أزمة النظرية الذرية المعاصرة
1
ميشيل بيتبول
أمام مثل هذه البراهين، المقنعة جدًا، على وجود الذرة، فقد انتهى الأمر
بالمشككين إلى السكوت [...]. إننا نستطيع تأكيد وجود الذرة باليقين
نفسه الذي نؤكد فيه وجود النجوم.
رايخنباخ
H. Reichenbach،
الذرات والكون
Atomes et Cosmos
علينا الآن، قبل أي شيء آخر، طرح السؤال التالي: كيف يصبح تحقيق
التوقّع متوافقًا مع التوقع؟
ويتغنشتاين
L. Wittgenstein
،
Dictées pour Moritz Schlick
غالبًا
ما نعتبر أن مسألة صحَّة
المخطط الذرِّي يجب أن تُضبط استدلاليًا اعتمادًا على ما تقود إليه
التجربة، أي من خلال استدلال ينطلق من مجموعة من الظاهرات نحو أفضل
تفسير له. وضمن هذا المنظور الإبستمولوجي، فإن مجرد ذكر أزمة المذهب
الذري في الفيزياء المعاصرة فيه شيء مفاجئ، بل صادم[1].
أليس من المقبول أن المذهب الذري يقدم مفتاح تفسير الظاهرات المصنفة
بشكل كامل، والتي كان الكثير منها معروفًا منذ العقود الأولى من القرن
العشرين؟ وهذا التفسير ألم يصبح حتميًا مع التضاعف الحديث لما يتفق على
تسميته "براهين مباشرة" على "وجود" الذرات والجسيمات الأولية؟
5- 1 التوقُّع الذرِّي وتحققاته
ستكون أزمة ممكنة في المذهب الذري أقل مثارًا للدهشة لو ضمَّنا في
مسألة صحَّته مركبًا بدهيًا.
وفي الواقع، فإن المذهب الذري وفقًا لمثل هذه المقاربة، ليس نهاية
العمل في إعادة الظاهرات باتجاه تفسيرها الأمثل؛ فهو يرتكز على مخطط
قراءة يترقب الظاهرات ويقود النشاط التجريبي الذي يشارك في تعريفها.
وعلى العكس من طرح تفسير أمثلي نعتبره وحيدًا، فإن مخطط القراءة يمكن
من حيث المبدأ أن يتواجد مع مخططات أخرى كثيرة شرط أن تكون فاعليتها
بما هي دليل للنشاط التجريبي كافية أيضًا. وفي الواقع فإن تفرُّده
سيكون عندها علامة على أن عاملًا عارضًا جاء ليقيِّد الإحاطة
بالاحتمالات التصوُّرية. إن غلبة المخطط الذري خلال فترة طويلة من
القرن العشرين يمكن أن نرجعها على هذا النحو إلى صدف تاريخية، مثل إرث
نظرية ديمقريطس الذرِّية (الموروثة هي نفسها من "الموقف الطبيعي" الذي
يشتمل على تحليل الوسط الطبيعي بعبارات "الأشياء" أو الأجسام المادية
المعزولة بعضها عن بعضها الآخر)، بدلًا بالأحرى من إرجاعها إلى ضرورة
داخلية ملزمة بشكل صارم للوضع الحالي للعلوم. وفي هذه الحالة، فإن
استبدال المذهب الذري لن يصطدم بأية صعوبة سوى بصعوبة إدراج الفيزياء
المعاصرة ضمن مسار تقليد مختلف، ربما كان مألوفًا بدرجة أقل.
من جهة أخرى، لما كانت شبكة القراءة الإستباقية نقطة انطلاق مفتوحة
بالنسبة للبحث وليست، مثل تفسير ظاهرة ما، نقطة وصوله، فإن لا شيء يمنع
أن تصل خصوبته يومًا، على الرغم من تميزها في الماضي، إلى حدوده
الخاصة. من هنا، فإن أزمة النظرية الذرية المعاصرة ليست مطروحة هنا
للتفسير مثل الإعلان عن "برهان أيّا كان لعدم وجود" للذرات، وهو أمر
أكثر غموضًا إلى درجة أنه سيبدو مندرجًا بشكل زائف ضد "براهين وجود" لا
تنفك تصبح أكثر إقناعًا تراكمت منذ عدة أجيال. بل هي تعني ببساطة أن
الوقت حان لكي نرسم الحدود الدقيقة للقدرة الاستباقية للمخطط الذري،
ولكي نعيد "براهين الوجود" المزعومة إلى مواضعها الصحيحة. وهذا الموضع
هو موضع العناصر الاستثنائية والأشكال النظرية التي اندرجت حتى الآن
بالتأكيد بشكل مميز في عدد كبير من معالم شبكة القراءة المقترحة من قبل
النظرية الذرية، إنما التي هي أيضًا قابلة بما هي ليست شاملة للتوافق
مع شبكات مختلفة بشكل جذري. تجازف شبكات القراءة المتناوبة هذه،
المتباعدة منذ فترة طويلة بحيث لم تعد تمثل أي تفوق حاسم على منافستها
التقليدية، بأن تأخذ زمام المبادرة إذا ما تبين أنها أكثر قابلية منها
لقيادة الفيزيائي في الأراضي الجديدة للاستكشاف التجريبي المفتوحة
والمنظمة تحت تأثير توجيه بدئي من النظرية الذرية. علينا ألا يغيب عن
ذهننا لحظة واحدة أن النظرية الذرية ترتكز على البنية الأنطولوجية
لنموذج عبر - نظري تحت - تحديدي بواسطة التجربة، وليس على الأساس
البراغماتي - التجاوزي للسلسلة التاريخية من النظريات التي تستخدمها.
إن فائدة مثل هذا الاستبدال للمنظور البدهي إلى منظور
استدلالي يمكن أن يوضَّح من خلال التحليل النقدي لحجة معروفة
جيدًا، كان قد طرحها إيان هاكينغ
Ian
Hacking
لصالح قراءة واقعية للمخطط الذري. وفق هاكينغ، فإن كينونة ما تكفُّ عن
كونها ناتجة عن استدلالات وفرضيات، ويمكن أن توصف بحق بالواقعية،
"[...] عندما نبدأ بإمكان استخدامها من أجل تنفيذ معالَجات بطريقة
منهجية في مجالات أخرى من علوم الطبيعة"[2].
إن الكينونة تغير عندها في الواقع موضعها الإبستمولوجي، مارة من صفِّ
الموضوع إلى صفِّ أداة البحث والتقصي. إنها تكفُّ عن ألا تكون سوى قبلة
الأنظار لهدف قصدي لتصبح الشرط المسبق لفعل ما. والحال أن الأطروحة
الذرية (المنقولة إلى "الجسيمات الأولية"، وفق نموذج ضمني يسميه جان
ماري ليفي لوبلون
J.-M.
Lévy-Leblond
نموذج "المادة المتوالدة") يمكنها بالضبط الاعتماد في أيامنا هذه على
قدرتها على منح الكينونات التي تعمِّر وتسكن عالمها موضع أداة للبحث.
ويكفي أن نفكر هنا بالحالات المتعدِّدة حيث يتمُّ استخدام حزم قليلة
الكثافة من الجسيمات من أجل أعمال دقيقة، كما وفي الحالات التي وفق نمط
التعبير الدارج يتم التحكم فيها بالذرات، حيث يتم نقلها من موقع بلّوري
إلى آخر، وحيث يتم استخدامها ذرَّة ذرَّة من أجل قياس كثافة الحقل
الكهرمغنطيسي في تجويفات رنينية[3].
لكن هل يضيف حقًا الاستدلال المقترح من قبل هاكينغ، الذي ينطلق من
إمكانية استخدام كينونة من أجل الوصول إلى "حقيقتها"، شيئًا ما إلى
الاستدلال التقليدي باتجاه التفسير الأفضل لظاهرة ما؟ يشك عدد كبير من
الفلاسفة بذلك ويقدمون عددًا من الحجج الجيدة التي تدعم تشككهم[4].
ذلك لأنه بات يُعدُّ فعلًا أن المرحلة الأخيرة من الاستدلال هي مرحلة
مفروغ منها بدلًا من التأكيد أن الباحث يستخدم كينونة. كل ما يمكننا
قوله، هو أن الباحث يفترض مسبقًا هذه الكينونة عندما يفعل؛ ذلك
أنه يكون مغمورًا بالكامل، عندما يتدخل أو يؤثر، في نموذج يتضمن هذه
الكينونة؛ وذلك أخيرًا لأن نتيجة فعله وتدخلاته وتأثيراته متوافقة بشكل
كاف مع ما تجعله الخلفية النموذجية يتوقعه لكي لا يكون لديه أي سبب
للتساؤل حولها. فإذا كان يرغب بتحويل هذا الغياب لسبب ما يجعلنا نشكك
أو نتساءل حول كينونة مفترضة مسبقًا إلى سبب للاعتقاد بوجودها، فسوف
يكون عليه اللجوء مرة أخرى إلى الاستدلال باتجاه التفسير الأفضل ولن
يكون قد أضاف شيئًا للحجج المعتادة لصالح "واقع حقيقي" من الكينونات
الذرية.
وليس من التهوُّر أن نشير، كما سبق أن فعلنا في الفصل الأول، إلى أن
هذا العكس للأولويات من الاستذكار إلى التنقيب والبحث، ومن الضرورة
التفسيرية إلى حصة الصدف التاريخية، هو في الوقت الحالي أحد المواضيع
الأساسية في نظرية التطور كما وفي فلسفة العلوم. ووفق النظرية
المعيارية الداروينية الجديدة، فإن الانتخاب الطبيعي يجعل كل نوع أو كل
منظومة بيئية تميل نحو حد أمثل تأقلمي وحيد يلعب دور سهم موجِّه
وظيفي. وعلى العكس، وفق بعض الطروحات الحديثة[5]،
فإن الانتخاب لا يعزل ويفرد حدًا أمثليًا وحيدًا، بل هو لا يقوم إلا
بتشذيب التنوع البيولوجي محتفظًا بكافة الحلول تحت الأمثلية إنما
القابلة للحياة والنمو[6]
مع ذلك من أجل تأمين الاستمرار والبقاء في وسط محدَّد بالتشارك بواسطة
المتعضية التي تسكن فيه. وحدها الحوادث التاريخية (مثل سقوط النيازك أو
حلول العصور الجليدية) يمكن أن تصل إلى فرض قيود إضافية على تنوُّع
الأنواع، ونتيجة هذه القيود هي ما يفسِّره البيولوجيون فيما بعد إنما
خطأ على أنه نتيجة لصيرورة أمثَلَة. إن مسألة حصر أشكال تطور السلالات
باتت مطروحة من الآن فصاعدًا في المنظور البراغماتي لتوقيتها وفرصتها
بالنسبة إلى وضعية معطاة (من رتبة تاريخية وبيئية في آن واحد)، بدلًا
بالأحرى من طرحها من المنظور اللاهوتي لأَمثَلَة ما. وبشكل مشابه، فإن
ما ينتج عن التحليلات السابقة هو أن مسألة الذرية وأزمتها المعاصرة
المحتملة يجب أن يُطرح من المنظور الإبستمولوجي لاقتضاء بنية
توقُّعيَّة بالنسبة إلى وضعية إدراكية معطاة (من رتبة ثقافية وعملياتية
في آن واحد)، بدلًا بالأحرى من النظر إليها من منظور أونطولوجي لـ
"وجود" مؤكَّد أو مرفوض في المطلق. إن فكرة استمرارية، أو على الأقل
توازي، صيرورات التأقلم البيولوجية وصيرورات التأقلم الإدراكية،
والنظرية الذرية جزء مشارك فيها، تخرج من هذا التحليل معزَّزة
ومدعَّمة.
5- 2 تعريف إطار التوقعات الذرية
لنعد إلى صلب موضوعنا. ما هي بالضبط هذه العناصر المتأتية عن التطبيقات
التجريبية وعن الصوريات النظرية التي تندرج تمامًا في الإطار الذري؟
وكيف توصلنا، على الرغم من تحسينها المستمر، إلى إدراك حالة أزمة
النظرية الذرية؟
تكمن مرحلة أولية في طريقنا للإجابة على هذه التساؤلات في التحديد
الواضح لما نعنيه بـ "الإطار الذري". في البداية سوف نقدم تعريفه
التقليدي، الذي يؤلف بين تأملات عدة أجيال من فلاسفة الطبيعة بين
العصور القديمة والقرن السابع عشر. وفي المرحلة الثانية، سوف نفكِّك
هذا الإطار بشكل دقيق يكون كافيًا لتجهيز فضاء التغيّرات الممكنة، بل
ومن أجل تعيين الخط الذي إلى ما ورائه يصبح هامش التسامح للإطار الذري
منتهكًا.
وفق بيلز[7]
A. Pyles،
تُعرَّف النظرية الذرية الكلاسيكية بأربع أطروحات رئيسية. الأطروحتان
الأولى والثانية لهما أساس أنطولوجي، والأطروحتان الأخيرتان تعلنان
المضمون التفسيري للمفهوم الذري. وهذه الأطروحات هي التالية:
-
توجد لامنقسِمات، أي إما كينونات لا يمكن تحليلها تصوُّريًا
ولا هندسيًا، وإما (بشكل أكثر تحديدًا) جسيمات مادية غير قابلة
للانقسام فيزيائيًا.
-
يوجد "فراغ" أو "لا - كائن"، وبعبارة أخرى فضاء محروم من المحتوى
المادي يفصل فيما بين الذرات، وفيه تنتقل الذرات دون قيود.
-
يُفَسَّر تشكُّل ودمار وتبدُّل الأجسام المادية من خلال تجمُّع
وتفكُّك الجسيمات الذرِّية. بالمقابل، فإن الصفات الحساسة للأجسام
المادية تُفَسَّر بمصطلحات التفاعل بين صورة وحركة الجسيمات الذرية
التي تشكِّل الأجسام، وصورة وحركة الجسيمات الذرية التي تشكل أعضاء
الحواس. فليس للذرات بذاتها خصائص أخرى سوى بعد واحد وموضع واحد
متغيِّرين بشكل احتمالي؛ وهي ليست مزودة بأية "صفة حقيقية". إنهما
بُعدا ما نسميه الاختزالية الذرية.
-
لا تتحرك أية ذرة إذا لم يكن ذلك بتأثير دفع ناجم عن ذرات أخرى.
إنها النسخة الأكثر صرامة للآلية التي غالبًا (ولكن ليس بالضرورة)
ما كانت مرتبطة بالنظرية الذرية.
لنفكِّك الآن ونحلِّل الفرضيات الأربع الكبيرة السابقة إلى عناصرها
التصوُّرية. والفرضية الأولى هي بلا شك الأغنى بالنتائج، على الأقل إذا
ربطنا بينها وبين الفرضيات الثلاث الأخرى.
1 أ) من المفهوم في استخدام الجمع لكلمة "لامنقسم" أن الجسيمات
الذرِّية هي عبارة عن تعدُّد وكثرة. فهذا المرور من
الواحد إلى المتعدِّد هو أيضًا ما يشكِّل أول الانتقالات الكبرى التي
يفرضها الذرِّي على أنطولوجيا برمنيدس (حيث الانتقال الثاني هو قبول
"اللاكائن").
1 ب) ينتج عن الجمع بين تعددية اللامنقسمات الجسمية واللاإستمرارية
المكانية المفروضة عبر وجود فراغ ما بين ذري سمة قابلية العدِّ لمجمل
الذرات. كان أرسطو قد أشار إلى هذه النقطة من خلال موازاة بين النظرية
الذرية وعلم الأعداد الفيثاغوري. ووفقه، وعلى غرار الفيثاغوريين، فإن
الذريين "يجعلون من كل شيء عددًا"[8].
إن التجلي العملياتي لهذه الميزة المستمدة من مجمل الذرات هو أن بعض
التجارب التي يمكن إجراؤها عليها يجب أن تُتَرجَم بوقائع منفصلة
ومتقطعة. إن إمكانية تعداد بعض الظاهرات وتقطُّعها
هما بالنتيجة رابطان من بين أكثر الروابط فورية وأكثرها تمييزًا
للذرية.
1 ج) يسمح استكشاف كافة نتائج تعددية اللامنقسمات بصياغة أكثر دقة مما
ورد في الفقرة (3) لاختزالية بسيطة، وموثوقة بدرجة معينة، ووفقها فإن
الخصائص المختلفة للأجسام تُفَسَّر وفق تركيبيةٍ للذرات، و/أو
من خلال تركيبية
محدَّدة
لحالاتها الحركية. يعتبر أرسطو أن الذرية تعود لتفسير تنوع الكون
المحسوس بالطريقة نفسها التي نفسر بها تنوع النصوص من خلال تركيبية
حروف الأبجدية[9].
1 د) تنشأ اللاإنقسامية، كما سبق ورأينا، إما عن عدم قابلية التحليل
الهندسي (وهي خاصية، وفق النمطية الأبسط لها، يمكن أن تنتج عن مماثلة
الذرة مع نقطة)، وإما عن عدم قابلية القسمة الفيزيائية للجسيمات
الذرية. وهو ما يترجم، في منظور اختزالي، بـ العناصرية؛ أي من
خلال تأكيد أن الذرات هي العناصر الدنيا المشكِّلة للأجسام المادية.
1 ه) وفي إطار النموذج التقليصي أيضًا، فإن لاإنقسامية الذرات تستتبع
عدم قابلية الفساد والتحلل، لا بل ولانفوذيتها المتبادلة فيما بينها.
وفي الواقع، إذا كان تغيُّر وفساد جسم ما يُعرَّف بإعادة توزيع أو
تبديل العناصر الذرية التي تشكِّله، فإن العناصر نفسها لا يمكن أن تفسد
أو تتغير. ومن جهة أخرى، فإن إحدى أكثر الطرق معقولية في تمثيل
الاختراق تستتبع تداخل وتشابك الأجزاء الأولية. وبما أنه ليس للذرات
نفسها أجزاء، فمن الصعب تصور أنها تستطيع أن تتداخل فيما بينها.
1 و) إن اللاإنقسامية وعدم قابلية فساد الذرات يمكن أن يُتَرجَم أيضًا
على النحو التالي: تملك الذرَّات خصائص هندسية ثابتة غير
متحولة (يكون الامتداد أو غياب الامتداد وفقًا لأبعاد المكان الثلاثية)
إلى جانب خصائص هندسية متغيرة (مواضعها), وخصائص حركية متغيرة
أيضًا (السرعة والتسارع). وهي قابلة لأن تضيف عليها خصائص جسمانية غير
هندسية متغيرة أو ثابتة مثل الكتلة. وإذا كانت الخصائص الثابتة للذرات
ليست كلها متطابقة، فإنها تحدد أنوعًا من الذرات.
أما الفرضية الثانية، وهي فرضية وجود فراغ ما بين ذري، فلها نتائج
تشارك بطريقة لا تقل أهمية في تعريف إطار التوقعات الذري.
2 أ) النتيجة الأولى والأكثر فورية هي وجود بنية مكانية. يقرن
جان بيران
J.
Perrin
بالنظرية الذرية، بعد أن يتأمل حول "خشونة، تحبحب" المادة، التمثيل
المحدود لعالم له كثافة معدومة في كل مكان، باستثناء في نقاط معزولة
حيث تأخذ الكثافة قيمة لانهائية[10].
2 ب) الفراغ يفصل الذرات عن بعضها بعضًا. وبالتالي، فإن تمييز
مواضع الذرات، وفصلها بواسطة فضاء فارغ مقرون بعدم قابليتها للاختراق،
يقدمان معيارًا كافيًا للتفرُّد في كل لحظة. لنضف إلى ذلك (في إطار
النموذج الآلي الذي يتمَّم عند الاقتضاء بأعمال عن بعد) أن للذرات
مسارًا مستمرًا في الفراغ. يسمح هذا المسار بإعادة تحديد أو
مطابقة كل ذرة من هذه الذرات عبر الزمن. بعبارة أخرى، من الممكن مطابقة
ذرة فردية مكتشفة حاليًا مع ذرة مكتشفة سابقًا، وذلك بربط حدثي
الاكتشاف من خلال الطريق الذي تم اجتيازه.
والفرضية الثالثة هي فرضية الاختزالية. وهي سبب وجود النظرية الذرية.
ففائدة الذرات تكمن في قدرتها التفسيرية لفعل الظهور. ولكن يوجد
بداهة العديد من الطرق لتفسير الظاهرات، والنظرية الذرية تنشأ
عن مجموعة من الخيارات المقيدة والمحددة لما هو مقبول في مجال التفسير.
3 أ) كان المشروع الذي سبق لغاليليه أن صاغه[11]،
عبر فرضية الذرات، هو اختزال النوعي إلى كمِّي، أكان ذلك
عبر إمكانية تعداد أو عبر إمكانية تقدير توسعات وتصورات مكانية وحركات.
يتعلق الأمر هنا بأول خيار تقييدي.
3 ب) إن النظرية الذرية هي في العمق حالة خاصة من ميل أوسع لإرادة
تأسيس فعل الظهور على كون من الأشكال. وهذه الحالة الخاصة هي التي تكون
فيها الأشكال متوضعة في المكان وفي الزمان، وحيث لا ترجع سمتها غير
المحسوسة إلا إلى أبعادها المكانية المصغَّرة بشكل فائق. فمن المتفق
عليه في النظرية الذرية أن الأشكال التأسيسية لفعل الظهور ليست هي
نفسها من حيث المبدأ خارج حقل الظهور. وهي لا تبقى كذلك إلا
بطريقة تحديدية مشروطة طالما لم يكن هناك مجهر مناسب يسمح بإثبات
وجودها. وهذا هو الخيار التقييدي الرئيسي الثاني.
وأخيرًا، فإن الفرضية الرابعة، الآلية، هي بلا أدنى شك الأقل حتمية.
لكنها هي أيضًا التي تسمح بإعطاء المشروع الاختزالي للنظرية الذرية
كامل استقلاليته. إن إضافة تفاعلات عن بعد للذرة الآلية في النظرية
الذرية، بل وأكثر من ذلك إضافة صفات حقيقية، يعني القبول بأن تفسير
الظاهرات بواسطة أشكال وتصورات وحركات الذرات ليس تفسيرًا شاملًا. فلا
بد عندها إما التخلي عن المشروع الاختزالي، أو الحد من طموحاته، أو
إعادة النظر فيه في إطار موسَّع بالنسبة للنظرية الذرية وذلك بإكمال
هذه النظرية بواسطة أشكال ممكن تصورها إنما غير محسوسة، وذلك من خلال
استخدام مجهر، أو أخيرًا عبر جعله مستقلًا بشكل كامل عن النظرية الذرية
وذلك باللجوء فقط إلى أشكال غير محسوسة.
تكمن المشكلة في أن النظرية الذرية، المعرَّفة على هذا النحو من خلال
إطار علم المعايير الصارم والمتزمت نسبيًا، تصادف صعوبات كثيرة كانت
معروفة منذ العصور القديمة. وإحدى الصعوبات الرئيسية التي كان غاليليو
غاليليه[12]
قد أشار لها، هي أن بعض الطروحات التي تعرِّف الذرِّية، مثل فصل الذرات
بواسطة الفراغ، لا تسهِّل تفسير التماسك الداخلي للأجسام الصلبة. ولكن
إذا خترنا أن نجيب على هذه الصعوبات بالتخلي عن بعض المعايير أو اعتماد
تحديدات وتعاريف جديدة، فإن المسألة تُطرح عندها في معرفة إذا لم نكن
قد غادرنا بشكل كامل وببساطة إطار النظرية الذرية. إن تحديد مؤلِّف أو
جسم عقيدة ما على أنه ذري أو غير ذري يصبح بدءًا من هنا لعبة دقيقة
جدًا. فلا بد من أجل التوصل إلى ذلك من البدء بتحديد عتبات التغيرات
المتسامح معها بالنسبة للمعتقد التقليدي. وما أن يتم تحديد هذه العتبات
فإنه يبقى علينا البحث بشكل معمق من أجل إثبات وجود إما تقاربات
متضَمَّنَة تعوِّض معايير واضحة وصريحة موجِّهة ضدَّ النظرية الذرية،
وإما على العكس تباعدات جذرية مخفية بواسطة تنازلات سطحية لصالح
المفردات الذرية.
كان ديكارت قد صوَّر بشكل مميز، كما بينت صوفي روو[13]
Sophie Roux،
حالة تقارب ضمني يعوِّض الانتقادات الصريحة للنظرية الذرية. وقد نظر
الكثيرون من معاصري ديكارت ومن جاء بعده، ومن بينهم فروادمون
Froidmond
وهنري مور
Henry
More
وروبرت بويل
Robert
Boyle،
إلى نظريته حول المادة على أنها نظرية ذرية. مع ذلك فقد دافع ديكارت
بشدة ضد هذه النظرة وكان محقًا في ذلك: فهو لم يأخذ من بين المعايير
الأربعة التي تحدد وتعرف الذرية سوى اثنين، وهما معياران خاليان من أي
محتوى أنطولوجي. فقد وضع ديكارت فعلًا برنامجًا اختزاليًا، طالما أنه
كان يهدف إلى إبراز صفات ثانوية وأخذها بعين الاعتبار بما هي محسوسة من
خلال صفات أولية مكانية - حركية. وقد وضع على التوازي ودفع النموذج
الميكانيكي حتى نتائجه القصوى. لكنه لم يقبل بلاإنقسامية بعض أجزاء
المادة ولا بمفهوم امتداد الفراغ المطلق. ويرتكز رفضه لعدم الإنقسام
على العلاقة الصارمة التي ينشئها بين مفهوم التمييز وواقعية التمييز،
بين القسمة المدرَكة هندسيًا والإمكانية الفيزيائية لقسمة فعلية (على
الأقل من قبل الإله)[14].
إن رفضه لمفهوم فضاء فارغ حقيقة ناجم من جهته عن التطابق الذي يقيمه
بين الجسيمية والامتداد. ولا تطرح تجارب توريشيلي
Torricelli
أو باسكال أية إشكاليات عليه بهذا الصدد، طالما أنه يفسرها ليس دون شيء
من الحق بحيث يقدم فقط البرهان على فراغ حساس بدلًا من أن يكون بالأحرى
فراغًا أنطولوجيًا. إن هذا الموقف المبدئي لصالح استمرارية وامتلاء
الامتداد لا يستبعد مع ذلك إعدادات عملية أصبح لا غنى عنها عبر الأخذ
بعين الاعتبار للظاهرات الأكثر شيوعًا التي تتعلق بالأجسام المادية.
والإعدادات الرئيسية، التي اتفق عليها في القسمين 3 و4 من "مبادئ
الفلسفة"، تتعلق بتماسك الأجسام وتلاحمها كما وبفرديتها وهويتها.
يعتبر ديكارت أنه يوجد بينها أنواع مختلفة من الأجسام الصغيرة ذات
الاستقرارية شبه الكاملة، والتي يُعرَّف بعضها بواسطة أشكالها وأبعادها
وموضتعها في وسط من الجسيمات الأكثر عرضة للتحلل. وهكذا حيث تكون
اللاإنقسامية المطلقة للذرات قد استُبدلت بصلابة نسبية للأجسام
الصغيرة، والوظيفة الرئيسية للفصل بين الذرات بواسطة الفراغ (أي
الفردانية وإعادة مطابقة الهوية بواسطة الشكل، الموضعة والمسار) تكون
قد مُلئت بمكافئات تقريبية، فإن لا شيء يمنع الحديث عن "مذهب ذري
واقعي" في "الفيزياء الفعالة" لدى ديكارت[15].
وفي إطار مصطلحات التحليل السابق، نستطيع القول إن ديكارت يستبعد فعلًا
الفرضيتين (1) و(2) المشكلتين للمذهب الذري في نسختهما الأنطولوجية
الأكثر صرامة، لكنه يفعِّل في فيزيائه الجزء الأساسي من الوظائف
المستخلصة من نتائج هاتين الفرضيتين (1 أ) و(1 ه) و(2 ب).
5- 3 ما هي التوقعات المنتظرة من الإطار الذري وهل تسمح الفيزياء
المعاصرة بتحققها؟
وعلى العكس، يمكننا أن نتساءل إذا لم يكن استخدام المفردات الذرية في
الفيزياء المعاصرة يخفي خرقًا لحقيقة بعض اللحظات المشكِّلة الأساسية
لشبكة القراءة الذرية. ولإدراك ذلك، سيكون من اللازم إجراء تقييم دقيق
بدرجة كافية يميز بين التوافقات والتباعدات بين هذه الشبكة والحالة
الحالية للفيزياء. إن أحد رهانات هذا التحليل سيكون اعتماد منظومة
تقييم "مترفقة" بدرجة كافية لكي لا أُعلن من فوري بما أنني غير ذري
منظومة أجسام الفيزياء الكمومية (الأمر الذي سيكون سهلًا إذا تمسكنا
بشدة بالتحديدات الجسيمية القديمة أو الكلاسيكية للنظرية الذرية، أو
إذا رفضنا أن نفصل عنها الآلية المتشددة)، بل ومتطلبًا بدرجة كافية لكي
لا نعين للذرية حدودًا ضبابية جدًا ومشوهة جدًا بحيث تكون قابلة لأن
تشمل تقريبًا أي تحديد كان. سيقدم لنا تفكيكنا للمعايير الأربعة
للتعريف إلى عناصر مفاهيمية بنيوية (بشكل خاص تلك التي تتعلق بالمركّبة
الأنطولوجية للنظرية الذرية) مادة الخيارات التي لا غنى عنها.
على المستوى التجريبي، هناك أربعة صفوف كبيرة من الظاهرات تبدو بشكل
مميز معتمدة بواسطة شبكة القراءة الذرية. وهي وفق ترتيب الخصوصية
المتزايدة: انقطاعات كمية (1b)،
ثوابت رقمية صحيحة كونية (1a،
1b،
2b)،
بنى فضائية مجهرية (2a)،
وإمكانية تحديد معايير محلية للتفرُّد والتمييز ابتداء من هذه البنى (2b).
أ)
الانقطاعات الكمِّية.
إن الانقطاع الأول، الذي أعطى ضربة البداية للنظرية الذرية المعاصرة،
هو انقطاع من رتبة كيميائية. يتعلق الأمر هنا بـ "قانون التناسبات
المحدَّدة" الذي يعلن أن "النسبة التي وفقها يندمج عنصران لا يمكن أن
تتغير بشكل مستمر"[16].
يفترض هذا القانون بشكل مسبق تعريفًا للعناصر كحدّ وكثابت لكافة
إجراءات التفكيك الكيميائي. وهو يرتكز بالتالي على مفهوم عدم قابلية
القسمة الذي يستدعي بالتأكيد وبشدة الاشتقاق اللغوي للفظة ذرّة،
إنما الذي، على عكس ما تقوله الأنطولوجية الذرية، يُعدّ بالكامل
مثل قانون نسبي متعلق بطبقة خاصة من وسائل التفكيك.
وقد تم لاحقًا تحديد عدد كبير من الانقطاعات الكمية، كما على سبيل
المثال انقطاع الشحنة الكهربائية في التجارب التي من نمط تجربة
ميليكان، وانقطاع صيرورات إصدار وامتصاص الاشعاع الكهرمغنطيسي عند
بلانك الذي أعاد أينشتين قراءته، أو أيضًا انقطاع الإصدار الإشعاعي.
ب)
كونية الثوابت الرقمية الصحيحة.
اعتبر جان بران
Jean
Perrin
في كتابه "الذرات" أن الحجة الأقوى التي كان يملكها لصالح وجود
ذرات كانت التوافق شبه "المعجز"[17]
لتحديدات عدد أفوكادرو من خلال ظاهرات عميقة متغايرة الخواص إلى هذا
الحد مثل لزوجة الغازات، أوالحركة البراونية، أواللمعان الحرج، أو طيف
الجسم الأسود أو النشاط الإشعاعي. وفي نهاية تعداد مثل هذه الظاهرات
كان يعطي لنفسه الحق بالاستنتاج أن "النظرية الذرية قد انتصرت"[18].
ج). اكتشاف بنى مكانية أو حركية مجهرية.
اكتشفت أولى البنى المكانية المجهرية من خلال التجارب التي قام بها لوو
Laue
وبراغ
Bragg
على حيود الأشعة السينية في البلورات، ومن خلال تجربة رذرفورد
Rutherford
في انتشار أشعة ألفا
α
في طبقة رقيقة من المعدن. ظهر بعد ذلك المجهر ذو الإصدار الحقلي
والمجهر ذو الأثر النفقي، وهما يسمحان وفق نمط التعبير السائد بـ "رؤية
الذرات".
أما البنى الحركية المجهرية فقد تم التعرّف عليها في البداية وتحديدها
بواسطة غرفة ويلسن
Wilson،
ثم بواسطة الغرف ذات الفقاعات أو الغرف ذات خيوط شارباك
Charpak.
د) القدرة على التفرُّد.
تكون بنى فضائية مجهرية أحيانًا قابلة للفصل بدرجة كافية عن بعضها
بعضًا بحيث تكون مُفَرَّدة ومتمايزة. ويحصل أيضًا أن تكون قابلة لإعادة
التعرّف عليها وتحديدها عبر مرور الزمن عن طريق البنى الحركية. يسمح
ذلك بشكل خاص بمعالجة كميات معينة محفوظة (الكتلة في حالة السكون،
الشحنة، وحدة اللف الذاتي، السحر، اللون، إلخ.) كما لو كانت بالقدر
نفسه خصائص مرتبطة بكل من البنى المكانية المحدَّدة والمعرَّفة.
غير أن هذا النوع من القدرة على التفرّد، كما سبق وأشرنا إلى ذلك
عمومًا، هي قدرة جزئية فقط؛ فمن المهم التأكيد منذ الآن على
واقع أنها لا تظهر إلا في الأطر التجريبية حيث تكون آثار مكانية
- حركية مفصَّلة بشكل كاف، ومعزولة عن بعضها بعضًا، لكي يمكن أن تستخدم
كمعيار للمطابقة والتحديد.
على المستوى النظري، من الممكن موافقة وربط سمة صورية مع كل من الفئات
الأربع السابقة للظاهرات.
وهكذا، يتوافق التكميم مع الانقطاعات الكمومية، المشتق هو نفسه
من علاقات الاستبدال بين المرصودات. يتعلق الأمر هنا بأحد جوانب
الفيزياء الجديدة الأكثر صدمًا لنا، وبالجانب الذي أعطاه اسمه:
الفيزياء الكمومية.
فمع القيم العددية الكاملة تتوافق إما الأعداد ذات درجة الحرية في
الميكانيك الكمومي المعياري، وإما القيم الخاصة الكاملة للمرصود "رقم"
في التكميم الثاني وفي النظرية الكمومية للحقول.
تتوافق مع البنى المكانية إحداثيات منابع الحقل، وهي تقرَّب في بعض
الدراسات من صيرورات التفاعل والانتشار التي سوف نعود للتحدث عنها
لاحقًا فيما يخص مسألة "وجود الكواركات".
ويتوافق مع البنى الحركية نوعان من العمليات النظرية. الأول هو تقييم
لدرجة التقريب الضرورية من أجل ربط صورية المتجهات الشعاعية
للحالة والمرصودات في الفيزياء الكمومية مع مفهوم المسار الوحيد لجسم
ما. وتزودنا بهذا التقييم علاقات "الريبة" لهايزنبرغ. أما النوع الثاني
من العملية النظرية فيشتمل على العكس على افتراض تضاعف في الحالة
العامة لمسارات افتراضية. ويبلغ هذا النوع الثاني مداه في تقنية
تكاملات الطريق التي تصورها لنا مخططات فاينمان.
فالكميات المحفوظة في المحصلة لها ترجمتها النظرية على شكل تناظرات
تشكل لها ثوابتها، بحيث أنه أمكن الكتابة أنه في النظريات الكمومية
المعاصرة ليست الجسيمات الأولية، التي يُعرَّف كل صفٍّ منها بقائمة من
الكميات المحفوظة، سوى تمثيلات لا يمكن اختزالها من مجموعة التناظر
لبوانكاريه[19].
تظهر الصعوبة الحقيقية عندما يتعلق الأمر بموافقة الصورية النظرية ليس
فقط مع بعض بل مع كافة نتائج التمثيلات الذرية التي تستمر في
إخصاب لغة المجربين عندما يفسرون البنى المكانية - الحركية المكتشفة في
غرف الفقاعات في مخابرهم أو في مجاهرهم الأكثر دقة وتطورًا. إن النظرية
الكمومية المعيارية، التي تقدم إطارًا تنبؤيًا موحَّدًا لمجمل
الظاهرات المجهرية، تدّعي في الواقع ضد إمكانية تفرد وتمييز وإعادة
تعريف كل جسيم في كافة الظروف؛ فهي لا تشتمل دائمًا على ضامن
واضح على فكرة موضَعَة للكميات المحفوظة في محل جسيم محدَّد؛ وأخيرًا،
إذا وضعنا جانبًا بشكل وقتي النظريات ذات المتغيرات الخفية، فإن معظم
التحديدات التي تعالجها لا يمكن اعتبارها كـ "خصائص" لأجسام مجهرية، بل
فقط كـ "مرصودات" متعلقة بإطار تجريبي.
نبدأ هكذا بإدراك الحالة الغامضة، المكونة من الحضور الكلي والهشاشة،
التي هي حالة النظرية الذرية في الفيزياء المعاصرة. إن عددًا كبيرًا من
الشروط الضرورية لنمط التعبير الذري يتم تحقيقها بواسطة مجموعة
الظاهرات التي على النظريات الكمومية أن تأخذها بعين الاعتبار. لكن هذه
الشروط، بمجملها، هي شروط بعيدة عن أن تكون كافية. وهي لم تبد
كذلك للكثير من الباحثين إلا لسببين يصوران حدود تمثيلاتها. السبب
الأول هو أنها، بتركيز انتباهها حصرًا على قطاع التجريب (الذي من
المحتمل أن يكون واسعًا بقدر كاف، لكنه ليس شاملًا)، فإنها لا تولي
انتباهًا كافيًا لواقع أن النماذج المساعدة على الكشف التي كانت تعمل
فيها كانت تطبق بصعوبة بالغة على قطاعات أخرى، وكانت تبدو بشكل خاص غير
قابلة للضبط والتوافق مع نتائج الحساب التأليفي لمجمل المجالات
التجريبية المتاحة. إن الحجة المعيارية لجان بران
Jean
Perrin
أو هانس رايخنباخ
Hans
Reichenbach
في صالح "وجود الذرات"، وهي القابلية التوحيدية للمخطط الذري بالنسبة
لعدد كبير من الظاهرات، لا تصح إلا حتى نقطة معينة. أما السبب الثاني
فهو أنه مع مراعاة خطتهما الاستراتيجية في مقاومة اشتقاق متتالي اتجاه
التمثيلات والمعايير الإبستمولوجية الكلاسيكية، فقد كان من الصعب على
معظم الباحثين القبول بأن الشروط التي سبق تحققها على المستوى التجريبي
لم تكن مقترنة بشكل لا يمكن تفاديه مع السمات الأخرى التي تحدد النموذج
الذري. فكان يبدو لهم على سبيل المثال أنه من المصطنع افتراض أن تقطعات
أو لاإستمراريات في الظاهرات لا تترجِم بشكل إجباري انفصالية
وتقطع الكينونات التي نقرنها بها[20].
لقد كان بالكاد من الممكن لهم أن يتوقعوا بأن التقارب التجريبي
لتقييمات الثوابت الرقمية الصحيحة لا يترجم قدرة مبدئية للقيام
بـ تعداد للكينونات المعنية، بالمعنى الدقيق لعملية تكرارية
تشتمل على تفرُّد كينونة بعد الأخرى، ووضعها بمعزل عن الكينونات الأخرى
وعلى إضافة وحدة في كل مرة على مجموع سابق[21].
يبدو للباحثين هكذا من غير المحتمل كثيرًا ألا تكون البنى المكانية
الحبيبية المكتشفة إثر بعض التجارب تعكس وجود شيء ما في هذه المواضع
يمكننا تشبيهه بشكل أساسي مع أجسام مادية، أو أن آثارًا حركية يمكن أن
تُفَسَّر بمصطلحات شيء آخر غير مسارات أشباه الجسيمات المعاد تعريفها.
وأخيرًا، فإن الفكرة لم تكن تخطر في بالهم أبدًا، بأن ثمة خصائص مكتشفة
منهجيًا في جوار بنية مكانية حركية يجب أن تُفصَل عنها خلال الفترات
التي تفصل ظاهرتي اكتشاف. وحتى لو أنهم لاحظوا هذا التشوه أو ذاك في
شبكة التوقعات الذرية، فإنهم كانوا يتركون فيها غيره في الظل ويعتبرون
أنه كان من غير المنطقي تجاوز قدرتها التفسيرية التي لا تزال كبيرة.
والحال أن النظريات الكمومية الأكثر تقدمًا إنما تقود مع ذلك إلى
انهيار واسع النطاق للقطع الأفضل ترتيبًا في لعبة ترتيب قطع اللغز. وما
تتركه خلفها أشبه بالفسيفساء التي تحتوي على فجوات بحيث لا تكفي
العناصر الموجودة فيها لرسم لوحة التمثيل الذري إلا بالنسبة لمشاهد ذي
نظرة مشروطة بالتقليد، والذي إما لا ينتبه إلا للخطوط العريضة أو تسحره
بعض التفاصيل. إن المسرد السريع السابق لما يستجيب، في النظرية،
للقاعدة التجريبية في النظرية الذرية كان يوحي بذلك مسبقًا. لأننا كنا
نلاحظ بسرعة ونحن نضعه أن التوافقات المعرَّفة هي إما غير كاملة أو
تقريبية. ولكن، بعد كل شيء، فإن هذا الاستنتاج يمكن أن يترجم ببساطة
نقص النظريات الحالية أو "عدم كمالها" بالمعنى الذي قصده أينشتين. سوف
يتطلب الأمر بالتالي وضع هذه المؤشرات الأولية على محك اختبار مناقشة
أكثر تشديدًا لمصداقية النظريات ذات المتغيرات الخفية التي تهدف إلى
"إكمال" النظرية الكمومية المعيارية.
5. 4 الكواركات ومسألة الـ "رصد المباشر" للجسيمات
من المفيد سلفًا أن نُخضِع لتحليل نقدي الحجج التي تتحدث أكثر من غيرها
لصالح النظرية الذرية، أي الكشف عن بنى مكانية - حركية مجهرية. فعندما
نتحرر في الواقع من فكرة السمة الملزِمة لهذه الحجج، عندها فقط يمكننا
أن نواجه دون أفكار مسبقة تناوبات شبكة القراءة الذرية. وفي إطار هذا
الهدف، فإنني سوف أرتكز على بعض الأعمال الحديثة في فلسفة الفيزياء
التي تعالج مفهوم "الرصد المباشر" لجسم مجهري.
يعتبر الرصد المباشر لنمط معين من الأجسام على أنه الحصيلة الطبيعية
لبرنامج بحث أطلقته فرضية وجود هذا الجسم. يلاحظ بيير جيل دو جين
P.-G. de Gennes
في مقدمته لكتاب بيران
J.
Perrin
"الذرات"، أنه على الرغم من أن التحديدات المتلاقية لعدد أفوكادرو يمكن
أن تؤخذ كبرهان كبير لصالح التركيب الذري للمادة، فإن البرهان الحاسم
يشتمل على تقديم صورة، مثل صور حيود الأشعة السينية في
البلورات. ويكتب دو جين قائلاً: "تظهر [تجربة الحيود هذه] من خلال
جانبها البصري كأول شيء يجب قوله عندما نريد [...] برهان وجود الذرات
لطلاب المدارس[23]".
وبطريقة مماثلة، فإن تجارب انتشار الإشعاع ألفا
α
التي قام بها رذرفورد تقدم لنا أولى الصور التي يمكننا إظهارها عندما
نريد "برهان وجود" نواة ذرية. وفي الواقع، فإن الزوايا الكبيرة التي
تنتشر وفقها أشعة
α
يبدو أنها لا يمكن أن تفسَّر إلا بطريقة واحدة: وذلك عبر وجود توزعات
للشحنات الموجبة شبه النقطية وذات الكتلة في المادة. ولكن عند هذا
المستوى، يجب البدء بأخذ بعض الاحتياطات. علينا ألا ننسى، أنه ضمن
تجارب الانتشار في مجال مجهري، فإن السمة النقطية أو غير النقطية للبنى
المنتشرة لا تُكتَشَف بقدر ما لا تُحدَّد من خلال المقارنة بين
المقطع الفعال التفاضلي المقاس وصيغة مشتقة من صيغة رذرفورد، والتي
تنتج من جهتها من تحليل كلاسيكي أو شبه كلاسيكي لصيرورة التفاعل. إذا
كان عامل الشكل الداخل في الصيغة التي تصف صيرورة الانتشار هو عامل
رذرفورد، فإن البنى المشحونة المنتشرة عندها تعتبر كبنى نقطية؛ وفي
الحالة المعاكسة، فإننا نستنتج انطلاقًا من معامل شكل مختلف توزعًا
للشحنات هو نفسه مختلف. إن نسب بنى مكانية ينشأ بالإجمال عن "[...]
التفسير الدلالي للبنى الديناميكية غير المعروفة ضمن المصطلحات
المكانية الكلاسيكية[24]".
هنا يبدأ خطر الوقوع في حلقة مفرغة: ألا وهو خطر طلب أحد البراهين
الأساسية على وجود بنية مكانية من تجارب يتم تفسيرها بواسطة حساب يفترض
بشكل مسبق مبدأ هذه البنية. بطبيعة الحال، لم يكن من المتصوَّر إهمالها
بالإجمال؛ ففي الحالة حيث كانت النظرية الكمومية لا تزال في وضع
التشكيل، لم يكن من الممكن لإخضاع التمثيلات التقليدية للبرهان أن يتم
إلا ضمن إطار نظرية لا يزال مشروطًا بها. ولكن ما أن كانت النظرية
الجديدة تصبح ناجزة حتى يصبح لا غنى عن تقدير ما هي التشوهات المفروضة
بسبب استخدام المفاهيم المرتبطة بالنظرية القديمة في تفسير النتائج
التجريبية؛ فلا يجب التردد في المباشرة بعدئذ بجزء كبير من عملية
العودة من البداية التي كنا قد أرجأناها رغم شعورنا بالحاجة إليها[25].
فهل هناك تشوهات بالتالي؟ وإذا كان هذا هو الحال، فهل التشوهات كبيرة
بحيث يكون علينا أن نغير تمامًا نظرية القياس في المجال المجهري، ومعها
تمثيلات البنى المكانية التي تذكِّر بشدَّة بتكوين ذري للمادة؟ لا بد
من تعديل الإجابة على هذه الأسئلة كما يبين ذلك بالتفصيل فالكنبرغ
B. Falkenberg.
إن المفاهيم الكلاسيكية للشحنات شبه النقطية في حالة تفاعل "[...] لا
تنهار مباشرة في المجال الكمومي، لكنها تنهار مرحلة بعد مرحلة[26]".
تقدم هذه المفاهيم في مرحلة أولى تمثيلًا تقريبيًا بالتأكيد بل
ومُرضيًا جدًا للصيرورة الديناميكية التي تؤدي إلى توزعات الصدمات
المستنتج خلال تجربة الانتشار. وحتى عندما لا يعود بالإمكان تطبيقها
دون موانع وأضرار على الإشعاع المستخدم للسبر، فإنها تظل تعمل تقريبًا
فيما يتعلق بالبنى المسبورة. إن صيغة الانتشار لبورن
Born،
التي يتم الحصول عليها بوصف الإشعاع الساقط بواسطة تابع موجة ووصف
أهداف الإشعاع بواسطة أجسام مموضَعَة هي مصادر للحقل، تصبح صيغة فاعلة.
يعمل بعد ذلك مفهوم الأجسام - الأهداف المموضعة مكانيًا بشكل جيد كموضع
لتلاقي التفسيرات للكثير من الظاهرات الأخرى غير الانتشار، كما على
سبيل المثال تقدير طاقة كولومب المخزنة في النوى أو تحليل التفاعلات
النووية. إن هذا التوافق هو الذي يسمح بأن نضفي وقتيًا أو مرحليًا على
مفاهيم مثل مفهوم توزُّع شحنة و"إشعاع" جسيم ما "معنى موضوعيًا[27]".
إن مثل هذه الحالة من التسويات تصحُّ طالما كانت كتلة الجسيمات
المستخدمة في السبر أقل بكثير من كتلة البنى المسبورة، وأيضًا طالما
كانت سرعتها النسبية ضعيفة بدرجة كافية بالنسبة إلى سرعة الضوء. ولكن
ابتداء من اللحظة التي لا يعود فيها هذان الشرطان مطبقان، فإنه يصبح من
الضروري تفعيل المنطق الداخلي في الميكانيك الكمومي بكافة نتائجه،
بدلًا بالأحرى من التمسك بحلول وسطية (إذا لم نقل التمسك بحلول هجينة).
والحال أن هذا المنطق الداخلي هو منطق التنبؤ بالنتائج التجريبية
ابتداء من شعاع متجه للحالة العامة، مرتبط بتكوين إعداد في
حالته العامة، بدلًا من ارتباطه بأجزائه الافتراضية كالتي تقود إلى
تصورها تمثيلات ظلت شبه كلاسيكية. في التعميم النسبي للمعالجة النظرية
للانتشار، يصبح النموذج "[...] متناظرًا بالكامل في وصف الجسيم السابر
والمركز الناشر: فهما الإثنان يمثلان بواسطة توابع موجة ديراك[28]"
التي تصبح متمازجة (متشابكة
entangled)
خلال صيرورة التفاعل. وابتداء من هنا، يجب القبول أنه في المجال حيث
يكون شرطا الفارق الكبير في الكتلة والسرعة النسبية الضعيفة غير
متحققين، فإن تفسير مؤثر شكل مستنتج من صيغة من نمط صيغة رذرفورد
بمصطلحات البنية المكانية لهدف الإشعاع يميل ليصبح تفسيرًا تعسفيًا
واعتباطيًا. وهو لا يُبَرّر أيضًا بصرامة إلا في ظلّ حجّة استمرارية
لدرجات التقريب المتتالية. ففقط لأنه توجد سلسلة من النماذج التقريبية
التي تغطي المسافة بين التمثيلات الذرية الكلاسيكية والمجال الذي تصبح
فيه غير قابلة للتطبيق بالكامل، نستمر في فهم التجارب المتعلقة بهذا
المجال الأخير كفهم ناجم عن البنى المكانية شبه النقطية. وباختصار،
هناك نموذج رذرفورد وهو نموذج كلاسيكي بالكامل، ثم هناك نموذج بورن وهو
نموذج شبه كمومي وهو يصح بالنسبة لهدف ثقيل وسرعة نسبية ضعيفة، ثم هناك
النموذج شبه الكمومي والنسبوي لموت[29]
Mott
وهو يصح بالنسبة لهدف ثقيل وسرعة نسبية عالية، وأخيرًا هناك نماذج
متعددة كمومية ونسبوية بالكامل. بعد أن أدركنا ذلك، يخلص فالكنبرغ[30]
إلى أنه يجب القبول بأنه عندما يؤكد الفيزيائيون أنهم رصدوا مباشرة
بنية أجسام على المستوى ما تحت الذري بواسطة تجارب انتشار، فإنهم
يستخدمون نمط تعبير يصبح نمط تعبير مجازي بالكامل في المجال الخاص
للنظرية الكمومية للحقول. يشتمل هذا الخطاب في الواقع على القيام
بعملية التحويل لشبكة الصور المكانية الذرية من محيط جسم حيث هو فاعل
إلى محيط جسم لا يعود فاعلًا فيه أبدًا، من خلال لعبة سلسلة من
التقريبات ذات الجودة المتناقصة. إن التمثيلات الذرية تظهر هنا بوضوح
السبب التاريخي لاستمرارها: ألا وهو تجذرها البعيد، عبر تعدي سلسلة من
القيم المقربة المتتالية، في نموذج
paradigme
توقعي سابق منقوش ومدرج في استمرارية النموذج البدئي الذي صاغه كل من
لوسيبوس
Leucippe
وديمقريطس
Démocrite.
عادت مسألة إمكانية "رصد مباشر" للجسيمات الأولية لتطرح حديثًا بطريقة
أكثر حدة أيضًا فيما يخص الكواركات، وذلك بسبب ما يوافق أن نسميه
احتوائيتها. إن فرضية الاحتواء، المرتبطة بنظرية الكروموديناميك
الكمومية، تشتمل على نسب كمون تفاعل للكواركات يزداد مع المسافة فيما
بينها، ويستبعد بالتالي المقدرة التجريبية على فصلها بعضها عن بعض. من
الممكن بالتأكيد قياس الكميات التي يمكن أن تعتبَر كخاصيات لها، ألا
وهي "الشحنات" المختلفة بالمعنى المعمَّم للكلمة. يتم ذلك بوضع محصلة
للكميات المحفوظة، ضمن صيرورات معقدة تتضمن بنى حركية مكتشفة في
تجهيزات من نمط "الغرف ذات الفقاعات"، ومنسوبة إلى جسيمات مركبة من
كواركين أو ثلاثة كواركات. غير أن أيًا من البنى الحركية المكتشفة لا
يمكن أن يقرن بكوارك معزول.
السؤال الذي طرح نفسه اعتبارًا من هذه النقطة هو معرفة إذا كان من
المشروع حقًا إقامة اختلاف قاطع بين الرصد المباشر لكينونة وقياس
الكميات المميزة التالي لاستدلال كينونة قابلة لحمل هذه
الكميات. فإذا لم يكن ثمة أي تمييز من هذا النوع يمكن القيام به، عندها
فإنه لا يوجد أي سبب لعدم تأكيدنا أن الكواركات قد رصدت فعلًا، حتى وإن
كان ذلك وفقًا للنمط الاستدلالي أو الاستنتاجي، وأنها ليست بالنتيجة لا
أقل ولا أكثر افتراضية من كينونات أخرى تنتمي للصف الشاسع من الجسيمات
الأولية. وعلى العكس، إذا أكدنا الأساس القوي لمثل هذا التمييز، عندها
يجب أن نقترح معيارًا واضحًا وأن نتفحص، بين المؤشرات العديدة
الاستنتاجية للوهلة الأولى المقرونة بالكواركات، إذا لم يكن ثمة بعضها
يستجيب لهذا المعيار ويقع على الجانب "الرصدي" من خط الحد الفاصل مع
غير الرصدي.
وفقًا لفان فراسين[31]،
ليس ثمة أي تمييز بين الرصد والاستدلال لا يخلو من التعسف. لأنه من
جهة، كل رصد يكون مشوهًا بواسطة إطار الفهم المسبق النظري الذي يندرج
فيه، ومن جهة أخرى فإن كل استدلال باتجاه موضوع ما يمكن أن يُعتَبَر
كرصد لهذا الموضوع شرط أن يصبح مألوفًا بدرجة كافية بحيث يصبح مخفيًا.
وضمن هذا المنظور، فإنه يكفي لكي نعتبر أنه تم رصد "الكواركات" أن نترك
السمة الإشكالية للإستدلالات التي تقود إلى قياس مجموعة من خصائص
الكينونة الموافقة تتخفف وتنحل، وذلك من خلال الاعتياد ليس إلا. كذلك
يضاف إلى هذا المسار، المعيد لكميات محفوظة للكينونة، الكشف من خلال
تجارب الانتشار عن بنية مكانية داخلية للنيوكلينوات؛ بنية مكونة من
عناصر، كانت تسمى في البداية "البارتونات"، والتي نعتبر أنها شبه نقطية
على معيار عوامل الشكل المشتقة من صيغ من نمط صيغة رذرفورد. مذاك، لا
يعود ثمة لتوافق السلسلتين الاستنتاجيتين، حيث تتعلق الأولى بالخصائص
والثانية بالبنية المكانية، أي سبب في عدم مماثلته بـ "رصد" للكواركات؛
أو على الأقل، لا يعود ثمة أي سبب على الإطلاق لهذا التوافق في ألا
يكون كذلك إلا في حالة الجسيمات الأولية من الجيل السابق.
وعلى العكس، وفق فلاسفة آخرين في العلوم، مثل دودلي شابر[32]
Dudley Shapere
وبريجيت فالكنبرغ
Brigitte Falkenburg،
توجد معايير واضحة للفصل بين إجراءات الاستدلال التي يمكن أن تعدّ كـ
"أرصاد لكينونة" وتلك التي لا يمكن أن تعدَّ كذلك. تتعلق هذه المعايير
بشروط التمييز (التفرُّد) خلال إجراءات الكشف. فعندما
نقبل أنه على المستوى العملياتي يكون جسيم ما مشبهًا بمجموعة من
الخصائص المكتشفة معًا، في المكان نفسه المعتبر كمعيار للتمييز،
عندها فإن مسألة معرفة إذا كنا قد رصدنا جسيمًا أو لا تُختزَل إلى
مسألة معرفة إذا كان بإمكاننا أن نعيد توجيه أو أخذ كل من الكميات
المقاسة إلى المنطقة المكانية نفسها. إن ما يهمُّ هنا هو أن تكون القيم
المقاسة قد تمَّ الحصول عليها عن طريق شبكة من البنى محدَّدة تمامًا،
بحيث يمكن لهذا السبب أن تُفَسَّر كسلاسل سببية تنطلق من هذه المنطقة.
إن الأهمية الرئيسية لتطبيق هذا المعيار هي إدخال تمييزات دقيقة وغير
تافهة في قلب مجموعة التجريبات المنجزة في فيزياء الجسيمات. ففي
البداية يقود هذا التطبيق إلى الاعتراف، وفقًا للحكمة المشتركة بين
الفيزيائيين، بأن معظم التجارب المنجزة حتى الآن لا يمكن أن تعدّ كـ
"أرصاد" للكواركات. وفي هذه التجارب، "فإن التاريخ السببي الذي يمكن
روايته يتعلق فقط بالكمية الكلية للكواركات في النيوكليون، أو
بالأثر الكلي لعدة بنى نقطية لا تفضي إلى وقائع منفصلة[33]".
بالمقابل، هناك بعض التجارب، مثل فناء الإلكترون - البوزيترون ذي
الطاقة العالية، التي يكون من الممكن فيها انطلاقًا من الانقذافات
الهادرونية الناتجة إعادة تتبع ما يعود إلى كلٍ من عناصر
الكوارك والكوارك المضاد من زوج بدئي غير مستقر يسمى "السحر أو
شارمونيوم
charmonium".
هنا، "يربط التاريخ بطريقة واضحة لا لبس فيها كلًا من الانقذافين
بكوارك فردي [...] كان أحد مكوّنيّ منظومة مركبة نتجت في منطقة معينة
من منطقة تفاعل حزمتين محددتين، في لحظة معينة، ضمن جهاز قياس معطى[34]".
بعبارة أخرى، فإن معيار قابلية التتبع الفردية للخصائص المقاسَة يلبي
المطلوب في هذه الحالة، ويمكننا التأكيد أننا استطعنا رصد
كواركات على الرغم من حصرها.
يجب مع ذلك تجنب أن نترك لهذا النجاح المميَّز أن يبهرنا. علينا ألا
ننسى أن إمكانية تفرُّد وتمييز الأجسام على المستوى الذري في الفيزياء
الكمومية بالمعنى الواسع للكلمة، محدود ببعض الحالات التجريبية الخاصة
جدًا، وأنها لا تنجح أبدًا منذ اللحظة التي لا تعود فيها هذه الشروط
متحققة. فاستحالة التمييز في الحالة العامة تتدخل حتى كعنصر مفتاحي
للقدرة التنبؤية للنظريات الكمومية. وبالمثل، علينا ملاحظة أن موضَعَة
الشحنات المقاسة في نقطة ونسْبها المتلازم لجسيم يتعلقان بطريقة حاسمة
بنمط خاص من التجارب التي تُظهر بنى حركية مقاربة للمسارات. وخارج هذه
الحالات، فإننا نبين أن الشحنات لا يمكن أن توصف كما لو كانت
مموضَعَة في نقطة. فعلى سبيل المثال لا يمكن لبعض تجارب تداخل
النوترونات في حقل ثقالة أن تُفهم إلا بقبول أن كتلة كل نوترون تكون
موزعة في كامل حجم جهاز التداخل خلال مساره بين المصدر والكاشف[35]،
وليس في النقطة التي يُعتَقد أن يكون موجودًا فيها في كل لحظة. إن
الملاحظة
التي وفقها لا يمكن القول إن الكواركات قد "رُصِدَت" إلا "[...]
وفق الشروط الخاصة المحقَّقة في أنواع معينة من التجارب الفيزيائية ذات
الطاقات العالية[36]"
يجب، ضمن هذا الإطار، أن تؤخذ على محمل الجد تمامًا. لأنه خارج هذه
الشروط الخاصة، على سبيل المثال بين رصدين، فإننا ليس فقط لا نستطيع
بالتأكيد إثبات الحزمة الممَوضَعة والمميّزّة من الخصائص التي يتكون
منها كوارك ما من وجهة نظر المجرِّب، بل ولدينا بالإضافة إلى ذلك كافة
الأسباب لمعالجة هذه الخصائص في النظرية على أنها غير ممَوضَعة
وهذه الجسيمات على أنها غير مميّزَة. من جهة أخرى، علينا ألا
ننسى أنه باستثناء حالة بعض المرصودات المسماة "فائقة الانتقائية"، أو
خارج إطار النظريات ذات المتغيرات الخفية، فإن مفهوم "الخاصية" نفسه لا
يكون قابلًا للتطبيق عمومًا عندما نطلب من الميكانيك الكمومي وضع رابط
تنبؤي (احتمالي) بين رصدين. ضمن هذه الشروط، فإن تأكيد فالكنبرغ، الذي
وفقه فإن مسألة مصير حزم الخصائص التي تحدد كل كوارك فردي بين رصدين
اثنين لا تُطرح إلى حد كبير أكثر من السؤال، الذي يمكن أن يُطرح في
الميكانيك الكلاسيكي، الخاص بمعرفة إذا "كان القمر يوجد حتى عندما لا
نرصده"، هو التأكيد الأقل شكًا فيه. وكما سبق لرايخنباخ
H.
Reichenbach
أن لاحظ، فإن الميكانيك الكمومي يُدخل تمييزًا واضحًا جدًا، مجهولًا
تمامًا في الميكانيك الكلاسيكي، بين الظاهرات (التي لا تنفصل عن
الشروط الأداتية لرصدها وتسمح باستخدام الحساب الكلاسيكي للاحتمالات)
والظواهر البينية المشتركة (التي لا تفترض أية وسيلة أداتية
للظهور وتتطلب استخدام حساب السعات الاحتمالية). وهذا التمييز
هو جزء لا يتجزأ من قدرته التنبؤية. وهنا أيضًا، بالنتيجة، فإن استنتاج
وتعميم تمثيل وخطاب ذري خارج الحقل العملياتي المقيَّد بصرامة الذي
تثبت فيه صحّتها لا يمكن أن يعتمد على أي تبرير آخر سوى على رسوخ
بنيتها التاريخية.
ترجمة: موسى الخوري
*** *** ***