شبه الواقعية والواقعية التجريبية
ميشيل
بيتبول
إن عقائد تجمع شيئًا نسميه «واقعية» مع ما يشبه كثيرًا تلطيفًا
(داخليًا، استشرافيًا، متواضعًا، متأصلاً، الإنسان محوره،أدنى) كانت
متناغمة منذ قرون مع عصرها. كان كانط هو الأب الأقدم لها [...]
بلاكبرن
S. Blackburn،
في
P. Clark & B. Hale, Reading Putnam
تناول
النقاش في الفصول السابقة بشكل خاص مسألة عامة هي الواقعية العلمية،
وقد رأينا أنها يمكن أن تعالَج أحيانًا بشكل منفصل عن المسألة الأكثر
تحديدًا، أي مسألة واقعية الأشياء المدروسة وواقعية خصائصها. كانت
الواقعية المستقلة لدسبانيا وريدهيد تمثيلاً ممتازًا لإمكانية الدفاع
عن شكل مخفَّف من الواقعية العلمية دون ربط مصيرها بمصير تأكيد وجود
لأجسام يفترض أنه يتم التقصي والبحث عنها. الفصل الحالي والفصلان
التاليان سيكونان على العكس مخصَّصين لتقدير تنوعات أقوى للواقعية حيث
سنركز على تفصيل الأجسام والكينونات النظرية: الذرات والجسيمات والـ
"حالات" والحقول و"الفراغ الكمومي"، إلخ.
ولكي نبدأ، سوف نتساءل خلال هذا الفصل إذا كان من الممكن فعلاً أن نفصل
بشكل كامل بين الموقف الواقعي تجاه هذه الأجسام والكينونات وبين
الإيمان، الذي من رتبة ميتافيزيائية، بوجودها المستقل عن الإجراءات
التجريبية التي نستخدمها من أجل دراستها. سوف نقوم بالتالي بالتوغل في
سؤال يعتبره فان فراسن[1]
Van Fraassen
سؤالاً حيويًا بالنسبة لـ "تجريبيته البنائية"، والذي هو كذلك بالتأكيد
بالنسبة لمواضعَ إبستمولوجية أخرى. وهذا السؤال هو سؤال معرفة ما هي
الترجمة الفلسفية التي يمكننا إعطاؤها لحالة الفكر المحيرة بعض الشيء
التي نعرف أنها حالة فكر الباحثين العلميين: أي حالة شكل من الاعتقاد
بنظرياتهم وكينوناتهم يكون في آن واحد مقاومًا بدرجة كافية للاختبارات
والتجارب من أجل ردعها عن تغييره باستمرار، وقليل العقائدية والجزم بما
يكفي لكي لا يمنعها من القيام بمراجعات ممزِّقة ومفجعة عندما يصبح من
المكلف جدًا الاستمرار في عادات الفكر القديمة. إن ترجمة فلسفية لهذا
الموقف من "الإيمان غير العقائدي"، والتي تسلط الضوء على طريقة عمل
الباحثين الإبستمولوجية الهشة، ستساعد ربما على تجنيبهم التأرجح بين
أقصى التشكيك في أوقات الثورات العلمية وبين أقصى إعادة البلورة
الأنطولوجية خلال فترات الترسيخ ما بعد الثورات العلمية.
يميل المرء للاعتقاد بأن التفسير الفلسفي الذي نبحث عنه حول الموقف من
الإيمان غير العقائدي يشبه كثيرًا "الواقعية التجريبية" لدى كانط،
الأمر الذي تناولناه باختصار في الفقرة 3. 1. إن شكلاً من الواقعية غير
التأملية لا يرتكز، على عكس "الواقعية التجاوزية"، على تأكيد مطابقة
موضوع البحث مع الأشياء كما هي بذاتها، بل يقبل ببساطة، وليس بشكل معقد
أو إشكالي، واقعيتها كمعطى في الظاهرات. المشكلة أننا عندما نقول ذلك
فإن الكثير يظل أمامنا لنفعله. فالظاهرات لا تحدِّد لنا وحدها ما هي
المواضيع التي يجب أن نقبل بواقعيتها. ومن الممكن حتى (وكان كانط
سباقًا على أية حال في هذا النوع من الملاحظات) أن يكون شكل الظاهرة
منمذجًا أو مشكَّلاً بشكل عكسي بواسطة مجموعة أهداف الموضوع، كما
وبواسطة الممارسات التجريبية التي ترتبط بهذه الأهداف.
تحاول "الواقعية الداخلية" لبوتنام الإجابة على هذه الإعتراضات بإدخال
عامل براغماتي للغة لكي يؤخذ بعين الاعتبار تقسيم حقل الظاهرات إلى
مواضيع دون اللجوء في ذلك إلى سهولة التقسيم المسبق الطبيعي. ووفقه
[...] لا معنى للنظر إلى العالم على أنه مقسم من تلقاء نفسه إلى
«أجسام» (أو كينونات) بشكل مستقل عن الطريقة التي نستخدم بها اللغة[2].
يتخلَّص بوتنام من نسخ سابقة لأطروحته، نسخ تعود إلى كل من كارناب
Carnap
وكوين
Quine،
ويدافع علاوة على ذلك عن فكرة تحديدية متبادلة بين الإطار اللغوي، الذي
يعلم بـ "الوقائع" التي تندرج فيه، وهذه "الوقائع" نفسها. وبعكس
كارناب، يحرص بوتنام على عدم تعميق الانشقاق وجعله مطلقًا بين الأحكام
التحليلية والأحكام التأليفية، بين إطار الافتراضات المسبقة والعناصر
ذات الأصل التجريبي التي تُدرج في هذا الإطار. وهكذا يمكن اعتبار أن
"الواقعية الداخلية" في الوقت الحالي هي إحدى الفلسفات الأكثر صفاء
وأكثرها سهولة في إمكانية الدفاع عنها المتحدرة من الواقعية التجريبية
الكانطية. فالواقعية الداخلية تمثل على غرار هذه الأخيرة تنويعًا غير
ميتافيزيائي بشكل واضح للواقعية؛ بل هي تنويع يؤيد إعادة توجيه الفلسفة
المعاصرة لتساؤلات نظرية المعرفة باتجاه الأسئلة الدلالية والبراغماتية
للغة[3]،
ويقدِّم عبر هذه الطريقة رؤية مقبولة (على الرغم من أنها ليست كاملة
بالضرورة) لعلاقة التحديد المشترك للظاهرة ولمنظومة الأهداف. ومن جهة
أخرى تُدخل "الواقعية الداخلية" لبوتنام، مثل "الواقعية التجريبية"
لكانط، تصحيحات انعكاسية هامة ("تخفيفات"، كما كتب بلاكبرن في اقتباسه
للفظة المنحوتة) على الأشكال ما قبل النقدية للواقعية. يأتي كانط بهذا
التصحيح عبر قسمته بين الظاهرات والأشياء بذاتها، عبر تقييد تأكيده
للواقعية بالأجسام المادية بما هي ظاهرات. أما بالنسبة لبوتنام فإنه
يقيِّد صحة تقسيم أنطولوجي على غرار "الطريقة التي نستخدم نحن بها
اللغة"؛ وهو يرجعها إلى عملـ "نا" نحن في التقسيم، أو أيضًا إلى
المنظور البراغماتي - اللساني الذي نعتمده نحن. وفي الحالتين، فإن
الاعتقاد المرتبط بفعل الإسناد المرجعي إلى شيء ما يكون قابلاً للتأويل
بشكل مفتوح بمقارنته مع "بالنسبة لنا" (نحن): بالنسبة لحساسيتنا
ولفهمنا عند كانط، أو بالنسبة لممارستنا للتخصيص اللغوي عند بوتنام.
إن هذه الاستراتيجية هي بالضبط استراتيجية تفسير الموضع الذي يعرَّف
بالنسبة له تقسيم أنطولوجي يعارض بلاكبرن أهميته وفائدته. لأنه، كما
يتساءل[4]،
ما فائدة الاستمرار في القول إن أنطولوجيا ما، أو وصفًا للعالم، لا
قيمة له إلا بالنسبة لنا أو من وجهة نظر إنسانية إذا كانت هذه الـ
"نحن"، في المحصلة، هي الوحيدة التي نستطيع أن نكونها، وإذا كان
المنظور الإنساني هو المنظور الوحيد الذي بوسعنا أن نرى منه؟ من هذا
التساؤل ولدت الصورة الساحرة لشبه الواقعي: إنه فيلسوف شفاف بالقدر
الكافي ليتشارك تلميحًا مع كانط وبوتنام الموقف النقدي، ولكنه دقيق
وواع بدرجة كافية لما سيسميه بعضهم "المحدودية البشرية" بحيث يكون من
غير المجدي توصيفها في سمات.
مع ذلك لا يجب اعتبار مثل هذه المقاربة إلا كلحظة متأخرة لنقاش طويل،
نقاش كان هدفه حل أو ربما إنهاء تناوب الواقعية واللاواقعية.
4- 1 مشكلة تصنيف المواقف الفلسفية لمؤسسي الفيزياء الكمومية
من المهم أن نستنتج أن الكثير من المحاولات الهادفة إلى خرق أو تفجير
الإطار البديل نفسه ولدت من التأمل حول تاريخ وتفسير الميكانيك الكمومي[5].
وكان الحافز وراء ذلك هو الشعور المتزايد بشكل واضح بعدم المقدرة على
إعطاء أي مظهر من مظاهر التماسك للتصنيف التقليدي لمبدعي ومؤسسي
الميكانيك الكمومي بين واقعيين من جهة ولاواقعيين (الوضعيون
والذرائعيون) من جهة ثانية. لم يكن أحد قادرًا على الفصل بل وأكثر من
ذلك على تأكيد الصفات العقائدية التي كان هؤلاء الفيزيائيين الكبار
يطابقونها بانتظام مع الاتهامات المتبادلة فيما بينهم.
في كتابه اللعبة الهشَّة[6]
The shaky game،
يجعل آرثر فاين
Arthur Fine
من غير الممكن الدفاع عن الفكرة التي وفقها كان أينشتين يجاهر بالشكل
الميتافيزيائي للواقعية الذي كان ينسبه له بور
Bohr.
وانطلاقًا من هذا التفنيد، يجد فاين نفسه مساقًا لأن يجهز لحسابه الخاص
موقفًا يحفظ واقعية أينشتين في حوافزها، بدلاً بالأحرى من الحفاظ عليها
في تعابير التزامه الميتافيزيائي. يصف فاين هذا الموقف، الذي ليس
واقعيًا ولا لاواقعيًا، بـ "الموقف الأنطولوجي الطبيعي". وهو موقف
يحاول أن "يقرَّ بدلالية مرجعية عادية للألفاظ"[7]،
دون أن يستدعي مع ذلك واقعية "خارجية" تبرر بنيته.
وعلى الجهة الأخرى من خط الانقسام هذا، نرى أن بور الذي كان يتهمه كل
من أينشتين وشرودنغر دائمًا بأنه فيلسوف وضعي، كان يُبرَّأ من قبل
فلاسفة كثيرين معاصرين. ويذهب أحد الكتب لهنري فولز
Henry Folse،
بعنوان فلسفة نيلز بور[8]
The philosophy of Niels Bohr،
إلى حدِّ تقديم براهين على ارتباط بور بنسخة معدَّلة من "الواقعية".
وأخيرًا، فإن مؤلفين آخرين، مثل جان فاي
Jean Fay
في كتابه الحديث حول العلاقات بين بور والفيلسوف الدانمركي هوفدينغ[9]
Hoffding،
يعتبرون بور مثل لاواقعي "موضوعي"، لاواقعي بعيد جدًا في كل الأحوال عن
التنويعتين المنجزتين من اللاواقعية وهما الفلسفة الوضعية والفلسفة
الظاهراتية.
غير أن كافة هذه المسارات، المرسومة على حافة الكتل العقائدية المعتادة
من أجل الوصول إلى موقف أينشتين وبور، كانت تخطئ في ترك تأملات أصيلة
لفيزيائيين آخرين في الظل. ولم تُلقِ أية دراسة الضوء بشكل كاف على
موقف شرودنغر
Schrodinger
بشكل خاص، هذا الفيزيائي الذي كان يعلِّم في الميتافيزياء نوعًا من
"الوحدوية المثالية" المستلهمة من الوضعية عند إرنست ماخ
Ernest Mach،
والذي كان لديه من جهة أخرى نزوعٌ غير عادي للتأكيد على "واقعية" كافة
أنواع الكينونات النظرية في الفيزياء الحديثة. ولهذا فقد صُدمت عندما
ظهر كتاب سيمون بلاكبرن محاولات في شبه الواقعية[10]
Essays in quasi-realism،
لأنني استنتجت أن كوكبة فلسفة جديدة متجانسة تمامًا، ومصمَّمة هي أيضًا
ضمن روح تجاوز النزاع بين الواقعية واللاواقعية، كانت تعيد إنتاج خطوة
خطوة المسيرة الفكرية والمواقف التي كان شرودنغر قد اعتمدها قبل خمسين
سنة في جوٍّ من عدم تفهم عام له.
4- 2 تعريفات أولية:
الجدل بين الواقعية / واللاواقعية
قبل البدء بتحليل موقف شرودنغر في هذا المنظور، سوف أبدأ بعرض الخطوط
الكبرى للجدل بين الواقعية / واللاواقعية، ثم سأتوقف مليًا عند حيز شبه
الواقعية. وفي نهاية الفقرة فقط سوف أحاول تبيان موافقة المقاربة شبه
الواقعية بالنسبة لتصنيف المواقف الفلسفية للمبدعين الرئيسيين
للميكانيك الكمومي.
من السهل جدًا للوهلة الأولى تمييز الموقف الواقعي من الموقف اللاواقعي
في الفيزياء. يعتقد الواقعي، ضمن اختلافه الأصلي، الذي بات يوصف
بالساذج، أن العالم مبني مسبقًا بشكل مستقل عنا، وبشكل مستقل عن
إمكاناتنا العقلية والحسية والتجريبية. إن هدف الفيزياء وفق الواقعي
وصف تركيب العالم الخارجي وقوانينه مع تجاوز كامل للإسناد إلى أدوات
معرفتنا أو إلى مرجعيتها. كان ميخائيل دوميت[11]
Michael Dummett
قد حدد نتائج هذه الخيارات الميتافيزيائية في مجال فلسفة اللغة تحت
تسمية الواقعية الدلالية. ففي إطار واقعية دلالية، يجب على لغتنا أن
تحوز سمتين اثنتين:
1. كل مصطلح يرد في مقترح أو قضية يكون له مرجع في العالم.
2. إن حقيقة مقترح أو قضية ما هي مفهوم غير إبستمولوجي، أي أنها مستقلة
عن قدرتنا على إثباتها.
إن نتيجة مغرية، إنما ليست إجبارية، للشرط الثاني هي مبدأ ثنائية
التكافؤ:
إن كل قضية إما تكون صحيحة أو تكون خاطئة، لأنه توجد حالة من الأشياء
في العالم تجعلها صحيحة أو خاطئة، لأسباب تطبيقية أو مبدئية، حتى لو
أننا لم نكن نملك أية وسيلة لإثباتها.
تُعرَّف اللاواقعية بشبه فرضية مضادة للوضعية التي عرفناها أعلاه (سوف
نرى على ماذا يشتمل التحفظ الصغير الذي أدخلناه عبر لفظة "شبه"). تركز
اللاواقعية اهتمامها، في نسخها الوضعية أو المثالية أو الأداتية أو
البراغماتية، نحو ما يعرِّفه الواقعي على أنها البنى المستقبِلة أو
المنظِّمة للمجرِّب. أما بالنسبة للاواقعي فإن هدف النظرية الفيزيائية
ليس وصف العالم الخارجي ناهيك عن فهمه وعن الكشف عنه، بل تنظيم عناصر
ما يظهر أو ما يتم التعرف عليه داخليًا وذاتيًا على أنه "واقع". إن أحد
البيانات الأكثر وضوحًا على هذا الموقف هو الذي يعطيه بور في نص يعود
إلى عام 1929:
إن الهدف من وصفنا للطبيعة، ليس كشف الجوهر الحقيقي للظاهرات، إنما فقط
المضي قدر ما نستطيع إلى الأبعد في إثبات العلاقات بين المظاهر
المتعددة لتجربتنا[12].
وعلى المستوى الدلالي، فإن اللاواقعية تتحدد عندها على أنها الموقف
الذي وفقه:
1. لا يكون لمصطلح مرجعية ما إلا إذا كان يتوفر معيار تجريبي لإعادة
التعيين.
إن مرجعيات المصطلحات المؤلفة لمقترح ما ليست في الواقع مدركة من قبل
من هو لاواقعي إلا كأقطاب للاستقرار مؤسسة في دفق الظاهرات من خلال
إجراء "متابعة"، أو كبنى لامتغيرة تسمح بتنظيم الظاهرات من خلال
التوقع؛
2. لا يملك بيان قيمة للحقيقة محددة تمامًا إلا إذا كانت توجد وسيلة
تجريبية لتعيينه.
يُخرق بالنتيجة مبدأ التكافؤ الثنائي، لأنه من السهل إيجاد مقترحات لا
تتوفر بالنسبة لها أية وسيلة تجريبية للتحقق منها[13]
(أو على الأقل أية وسيلة لاختبارها وبرهانها، هذا إذا تذكرنا النقد
البوبري في التحقّق[14]).
4. 3 جسور وممرات بين الواقعية واللاواقعية
ما أن تخرج الحدود من هذه التعارضات الكاريكاتورية إلى حد ما، ومن
التأكيدات العقائدية بوجود أو عدم وجود "عالم خارجي"، حتى تتداخل بسرعة
وتتشوش. لنبدأ بتعريف هذه "الظاهرات" التي ترتكز عليها وفقًا للاواقعي
النظريات الفيزيائية. فالأمر يمكن أن يتعلق بظهورات معاشة، كأن تكون
مجرد إحساس أو إدراك شامل، أو كأن تكون ظروفًا يمكن الوصول إليها
علانية مثل عدد مدرج على شاشة حاسب بعد سلسلة من القياسات. من يريد
التمسك بالجانب الأول من الظهورات يوصف بأنه لاواقعي ذاتي، والذي يقبل
بالجانب الثاني من الظهورات يوصف بأنه لاواقعي موضوعي. فإذا كان موقف
اللاواقعي الذاتي يمكن أن يكون طرحًا مضادًا كاملاً لموقف الواقعي،
وإذا كان يستطيع المضي إلى حد التأكيد بأن العالم ليس سوى بناء ابتداء
من عناصر خبرة ما، فإن الأمر نفسه لا ينطبق على موقف اللاواقعي
الموضوعي. لأن اللاواقعي الموضوعي يتصرف بالضبط مثل واقعي اتجاه ما
أسميته بظروف التحقق التجريبي العلانية أو الشائعة التي يمكن الوصول
إليها، وذلك فيما يتعلق بحالة أداة القياس أو الحركات البشرية التي
تقود إلى تحضيرها. إن المقترحات بشأن بنية التجهيزات، وحول حالتها بعد
عملية قياس، يفترض أن يكون لها قيمة حقيقة بشكل مستقل عن إجراء وصيرورة
التأكيد والبرهان بالدرجة الثانية، وذلك فقط بسبب الثقة الموضوعة في
قلب الافتراضات المسبقة التي تسمح بالحياة اليومية وحيث يحل الاتصال مع
أقراننا الذين يشبهوننا ضمنيًا محل التنفيذ الفعال لمثل هذه الإجراءات.
إن هذا التنازل الأولي ليس والحق يقال سوى الإشارة النذيرة بحصول
تنازلات أخرى أكبر. فهو في الواقع يحضّر اللاواقعي للاعتراف بأن موقفه
الدلالي الأدنى لا يفرض عليه التأكيد بأن العالم مؤلَّف بواسطة فعل
معرفي، بل فقط نفي أنه يمكن وجود أجسام أو خصائص تكون غير مرصودة أو
ملحوظة من حيث المبدأ أو لا يمكن بلوغها من حيث تعريفها بواسطة وسائلنا
في المعرفة[15].
فلو كان اللاواقعي متمسكًا بتضمينات التعريف الدلالي وحدها لوجهة نظره،
فإنه سيستطيع عندها (بصرامة وفي بعض الحالات) أن يتقاسم مع الواقعي
الفرضية التي وفقها تؤثر الأدوات التي تعمل على تحقيق البرهان التجريبي
على عالم مستقل عنها. وذلك هو أول انتهاك للحدود العقائدية.
ولكن هناك طريقة ثانية لخلط الأوراق، وهي تتأتى هذه المرة من تصحيح
للموقف الواقعي. فقد سبق وقلنا إن اللاواقعية تتصف في إحدى سماتها
المميزة باستبعاد مبدأ ثنائية التكافؤ تحت اسم الحالات غير المقررة
إبستمولوجيًا. ولكن بعد كل شيء، يستطيع الواقعي أن يدمج بشكل جيد جدًا
مثل هذا الضعف لمتطلباته الدلالية الخاصة في طريقته في الرؤية بافتراضه
أن اللاتقريرية الابستمولوجية تعكس لاتحديدية لـ "أجسام غير كاملة"، أي
لأجسام تكون بعض خصائصها فقط محددة، أو أيضًا لـ "أجسام مبهمة"، أي
لأجسام هويتها وخصائصها محدّدة ومعرّفة بفاصل تسامح تقريبي. وهو يستطيع
أيضًا، حتى وإن كان ذلك أكثر صعوبة نفسيًا عليه مما هو الأمر بالنسبة
للاواقعي، أن يعيد بشكل كامل تقطيعه الأنطولوجي بحيث لا يكون للأجسام
الجديدة سوى خصائص تقريرية إبستمولوجيًا. وبالمناسبة، فإن
الستراتيجيتين استخدمتا في مواجهة علاقات الريبة لهيزنبرغ.
فالاستراتيجية الأولى، أي تلك التي تشتمل على تعليم وتمييز مواضيع
الأنطولوجيا التقليدية بختم "المبهم" أو "غير الكامل"، قادت إلى بعض
تنويعات المنطق الكمومي (تسمى تنويعات المنطق التكميلي)[16]،
وفيها فإن "الريبة"، أو "عدم الدقّة" الذي تقرنه نسخة تبسيطية معينة
بعلاقات هيزنبرغ، تتحول إلى "لاتحديدية" جوهرية لاقترانات الخصائص
الناجمة عن أشياء قابلة للرصد وغير متوافقة. أما الاستراتيجية الثانية،
وهي الأكثر ثورية، فقد أدت إلى إبدال أنطولوجيا جسيمات بأنطولوجيا
حالات لخلفية (أو عمق) استعدادي
dispositionnel
يماثَل عادة مع "الفراغ الكمومي"[17].
نرى هكذا أن الواقعية يمكن أن تتناسب وتتوافق مع سمة متمايزة بشكل واضح
عن اللاواقعية، ألا وهي التخلي عن مبدأ ثنوية التكافؤ في إطار منظومة
أنطولوجية تقليدية. لكن العكس صحيح تمامًا أيضًا. فاللاواقعية يمكن أن
تتناسب مع سمة متمايزة بشكل واضح عن الواقعية. ونعتبر أن إحدى الخصائص
الكبرى للاواقعية أنها تسمح بلاإستقرارية تاريخية لقيم الحقيقة. وهذا
هو الحال، في الواقع، إذا اعتبرنا أن قيمة الحقيقة المقرونة بقضية أو
مقترح ما تتعلق بالوسائل التي لدينا من أجل إثباتها في لحظة معطاة.
فالذي لم يكن تقريريًا يمكن أن يصبح قابلاً للبلوغ تجريبيًا؛ والذي كان
غير خاطئ، أي غير مدحوض تجريبيًا وفقًا لبوبر، يمكن أن يصبح خاطئًا. لا
شيء يمنع مع ذلك اللاواقعي من الاقتراب من الاستقرارية الواقعية من
خلال إشارته أن ما يحدد وفقه قيمة الحقيقة لقضية ما ليس توفر وسيلة
إثبات وتطبيقها الحالي، بل إمكانيتها المبدئية (وفقًا لملاحظة لبوفريس،
ذكرت في المقطع 3 - 4، ووفقها فإن اللاواقعي له الخيار بين القول إن
قضية ما ليست صحيحة إلا إذا كان يمكن التحقق منها والتأكيد أنها صحيحة
فقط إذا كان قد تم التحقق منها). أما اللاواقعي المعتدل (الطريقة
الأولى) فإنه سيتوصل على هذا النحو إلى تطبيق وطرح استقرارية مقاربة
لشبكة قيم الحقيقة، وذلك باستدعاء أفق التحسين والإتقان غير المنتهي
لتجهيزاتنا التجريبية. من الضروري بالطبع أن نحدد عند هذه المرحلة ما
الذي نقصده بـ "إمكانية مبدئية" لإثبات تجريبي. فإذا كانت هذه
الإمكانية المبدئية وحيدة ومثبتة مرة واحدة وإلى الأبد، فإن موقف
اللاواقعي لا يختلف أبدًا عندها عن موقف الواقعي. وبالمقابل، إذا كان
بيان المبادئ التي تحكم إمكانية إثبات ما يتعلق بالحالة الحالية
للنماذج النظرية، فإن لا شيء يمنع من الاعتقاد بأن تكون هذه "المبادئ"
هي نفسها متغيرة، وأن يكون المجرى اللاحق لتاريخ العلوم قابلاً لتعديل
نقطة التلاقي المقاربة بالنسبة للمجرى الذي نلمحه حاليًا. إن هذا
الموقف الثاني يجنب اللاواقعي فقدان كل خصوصية بالنسبة للواقعي. وسوف
نعود إلى هذه النقطة لاحقًا عندما نعلق أدناه على الموقف شبه الواقعي
لبلاكبرن.
4- 4 آثار وظلال القصص المذهبية
بالنتيجة، كلما نظرنا عن قرب أكثر، كلما تراجعت التمييزات بين المواقف
المتناقضة إلى هذا الحدِّ ظاهريًا مثل الواقعية واللاواقعية. فإذا لم
يكن قد تم التوافق بينها بعد رغم ذلك، فلأن الأشكال الأكثر رهافة
للمجموعتين العقائديتين لا تزالان تحتفظان، بطريقة من الطرق، بالأثر
الذي لا يمحى لصياغتها البسيطة. ولأن هذا الأثر يردع أنصار إحدى
العقيدتين عن القيام بالكثير من التنازلات في المصطلحات والمفردات
لأنصار العقيدة الأخرى. وفي العمق، فإن ما يميز الموقفين هو المسار
الفكري الذي تم اجتيازه أكثر من الموقف المعتمد في النهاية. فقد أراد
الواقعي أن يرسخ موقف الحس السليم والمعنى المشترك بمواجهة "أشياء"
البيئة اليومية باعتبار المفترضات المسبقة للفعل وللتواصل البشريين
كافتراضات واقعية، لكن الفيزياء المعاصرة قادته فيما بعد إلى إدخال مثل
هذه الليونة والمرونة المنهجية بحيث أصبح لا يمكن التعرف على أشيائه
وخصائصه تقريبًا بالنسبة "للرجل الصادق". فمع بوتنام كل الحق في اتهام
الفيلسوف الواقعي بأنه غرّر بالإنسان العادي وضلّله عندما وعده بإنقاذ
فئات الحس السليم دون أن يستطيع في النهاية القيام بشيء سوى أن يطلب
منه الإذعان دون الاعتراض على تطور الكينونات النظرية في الفيزياء،
الذي لا يمكن التنبؤ به والمحيّر على نحو متزايد[18].
أما بالنسبة للاواقعي، فقد بدأ يشعر بأنه مستثمر من قبل بعثة ثورية؛
فتعاطفه وانسجامه كانا يتوافقان مع الشك البيرّوني[19]
أو مع النسخة القطعية للشك الديكارتي؛ ثم كان عليه القبول بأن يدمج في
طبقات وفئات فكره إمكانية وجود منظور لتدقيق وصقل غير محدودين لطرائق
الإثبات، وهو مفهوم محدد بمثال ناظم[20]
أو بإطار من "النماذج" (كما في التجريبية البنائية لفان فراسّن
Van Fraassen)،
الأمر الذي قاده في العديد من المناسبات إلى اعتماد نمط تعبير يكاد لا
يتمايز عن نمط تعبير الواقعي. فمن هذه الصورة الأخيرة للتلاقي، التي
قادت اللاواقعي من بداياته الأولى إلى موقف يحاكي موقف الواقعي، إنما
نتج ما سمَّاه بلاكبرن شبه الواقعية. لكن علينا ألا نتسرع. فقبل أن
نحلِّل عن قرب محصلة صيرورة النقد الذاتي للاواقعي، لا نزال بحاجة لأن
نعين بدرجة من الوضوح ما الذي لدى أنصار كل من الموقفين المتناقضين من
نقد لنقاط البدء عند الطرف الآخر. هكذا فقط سنستطيع أن نقيّم قابلية
شبه الواقعية لنزع فتيل الانتقادات التي يقودها عادة متشددو
اللاواقعية، ونكون بذلك قد تجنبنا أيضًا منذ البداية مزالق الواقعية.
4- 5 الاتهامات المتبادلة للواقعيين واللاواقعيين
لنبدأ بإطلالة سريعة على الانتقادات التي يحتمي الموقف الواقعي بها.
فالفيلسوف الواقعي، كما يلاحظ المنتقدون، يتميز بطموح مفرط: وهو
طموح
أن يضع نفسه فوق أو خارج الإجراءات التي تسمح بالمعرفة الإنسانية وذلك
لكي يفهم ويدرك على ماذا ترتكز هذه المعرفة. إن نظريته في الحقيقة -
التوافق[21]
تقول لنا الكثير حول ذلك إذ تؤكد أن حقيقة قضية ما تكمن في تماثليتها
isomorphisme
مع حالة الأشياء في العالم، بشكل مستقل عن كل وساطة حسية أو عملياتية،
طالما أن الطريقة الوحيدة لإنشاء هذه التماثلية ترتكز على الثقة بأداة
الإثبات. إن زعمه بـ "تفسير" التوافق البيني (البين - ذاتي، أو الذاتي
الداخلي)، من خلال وحدانية عالم خارجي تُطلق البيانات الجازمة حوله، لا
يقوم سوى بمضاعفة لغز هذا التوافق وإدخالنا في لعبة مرآة إبستمولوجية.
لأنه ليست لدينا بعد كل شيء أية وسيلة أخرى لنتيقن بواسطتها من وحدانية
هذا العالم الخارجي سوى الاعتماد على التوافق البيني. فما هو مفسَّر هو
في الوقت نفسه المؤشر الوحيد لقيمة التفسير. وأسوأ من ذلك، بل وما هو
أكثر معاودة كما يلاحظ بلاكبرن[22]،
فإن الواقعي يحاول أن يفسّر واقعًا (التوافق البيني) هو نفسه ليس
مضمونًا. نعرف الكثير من حالات عدم التوافق المستمرة بين شخصين أو
أكثر، بما فيها حول موضوع ما يوافق أن نسميه "حالات الأشياء الطبيعية"،
كي لا نحافظ على بعض الشكوك فيما يخص السمة التي لا يمكن تجنبها
للتفاهم. فعندما يزعم الواقعي أنه يفسّر اتفاقًا بينيًا حاضرًا، فإنه
لا يقوم إلا بالتعبير عن إيمانه الذي لا يتزعزع بالتوافق المستقبلي
لآرائنا، شرط ألا تفسد أو تتغير مقدراتنا ومؤهلاتنا وأن نجد أنفسنا
مباشرة أمام موضوع الاتفاق. ولكن، إلا يرتكز إيمانه بالتبادل وبشكل
معاود على اليقين بأن التفاهم لا يمكن إلا أن يتأسس طالما أنه يتعلق
بفهم عالم وحيد؟ إن هذه الحجة التي سبق وصادفناها في الفقرة 1 - 2 حول
الواقعية المتلاقية، تجد مكانها هنا تمامًا.
لننتقل إلى تأكيد كبير آخر للواقعية: وهو أن الأشياء "الخارجية" هي
التي تسبب انطباعاتنا الحسية. كان فلاسفة كثيرون ما بعد كانطيين قد
أشاروا إلى أن تطبيق فئة السببية الكانطية على العلاقة بين الشيء في
ذاته وتجربتنا قد انزاح وتغيَّر موضعه بالكامل، طالما أن هذه الفئة لا
تُطبَّق تعريفًا إلا على داخل التجربة. إن مبدأ الإنتاج، الذي هو قاعدة
استخدام فئة السببية، لا يعمل إلا من أجل تأسيس رابطة موضوعية بين
الظاهرات، وليس من أجل إنشاء علاقة لهذه الظاهرات مع ما وراء للظاهرات[23].
توجد بالمثل نسخة أداتية لهذه الحجة: فكيف يمكن لمفهوم السبب أن
يُطبَّق على العلاقة بين الشيء الذري وجهاز القياس، يتساءل بعض
المعلقين على نيلز بور، وكيف يمكن القول إن التفاعل بين جسم على
المستوى الذري وجهاز ما هو الذي يسبب الظاهرة الجهارية الملاحظة على
شاشة هذا الجهاز، إذا كانت الوسيلة الوحيدة للإثبات التجريبي للعلاقات
السببية ترتكز على الظاهرات الجهارية[24]؟
في العمق، إذا شاطرنا تصورات أكثر رهافة مثل تصوّر السببية الموسعة
لبرنار دسبانيا (راجع المقطع 3 - 3)، فإن كافة هذه الانتقادات تلتقي في
نقد واحد، كان هيوم
Hume
قد صاغه: إن الفيلسوف الواقعي يسقط ملامح الحضور والجواهر (الأقانيم)
في لعبة ظلال متسامية وتجاوزية. فهو يسقط الإجراءات الناظمة للإثبات في
تصوره للحقيقة - التوافق؛ ويسقط منظور اتفاق بيني ما مستقبلي بتجسيده
في الوحدانية الحاضرة لعالَم خارجي؛ ويسقط فئة السببية في الفاصل بين
العالم والقابلية الحسية[25].
ولا تتوقف الأمور عند هذا الحدّ. أفلا يمكننا تمييز "الأشياء الواسعة"
أو "غير الكاملة" كإسقاطات للاتقريرية الإبستمولوجية؟ ألم تولد
الأنطولوجيات الجديدة من إسقاطات ممكنة بقدر ما ولدت من بنى نظرية؟
إن الاعتراف بفشل مثل هذه الاستراتيجية هو علاوة على ذلك مدرج في
الطريقة نفسها التي يتوصل عبرها الفيلسوف الواقعي، الذي زادته
المناقشات والاعتراضات تصلُّبًا، إلى تعريف عقيدته وتحديدها. وكما سبق
ورأينا، فإنه لا يصمد طويلاً في التأكيد القاطع بوجود عالم خارجي؛ بل
يحاول على العكس قدر الإمكان أن يتموضع في شبكة من المعايير ذات
المستوى الإبستمولوجي والدلالي. وهو لا يتوصل في نهاية المطاف إلى
تعريف واقعيته إلا بالتمسّك حصريًا بقانون وترميز السلوك الحسن الذي
يمليه اللاواقعي!
حسنًا، لكن اللاواقعية لا تصبح مع ذلك ولهذا السبب عقيدة (أو مجموعة
عقائدية) فوق كل الشبهات. فالواقعي يرتكز على توجيه الاتهام لها
بارتكاب، أو بأن تكون قاب قوسين أو أدنى من ارتكاب، خطأ دلالي كبير.
فعندما نتحدث عن شيء ما، فإننا لا نتحدّث عن المظهر الخاص الذي يتخذه
في هذه اللحظة، ولا عن كافة المظاهر التي يمكن أن يأخذها، ولا عن نتيجة
كافة التجارب التي يمكن أن نطبقها عليه. فاسم ما أو عبارة ليس لهما
معنى فقط، بل لهما أيضا وظيفة إسنادية. فنص تاريخي مثلاً يتحدث حول
الماضي، وليس حول الذكريات، حول الشواهد وحول الوثائق الكتابية أو
الأثرية. وبإسهاب اللاواقعي في الحديث عن شروط الإثبات، فإنه يُرجع إلى
الدرجة الثانية ما يسميه الإنكليز "the
aboutness of an expression"،
وهو واقع أن عبارة ما، أو فعلاً ما أو انتباهًا ما يكون موجهًا دائمًا
نحو شيء ما، وليس نحو الوسائل الأداتية المستخدمة للولوج إلى هذا
الشيء.
يمكن صياغة هذا الاعتراض الكبير الذي يأتي في مواجهة اللاواقعية بطريقة
أخرى، وذلك عبر استخدام مفردات المواقف الخاصة بالقضايا. لنفترض أن
متكلمًا يؤكد القضية
p.
ضمن هذه الشروط، فإن المهمة التي يتقلدها اللاواقعي تتمثل في الكشف عن
مبررات موقف المتكلم. فإذا كانت هذه المبررات ضعيفة أو غير موجودة،
فإنه يقول إن التوكيد
p
يرتكز على معتقد؛ عندها يكافئ
p
"أعتقد أن
p".
أما إذا كانت المبررات أكثر جدية، فإن
p
سوف يكافئ على سبيل المثال "لدي أسباب جيدة للإعتقاد أن
p"
أو أيضًا "أنا متيقّن أن
p"،
أو أيضًا "لدي براهين أن
p"،
أو في أفضل الأحوال "أعرف أن
p".
ولكن فجأة، تمر القضية نفسها ومحتواها إلى المستوى الثاني. ويمرّ أيضًا
إلى المستوى الثاني واقع أن المتكلّم لم يعلن بالضبط أيًا من الجمل
التي ذكرناها أعلاه، بل ببساطة أعلن
p
فقط. فمع جعل
p
نسبية، وإدراجها في إطار موقف انعكاسي، لا يتوصّل اللاواقعي إلى اتخاذ
تدبير التزام المتكلم اتجاه ما يعبّر عنه. فمن خلال وصفه لخبرة دينية
في "الاعتقاد"، وبردّه لقضية حول العالم إلى مجرّد "إعلان مثبت
تجريبيًا"، يترك اللاواقعي بُعد الجدّية الذي يدرجه المتكلّم في قضيته
يفلت منه، ولا يعير أهمية تذكر للترابط الكامل بين المتكلم وما يقوله،
في اللحظة التي يقوله بها. وباختصار، فإن اللاواقعي يعاني من نوع من
الإخفاق الأخلاقي. وقد اختار المفكرون الواقعيون الأكثر وضوحًا النضال
والصراع على هذه الأرضية بالتأكيد. يشير أينشتين على سبيل المثال إلى
أية درجة كان خطابه حول الكون الحقيقي يبتعد عن المعتقد البسيط ويقترب
من نمط الكينونة، وإلى أية درجة هو بشكل من الأشكال مندمج في إرادته
بأن يحيا، مقاربًا هكذا موقفًا دينيًا أصيلاً يُفهم وفق معنى تشاركي
بالأحرى منه عقائدي.
ليس لدي تعبير أفضل من مصطلح «ديني» ليعبر عن هذه الثقة في الطابع
العقلاني للواقعية وفي قابلية وصولها، جزئيًا على الأقل، إلى العقل
البشري. عندما يكون هذا الشعور غائبًا، فإن العلم ينحط إلى تجريبية
خالية من المعنى[26].
من هنا ما سماه آرثر فاين
Arthur Fine
"الواقعية التحفيزية" لدى أينشتين. ينقص اللاواقعية هذا التحفيز، وذلك
بالضبط من خلال تحويله إلى موضوع وتقليصه بحيث لا يكون سوى "تحفيز
الباحث". ينقص أيضًا الاعتراف بأن وظيفة الخطاب نفسها وعمله الذي يعكس
إجراءات التبرير يتضمن استخدامًا ثابتًا للفرضيات المسبقة التي لا
تُفَسّر بشكل أفضل إلا من خلال مفاهيم حقيقة - توافق وعالم خارجي
حقيقي. غالبًا ما طُرحَ هذا الاعتراض على براغماتية رورتي
Rorty،
بشكل خاص من قبل آبل
K. O. Apel.
ويعود هذا الاعتراض إلى الإمساك باللاواقعية متلبسة في استخدامها
لخلفية فهم وإلتزامات واقعية، تمامًا مثلما ضُبط الواقعي متلبسًا
بتطبيق إجراءات لاواقعية من أجل تحديد موضعه الخاص.
أخيرًا وليس آخرًا، كنا قد رأينا أن اللاواقعي، إذا تمسّك بالتعريف
الدلالي لموضعه، فإنه لا يكون مجبرًا بالمطلق على نفي وجود عالم خارجي
واقعي حقيقي؛ فما عليه تأكيده فقط هو أن حقيقة بيانٍ ما تُشتقّ من
التبرير الأقوى الذي يمكن إعطاؤه[27].
في نهاية المطاف، لا شيء يمنعه من الاعتراف للواقعي بـ "إيمانه" بعالم
خارجي حقيقي، شرط ألا يقوده هذا الإيمان إلى نسب وجودٍ لأشياء أو خصائص
تقع من حيث المبدأ خارج مدى وسائل استكشافنا. نعتبر في غالب الأحيان أن
هذه الإمكانية، أو هذا التسامح، يفتح الباب لرؤية عقائدية مختلفة بين
رؤى أخرى للاواقعية. ومن جهتي، أعتقد أن هذه الإمكانية لا تقوم سوى
بالكشف عن عنصر تشكيكي جذري متأصل لا بد أنه يشكل جزءًا لا يتجزأ من كل
رؤية أو تنويعة عقائدية لاواقعية. ذلك لأن الموقف المتسّق حقًا الصادر
عن لاواقعي بمواجهة التأكيد بوجود عالم حقيقي خارجي يجب ألا يكون الرفض
أو القبول بل عدم المبالاة. فإن لم يكن من الحذر، ولا المبرَّر أو
المبالغ فيه إلى حد تأكيد وجود حالة تتجاوز التجربة، وما وراءٍ لكل
تجربة ممكنة، فإنه أيضًا من عدم الحذر وغير المبرَّر التأكيد على عدم
وجوده. فالمسألة لا تُطرَح بكل بساطة في نظر اللاواقعي.
4. 6 شبه الواقعية كعودة للاواقعي أصولي
من هذه اللاأدرية بالضبط، من هذا المستوى الأقصى والمتطرف لتحديد
وإيقاف اللاواقعي، إنما ولدت شبه الواقعية. لنرى كيف أن هذا التحويل،
الذي يبدو للوهلة الأولى متعارضًا، ينتج في الواقع بشكل طبيعي جدًا عن
ملاحظات سابقة. إن تقديم مثال توضيحي قد يكون أكثر فعالية في تقريب
الفكرة من تقديم برهان. لهذا أقترح أن نعتبر مع بلاكبرن القضيتين
التاليتين، المشار إليهما بالرمزين
p1
وp2:
p1:
علينا القيام بأبحاثنا كما لو كان لكل حدث سبب.
p2:
من الصحيح أن لكل حدث سبب.
سرعان ما يتبادر إلى الذهن أن القضية
p1،
المنتسبة إلى مبدأ ناظم، هي واحدة من القضايا التي يمكن لأحد
اللاواقعيين أن يرى فيها بسهولة قضيته. أما بالنسبة للقضية
p2
فإنها تأخذ أكثر بكثير من المبدأ المكوِّن ولها بالتالي صبغة واقعية
قوية جدًا. مع ذلك يظهر هنا عدم اتساق ما. فالواقعي لن تكون لديه أية
صعوبة في قبول
p1
إذا قبل بـ
p2،
ذلك أنه لماذا لا يمارس أبحاثه تحت فرضية أن لكل حدث سبب، إذا كان لكل
حدث في الحقيقة سبب ما؟ بالمقابل تبدو الطريقة البديلة مستبعدة.
فاللاواقعي الذي يقبل بالقضية
p1
يبدو أنه يجب أن يرفض القضية
p2،
وذلك بسبب الالتزام بالحقيقة التي تتضمنه. ولكن هل هذا الرفض يتوافق مع
موقفه؟ لا، على الإطلاق يجيب بلاكبرن: "فمن الطبيعي جدًا التأكيد أن
[...] شيئًا إضافيًا ما متضَمَّن في القبول بـ
p2
(بدلاً من القبول بـ
p1)،
لكن من الممكن جدًا أن يظهر عند هذه النقطة أن الواقعي وحده من يجب
عليه القيام بهذا التمييز. فالمبدأ لا يمكن أن يكون مكوِّنًا في مقابل
أن يكون ناظمًا إلا إذا كان يوجد مجال من الوقائع يهدف إلى وصف
تكوينها"[28].
بعبارة أخرى، فإن فيلسوفًا لاواقعيًا متناغمًا بالكامل ليس لديه أي سبب
لرفض القضية
p2،
على الرغم من صبغتها الواقعية. ولا يجب على لاأدريته المتعلقة بوجود
الأسباب في الطبيعة أن تقوده إلى رفض
p2،
بل على العكس إلى قبولها كصيغة مكافئة، وربما أكثر أناقة من
p1.
فمن القبول بـ
p2
إلى تفضيل
p1
ليس ثمة سوى خطوة، خطوة تحدد وتعرّف شبه الواقعية.
فشبه الواقعي، كما سبق ولمحنا، ينطلق من النتيجة النهائية القصوى
للتفكيكية اللاواقعية. وهو أكثر
[...] انسجامًا مع اللاواقعي [منه مع الواقعي]. [لأن اللاواقعي] كسب
المفاهيم المرتبطة مع الموضوعية، في حين أن منافسه الواقعي سرقها
ببساطة؛ لقد أسس ممارساتنا على وقائع معروفة تتعلق بالمقدرات البشرية،
في حين أن منافسه اخترع شيئًا ما إضافيًا[29].
في الوقت نفسه فإن الفيلسوف شبه الواقعي يعي بشكل كامل ما أسميتُه
العجز الأخلاقي للاواقعية:
فوصف النظريات بواسطة «كما لو» جعله يبدو غير متوافق مع عمق
التزاماتنا. ويبدو هذا الوصف بالتالي قابلاً للدحض بواسطة نوع من
التذكرة الظاهراتية لقوة معتقداتنا [...][30].
فمن المؤكد عندها أن شبه الواقعي، على عكس اللاواقعي، سيتجنب اللجوء
بأية طريقة إلى «كما لو».
فما هو الخطأ بالتالي، يتساءل بلاكبرن، عندما نصف هذه الفلسفة كما لو
كانت تدعم أننا «نتحدث كما لو كان ثمة ضرورات [...]»؟ هذا ناجم عن أننا
لم نلحظ أن شبه الواقعي ليس بحاجة لأن يعطي للقضية التي تلي الـ «كما
لو» معنى آخر سوى المعنى الذي تكون فيه صحيحة". بعبارة أخرى، فإن شبه
الواقعي لا يحاول أبدًا إضعاف النطاق المرجعي لمصطلح أو قيمة حقيقة
قضية ما. بل هو يظهر مثل "شخص يجد نفسه، وقد انطلق من موقف لاواقعي،
قادرًا بالتدريج على محاكاة الأفكار والممارسات التي يُفترَض أنها
تعرِّف الواقعية[31].
جيد، ولكن إذا نجح شبه الواقعي هذا النجاح الكامل في محاكاة الأفكار
والممارسات الواقعية ألن ينتهي به المطاف بأن يخسر كل خصوصية له؟ فإذا
كان شبه الواقعي يبرر بشكل جيد جدًا استخدامنا لكلمات مثل "حقيقة"
و"واقع" و"موضوعية" إلخ، فإن "[...] وضعه عندها سيبدو كمن يعضُّ ذيله.
فهو وضع يبدو أنه يدعم اللاواقعية أكثر مما هو بمثابة أداة من أجل
تفكيك النقاش بأكمله"[32].
فالتمييز بين الواقعية واللاواقعية لا يعود له معنى، لأن لاواقعية
مدفوعة إلى أقصاها ستنتهي بأن لا يعود بالإمكان تمييزها عن الواقعية.
لكن ذلك ليس صحيحًا بالضبط. إن شبه الواقعية تتميز بداية عن الواقعية
بدرجتها المرتفعة أكثر في حركة التوازن الجدلي الذي تتمثل مرحلته
المتوسطة بطرح وبسط وسائل الإثبات. لقد قطع شبه الواقعي طريقًا كبيرًا
قبل الوصول إلى محاكاة زملائه الواقعيين، وهذا الطريق هو ما يميزه بين
الجميع. "في فلسفة هذه الأمور، يلاحظ بلاكبرن، ليس ما تنتهون إلى قوله
هو ما يعرِّف "يتكم" (واقعيتكم، لاواقعيتكم، شبه واقعيتكم..)، بل
الطريقة التي توصلتم عبرها إلى قوله"[33].
وبالمثل، سيقول أحدهم، إذا كانت المغامرة الفكرية التي عاشها المفكّر
شبه الواقعي قبل أن يتوصَّل إلى موقفه المتشابه بشكل غريب مع موقف
الواقعي لا تؤدِّي بشدَّة إلى أي انزياح بالنسبة إلى هذا الأخير، وإذا
لم تكن تضع لمسة صغيرة جدًا من الأصالة على مساعيه وخطواته، فهل سيكون
لدينا أي سبب لكي لا نهمل هذه المغامرة ولكي لا نعلن بشكل قطعي أن
الصيرورة بكاملها كانت بلا جدوى؟ لحسن الحظ، ليس الأمر كذلك. فالعلامة
المميزة موجودة. ذلك أن المفكر شبه الواقعي أضاع على الطريق الذي قطعه
آخر نقطة سذاجة أو جمود أنطولوجي كان لا يزال يربطه بزملائه الواقعيين
الأكثر رهافة. تُقرأ هذه الطراوة والنضارة التي نجدها في الاستئنافات
وفي إعادة النظر هذه، وفق بلاكبرن، في الميل المفرط تقريبًا، وشبه
الطفولي، لشبه الواقعي في وصف كافة أنواع الكينونات البعيدة جدًا عن
"أمور" الفطرة السليمة أو المنطق السليم بـ "الواقعية":
يتوصل شبه الواقعي إلى أن يحاكي بشكل مزعج لشدة حماسه الأحاسيس
التقليدية للواقعي؛ وفي حماسه هذا بالذات إنما نستطيع أن نتوقَّع بأن
يختلف عن الواقعي الحقيقي[34].
لقد فقد شبه الواقعي على الطريق كافة الموانع النفسانية التي كانت تجعل
من الصعب جدًا بالنسبة للواقعي أن يغيّر من الأنطولوجيا تبعًا للتطورات
النظرية. كان الواقعي يعتقد، في أعماق قناعاته، أن أنطولوجيا الأجسام
المادية المموضعة، والمشخصَنَة، والمعاد تعيينها في الزمن والمزوَّدة
بخصائص، هي الصحيحة، وأن العلوم لا تقوم سوى بتحسين معرفة هذه الأجسام
دون الإخلال بتنظيمها. كانت الإستقرارية الأنطولوجية بالنسبة له ضامنة
لتفرّد حقيقة قابلة للوصول إليها في نهاية صيرورة من التقصّي. فالتجديد
الأنطولوجي سيؤدي، دون أن يكون متعارضًا صراحة مع الواقعية، إلى
اضطراب، وإلى شك من الصعب أن نلجمه، يتعلق بالتلاقي النهائي للعلوم
باتجاه الـ الحقيقة. يمكن للتلاقي أن يتم، بالتأكيد، باتجاه
الأنطولوجيا الثانية، ولكن من ذا يقول لنا إننا لو تخلّينا بسهولة
كبيرة في الأولى لن يكون هناك ثالثة، ثم رابعة، إلخ.؟ وفي هذه الحالة،
كيف سنواجه المظهر المنتصر للاواقعي، الذي يرى بسرور لا يخفيه طرحه في
اللاإستقرارية التاريخية للبنى الإبستمولوجية وقد استعاده الواقعي تحت
غطاء من سلسلة من التغيرات الأنطولوجية؟ لهذا فإن الواقعي محكوم بدرجة
معينة من المحافظة، وبشكل خاص بمواجهة المراجعات الأنطولوجية المقترحة
بواسطة العلوم الفيزيائية. لكن ليس هذا حال شبه الواقعي. ما كان يبدو
للواقعي أنه يشكل امتيازًا لا يُحتمل للنسبوية الإبسمتولوجية للاواقعي
هو على العكس بالنسبة لشبه الواقعي البرهان الأفضل بأن كلاً من عناصر
المسار الفكري التي تشكله يجب أن يظل أيضًا فاعلاً على المستوى الذي
بلغه. لن نتفاجأ بالتالي إذا ما استنتجنا، ضمن هذه الشروط، أن
شبه الواقعية غالبًا ما تُتهم بـ «العلموية» [...] أو، بعبارة أخرى،
تتهم بأنها تحبس الواقع الأصيل (الحقيقة الأصيلة) وتحجِّمها إلى
أنطولوجيا وإلى مجموعة من السمات التي يرسمها أحد العلوم الأساسية
المفضَّلة، مثل الفيزياء[35].
لا يحاول المفكر شبه الواقعي أن يفرض بأي ثمن على الفيزياء أنطولوجيا
تُفترَض أنها أكثر واقعية وأكثر حقيقية من الأنطولوجيات الأخرى بسبب
معاصرتها. بل هو يطلب على العكس من النظرية الفيزيائية الأكثر ملاءمة
والأكثر اقتصادية ضمن وضعية تاريخية معطاة، أن تثبت هي نفسها معايير
أنطولوجيا ذات نزعة عالمية. وهو يتلاقى بالتالي إلى حد كبير مع القائل
بالموقف الأنطولوجي
الطبيعي
(م أ ط) لفاين
Fine
الذي، وهو بالتالي على عكس الواقعي، ليس مجبرًا على الاعتقاد بأن
العلوم تقدم لنا دائمًا المزيد من المعلومات "حول الأشياء نفسها"[36].
ومثل من ينتسب إلى الموقف الأنطولوجي الطبيعي، يستطيع المفكر شبه
الواقعي الاعتماد على حرية أنطولوجية مطلقة في كافة حالات تغيّر
النموذج
paradigme
العلمي. فأية فكرة مسبقة لتلاقي العلوم باتجاه "بؤرة حقيقية" وحيدة لن
تمنعه من تقييم معقولية (أو لامعقولية) "استقرارية للمرجعية عبر
النماذج"[37].
ولكن على خلاف المناصر للموقف الأنطولوجي الطبيعي الذي سيحاول الحفاظ
على القطع الأنطولوجي القديم طالما لم تُمَسّ "معقوليته" مساسًا
خطيرًا، فإن شبه الواقعي لن يتردد في تفضيل إصلاح وجودي إذا كان
النموذج الجديد يجعله أكثر أناقة.
فهذا الاتجاه "العلمي" على أية حال (الذي يقود إلى تكرار بحت وبسيط
للمواقف العقائدية الماضية إذا لم يكن مضبوطًا بشكل مستمر بواسطة درجة
مرتفعة من الوضوح الانعكاسي)، هو الذي انتقده بشدة بوتنام خلال الجدل
الذي جمعه مع بلاكبرن. بالنسبة له، فإن بلاكبرن موجود دائمًا على بعد
خطوتين، على الرغم من دقة مسار فكره، من تأكيد أن "[...] العلم، والعلم
وحده، يصف العالم «كما هو بشكل مستقل عن اللغة»"[38].
إن موقف بلاكبرن، الذي ينتظر من الفيزياء أن "ترسم خطوط" واقع ما،
يجازف في كل لحظة بالإيحاء أن هذه الخطوط هي الخطوط الوحيدة في إطار
نظرية معطاة، وأن العلم يتحرر بذلك، عبر كل من مراحله التاريخية إذا لم
يكن على المدى البعيد، من مشكلة تعددية وجهات النظر الأنطولوجية التي
تصادفها فلسفة اللغة. حتى الآن، كان الفارق بين الواقعية الداخلية
لبوتنام وشبه الواقعية لبلاكبرن يقع كما يبدو فقط على مستوى الفكر
البديهي (الاستخدام الصريح لـ "كما لو" في الحالة الأولى، والضمني في
الحالة الثانية). وهو يترجم من الآن فصاعدًا بتباعد يتعلق بنقطة محددة
تمامًا: وهي التي تتعلق بقبول أو رفض إعطاء مكان، في كل نموذج نظري،
للـ "واقعية المفاهيمية" التي يذكرها باستمرار بوتنام.
4. 7 مؤسسو الميكانيك الكمومي بين الواقعية واللاواقعية وشبه الواقعية
أصبحت أداة الفكر دقيقة بشكل كاف لكي نواجه دون تردد مسألة التصنيف
العقائدي لمؤسسي الميكانيك الكمومي.
لنبدأ بقول بضعة كلمات عن "الواقعيين الحقيقيين" بالمعنى الذي يقصده
بلاكبرن.
يُعدُّ أينشتين عمومًا بين هؤلاء الواقعيين الحـقيـقـيـيـن. لكن وضوحه
الخـاص، وسخريته، وقدرته على التعرُّف على الشحنة العاطفية في موقفه،
يضعه خارج الأخاديد المرسومة والمحددة تمامًا؛ وربما يمكن رؤيته في
مكان ما في الأطراف السعيدة التي تمتد بين الواقعية وشبه الواقعية
والواقعية الداخلية. إن بعض جوانب فكره
وكتاباته،
مثل قوله بالإيمان تجاه نظام كوني، يقرّب أينشتين من واقعية
ميتافيزيائية أصيلة. وعلى العكس، فإن جانب واقعية أينشتين الذي يسميه
فاين
Fine
بـ"
entheorizing"[39]،
أي أن نضع جانبًا المسائل المتعلقة بمرجعية المصطلحات المفردة التي
تشير إلى أحداث أو أشياء لصالح مسائل حول الكفاية التجريبية الشاملة
للنظرية، يضعه بين بداية توجه شبه واقعي وتأكيد أكثر حسمًا، من نمط
واقعي داخلي، للنسبية الأنطولوجية.
هناك بعده لويس ده بروي
Louis de Broglie
ومدرسته. وهنا، لا يعود الشك مسموحًا. فهؤلاء الفيزيائيون لم يقبلوا
بتحديد حقل تطبيق الأنطولوجيا الكلاسيكية للأجسام المادية، كما اقترح
عليهم أعضاء مدرسة كوبنهاغن، ولا بإدخال تحسينات عليه أصبحت ضرورية من
خلال موافقته مع الصورية الكمومية، كما كان قد اقترح فون نيومان مع
آخرين ممن وضعوا المنطق الكمومي، ولا بأن يتغيروا أنطولوجيًا بشكل جذري
كما اقترح شرودنغر. بل حافظوا ببساطة على الأمل بالوصول إلى وسط ما تحت
كمومي، يتميز بمتحولات خفية، حيث تستعيد الأنطولوجيا التقليدية جميع
حقوقها. وقد اجتاحهم شعور بالانتصار عندما تمّ البرهان أن نظرية الموجة
الموجِّهة، التي نشرها ديفيد بوم
David Bohm
عام 1952، تكافئ بصرامة على مستوى تنبؤاتها الصيغة المعيارية للميكانيك
الكمومي. لكنهم لم يقلقوا لواقع أن نظرية ديفيد بوم ليست في نهاية
المطاف سوى وسيلة تشتمل على تطعيم جسم الميكانيك الكمومي بشكل أنطولوجي
فارغ تجريبيًا[40]؛
واحتاجوا لوقت طويل قبل اتخاذ أي إجراء حيال ذلك بسبب أن هذا الشكل
بعيد جدًا عن إعادة امتلاك كافة السمات التي ترتبط بالأجسام المادية
للميكانيك الكلاسيكي. تشهد التأثيرات غير المحلية، والسياقية[41]،
وخرق مبدأ العطالة[42]،
على هذا التباين العميق. وأيًا كان الأمر، فإن المقاومة العنيفة من دو
بروي ومن أنصار النظريات ذات المتغيرات الخفية اتجاه كل إعادة صياغة
أنطولوجية تبين بدرجة كافية عناد وتصلّب التزامهم الواقعي.
لنأتِ الآن إلى اللاواقعيين، الممثَّلين جيدًا (على الأقل في بعض لحظات
فكرهم) بأعضاء مدرسة كوبنهاغن. وهم كثيرون نذكر منهم نيلز بور
Niels Bohr
وويرنر هايزنبرغ
Werner Heisenberg
وماكس بورن
Max Born
وولفغانغ باولي
Wolfgang Pauli
وباسكوال جوردان
Pascual Jordan
وغيرهم. وقد انتُقدوا منذ فترة مبكرة بأنهم "وضعيون"، وذلك من قبل
أينشتين بشكل خاص. لقد أمكن لميل هايزنبرغ وبشكل خاص باولي إلى فلسفة
ماخ
Mach،
خلال الفترة المبكرة من إعداد الصورية[43]
formalisme،
أن يبرِّر هذا النعت لهم بالوضعية.
لكن سرعان ما تم تحت تأثير بور تجاوز هذه المرحلة الساذجة إلى حدّ ما
من التفكيك الأنطولوجي[44].
وبالتالي تم الوصول إلى النسخة الموضوعية والعملياتية[45]
للاواقعية، التي لا تخلو من عناصر واقعية متبقية، والتي سبق وذكرناها
سابقًا. لندع لهايزنبرغ أن يصفها لنا:
[...] إن تفسير كوبنهاغن ليس وضعيًا أبدًا، لأنه حيث تعتمد الوضعية
أساسًا لها الإدراكات الحسية للمراقِب [...]، فإن تفسير كوبنهاغن يعتبر
أن الأشياء والصيرورات القابلة للوصف بمساعدة المفاهيم الكلاسيكية، أي
الواقع، هي أسس كل تفسير فيزيائي[46].
إن لهذا الموقف دلالة عملياتية بما هي لا تضع أية صعوبة في نسب
"واقعية" للتجهيزات الجهارية ولحالاتها. وهو يتصل أيضًا بلا لبس بشكل
قوي مع اللاواقعية بما هي لا تعترف بأية قيمة حقيقة أخرى للبيانات التي
تتعلق بالأشياء الذرية سوى القيمة المنسوبة لها من خلال وضعها على
المحك ونجاحها على نحو فعال، مع اللجوء إلى استخدام تجهيزات جهارية.
فهو يجمع بين صلابة الواقعية على المستوى الجهاري، حتى وإن كان ذلك
يؤدي إلى بيان براغماتي - لساني، مع الصفحة البيضاء الجديدة اللاواقعية
على المستوى المجهري، حتى وإن كانت تعبّر عن نفسها أحيانًا كما لو أن
ذرات مجهزة بتحديدات كانت توجد فعليًا. يقول هايزنبرغ:
كانت أنطولوجيا المادية ترتكز على وهم أن هذا النوع من الوجود،
«الواقعية» المباشرة للعالم الذي يحيط بنا، يمكن أن يُعمَّم حتى مستوى
حجم الذرة. غير أن هذا التعميم مستحيل.
لا بدّ لنا من الإشارة إلى أن التعميم في هذه الجملة للأنطولوجيا
التقليدية باتجاه كون ذري وما تحت ذري يعتبر مستحيلاً، لكن لم تتم
الإشارة إلى أي تحفّظ فيما يتعلق بتطبيقه على الأشياء من المستوى
الجهاري وعلى الأحداث التجريبية.
مع ذلك، يعد مثل هذا الدمج غير مستقر، وقد اتبع عدد من أعضاء مدرسة
كوبنهاغن على مسؤوليتهم منحدرًا أكثر ما يكون واقعية، أو منحدرًا أكثر
لاواقعية بشكل جذري. ولن أذكر هنا سوى ماكس بورن الذي أشار في نهاية
حياته إلى أن إقامة استمرارية تصورية بين العالم الجهاري والعالم
المجهري تتطلب تعميم أنطولوجيا لأجسام مادية متموضعة، فعالة بلا أدنى
شك على مستوانا، وصولاً إلى المستوى ما تحت الذري. لهذا فقد حاول مذاك
أن يبرر، إنما ليس دون الكثير من الحذر والاحتياط، عودة مفهوم الجسيم
المكمل للتمثيل الرمزي الموجي، في الوقت الذي كان فيه هايزنبرغ قد
أنهاه وحلّه ضمن مثاليات رياضية، وفي الوقت الذي لم يكن فيه بور يحفظه
إلا مع التبعية الضمنية للتمثيل الرمزي.
لنأت أخيرًا إلى إرفين شرودنغر. فحالته معروفة منذ زمن طويل كإحدى أكثر
الحالات تطلبًا ووعورة. ووفق أحد الشارحين الحديثين[48]،
فإن نصف معاصري شرودنغر ومن تلوه تقريبًا صنّفه كمفكر واقعي، في حين أن
النصف الآخر كان يفضل تصنيفه بين اللاواقعيين، بل حتى بين أكثرهم
تطرفًا، أي المثاليين والظاهراتيين. وقد نسب بعض المؤلفين لشرودنغر
فلسفة في الحضور[49]،
تميل
بشكل
واضح إلى جانب اللاواقعية، وحاول أخرون أيضًا، مع إدراكهم للصعوبة،
تحديد نوع من الحلول أو التسويات العرجاء التي من الممكن أنه كان قد
انتسب لها[50].
وليس ثمة ما يدهش في هذا الاعتراف بالفشل من قبل مفسري أعمال شرودنغر.
فثمة فعلاً في مواجهة نصوص شرودنغر شيء محيّر، شيء متناقض ظاهريًا، لا
يمكن لأي من تطورات فكره أن يجعله واضحًا أو مفهومًا. ولكي ندرك ذلك،
لنضع مواجهة نصوصًا تعود إلى فترات متقاربة. والعينة الأولى من أزواج
هذه النصوص: كتيّب فلسفي يعود إلى شهر آب من عام 1925، بعنوان "البحث
عن الطريق"، ومقالة نشرت في كانون الثاني من عام 1926 تتضمن أول صياغة
لمعادلة شرودنغر الشهيرة. نقرأ في نص عام 1925: "[...] لا يمكننا
القبول بعالَم يوجد خارج [...] أنا، لأن كلاً منهما [الأنا والعالم]
يتكون من «العناصر» التجريبية نفسها"[51].
إن الإسناد إلى "عناصر" الوضعية الماخية واضح هنا، وقد أشار إليها عبر
استشهادات متكررة من "تحليل الأحاسيس" لماخ. ومع ذلك، في مقالة عام
1926، يقترح شرودنغر أن "[...] يقرن التابع
Ψ
مع ظاهرة اهتزاز ضمن - ذري لها سمة واقعية أكثر وضوحًا بكثير من ظاهرة
المسارات الإلكترونية التي غالبًا ما يُشكَّك فيها حاليًا"[52].
لم يورد شرودنغر هنا كلمة واحدة من أجل تمييز الفروق الدقيقة للمجال
الميتافيزيائي لمفهوم "الواقعية"؛ ولا أي كلمة من أجل ذكر الأحدية[53]
monisme
الحسية المستعارة من ماخ. ولنر الآن ما الذي يقوله بعد ثلاثين إلى خمس
وثلاثين سنة. لدينا هنا كمثال زوج آخر من النصوص: نص بعنوان "ما
الواقعي؟" ويعود إلى عام 1960، وبعض المقالات التأملية حول الميكانيك
الكمومي تعود إلى نهاية الخمسينيات. نقرأ في المؤلف الذي يعود إلى عام
1960: "بداية [...] سوف نأخذ بهذا التأكيد: أنه يجب أن يوجد، خارج
[الحياة العقلية] أو في جوارها، جسم تكون هذه الحياة العقلية تمثيلاً
له وتكون نتيجة له. لأن ذلك يبدو لي تكرارًا غير ذي جدوى يصطدم بخيط
أوكام"[54].
"لا أحد يدرك عالمين، عالم مرصود وعالم «حقيقي»"[55].
إن كافة حجج ترسانة اللاواقعي تُستخدم ضد فكرة عالم حقيقي أي واقعي
خارجي، ونرى أن كافة الهجمات ما بعد الكانطية ضد مفهوم الشيء بذاته قد
استعيدت هنا وتم تطويرها. وإلى جانب ذلك، نقرأ في نص مقالة تعود إلى
عام 1958: "على المستوى الحالي، وطالما بقي الشعاع الموجِّه للحالة
يلعب الدور الذي يلعبه، فيجب أن يُعتبر بأنه يمثّل «العالم الحقيقي في
المكان وفي الزمان»"[56].
إن البيان الأوضح الذي قُدّم حتى الآن على هذا التباعد الظاهر في فكر
شرودنغر هو ما كتبته ليندا ويسلز
Linda Wessels
في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراة[57].
ووفق ليندا ويسلز، فإن شرودنغر يدعم في آن واحد لاواقعية ميتافيزيائية
وواقعية منهجية في الفيزياء. وبالمثل، فإن آبنر شيموني
Abner Shimony
يميز كتابات شرودنغر التي ترجح كفة الميزان في أحد الاتجاهات،
والكتابات التي ترجح الميزان في الاتجاه الثاني، وينتهي بالإعلان أنه
"[...] يدافع من جهة عن الواقعية الفيزيائية [...] وأنه يقترح من جهة
أخرى ميتافيزياء مثالية"[58].
لكن أعتقد أننا لا يجب أن نقف عند ترجمة بسيطة للصعوبة من حيث التجاور
العقائدي. فواقعية شرودنغر المنهجية لا تقوم سوى بالتجاور والتواجد مع
لاواقعية ميتافيزيائية قوية. فهي متجذّرة فيه بشكل من الأشكال. إن
التعريف الأكثر عمومية الذي قدمه شرودنغر للواقع هو بشكل أساسي، وبقدر
ما يبدو ذلك متعارضًا، تعريف بين - ذاتي
intersubjectif،
لاواقعي بشكل أساسي: "[إن الواقعية] تتبدى لنا، بشكل من الأشكال، مثل
صورة تداخل لتحديدات عدة مراقبين فرديين - بل كافة المراقبين الفرديين
الذين يمكن تصورهم. إنها عبارة عن تكثيف لما وجدوه بهدف الاقتصاد في
الفكر"[59].
وعندما كان عليه الدفاع عن فكرة أكثر خصوصية بأن تابع الموجة (أو حامل
أو شعاع الحالة) يمثل الواقع، فإن الحجة الرئيسية التي استخدمها
شرودنغر كانت ترتكز على ضعف مزاعم انتماء الأشياء اليومية إلى الواقع
بقدر ما كانت ترتكز على تحديدات إيجابية للكينونة النظرية التي كان
يريد إحلالها محلها. لنفصّل قليلاً محاكمته المنطقية[60].
يقول شرودنغر إنه ليس لدينا أي سبب للاعتقاد أن متجهات الحالة هي أقل
حقيقية من الجسيمات أو حتى من الكراسي أو من الطاولات. فهذه الأخيرة هي
بقدر أشعة الحالة بناءات عقلية مخصصة لتوضيح ومطابقة تجربتنا حول عدد
صغير من اللامتغيرات. فالكراسي والطاولات هي كيانات نظرية على درجة
متساوي مع متجهات الحالة. إلا أن النظرية التي تندرج فيها الكراسي
والطاولات هي النظرية التي كان علينا نمذجتها منذ نعومة أظفارنا لكي
نستمر ونبقى.
إن نسب "واقع" لكينونات نظرية غريبة مثل متجهات الحالة لا يتعارض
بالتالي بحال من الأحوال مع اللاواقعية الميتافيزيائية لدى شرودنغر. بل
على العكس، فإن هذه اللاواقعية الجوهرية هي التي تسمح في آن واحد،
بتخفيفها بشكل كبير للشحنة العاطفية المرتبطة بمصطلح "واقع"، بفك
العلاقة المميزة التي تقيمها مع الأجسام المادية في الحياة اليومية،
وتوسيع حقل إسنادها، وتصوّر إعادة دمج كاملة للأنطولوجيا دون حالات
للعقل بالارتكاز على بنية النظريات الفيزيائية المعاصرة.
4- 8 شرودنغر: خيار شبه الواقعية مقابل واقعية داخلية
تكفي هذه الملاحظات القليلة باعتقادي لنشكَّ بوجود درجة كبيرة من
القرابة بين شرودنغر ونموذج بلاكبرن، هذا المفكر شبه الواقعي. فكما
بلاكبرن شبه الواقعي، ينطلق شرودنغر من نقد لاواقعي لمواقف الحس السليم
. بل هو حتى، بين كافة الفيزيائيين الفلاسفة في النصف الأول من القرن
العشرين، الفيزيائي الذي يدفع إلى أبعد مدى التحليل اللاواقعي، بحيث لم
يترك حتى الأشياء اليومية خارج نطاق فعل التسطيح الظاهراتية.
وبالنتيجة، كما عند شبه الواقعي، فمن نوبة من الشكوك اللاواقعية إنما
انبثق تبنّيه اللاحق لمواقف تحاكي مواقف الواقعي. ومثل شبه الواقعي
أيضا، فقد وجد صعوبة في جعل زملائه يفهمون أن بياناته المتعلقة
بالواقع، والموضوعية، والحقيقة، لا تعبّر بأي شكل من الأشكال عن تراجع
باتجاه مرحلة سابقة للنوبة، أو لهذه النقطة الحرجة، بل على العكس تعبر
عن إنجاز وإكمال خطوات حرجة. لهذا كان عليه أن يرد عليهم بلا كلل، كما
على سبيل المثال في رسالة مميزة إلى أينشتين تعود إلى عام 1950: "إنهم
يتهموننا بالهرطقة الميتافيزيائية إذا أردنا الوقوف في صف هذا
«الواقع». وعلينا أن نرد على ذلك بأن المدى الميتافيزيائي لهذا الواقع
لا يهمنا على الإطلاق"[61]؛
أو أيضًا كما في هذه المقالة الأخيرة التي تعود إلى عام 1958، حيث يشعر
أنه مجبر على أن يوضح
بشكل طبيعي، أن رغبتنا العارمة بتشكيل صورة للعالم، تصلح للجميع، في
المكان وفي الزمان [...] لا يجب أن تُصمَّم بشكل أنطولوجي [حيث استخدمت
لفظة «أنطولوجيا» هنا في معناها التقليدي، الميتافيزيائي، وليس في
معناها الدلالي المعاصر]؛ فذلك سيكون علمًا ساذجًا وجاهلاً لعدد من
الإنجازات الفلسفية الأقدم بكثير من الميكانيك الكمومي[62].
وحده هذا الحماس الذي أبداه شرودنغر في وصف الكينونات النظرية للفيزياء
المعاصرة بـ "الواقعية"، هذا الحماس النموذجي وفق بلاكبرن للعقائدية
Weltanschauung
شبه الواقعية، هو ما كان يمكن أن يجعل أكثر ذوي العقول الصافية يظنون
أنه لم يكن قطعًا نموذجًا معتادًا للمفكر الواقعي؛ وأنه لم يكن باختصار
"واقعيًا حقيقيًا". ومن جهة أخرى فإن إرادته بألا يسير بشكل مستمر مع
التأكيد الواقعي في العلوم لتصحيح أو لـ "كما لو" هي ما يميزه بوضوح عن
الواقعي الداخلي، ويبرزه بوضوح كشبه واقعي.
هكذا نكون قد أعطينا اسمًا ووجهًا للشكل غير المحدَّد الملامح إلى حدّ
ما للفيلسوف شبه الواقعي لدى بلاكبرن. إن جوهر العقيدة التي كان قد
حددها بلاكبرن كان قد طرح فعلاً في التاريخ؛ فقد وُجد حقًا مفكر شبه
واقعي، وهذا المفكر ليس سوى إرفين شرودنغر، أحد مؤسسي الميكانيك
الكمومي. وبشكل أوسع، فقد رسمنا إطارًا مناسبًا من أجل حوار حول ملاءمة
منظومات الكينونات المستهدفة من قبل الفيزيائيين: إنه في آن واحد إطار
غير ميتافيزيائي وصادر عن تقييم مفرط للتحولات الانعكاسية التي لا غنى
عنها. سوف نلجأ إلى هذا الإطار في الفصلين القادمين لكي نحكم على
موافقة منظومة الفكر الذرية اليوم (الفصل الخامس)، ولكي نقيِّم إسهام
أنطولوجيات بديلة كليانية واستعدادية، (الفصل السادس). ومما لا شك فيه
أن ما يهم هنا، كما في تحديد "المذاهب"، هو الطريق الذي تم قطعه تمامًا
كما النتائج التي تم الوصول إليها.
ترجمة: موسى الخوري
*** *** ***