصمود أمام الصعوبات وهي تغلبني وتقهرني؟ الضعف الإنساني واستعباد الوجود للإنسان هما علامتان للاجدوى الحياة. إن حياة الإنسان، في رأي المشكِّكين السلبيين، تافهة لا قيمة لها. لذلك، لا يجد "صاحب المأساة" جدوى للحياة لأنه تجرَّد من كل هدف وغاية.

خ‌.                مصير الإنسان وفكرة الموت: "مأساة الإنسان هي علاقته بالموت"، الموت الذي يفغر فاه ليبتلع الإنسان في هاوية النسيان، هاوية العدم... إنه العدم! العدم في مقابل الوجود. الإنسان السلبي يجهل أن ما دعاه بـ"العدم" وجود ممتلئ.

تقوِّض النظريات السلبية مملكة الإنسان. ونحن لا نشكُّ أبدًا أن مَن يأخذ بهذه النظريات يتيه في "عدمية" مُرَّة وقاسية. فإنْ كان الموت يعني فنائي، وإنْ كانت الحياة لا تحمل معنى ولا تتسم بغاية، وإن كان اللاوجود نبراس حياتي، وإن كان العبث يملأ حياتي، وكان وجودي شرًّا ومصيري شبيهًا بمصير حشرة، وإن كنت ألعوبة في يد القدر وكان الخوف يملأ حياتي، فإن حياتي هباء منثور، وقيمتي لاشيء. لكني، عندما أفكر في نفسي بهدوء، وأتعمق في معرفة الحياة والكون، أجد حقيقة تقع ضمن وجودي كما تقع إلى ما وراء وجودي المادي. أنا "شيء ما" أكثر من الطعام؛ أنا "شيء ما" أكثر من مجرد العيش؛ أنا "حقيقة" أبعد من الموت والعدم والفناء؛ وبقدر ما أنعدم وأفنى... أخلد. أنا حقيقة تجسَّد فيها العالم المادي والروحي، واشتمل على كلا النظامين: نظام الزمان والمكان ونظام الأبدية اللازمانية واللامكانية.

د‌.                  المجتمع الجحيم: "الجحيم هو الآخرون" – هكذا يقول المفكر السلبي، معبِّرًا بشعوره عن فظاعة الوجود المجتمعي؛ ويشدِّد سارتر على "تعاسة الاتصال بالموجودين". ولا يخفى ما تعبِّر عنه هذه الرؤية من سواد عاتم لأنها لا تقيم الشخصية الإنسانية على العطاء والمشاركة، وتبقيها منكمشة ضمن "قوقعة" لا تعطي من ذاتها ولا تشارك في حقيقتها، بخلاف ما في النظريات الإيجابية التي هي عطاء ومشاركة، إذ هي تدعو إلى مبدأ المحبة الشاملة.

هكذا، يحوِّل الإنسان إيجابية الحياة إلى سلبها، وسعادتها إلى تعاسة، ونورها إلى ظلام، ومعرفتها إلى جهل، وصعوبتها إلى مصيبة... وطوبى لمن يعرف الحقيقة، فيتحرَّر من إشراطات الأنا.

*** *** ***

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني