رحلة الفيلسوف من تحرير الحقيقة إلى تحقيق الحرية
د.
زهير الخويلدي
تمهيد:
من المفيد جدًا، بالنسبة لمن يريد بلوغ الحكمة، أن يكون عقله قد انشغل
لبعض الوقت بصورة الإنسان الشرير والفاسد بشكل جذري[1].
لقد ارتبط السؤال عن المنزلة التي تحتلها الحقيقة في المعرفة العلمية
في معظم الأوقات بالتصور العام للواقع الذي يتم التعارف عليه من طرف
العقل من ناحية، والتفسير المنهجي للطبيعة من ناحية أخرى.
لهذا السبب يبدي التساؤل عن الحقيقة الكثير من التحفظ ويضع جملة من
المحاذير أمام كل تعميم متسرع وضد الأحكام الفضفاضة والمواقف الإطلاقية
ويحصر اهتمامه بالأطر المختصة وضمن الميادين الدقيقة.
لقد ألهم التفكير في الحقيقة العديد من التأملات الفلسفية، وذلك
لالتباس هذا المفهوم وعسر التعرف على ماهيتها وكثرة المناهج التي تزعم
البحث عنها. إذ يمكن من جهة الحديث عن قضية صحيحة ولكن يمكن في المقابل
الحديث عن صدق مضمونها في إشارة إلى صلة المعرفة بين الأشياء والمثل
التي تتجه نحوها.
مفارقة الكذاب الذي عندما يقول "أنا أكذب" يكون قد قال الحقيقة، وعندما
يقول الحقيقة فإنه يكذب.
لقد تعارض اتجاهان حول تحديد طبيعة الحقيقة، الأول هو الاتجاه الواقعي
الذي يعرف الحقيقة بوصفها تطابق الفكر مع الشيء وذلك بوساطة العقل
الإلهي بين العقل البشري والعالم الطبيعي، الثاني هو الاتجاه المثالي
الذي يعرف الحقيقة سواء من خلال اتفاق العقول أو بواسطة معيار داخلي
يوجد فيها ويسمح بأن تكون عنصرًا ضمن مجموع من الحقائق الأخرى في علاقة
نسقية على المستوى المعرفي والأنطولوجي[2].
بعد ذلك لمع بسرعة اتجاه ثالث هو النظرية البراغماتية التي عرفت
الحقيقة من خلال النجاح الذي تلاقيه في مجال العمل وتخلصت من المسلمات
الضمنية وأرجعت مجال المعرفة إلى ميدان المصلحة والتداول.
لكن ما علاقة الحقيقة بالقيم الأخرى الأخلاقية والجمالية والحيوية؟ هل
هي مجرد قيمة بسيطة من ضمن القيم؟ ماهي المنزلة التي تحتلها ضمن
تراتبية القيم؟ هل تزرع القيم الأخرى تحتها وتهيمن عليها من خلال مطلب
صحة الأحكام التي يصدرها الفكر حولها؟ وما الفرق بين أساس الميتافيزيقا
وحكم الأكسيولوجيا؟ وألا يمكن أن يكتفي الفكر بوجهة نظر المنطق ومقاربة
نظرية المعرفة ضمن منهاجية الابستيمولوجيا؟
في هذا الصدد يمكن إثارة المشكل الفلسفي على النحو الآتي: بأي معنى
يمثل البحث عن الحقيقة محرك التقدم العلمي؟ كيف تخلت العقلانية العلمية
عن الخوض في الحقائق الأبدية والمطلقة واكتفت بما هو جزئي ونسبي؟ هل
يتعلق الأمر بالحقيقة من جهة الواقع المعطى أم بقيمة الحقيقة من جهة
الواقع المبني؟
1.
الحقيقة بين التراسل والتروي:
كل الناس قادرون على التفكير، قليل من الناس من يستطيع إصدار حكم[3].
الحقل الدلالي
Veritas , vérité, vrai:
لغةً:
تعود الحقيقة في لسان العرب إلى لفظ الحق والذي يشار به إلى اسم من
أسماء الله الحسنى وأحد صفاته، تفيد الصدق وهو ضد الباطل، إن الله هو
الموجود حقيقة ومتحقق من جهة وجوده والهيته.
اصطلاحًا:
الحقيقة هي الثبات والاستقرار والقطع اليقين والصحة والوجوب وضد التجوز
والمجاز.
الدلالة الفلسفية: الحقيقة هي مطابقة ما في الأذهان لما في الأعيان، أي
اتفاق الحكم العقلي مع الواقع العيني، أي مطابقة الفكر للواقع بعد
مطابقة الفكر للفكر، الأولى حقيقة مادية والثانية حقيقة صورية.
المجالات:
-
الحقيقة المشخصة للمطلق والوجود المفرد للكلي أي عين الذات وجوهرها.
-
الواقع المادي الذي تشير إليه المعرفة والحالة التي تكون عليها
الأشياء.
-
ميزة أو طابع أو خاصية ما هو حقيقي بالنسبة القضايا والأشياء على
السواء.
بهذا المعنى يطرح مشكل الحقيقة والحق ضمن الوظيفة المعرفية والقدرة
التشريعية لمبادئ العقل وفي إطار العلاقة التي تربط القضية بالدلالة
اللغوية والأشياء بالمعاني التجريبية التي تتصل بالواقع الخارجي.
الحقيقة المنطقية
هي اتفاق
conformité
الفكر أو اللغة من جهة الذات العارفة مع الموضوع
المعروف.
الحقيقة الأنطولوجية
تقتضي بلوغ انسجام
correspondance
بين الموضوع المعروف والنمط المثالي.
الحقيقة الجمالية
تطلب التعبير الشفاف عن القدرة اللانهائية لدى الكائن البشري والكشف عن
الأبعاد المطلقة من الوجود وترجمة الذائقة الفنية في جملة من الإبداعات
والآثار التي تعكس العبقرية والإلهام.
المعايير
1. البداهة العقلية تعتبر عند رونيه ديكارت علامة على الحقيقة من جهة
وضوحها وتميزها من جهة فردية وبصورة كلية وتتوقف على قدرة الذهن على
تمثل الواقع واتخاذ قرار وإصدار الحكم بشأنه.
2.
يفرق عمونيال كانط بطريقة منهجية صارمة بين الحقيقة الصورية
verité formelle
التي تستوجب انسجامًا مع مستوى صورة العبارات وليس
مع المضمون والحقيقة المادية
verité materielle
التي تقتضي اتفاقًا بين الفكر وموضوعه أي مع
المضمون الذي توفره التجربة.
تعرضت نظرية الانسجام أو الاتفاق إلى مراجعات كثيرة في القرن العشرين
من عدة جهات ولم يعد التطابق أو التمثل أو البداهة هي المعايير التي
تحدد ما هو حقيقي وتبعده عن كل ما هو كاذب.
جورج مور يرى أن الحقيقة هي الخاصية التي تتقاسمها اعتقادات صحيحة حول
الوقائع من خلال قوله: "أن نقول أن اعتقاد معين هو صحيح يعني القول
بوجود في الكون لواقعة معينة تتفق مع هذا الاعتقاد".
برتراند رسل يجدد التعريف المنطقي ويركز على الخاصية الداخلية للحقيقة
من جهة العلاقة والوظيفة وتم إدخال التعدد والنسبية ضمن القول الصادق
وصار اللاتحدد أو الاحتمال دافعًا نحو نمو الحقائق وتجددها.
كما ركزت البراغماتية مع ديوي وبرس وجيمس على معايير المنفعة
والمردودية والنجاح بالتغلب على العراقيل وتحقيق المفيد والمربح للعقل
البشري وبالتالي "ما هو حقيقي هو المفيد والناجح في التطبيق".
كارل ماركس يقلب الرؤية من خلال النزول من المجرد إلى الملموس بحيث لم
تعد الحقيقة مسألة نظرية وإنما أصبحت معركة ميدانية تدرج ضمن سياسة
المعرفة وإستراتيجية السلطة وتتطلب التزامًا بالتغيير.
الحقيقة عند فريدريك نيتشه هي حكاية رمزية ولا تقتضي الارتباط بالواقع
بل تأويل المجاز والاستعارة ولقد كان أول الذين تخلصوا من الحكم على
الحقيقة من زاوية الغلط والوهم وقلبوا الأزواج الميتافيزيقية
والثيولوجية وأدرجوا القيمة والمعنى ضمن وجود الحقيقة وبحثوا عن
الحقيقة الحقيقية ضمن المظهر.
بيد أن مارتن هيدجر يشترط قيام الحقيقة على الحرية ويعتبر اللاّتحجب هو
الإمكان الوحيد لتجلي المعنى وأيده سارتر في القول بالطابع الذاتي
والمتحرك وقام بالتأسيس الفرداني الوجودي للحقيقة ضمن المجتمع.
في نهاية المطاف نحت كارل بوبر معيار
الدحضانية
أو قابلية التكذيب ضمن إطار العقلانية النقدية وبعد بروز العقلانية
التطبيقية عند غاستون باشلار واعتبارها المعيار الدقيق لامتحان
النظريات وفرز الحقيقة[4].
لكن بأي معنى تفقد الحقيقة خاصيتها الكلية إذا ما تخلت عن طابعها
النسقي والتحمت بالوجود الحر؟ هل يمتلك الإنسان حريته أم يكون وجوده
بأسره حرية؟ إلى أي مدى يمكن التربية على الحرية؟
2.
الحرية بين القمع والاغتراب:
الخوف من الإيمان بالقدر هو أيضًا قدر. أنت نفسك، أيها القلق هو ربة
القدر القاسية... أنت هي القيود التي يرسف فيها الأقوى، إن مستقبل
العالم الإنساني محدد فيك مسبقًا ولن يجديك الخوف من نفسك[5].
الحقل الدلالي:
الحرية هي حالة للكائن ونمط وجود يتجلى من خلاله المرء غير خاضع إلا
لإرادته وموجود بصورة مستقلة عن كل ضغط خارجي. بطبيعة الحال الإنسان
الحر هو الذي يتناقض مع العبد والتابع والخادم والفاقد لكل حقوقه
ومقومات إنسانيته. زيادة على ذلك يشعر الإنسان في الحياة اليومية بأنه
حر بشكل بديهي ويظل غير مبال بما يجري حوله وغير مكترث بالعالم الخارجي
وقد يجد رضاه في هذا الشعور الباطني بالاستقلالية ويسمي هذا الشعور
حرية عدم الاكتراث التي يمكن اعتبارها الدرجة الأولى والمستوى الأضعف
من الحرية التي يمكن أن يحس بها الإنسان.
كما أن الحرية هي حالة للكائن يمارس فيها الحكم المعرفي والفعل بصورة
واعية وسديدة بتعارض مع الجهل والأهواء ويتبع فيها أوامر العقل
وبالاهتداء بنور وشروط الحقيقة محققًا بصورة تامة وثاقبة ما يأمل في
تطابقه مع طبيعته الخاصة.
* بالمعنى السياسي تتعلق الحريات بمختلف الميادين: الحرية الفيزيائية،
حرية التعبير، حرية الوعي، حرية التفكير، الحرية الدينية (حرية المعتقد
+ حرية الضمير) حيث لا يخضع الفرد في حياته الخاصة لمراقبة الدولة مع
احترامه للقوانين المنظمة للحياة العامة. على هذا الأساس أن يكون المرء
حرًا هو أن ينتمي إلى مؤسسات المدينة ولا يكون عبدًا لأهوائه ويظل في
الخارج.
* المعنى الأخلاقي للحرية تتأسس على السيادة الذاتية للإرادة وحكم
الإنسان لنفسه بنفسه وقدرته على التحديد الذاتي عند كانط حيث تمثل
مسلمة للعقل العملي وترتبط بالشعور بالكرامة واحترام الإنسانية.
* المعنى الوجودي يجعل من الحرية شرط تكويني للحقيقة الإنسانية وذلك
بالانطلاق من أسبقية الوجود على الماهية والإقرار بأن المرء محكوم عليه
بأن يكون حرًا وأن يستعمل حريته مطلقة في الدفاع على الحرية والاضطلاع
بمسؤولية وجده في الكون وفي خلق قيمه الخاصة به والنضال من أجل حرية
الآخر.
* الحرية تتحقق بالعقل عند ديكارت وتتناقض مع الضرورة حسب سبينوزا ومع
الأهواء عند أفلاطون، لكنها تمر بالمجتمع عند هوبز والإرادة الطيبة عند
كانط وترتقي إلى مفهوم التحرر أو الانعتاق مع العمل عند هيجل والتاريخ
وماركس.
في هذا الصدد هل الحرية هي غاية الدولة كما يتمنى سبينوزا أم نهاية
التاريخ كما يعتقد هيجل؟
خاتمة
إن تجرؤ المرء على التعبير عن وجهات نظر تعتبر مخجلة لمن يفكر فيها لهو
خطوة جديدة يخطوها نحو استقلاله، حينها يبدأ أصدقاؤه في الشعور بالخوف.
لابد للشخص الموهوب أن يجتاز هو الآخر هذه النار وبعد ذلك سيستقل بنفسه
بشكل أفضل[6].
إذا أراد الإنسان أن يمتلك عقلاً فلسفيًا بالمعنى الحقيقي للكلمة ويسير
بمقتضى الحكمة في وجوده فإنه مطالب بأن يواجه وضعيات صعبة ويقاوم نار
الازدراء ويفرط في سوء الظن بالعالم السائد ويجهد نفسه في التغلب على
كل ما يعترضه في طريق الحرية ويكتسب رؤية مختلفة للواقع الاجتماعي الذي
يحاصره.
من جهة المبدأ تجتمع الحرية والحقيقة في شخصية الفيلسوف وتتلازم
المعرفة مع الوجود وتقترن الصفة بالموصوف ولكن من جهة الواقع يخوض
الكائن البشري معركة نضالية من أجل انتزاع الحقيقة من بحر الظلمات
التجهيلية وافتكاك الحرية من طبقات الميراث وأنظمة القمع السلطوية. بيد
أن الفيلسوف الحر هو الذي تتعارض مواقفه مع السلطة والنفوذ والتقاليد
وتتأسس على الصراع الشخصي مع الشر والحمق والجهل وعلى التباهي بإظهار
التواضع والاستمتاع باكتشاف الأشياء، وهو كذلك من يرفض كل افتراض غيبي
ويكف عن اختزال الاعتقاد إلى مجرد ظن ولا يثق في أي حقيقة معرفية سوى
ما يوفره العقل[7].
لا يكون الفيلسوف العميق غريبًا عن حاضره وشاردًا عن عصره ولا يصير
متوحدًا ولا يحرم نفسه من التمتع بألحان الحياة وإنما يتميز بالجد في
اللعب ويجمع من جهة قناعته بين الحب والعدل ويجرفه القلق المثمر والحذر
الناجح ويجعل من عشق الحقيقة مهنة مناسبة ومن عقله الحر إحساسًا نبيلاً
بتدفق الحياة.
خلاصة القول إن الحرية بالمعنى السلبي هي غياب الإكراه والتغلب على
القيود وإزالة العوائق. أما في مستواها الإيجابي فتفيد الانتصار على
الذات وتجاوز النمط الأول من الوجود والاقتدار على الخلق والإبداع
والارتقاء بالإنسانية على عوالم غير معهودة وأشكال من الحياة جديدة
ورحبة. لكن ربما "يخفي هذا الشعور بالاستقلال لاشعور بالتبعية". لكن
"في اللحظة التي يشرع فيها شخص ما في أخذ الفلسفة مأخذ الجد يعتقد كل
الناس العكس"[8]،
فمتى يكون الموقف البشري صادرًا عن العقل وحده؟ وهل يساهم العلم في
ترشيد الفعل البشري؟
*** *** ***
مجلة منبر الفكر
http://menbaralfkr.blogspot.com/