الصفحة التالية                  الصفحة السابقة

أزمة النظرية الذرية المعاصرة* 2

 

ميشيل بيتبول

 

أمام مثل هذه البراهين، المقنعة جدًا، على وجود الذرة، فقد انتهى الأمر بالمشككين إلى السكوت [...]. إننا نستطيع تأكيد وجود الذرة باليقين نفسه الذي نؤكد فيه وجود النجوم.
رايخنباخ H. Reichenbach، الذرات والكون Atomes et Cosmos

علينا الآن, قبل أي شيء آخر، طرح السؤال التالي: كيف يصبح تحقيق التوقّع متوافقًا مع التوقع؟
ويتغنشتاينL. Wittgenstein ، Dictées pour Moritz Schlick

 

5. 5 الفيزياء الكمومية ونقد الذرِّية

مع نهاية هذا التفحص لما يوافق أن نسميه القاعدة التجريبية للنظرية الذرية، يمكننا العودة بشكل أكثر تعمقًا للعبة الانتقادات الجذرية أو لإعادة تأهيل التمثيلات الذرية التي يعود إليها عدد من النظريين في الفيزياء الكمومية.

وكتمهيد للحجة التي يقدمها عدد كبير من النظريين المعاصرين ضد النظرية الذرية، من المفيد وضع تسلسل تاريخي موجز، يعود إلى أصول الفيزياء الكمومية. فعندما نحاول الإشارة إلى بوادر وطلائع هذا النوع من الحجج، فإننا نفكر عمومًا ببور وهايزنبرغ. لكن أنماط تعبير هذين العالمين بقيت في بعض الأحيان دون مستوى جرأتهما التي صاغا في البداية بها أفكارهما. وإذا كان بور قد عمَّق باستمرار نقده لمفهوم خاصية ذرة ليُحِلَّ محله مفهوم الظاهرة المتضمنة للجهاز بطريقة لا يمكن فصلهما فيها، وإذا كان قد حدد بشكل منهجي على المستوى الرمزي مدى الصور الجسيمية أو الموجية التي نستمر في التعامل معها على مستوى الكون المجهري، فإنه لم يكفّ أبدًا مع ذلك عن اعتبار أن الظاهرات تقدم لنا معلومات "تتعلق بالأجسام الذرية[1]"، وأن هذه الأجسام الذرية "تسبب[2]" بالتبادل ظاهرات تأثير، وكذلك أن الصور تقرِّبنا وفق معنى معين من حالة الأشياء الحقيقية[3]. يفضل بور رسم مخطط الفكرة الأصلية للتشكل الرمزي للجسم الذري، وذلك من خلال تجميع الصور أو المتغيرات "المتكاملة"، بدلاً بالأحرى من القيام بنقد مجابه لمفهوم الأجسام الذرية نفسه[4]. وبقيامه بذلك، فإنه يدمج الجرأة مع نسبة معينة من المحافظة. لأنه، باستمراره في جمع الأزواج نفسها من المتغيرات التي تحدِّد حالة أجسام الفيزياء الكلاسيكية باتجاه أجسام الفيزياء الكمومية (ألا وهي أزواج الموضع وكمية الحركة)، فإنه يجعل بنيتها ذات إمكانية الظهور الكبيرة متطابقة مع البنية التنبؤية للنقاط المادية المتحركة. ومع القبول من جهة أخرى أن متغيرين متكاملين مقاسين على التوالي يمكنهما تمييز الجسم الذري "نفسه"، فإنه يُسقِط طرح السؤال الدقيق حول التوفُّر الدائم لمعايير إعادة التعيين لهذا الجسم بين لحظة القياس الأولى ولحظة القياس الثانية. أما هايزنبرغ فقد أشار من جهته إلى التحولات العميقة التي تعرَّض لها البرنامج الذري في فيزياء القرن العشرين، ولكنه احتفظ بالمبدأ الذري. فمن الصحيح وفقه أنه لا يجب اعتبار الذرات من الآن فصاعدًا إلا كـ "أشكال مختلفة يمكن أن تظهر من خلالها [...][5]" مادة أولية من نمط أرسطي يشبهها بالطاقة؛ لكن هذا يعني أن أجسامًا من هذا النمط تستمر على الأقل في هويتها الصريحة والقطعية. إن مشروع النظرية الذرية الديموقريطية، الذي كان يسعى إلى "تفسير التنوع النوعي للأحداث الفيزيائية الخارجية بربطها بتنوع في الأشكال[6]"، يمكن أن يُتابَع على هذا النحو شرط ألا يَحدَّ من مفهوم الشكل ليصبح مفهوم الحد المكاني لجسم مادي، وأخذه وفق معنى موسَّع لشكل رياضي. كتب هايزنبرغ بهذا المعنى، أنه يمكننا حتى التأكيد أن "[...] النظرية الحديثة تدمج فيها الأفكار الرئيسية والجوهرية للنظرية الذرية بطريقة أكثر نقاء مما كانت تقوم به النظرية القديمة[7]". ويظهر هنا مرة إضافية دمج العناصر المجدِّدَة والاحتجاج على استمرارية تاريخية كدمج مشكِّل للنظرية الذرية المعاصرة.

ولا بد من العودة إلى شرودنغر لكي نجد مؤسِّسًا للميكانيك الكمومي لا يحدُّ نفسه باقتراح تغيُّر نهائي في النظرية الذرية، بل الذي يشكك أحيانًا في أكثر عباراته تركيزًا حتى بالإطار التصوري لها. وهو يعتبر في الواقع أن "[...] النظرية الذرية الحديثة كانت قد وقعت في أزمة[8]" لا سابق لها. وبتحديد أكبر، فإن الفيزياء الكمومية نفسها هي التي، بعودتها بشكل متعارض ضد أصلها التاريخي الخاص، ولدت حالة الأزمة هذه: "ففي الوقت الذي توسَّع فيه مجال النظرية الذرية إلى ما وراء كافة الحدود تقريبًا، فإن النظرية الكمومية دفعت أيضًا بالنظرية الذرية في أزمة أخطر من استعداد معظم الناس للقبول به[9]". ربما كانت خصوبة نمط الفكر الذري كبيرة جدًا، وربما كانت البنية البديهية للذكاء البشري الذي تمثله[10] قد أظهرت قدرتها الكاشفة خلال القرن الماضي، لكن يجب الاعتراف، كما يؤكد شرودنغر، بأن كينوناتها تنهار أمام المجرِّب كلما مضى هذا الأخير قدمًا في استكشافها. وفي الحالة العامة، فإن أجسام المستوى الذري تفقد في الواقع معايير تمييزها من خلال خصائص نوعية وفي الوقت نفسه تفقد المعيار الكلاسيكي للهوية عبر - الزمنية، الذي كانت تؤمنه إمكانية معالجة مسارها كما لو كان مسارًا مستمرًا بشكل صارم. وفق شرودنغر، فإنه من الأفضل بالنتيجة، "[...] عدم النظر إلى جسيم ككينونة دائمة، بل بالأحرى كحدث لحظي. تشكل هذه الأحداث أحيانًا سلاسل تعطي الوهم بأنها أجسام دائمة[11]". فالأشياء الجسمية الدائمة التي كانت تفترضها النظرية الذرية اختُزلت على هذا النحو، عند شرودنغر في فكره خلال سنوات الخمسينيات من القرن العشرين، إلى مجرد ظهور أداتي مشابه للظهور الإدراكي المعروف باسم "ظاهرة فاي" عند علماء النفس[12]. فكما أنه، في "ظاهرة فاي"، يتم إدراك تتابع سريع من الومضات الضوئية المتجاورة إنما المنفصلة بوضوح كحركة مستمرة لجسم ما، فإنه يتم تفسير شيء نقطي من الأحداث الجهارية في غرف الفقاعات (مثل ظهور فقاعات متراصفة إلى حد ما) كتعبير عن انتقال مستمر للجسيم.

إن النتيجة التي يستخلصها شرودنغر من نقده للنموذج البدئي للجسيم المادي هي نتيجة جذرية. فبدلاً بالأحرى من اللجوء إلى نسخة رياضية، شكلانية ومجردة للنظرية الذرية، كما كان يقترح هايزنبرغ، فإنه يتخلى تمامًا عن التعددية المشكِّلَة لصالح واحدية كونية كانت النسخة الأكثر جرأة منها قد وضعت مع نهاية الثلاثينيات من القرن العشرين. وهو لا يتردد في سلسلة من المقالات المستلهمة من قراءة إدينغتون Eddington[13]، في اعتبار أن الظاهرات المنفصلة التي تعتمد في ارتكازها على الرؤية الذرية تنتج من أنماط ثابتة من الاهتزاز الكلي لكون منتهٍ. إن هذه الأنماط الثابتة لا تشبه في شيء الذرات الجسيمية، كما يصرُّ شرودنغر، إنما هي تهدف إلى الأخذ بعين الاعتبار لما يسميه "التكافؤية" الظاهرة للطبيعة، أي للجوانب غير المستمرة / المتقطعة التي تظهر من خلال التقصي التجريبي.

من الصحيح أننا إذا تمسَّكنا بهذا العرض الموجز حول موقف المبدعين الرئيسيين للميكانيك الكمومي، فإننا قد نعتقد أن تحفظاتهم تجاه الجوانب المكانية الأكثر حسية للنظرية الذرية، بل ونقدهم المعمق للمبادئ نفسها لهذا التمثيل للعالَم، يعود إلى أنهم لم يكونوا يستطيعون أن يتعرفوا في عصرهم على الصور والتجارب الدقيقة جدًا المرتكزة على استخدام المجاهر أو التجهيزات الخاصة بالعالم الصغائري والتي تجعل التوصيفات الذرية حاضرة إلى هذا الحدِّ في أيامنا هذه. بل إن ما حصل بالضبط هو أن نقد الذرية شهد عودة جديدة وملحوظة خلال السنوات الأخيرة، على الرغم من التقدم الحاصل في مجال الصور وتقنيات العوالم الدقيقة. إن السبب المباشر لهذا التجدُّد هو الجذب الذي تمارسه التمثيلات المضادة الجديرة بالتصديق المستلهمة من الصورية نفسها للنظريات الكمومية. وهي تمثيلات مضادة غير ذرية في مبدئها، لكنها فعالة من جهة أخرى بدرجة عالية وقادرة على أن تأخذ بعين الاعتبار تنبؤيًا الظهور الحذر الذي يستدعي بشكل لا يقاوم النظرية الذرية بالنسبة لباحثين منخرطين في تقليدها.

يُشتق أول هذه التمثيلات المضادة من فك الارتباط. ويهدف مشروع نظريات فك الارتباط décoherence في الواقع في أقصى طموحه إلى إظهار كيف أن الأحداث الجهارية المتقطعة والحصرية بالتبادل، التي نفسرها في النموذج الذري على أنها أثر صدمة جسيم، يمكن أن يتم تصوُّرها كبنى منبثقة تنتج عن التطور المستمر لتابع موجة شامل مرتبط بكلية سلسلة القياس والوسط المحيط. ففي النطاق الذي نمتلك فيه نظرية تبادل من هذا النوع، نظرية تأخذ بعين الاعتبار الظهورات المتقطعة (غير المستمرة) باستخدام قانون التطور المستمر وحده في الميكانيك الكمومي (معادلة شرودنغر)، كما لاحظ مؤخرًا أخصائي فك الارتباط هانس - دييتر زه Hans-Dieter Zeh، "[...] فإنه يبدو أنه لا يوجد فيها أي باعث منطقي [...] من أجل إدخال مفاهيم مثل مفاهيم الجسيمات [أو] القفزات الكمومية [...] على مستوى جوهري". بل إن عنوان مقالته كان مجردًا من أي التباس أو ريبة: "ليس هناك قفزات كمومية، ولا جسيمات![14]".

تقدم لنا نظرية الحقول الكمومية التمثيل المضاد الثاني، وهي اليوم النظرية الأكثر تأييدًا وتأكيدًا وإحدى النظريات الكمومية الأكثر تقدمًا. إن التمثيل الذي تقدمه صوريتها قريب في فكره بشكل مميز من النموذج الكوزمولوجي الذي كان يدافع عنه شرودنغر، الأمر الذي لا يشكل صدفة على الإطلاق طالما أن شرودنغر كان أحد رواد النظرية الكمومية للحقول وأحد أكثر المدافعين عنها حماسة نحو نهاية فترة عمله. حلَّ هذا التمثيل الجديد محل مفهوم تعددية n جسيم، وهي سوية التحريض n لوسط مهتز وحيد. وهو يسمح بشكل خاص باستبدال المفاهيم المشكوك فيها لـ "خلق" و"إفناء" الجسيمات (التي يقود إليها التكافؤ النسبي بين المادة والطاقة عندما نطبقه في إطار فكر النظرية الذرية)، بمفهوم تغيُّر حالة الوسط المهتز. وهكذا فإننا ننتقل من وجهة نظر إحصائية بالدرجة الأولى إلى وجهة نظر ديناميكية جوهريًا. وهكذا يتم التخلي عن النموذج "التشيُّؤي"، الذي يمنح تفوقًا للحامل المُمَوضَع والدائم بالنسبة لحركته المعتَبَرة كصفة انتقالية، وفي مكانه يتم اعتماد نموذج كمومي نسبي يتركز الانتباه فيه على تغيرات الحالة بينما يترك أساسه المفترض في خلفية المشهد. إن التعليم النهائي والأوضح لصورية النظرية الكمومية للحقول، مهما كانت معتبرة من الدرجة الأولى، استخلصه بول دايفس Paul Davies هنا أيضًا في عنوان إحدى مقالاته: "الجسيمات لا توجد[15]".

5- 6 ضعف ومقاومة "براهين وجود" الذرات

يجب في الوقت الحاضر، لكي نتأكد من أن التمثيلات المضادة جديرة بالتصديق، إتمام مهمة كنتُ قد وضعتُ الخطوط الأولى لنتيجتها فيما يخص نظريات فك الارتباط. وتشتمل هذه المهمة على البرهان أن الظاهرات المدرَكَة عادة كـ "براهين على وجود" أجسام ذات طبيعة جسيمية تقريبًا ليست كذلك. وهي ليست كذلك ليس فقط، كما سبق ورأينا، لأن أجزاء البراهين التي تقدمها ليست كافية ولأن تفسيرها ليس مقرونًا بالتمثيلات الذرية إلا بواسطة سلاسل من التقريبات المتتالية، بل وأيضًا لأن هذه الظاهرات يمكن أن تؤخذ بعين الاعتبار على الأقل بالقدر نفسه باستخدامها لنموذج استبدال لا يفترض أي عنصر من نمط جسيمي. كتب دسبانيا: "مضلِّلة في الحقيقة بلاغة الوقائع الصغيرة [التي تدافع لصالح التمثيلات الجسيمية]. وما نعتقد أنها تبرهنه بوضوحٍ معمٍ، فإنها لا تبرهنه في نهاية المطاف[16]". فلا التأثيرات على الشاشات، ولا الآثار في غرف الفقاعات، وأضيف أيضًا ولا الصور الموحية التي تزودنا بها المجاهر ذات الأثر النفقي، تبرهن ما يبدو أنها تبرهنه.

تكمن المسألة في أنه ليس من السهل البرهان على ذلك، خاصة عندما لا نرغب في الدخول في كافة تعقيدات الصورية الكمومية. وسوف أقدم كشاهد على هذه الصعوبة الطريقة التي عمل بها برنار دسبانيا نفسه، من أجل دعم تأكيداته القوية، فلجأ إلى تقريبات حاول في بعض الأحيان أن يعالجها في عرضه المخصص للجمهور الواسع كما لو كان يأخذها بشكل حرفي. اختار دسبانيا مثال أثرٍ في حجرة فقاعات يبدو أنه لا يمكن أن يفسَّر إلا كأثر مرور لجسيم متموضع في كل لحظة. والحال، كما يلاحظ، أن الميكانيك الكمومي يقدم تفسيرًا غير جسيمي لهذه الظاهرة: "إنه يصف كلاً من الجسيمات العارضة بواسطة موجة مستوية تنتشر من الأعلى إلى الأسفل، مما يعني أن الجسيمات لا يكون لها عند نقطة البداية أي تموضع[17]". ويسمح الميكانيك الكمومي بعد ذلك بالاعتماد على قاعدة بورن بحساب "الاحتمال من أجل أن يتم تحريض جزيئين من السائل الذي تحتويه [حجرة الفقاعات]، وذلك بسبب تفاعلها مع مثل هذه الموجة". بعد القيام بذلك، نستنتج "[...] أن هذا الاحتمال ضعيف جدًا في كافة الحالات، باستثناء الحالات التي يقع فيها الجزيئان المعنيان على خط شاقولي واحد تقريبًا[18]". إن ظاهر مسار جسيمي متموضع يمكن بالتالي أن يؤخذ بعين الاعتبار بواسطة نموذج تفاعل احتمالي لموجة ممتدة مع المكونات الجزيئية لوسط يملأ حجرة الفقاعات.

لكن هذه الإمكانية لا تكفي بالتأكيد لإعطاء التفضيل للتمثيل المقترن بها. يضيف دسبانيا بالتالي حجة هامة: إن تفسير استبدال الآثار في حجرات الفقاعات يتوافق تمامًا مع القوانين العامة للفيزياء الكمومية، في حين أن تفسير المنطق السليم، التفسير الذي يؤدي إلى إظهار مسار جسيمي، يندرج خطأ ضد هذه القوانين[19]. وهكذا يبدو أن خيار التمثيل اللاجسيمي يفرض نفسه في هذه الشروط.

ألاحظ مع ذلك بعض الأخطاء في هذه الطريقة في عرض البيان التناوبي لظاهرة الآثار في حجيرة الفقاعات. أخطاء لا تلغي الخلاصة العامة المستخلصة من قبل دسبانيا من محاكمته، بل التي تجعلها أقل حتمية طالما كنا لا نلجأ إلى حجج أخرى.

الخطأ الأول هو خطأ شائع في العمق. وهو يشتمل على إدخال أجزاء من التمثيلات الذرية في بيان للآثار يسعى إلى التحرر منها. لا شك أن الإشعاع العارض يعالَج وفق نمط موجي، لكن السائل المحتوى في حجيرة الفقاعات يفترض أنه مؤلَّف من كثرة من الأجسام الصغيرة الممَوضَعَة تقريبًا (الجزيئات) والقابلة للتحريض[20]. لا شك أن هذا العلاج مشروع كتقريب للمسألة، طالما بقينا موجودين ضمن شروط السرعة النسبية الضعيفة والاختلاف الكبير في الكتلة بين الإشعاع المنشور والمراكز الناشرة له، غير أنه من الضروري الحفاظ دائمًا في فكرنا على أن الأمر لا يتعلق إلا بتقريب. ومن جهة أخرى، بدلاً من الحديث ببساطة عن موجة مستوية تنتشر في حجرة الفقاعات، يقرن دسبانيا في دراسته "regards sur la mtière" موجة بكل جسيم؛ موجة من المفترض أن تصف الجسيم المقترن بها. والحال، وهو لا يجهل ذلك، أن هذا النمط من التعبير الشائع لدى الفيزيائيين هو أحد الأنماط التي "توحي [...] مع قوة الأدلة الزائفة، بالذرية الفلسفية[21]". لهذا فإنه يختار في مقاله الحديث حول هذا الموضوع ألفاظًا أكثر حذرًا وأكثر توافقًا مع الدروس التي استنتجها من التحليل الكلي للظاهرة الذي أشاد به بور. فلم يعد يتحدث عن جسيمات موصوفة بواسطة موجات بل بالأحرى عن "كينونات [...] يجب علينا أن نعتبرها [بالنسبة للظاهرة المحلَّلَة] على أنها من طبيعة الموجات بشكل أساسي". إن البقية الوحيدة الباقية هنا من النظرية الذرية هي جمع لفظة "كينونة".

غير أن هذا التصحيح ليس كافيًا. فصورة كثرة من الموجات الحادثة التي لها احتمال معين في تحريض الجزيئات المتموضعة في الحجرة ذات الفقاعات لا تتقارب كثيرًا مع صورية الميكانيك الكمومي المعياري المدفوع حتى نتائجه القصوى. وبالمعنى الدقيق للكلمة، فإن بيانًا كموميًا للظاهرة يجب أن يُدخل تابع موجة شامل (وغالبًا ما يكون " متشابكًا أو متمازجًا") من أجل التحضير الذي يشتمل في آن واحد على الإشعاع الطارئ وقطاع معين من حجرة الفقاعات.

إن هذا النمط من المعالجة الكلية، المميِّز لنمط عمل صورية متجهات الحالة في فضاءات هيلبرت الناتجة، معروف منذ عام 1929 على الأقل، من خلال المقالتين المؤسِّستين اللتين وضعهما كل من داروين C. G. Darwin وموت[22] N. F. Mott. وهما مقالتان شهيرتان (خاصة الثانية)، إنما حيث يبدو أنه لم تُستخلص منهما كافة الدروس حتى الآن. هذا إلى حد أن بل J.S. Bell دُهش من أن "[...] كثيرين من التلاميذ اجتهدوا لكي يعيدوا بأنفسهم اكتشاف أفكار من هذا النوع. وعندما يتوصلون إلى ذلك فإن ذلك غالبًا ما يكون مع إحساس بالكشف[23]". ولكن على ماذا تشتمل بالضبط هذه الأفكار؟ لقد اندهش موت، بعد داروين، من وجود نوع من اللاتناظر في بيان صيرورة إشعاع ألفا α، عندما نعتبر حينًا إصداره، ونعتبر حينًا آخر الآثار التي يتركها في حجرات ويلسون. إن النظرية الكمومية للتحلل الإشعاعي، التي تسمح بتفسير إصدار الإشعاع α على الرغم من وجود حاجز كمون عالٍ جدًا بحيث لا يستطيع جسيم عادي طاقته ضعيفة أن يجتازه، تتضمن مفهوم الأثر النفقي، ومعالجة الإشعاع α كموجة. تتناقص سعة هذه الموجة بشكل أسِّي مع ثخانة حاجز الكمون، لكنها تظل غير معدومة على الرغم من الارتفاع المفرط للحاجز بالنسبة للطاقة الحركية المتوفرة للإشعاع. ولهذا، فإن احتمال إصدار الإشعاع α، الذي يقدمه مربع معامل سعة هذه الموجة، هو نفسه غير معدوم، على عكس ما ستكون عليه الحالة بالنسبة لجسيم كلاسيكي له الطاقة الحركية نفسها. فإذا أردنا أن نعطي للبيان الكمومي درجة كافية من التماسك والقوة، فيجب بالتالي وفق داروين وموت الاستمرار في استخدام صورية توابع الموجة بشكل حصري عندما نواجه مسألة الآثار في غرفة ويلسون أو في حجرة فقاعات. والحال أنه للقيام بذلك لا يجب أن نحاول تطبيق هذه الصورية على الإشعاع الطارئ؛ بل يجب مدُّه على الكلية المكونة من الإشعاع والمناطق المكانية ذات الصلة لحجرة ويلسون. يقبل موت تمامًا أن تابع الموجة متعدِّد الأبعاد الذي ينتج عن هذا الحساب لا يسمح بأي وصف للصيرورات الافتراضية الجارية في قطاع الزمكان الذي تغطيه حجرة ويلسون. غير أن هذا التابع يقدم لنا على الأقل وسيلة لتقدير احتمالية أن تظهر متوالية معينة من القطرات المائية (أو من الفقاعات) المتراصفة بشكل تقريبي. فهو يسمح لنا أن "[...] نتنبأ بنتيجة أي رصد كان" يتخذ شكل أثر متوالية من القطرات أو من الفقاعات. وبالتالي فإننا نتوصل، فقط بشرط أن نكون قد دفعنا الصورية الكليانية والنظام التنبؤي البحت للميكانيك الكمومي حتى نتائجهما القصوى، إلى الالتفاف تمامًا على التمثيل شبه الجسيمي للإشعاع α الحادث، حتى نجده من جديد في نهاية المطاف، كوسيلة مجازية لتمثيل الأثر المستمر لمسار السلسلة المتقطعة من القطرات التي سبق وحسبنا احتمالها: "فلا يجب أن نأتي على ذكر أن الإشعاع α يتألف من جسيمات قبل هذا التفسير الاحتمالي النهائي".

لنتساءل الآن لماذا لم تتم ترجمة هذا الإجراء من استخدام التوابع الموجية أو المتجهات العامة للحالة من أجل حساب احتمال المجموعات المتوالية من الظاهرات، على الرغم من كونها معروفة جدًا ومستخدمة في غالب الأحيان، لماذا لم تتم ترجمتها مباشرة ترجمة فلسفية بمصطلحات نقد البقايا النهائية من التمثيلات الجسيمية. يمكن أن نجد السبب الرئيسي لهذا الأمر في أعمال لهايزنبرغ معاصرة إلى حد ما[24]. ووفقًا لهايزنبرغ، فإن النتيجة نفسها تتم على نحو إدراج إشعاع α ومكونات حجرة ويلسون في منظومة وحيدة مركبة يُقرن بها تابع موجة شامل، أو ألا نقرن تابع موجة إلا بشعاع α واعتبار حجرة ويلسون كجهاز قياس يوصف بواسطة الفيزياء الكلاسيكية. في الحالة الثانية، يجب أن يتم إدخال أو إحداث انقطاع في مكان ما بين المنظومة الكمومية والجهاز شبه الكلاسيكي للرصد، غير أن تحديد موضع هذا الانقطاع بالنسبة لهايزنبرغ كما بالنسبة لبور هو شبه عشوائي؛ إنه يتعلق فقط باعتبارات براغماتية. ولهذا فقد بذل هايزنبرغ جهده لكي يبرهن أنه من المكافئ تنبؤيًا، في مسألة آثار إشعاع α في حجيرات ويلسون، معالجة شعاع α وحيد بواسطة تابع موجة، حتى جعله يتعرض لـ "اختزالات" متتالية عند كل تشكل لقطرة ما، واستخدام توابع موجة شاملة تصح بالنسبة للمنظومة (شعاع α + حجرة ويلسون) ولا تتعرض كتوابع شاملة إلى "اختزالات".

يجب مع ذلك الإشارة عند هذه النقطة إلى أنه، إذا كان صحيحًا أن الطريقتين تقدمان تنبؤات متطابقة، لكنهما ليستا متكافئتين تعليميًا وتجريبيًا. فالمنهج الذي يستخدم "اختزالات" متوالية لتابع الموجة المرتبط فقط بإشعاع α يتمتع بالتأكيد بميزة البساطة. وهو يشتمل في الواقع على استخدام المعلومة المقدَّمة بواسطة الرصد النقطي لقطرة ماء من أجل ربط تابع موجة جديد بالإشعاع α، الأمر الذي يسمح بدوره بالتنبؤ بالظاهرات التالية لتشكل قطرة الماء هذه. فكل شيء يجري هنا كما لو كنا نستخرج عند كل رصد نقطي جزءًا صغيرًا متوافقًا من المعلومات المحتواة في تابع الموجة الشامل المرتبط بالمنظومة (الإشعاع α + حجرة ويلسون): هذا الجزء هو الذي يسمح بأن نحسب بشكل انتقائي احتمال الرصد النقطي التالي. تكمن المشكلة في أن الذين يستخدمون هذه الطريقة ينسون عمومًا تابعها المحدود؛ ويفقدون غالبًا رؤية واقع أن "الاختزالات" المتتالية ليست بأي حال من الأحوال تغيرات مستقلة لتابع الموجة بل إعادات تعيين لشكله يتم فرضها لأسباب تتعلق بسهولة وبساطة الاستخدام. وتكون نتيجة هذا النسيان أننا ننتهي بأن نعتبر التطور المتقطع للتابع الموجي، من خلال الانتشار و"الاختزالات" المتتالية، كنوع من بيان وصفي للصيرورة الفيزيائية التي هي أساس الآثار الظاهرة في حجرات الفقاعات. إن هذه الطريقة في الرؤية (وليس شكلانية النظرية الكمومية بذاتها) هو ما يحرِّض المشاكل والتناقضات المعتادة حول آلية "اختزال حزمة الموجات". وعلى العكس، فإن طريقة التوابع الشاملة للموجة الممتزجة (أكانت مطبقة من خلال القراءة الاحتمالية الأولية لموت، أو من خلال التفسير النمطي لفان فراسّين، أو من خلال التمثيل التخيلي لإيفيريت) تتميز بالحفاظ بشكل دائم على تمييز واضح بين النموذج التنبؤي المستمر وسلسلة الأحداث المتقطعة التي يجب التنبؤ بها. إن المسألة الوحيدة التي يجب حلُّها في هذا الإطار الفكري تتعلق ليس بأي "اختزال" متقطع لتابع الموجة (الذي لا سبب لوجوده)، بل بالطريقة التي يتم بها الانتقال بين حساب للاحتمالات ذي بنية موجية وحساب كلاسيكي للاحتمالات، كما أن تابع الموجة الشامل يخص على التوالي منظومات أكثر فأكثر قربًا من سوية التعقيد الجهاري. وكما نعلم، فإن إجابة منطقية مُرضية على هذا السؤال المحدَّد، بالأحرى منها إجابة مباشرة على السؤال حول "اختزال حزمة الموجات"، قدمتها نظريات فك الترابط décohérence.

يعرف برنار دسبانيا معرفة تامة بالطبع كافة هذه النقاط الدقيقة في النظرية الكمومية للقياس؛ بل هو حتى أحد المؤلفين الأكثر إسهامًا في العالم في توضيحها. ولهذا السبب فهو يعي تمامًا، في هذا الجانب كما وفي جوانب أخرى، أنه لم يستخدم سوى مقاربة، في بيانه المخصص للجمهور الواسع، لصيرورة تشكُّل الآثار في حجيرات الفقاعات[25]. تكمن المشكلة في أننا لا نستطيع الاعتماد صراحة على المقاربة من أجل تقديم تفسير إلا بشرط أن نقرن فقط بلفظة تفسير معنى براغماتيًا ضعيفًا من نمط المعنى الذي يقترحه فان فراسين[26]. فوفق فان فراسين لا تُقبل سلسلة من المقترحات كـ "تفسير" إلا إذا كانت تقدِّم على سؤال "لماذا" إجابة تعتَبَر مقنعة بالتوافق، في إطار مجموعة من المعتقدات المشتركة من قبل المتحاورين ومن التقريبات التي يقبلون بها. وهي لا تصحُّ إلا بالنسبة لهذا الإطار، وليس في المطلق، ككشف عن الأسباب الانتقالية للظاهرات. وهي يمكن أن تكون بالنتيجة موضع تساؤل بالكامل في إطار آخر حيث لا تعتبر التقريبات المنجزة مقبولة.

ولكن حتى مع ذلك لا يتم حل كافة الصعوبات. فحتى مع افتراض أننا قبلنا بالتقريب المقترح، فإننا نظل مجبرين على الاستنتاج أن العناصر التي تدخل فيه لا يمكن أن تُستخدم كعناصر تفسيرية إلا بمعنى واسع بشكل مفرط. وباستثناء مدِّ التوافقات البراغماتية للتفسير إلى ما وراء ما يمكن أن يقبل به معظم أعضاء مجتمع المتحاورين، فإن الإجابة المقترحة على سؤال "لماذا توجد صفوف من الفقاعات تحاكي أثر مسار ما؟" تظل إجابة غير مقنعة. لنفترض أننا في الواقع مع برنار دسبانيا لا نعطي معنى آخر لكينونات نظرية في الميكانيك الكمومي مثل تابع الموجة إلا معنى أداة رياضية لحساب الاحتمالات، وبعبارة أخرى أداة تنبؤية بحتة. فكيف يمكننا القول عندها إن البيان الكمومي التقريبي للآثار في حجيرات الفقاعات يقدم تفسيرًا لها، بل وأكثر من ذلك كيف يقدم تفسيرًا ينافس التفسير الذي يدخل في حسابه مرور جسيم؟ يمكننا أن ندعم، مع هامبل[27] Hempel، فكرة "تفسير احتمالي" يشتمل على إعادة الربط من خلال قانون احتمالي بين حدث ينتج في موضع زمكاني معين (الإيضاح l'explicandum) مع حدث وقع سابقًا وهو عمومًا بعيد عن الأول (التفسير l'explanans). وقد أشار دسبانيا أيضًا إلى أنه كان يفكر بهذا النوع من التفسير في بيانه عن الآثار في حجيرة ذات فقاعات[28]. ومع ذلك، فإنه لا يهم كثيرًا اعتبار القيمة المحلية لأداة حساب الاحتمالات نفسها (في هذه الحالة هي القيمة المحلية لتابع الموجة) كنوع من تفسير explanans وسطي. فإذا أصبح حدث B في نقطة PB أكثر احتمالاً من خلال التدخل السابق للحدث A في النقطة PA، فإنه يمكننا القول وفق المعنى الذي يشير له هامبل إن الحدث A يفسِّر بطريقة احتمالية تدخُّل الحدث B؛ لكن لا يمكننا التأكيد بأي حال من الأحوال أن التوزُّع المكاني وتطور تابع الاحتمال بين الموضعين PA وPB يفسران بنفسهما تدخل الحدث B. إن العنصر الأكثر كمومية بشكل خاص في هذا البيان، ألا وهو تابع الموجة، لا يمكن أن يعالج بالنتيجة كما لو كان يفسِّر بذاته أي شيء كان؛ ولنكرر القول إنه لا يقوم سوى بتزويدنا بالرابط الذي يسمح باعتبار الأحداث السابقة كـ "تفسيرات" احتمالية لأحداث تالية. وذلك على الرغم من أن التعابير المستخدمة من قبل دسبانيا، كما على سبيل المثال عندما يتحدث عن "تفاعل" الجزيئات مع "موجة معينة"، تستدعي بشكل لا يقاوَم علاقة شبه سببية مباشرة، من خلال التجاور بين الموجة بسي Ψ والأحداث التي تؤدي إلى تشكل البنى المرصودة في حجيرة فقاعات[29].

5- 7 تعددية التمثيلات وحدودها

بالتالي، فإن وصف توابع الموجة وتطورها يعود بالأحرى إلى اعتراف باللاأدرية اتجاه أي تفسير كان للإنتاج المحلي للظاهرات التجريبية، هذا إلى جانب الاهتمام الحصري بالعلاقة الاحتمالية بين هذه الظاهرات، أكثر مما يعود إلى مشروع تفسير حقيقي. إن مثل هذا الحصر للاهتمام لا يؤسف عليه في شيء إذا ما فكرنا أن التمثيل الذري على العكس، الذي يقدم تفسيرًا مقنعًا فيما يبدو لإنتاج الظاهرات، يخفق لوحده في تقديم سبب لعلاقاتها.

إن قبول اعتبار الميكانيك الكمومي كصورية تنبؤية بحتة يفرض علينا بالتالي أن نحدَّ من الزعم التفسيري للبيانات التي يقدمها بذاته. لكن ذلك لا يجبرنا بالضرورة على التخلي عن الطموح العام بتفسير الظاهرات، في إطار نظرية أخرى لا يشكل الميكانيك الكمومي سوى الهيكل الاحتمالي لها. إن التفسير التنبؤي لرموز النظرية الكمومية لا يجبر في الواقع لا على اعتماد ميتافيزياء وضعية للواقع التجريبي، ولا بشكل أوسع (حتى وإن كان يدعو إلى ذلك) على الاقتصار على ملازمة صرفة للإجراءات العملياتية على حساب هدف التمثيل. يمكن لهذا الموقف المتراجع أن يشكل على العكس المرحلة الأولية التي لا غنى عنها للتقييم الصافي للقيود التي يجب أن يحققها كل تفسير أكثر طموحًا، يمكن أن يُقترح في المستقبل، أو التي كان يجب أن تحققها التمثيلات المستخدمة كدليل للبحث في الماضي. إن النقد الحقيقي، الذي يظل بإمكان الواقعي توجيهه إلى كل من يمجِّد ذرائعية منهجية أكثر منها عقائدية، ليس بالتالي منع كل تمثيل أو إيقاف الوظيفة الدلالية للمرجع، بل ترك الباب مفتوحًا، ما أن يتم أخذ القيود التنبؤية بعين الاعتبار، لدرجة معينة من تعددية التمثيلات ولتنوع متلازم للمنظومات المرجعية.

ينتقل النقاش ضمن هذه الشروط إلى موضع آخر. فلم يعد الأمر يتعلق باعتماد أو رفض عقائدي لتمثيل خاص مثل المذهب الذري، باسم براهين أو تفنيدات تجريبية تعتبر حاسمة ونهائية. بل يتعلق الأمر بمناقشة الطابع المقبول أو غير المقبول لتعددية للتمثيلات، أو للنماذج الإرشادية (المساعدة على الكشف)، أو للمنظومات المرجعية أو للـ "أنطولوجيات"[30] المقترنة بها، وذلك بالنظر إلى القيود المفروضة من خلال المحتوى التنبؤي للنظريات الكمومية. ولكن قبل أن نأتي إلى هذه النقطة، علينا أن نذكِّر بإيجاز ما هي القيود التي يجب أن ينضوي تحتها أي تمثيل كان للجسم المفترض للنظريات الكمومية، وبالمقابل أي خطاب يتعلق بهذا الجسم[31].

تستند القيود على التنبؤ وعلى المرجع، أو إذا كنا نفضل على المفاهيم الصورية للخاصية ولحامل الخصائص.

لنبدأ بالتنبؤ. نعلم أنه في الفيزياء الكمومية لا يمكن للنتائج التجريبية بشكل عام أن تصبح مستقلة عن نظام استخدام التجهيزات. تفرض علاقات هايزنبرغ على سبيل المثال أن قيمة لكمية الحركة لا يمكن أن تكون قابلة لإعادة الإنتاج بدقة إلا إذا لم يجر أي قياس للموضع أثناء ذلك. وفي الحالة المعاكسة، فإنه لا يمكن إيجاد قيمة كمية الحركة إلا مع هامش تشتت إحصائي تتعلق سعته بالتشتت المقبول على القياس الوسطي للموضع. والحال أننا لو أردنا الارتكاز على نتيجة من أجل إسناد خاصية يملكها جسم بشكل مستقل عن القياس، وإذا أردنا اعتبار النتيجة كمجرد انعكاس سلبي للخاصية، فسوف يلزم على الأقل أن نستطيع الاعتماد على درجة كافية من ثبات النتيجة اتجاه شروطها الأداتية في الحصول عليها واتجاه المتواليات الأداتية التي سبقتها. إن فصل تحديدٍ للظروف التجريبية ونسبه بشكل خاص إلى جسم، يفترض أن يُظهر بالحد الأدنى لامبالاة معينة اتجاه هذه الظروف. فإذا كنا نرغب على الرغم من حساسية النتائج هذه للظروف التجريبية ألا نتخلى بالكامل عن المفهوم الوصفي للخاصية وعدم التمسك بالمفهوم التنبؤي للـ "مرصود"، فإن مخرجين ينفتحان أمامنا. يشتمل الأول على إيجاد عملية تسمح بجعل تنبؤ ما مستقل صراحة عن الأطر التجريبية، تنبؤ لا يمكنه مع ذلك الاعتماد بشكل محسوس إلا على ثبات محدَّد بمجموعات تحتية معينة من الأطر المناسبة. لقد قدَّمت "المنطقيات الكمومية"، غير التوزيعية أو ثلاثية التكافؤ، مثل هذه العمليات. أما المخرج الثاني فكان قد أشير له منذ فترة مبكرة جدًا من تاريخ الميكانيك الكمومي. وينطلق الذين يأخذون به من فكرة، أصبحت شائعة منذ تأملات هايزنبرغ وبور حوالي عام 1927، وهي أن كل نتيجة ليست الانعكاس المباشر والسلبي للخصائص المفترضة للجسم، بل الظهور غير المباشر لتفاعل غير قابل للتحليل بين الجسم وجهاز يكفي تدخله الوحيد إلى تغيير الخصائص التي نحاول إثباتها. ثم بعد أن ينتقدوا "انهزامية" الباحثين الذين يتمسكون بهذا الاستنتاج من عدم قابلية التحليل التجريبي، فإنهم يؤكدون أن لا شيء يمنع أن نحلل بواسطة الفكر صيرورة التفاعل بين الجسم والأداة. إن المحصلة المنطقية لهذا التصور ليست سوى النظريات ذات المتحولات الخفية، أي النظريات التي تحاول تقديم وصف للخصائص "عبر - التجريبية" المفترضة، هذا مع الربط مع التنبؤات التجريبية للميكانيك الكمومي. غير أن هذا الربط يفرض بالطبع هو نفسه قيودًا على النظريات ذات المتغيرات الخفية. والقيد الرئيسي بين هذه القيود هو التالي: تتأثر الخصائص التحتية الكامنة المفترضة فيما بينها بشكل آني عن بعد؛ ووفقًا لمبرهنة بل Bell، فإن النظريات ذات المتغيرات الخفية ترتبط بلاموضعية هذه المتغيرات. وثمة قيد آخر، سبق أن ذكرناه، هو السياقية، أي التأثير الممارَس على كل تحديد بواسطة السياقات التجريبية أو الطبيعية لاكتشافه.

لنأتِ الآن إلى المرجعية. وفق سيرل J. Searle، فإن الإسناد أو الإرجاع إلى شيء ما هو التعهد بإعادة تحديده[32]. ووفقًا لكريبكه[33] S. Kripke فإن استخدام المفهوم (التسمية) يعني المقدرة على ربط الشيء المسمى بفعل تكريس بدئي. وفي كافة الأحوال، فإن الإسناد يفترض الإمكانية الفعلية أو النظرية لإقامة رابط استمرارية زمنية بين تعيين حاضر وتحديدٍ ماضٍ أو مستقبلي. وبشكل أخص، فإن الإسناد إلى جسم مموضَع من نمط "الجسم المادي" يفترض إمكانية تتبع مستقبل صيرورته عبر مسار مستمر. والحال أنه كما أشار إلى ذلك شرودنغر[34] بقوة، فإن هذه الإمكانية تنقصنا في نظام الظاهرات الكمومية. إن علاقات هايزنبرغ تستبعد عمومًا التتبع التجريبي بشكل مستمر لمسار جسيمي. ومن جهة أخرى، فإن قواعد تعداد الأجسام لا يمكن أن تتقلَّص إلى القواعد التي وضعها ماكسويل وبولتزمان من أجل جسيمات فردية وقابلة لإعادة التحديد، وهو مؤشر غير مباشر وخفي إنما صادم جدًا للوضع الجديد. وضمن هذه الشروط، إذا لم نكن نريد التخلي الكامل ببساطة عن القيام بالإسناد إلى جسم في تجارب الفيزياء الكمومية، فيبقى أمامنا ثلاثة حلول رئيسية:

1 - الحد من استخدام فعل الإسناد إلى الوضعيات التجريبية الخاصة حيث تظل إعادة تعيين الجسيمات عبر الاستمرارية ممكنة آنيًا بالنسبة لتقريب جيد (وهو ما يعود لاعتماد الموقف البراغماتي للفيزيائيين التجريبيين)[35]،

2 - عدم الحفاظ على استمرارية المسارات الجسيمية إلا ضمن نوع من الرؤية الذهنية، وهي من حيث المبدأ غير قابلة للتجريب (وهو تقريبًا موقف أنصار النظرية ذات المتغيرات الخفية لبوم)،

3 - اختيار جسم أو أجسام غير مكانية لا ترتكز إعادة تعيينها على استمرارية مسار ما بل على استمرارية شكل مُدرك بالمعنى الواسع (وهو الخيار الذي اختاره شرودنغر، وهو أيضًا الخيار الذي يبدو أن الباحثين المعاصرين مثل دسبانيا قريبون جدًا منه).

5- 8 دايفيد بوم 1952: رؤية ذرية تتأرجح في الكلية

رأينا عند تحليل القيود الرئيسية التي يفرضها المحتوى التنبؤي المعزَّز للنظريات الكمومية، أن هذه القيود تُبقي (بين خيارات أخرى مقبولة) صفًا كاملاً من النماذج التي تُدخِل وتُشرك كثرة من الأجسام الواقعة في المكان، المنتقلة على امتداد مسار مستمر، والمالكة لتحديدات خاصة بها. والنموذج البدئي لهذه القيود هو النظرية ذات المتغيرات الخفية التي صاغها بوم عام 1952، ووصفها هو نفسه بأنها "تفسير أنطولوجي للميكانيك الكمومي". ولا ينفي ذلك معظم الباحثين الذين تفكروا مليًا وبجدية حول مسائل تفسير الميكانيك الكمومي. بل إنهم يدعمون حتى، ضد بعض الميول لاستبعاد سريع جدًا لأطروحات من نوع أطروحة بوم، أن "الصورية الكمومية هي صورية حيادية بشكل أساسي فيما يتعلق بمسألة المتغيرات الخفية[36]". ولكن ما أن يتم اعتماد هذا الموقف المبدئي، فإنهم لا يفشلون في تعداد البواعث والدوافع فوق النظرية وفوق التجريبية التي، وفق هؤلاء، تكافح من أجل استبعاد النظريات ذات المتغيرات الخفية.

الدافع الأول هو أن النظريات ذات المتغيرات الخفية هي نظريات "ميتافيزيائية"، بالمعنى الأكثر جسارة ومغامرة للمصطلح. إن البنى الوصفية التي تطعّمها على الصورية التنبؤية للميكانيك الكمومي تكون في الواقع بحيث أنها تتضمن في ذاتها عدم قابلية الوصول للتجريب. وحتى إذا كانت القيمة اللحظية للمتغيرات نفسها ليست فعلاً غير قابلة للوصول (على عكس ما توحي به عبارة "المتغيرات الخفية")، فإن المتابعة نقطة نقطة لمسار "مستقل" يُستبعَد بشكل رئيسي بواسطة السياقية[37]. وإن استخدام تأثيرات غير محلية من أجل نقل المعلومات آنيًا عن بعد يصبح مستحيلاً من خلال عدم إمكانية السيطرة (المبدئية أيضًا) على الشروط البدئية. تصبح هذه النظريات بالتالي "عقيمة[38]"، طالما أنها لا تفضي إلى أي تنبؤ إضافي بالنسبة للميكانيك الكمومي المعياري[39].

أما الدافع الثاني الذي يُستحضَر ضد النظريات ذات المتغيرات الخفية فهو نتيجة للدافع الأول. فكثرة وتعددية هذه النظريات والتمثيلات المقترنة بها، على الرغم من أنه لا يوجد بعد أي معيار تجريبي يسمح بالفصل فيما بينها، تبدو أنها لا تحظى بأية فرصة للاختزال وليصغر عددها في المستقبل. فأي سبب لدينا للأخذ بواحدة منها بدلاً من واحدة أخرى كتمثيل وفيٍّ للطبيعة، ضمن هذه الشروط؟ وكيف نزوغ من مشكلةِ ما تحت - تحديدية النظريات إذا كان ما يشكل رابط هذه الأخيرة غياب معيار القرار ليس فقط الحاضر بل والمستقبلي أيضًا؟

الدافع الثالث هو أنه يمكن التخلي عن هذه الطروحات دون محتوى تجريبي خاص بسهولة أكبر من التخلي عن وسائل موجودة أقل جسارة بالإضافة إلى إنقاذ تصوُّر واقعي للنظريات الكمومية[40]. وهذه الوسيلة هي الواقعية البنيوية التي دافع عنها باحثون مثل دسبانيا وريدهيد[41] M. Redhead. إنها شكل مخفَّف للواقعية، سبق وناقشناه في الفصل الثالث، ووفقه فإن النظرية الفيزيائية لا تقدِّم أي وصف مفصَّل للصيرورات الحقيقية، بل فقط انعكاسًا للبنى القانونية الكبرى للواقع.

يعود الدافع الرابع إلى التنديد بشكل أكثر تحديدًا بعيب في النظرية ذات المتغيرات الخفية لديفيد بوم: أي السمة "التراجعية" (بالمعنى الذي يقصده لاكاتوس[42] Lakatos) لبرنامج البحث المرتبط به. يلاحظ دسبانيا في هذا الصدد أن برنامج بوم عانى من انعطاف كبير هذه الأيام الأخيرة. فقد كان أنصاره مجبرين على التخلي عن فكرة أن الجسيمات وخصائصها هي عبارة عن نموذج كوني من "الكينونات": فقد تم حصرها وتوجيهها لكي تخصِّص وتحدِّد التمثيل الجسيمي بالفرميونات، ولكي تُدخِل ككينونات جديدة كثافات الحقول البوزونية. وهكذا، فإن الذين يدافعون عن برنامج بوم يعطون الانطباع بتغيير تمثيلهم للعالم وفقًا للظروف، وتجزئته (تمثيل للفرميونات وآخر للبوزونات) واللهاث خلف المعلومات التجريبية الجديدة بدلاً بالأحرى من توقعها وسبق الأخرين إليها.

وبالإجمال، فإن موقف الباحثين الذين ينتقدون النظرية التي اقترحها بوم عام 1952 يشبه كثيرًا الموقف الذي وصفه لاكاتوس Lakatos:

[...] إننا لا نلغي نظرية [...] ميتافيزيائية إذا كانت تدخل في صراع مع نظرية علمية مثبتة جيدًا، على النحو الذي تقترحه التفنيدية[43] البسيطة. إنما نلغيها إذا أدت إلى انزلاق تقهقري على المدى البعيد وإذا كان هناك ميتافيزياء منافسة أفضل لتحل محلها[44].

ولكن هناك أيضًا دافع خامس وأخير لرفض النظريات ذات المتغيرات الخفية. وربما كان هذا الدافع هو الأكثر أهمية لأنه يرتكز على نتيجة نقد ذاتي هو في جزء منه غير مقصود لأنصار هذه النظريات. إن نظرية بوم عام 1952 لا تتوصل في الواقع، مدفوعة إلى أقصى نتائجها، حتى إلى احترام فكر برنامجها الخاص، وهو فكر ذري في أصوله وبدايته. فهي بالدرجة الأولى تمثل فعلاً العالم كمجموعة من الجسيمات المنفصلة والمزودة بخصائص؛ غير أن اللاموضعية والسياقية تقودان إلى اختفاء مجمل نتائج هذا الفصل بواسطة الفكر. وقد أمكن البرهان منذ فترة قريبة (من خلال تحليل تجارب تداخل النوترونات التي سبق أن ذكرناها[45]) أن الجسيمات التي تصوَّرها بوم لم تكن تحمل خصائصها إلى نقطة المكان الذي توجد فيه. وبتجريدها من ثوب خصائصها، فإنه يتم إرجاعها إلى صف "bare particulars"، أي إلى صف "الأجسام الفردية المُعرَّاة". علاوة على ذلك فقد استنتجنا أنه يمكن أن يحصل أن وجود جسيم لا يكون حتى ليس ضروريًا لكي يستجيب كاشف له كما لو كان قد تلقى واحدًا. يتعلق الأمر هنا بظاهرة تسمى "fooled detectors" أي ظاهرة "الكواشف المخدوعة". وبالنتيجة، في العمق، تحت الطبقة السطحية للمفردات الذرية المتبقية، أظهرت المقاربة المقترحة من قبل بوم عام 1952 أزمة النظرية الذرية بقدر ما أظهرت أزمة النسخ المعيارية للميكانيك الكمومي. انتهى الأمر ببوم وبعدد من أنصار نظريته بقبول ذلك وباستخلاص دروس جذرية[46]. وهكذا، وفقًا لبوم في السبعينيات والثمانينيات، فإن أثرًا في حجرة للفقاعات هو فقط "[...] جانب من [صيرورة شاملة تحتية] تظهر في الإدراك المباشر [...]. ووصف هذا الأثر كأثر لـ «جسيم» يعود إلى القبول، بالإضافة إلى ذلك، بأن النظام الأساسي للحركة المتعلق بالجسم مشابه للنظام الأساسي الذي يظهر في الجانب المدرك مباشرة[47]". إن الطرح الجوهري الجديد لبوم هو أنه، تحت النظام الصريح والظاهر للحركات ذات المظهر الجسيمي في الزمكان، هناك نظام ضمني كلي ولازمكاني. وبالتالي فإنه لا يجب بعد ذلك اعتبار "الجسيمات" المزعومة، كما كتب، كجسيمات مستقلة وموجودة بشكل منفصل؛ إن خطابنا بمصطلحات الجسيمات هو طريقة لتضليل أنفسنا أنطولوجيًا بإعطاء معنى أساسي للظهورات الزمكانية المجزَّأة المنشورة ابتداء من النظام الضمني. يشدِّد بوم قائلاً:

إن لفظة «إلكترون» لا يجب أن تعتبَر سوى تسمية نجذب بواسطتها الانتباه إلى جانب معين من الحركة الكلية؛ جانب لا يمكن مناقشته إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار مجمل الوضع التجريبي، والذي لا يمكن تعيينه بمصطلحات الأجسام الممَوضَعَة المنتقلة بشكل مستقل في المكان. وبالطبع، فإن كل نوع من «الجسيمات»، الذي يقال في الفيزياء الحديثة إنه مكوِّن أولي للمادة، يجب أن يناقش وفق الفكر نفسه (بحيث أن هذه «الجسيمات» لا تعود معتبرة كجسيمات مستقلة وموجودة بشكل منفصل)[48].

5. 9 قيم المذهب الذري

لكي نلخص ما سبق، فإن بنية النظرية الكمومية للحقول والنقد الداخلي بقدر ما هو خارجي للنظريات ذات المتغيرات الخفية يضعان التمثيلات الذرية في وضع لا يمكننا ألا نصفها بالحساس جدًا. لكن هل يبرِّر ذلك أن نمضي حتى القول، مثل برنار دسبانيا، إن الفيزياء الكمومية النسبوية "تنافس [...] لتقدير" أن "التعددية[49] multitudinisme خاطئة[50]"؟ هل يمكننا القبول بأن المسألة القوية جدًا التي يطرحها دسبانيا: "هل صحيح أن الكائن مبعثر بين تعددية من العناصر الأولية؟"، تجد جوابًا لها في الحجج السابقة؟ هل التمثيل الذري هو تمثيل صحيح أم خاطئ؟ وبشكل أعمٍّ، هل يمكن لخيار أنطولوجي أن يتَّخذ قيمة حقيقة؟

إن تحليلاً معروفًا جدًا يعود الفضل فيه لكارناب[51] وويتغنشتاين يندرج خطًا ضدَّ مماثَلَة شبكة قراءة أنطولوجية مع قضية واقعية من الممكن وصفها بالصحيحة أو بالخاطئة. إن الإطار الأنطولوجي يشكل الخلفية الضرورية للقضايا الواقعية؛ لكنه ليس هو نفسه قضية واقعية. إن القبول بإطار أنطولوجي هو بالنتيجة، كما يقول كارناب، مسألة تطبيقية بالأحرى منه مسألة نظرية؛ إنه مسألة نفعية أو فعالية وليس مسألة مصداقية. ويتوافق هذا التوجه تمامًا مع التوجه الذي تمت الإشارة إليه منذ بداية هذا الفصل: إن أنطولوجيا مثل تلك المقرونة بالنظرية الذرية لا تعود إلى تصنيفات الوجود أو عدم الوجود، بل بالأحرى إلى الكفاءة أو عدم الكفاءة بما هي شبكة قراءة سابقة ودليل من أجل البحث التجريبي.

باتباع طريق افتتحه بوتنام[52]، سوف أضيف أن القرار المتعلق باستخدام إطار أنطولوجي يتضمن قيمًا بقدر ما يتضمن من الوقائع؛ وقائع ليست بالإضافة إلى ذلك هي نفسها منفصلة بالكامل عن قيم مجتمع الباحثين الذين يقبلون بها كما هي. وفي حال رفض التعددية الذرية واعتماد تنوع من الأنطولوجيا الأحادية كتلك التي لدى دسبانيا، أو شرودنغر أو بوم في المرحلة الأخيرة (أنطولوجيا النظام المنطوي الكلي)، فإن هذه القيم تصبح سهلة التحديد والمطابقة: يتعلق الأمر هنا بمتطلبات التجانس والبساطة ووحدة المخطط التصوري، كما وبإرادة أن نأخذ بجدية تامة بنية النظريات الفيزيائية التنبؤية المؤكَّدَة التي نقرن ببعض رموزها (كما على سبيل المثال متجه الحالة الشامل في فضاء فوك Fock المستخدم في النظرية الكمومية للحقول وفي التكميم الثاني) تابعًا وصفيًا ومرجعيًا. وأنا شخصيًا لا أمانع أبدًا في القبول بهذه المتطلبات وتأييدها، ولدي ميل بالتالي إلى اعتبار أن رؤية للعالم غير ذرية، رؤية أحادية بنيويًا وكليانية، هي في الوقت الحاضر أحد أفضل الخيارات التي تُقدَّم للذين يحاولون الحفاظ على موقف واقعي في الفيزياء. ويبدو لي ببساطة، على خلاف الواقعيين الأصيلين، أن الاتجاهية المرجعية المتضمنة بهذا الموقف الواقعي لا يجب النظر إليها كبديل للسببية التجاوزية بين ما تم الإسناد المرجعي له وبين الظاهرات[53]. فهي لا يجب أن تكون كذلك لا من وجهة نظر بسيطة وساذجة، يكون كل اعتبار بالنسبة لها مستندًا على نظرية المعرفة هو اعتبار فائض وغير مجدي، ولا من وجهة نظر فلسفية انعكاسية يعمل فعل الإسناد المرجعي بالنسبة لها كهدف ناظم بسيط يساهم في تثبيت معايير من أجل لزوم النشاط التجريبي.

ولكن إذا اعتمدنا في الوقت الحاضر الهدف الإسنادي أو الرؤية المرجعية الأحادية بنيويًا (مع أو بدون معنى تجاوزي مقترن بها) الذي اقترحه شرودنغر ودسبانيا وبوم الأخير، فلا بد من الوقوف على حقيقة أنها لم تعتمد بالضبط إلا باسم عدد معين من القيم المشتركة. وهكذا يمكن لمنظومات قيم أخرى أن تسهّل وتقدم لرؤى وأهداف إسنادية جديدة. علينا بالتالي أن نعرف كيف نتعرَّف على القيم المختلفة التي تقود بعض الباحثين إلى تعزيز رؤى إسنادية مختلفة، بدلاً بالأحرى من استبعادها بالإجمال باستدعاء ضمني لقيمنا الخاصة.

ومرة أخرى تفيدنا النظرية ذات المتغيرات الخفية التي صاغها بوم في عام 1952 كمثال على ذلك.

ما هي القيم التي تقود الباحثين الذين ينتمون إليها، والذين بتجنبهم اتباع بوم في أقصى ما توصل له من أحادية يستمرون في أن يروا في نظريته الأصلية التي صاغها عام 1952 نقطة ارتكاز ذات مصداقية من أجل تمثيل ذري؟ ما هي القيم التي تقودهم إلى القبول بمفاهيم غريبة وشاذة بمقدار مفهوم "bare particluars"، أي الكينونات الفردية المجردة من خصائصها، أو أيضًا مفهوم الـ "fooled detectors"، أي الكواشف التي تنطلق دون جسيمات في حين أننا نعتبر بشكل طبيعي الاطلاق النقطي والفردي لمثل هذه الكواشف كـ "دليل" على وجود الجسيمات؟ فلن ندهش بالتالي، بعد التحليلات السابقة، من أن القيمة الرئيسية بين هذه القيم، القيمة التي تسيطر على كافة القيم الأخرى والتي تفرض التخلي عن بعضها، هي هنا مطلب الاستمرارية التاريخية مع النظريات الفيزيائية الكلاسيكية لا بل ومع الموقف الطبيعي. لقد عبَّر عن هذا التوجُّه بكثير من الوضوح كل من بوم وهيلي Hiley نفسهما، عندما نصبا من نفسيهما محاميين مدافعين عن النسخة الأولية من نظرية بوم، حيث كتبا:

من الأساسي أن نبيّن، أن الميكانيك الكمومي يشتمل على مستوى كلاسيكي ليس مفترضًا مسبقًا كما في المقاربة العادية، بل الذي يتبع مثل إمكانية داخل النظرية الكمومية نفسها[54].

في المقاربة العادية، التي يتحدث عنها كل من بوم وهيلي، فإن النمط الكلاسيكي للوصف مفترض مسبقًا في الواقع من أجل أن يأخذ بعين الاعتبار الجوانب الظاهرة لعمل التجهيزات، وليفسَّر بمصطلحات القياس لبعض المتغيرات الأحداث الجهارية التي تفي كحجة للصورية الاحتمالية للميكانيك الكمومي. وبالمثل، فإن التنبؤات الكمية للفيزياء الكلاسيكية تعتبر كتقريبات على المستوى الكبير للنظريات الكمومية. يسمح ذلك بوضع رابط مزدوج ضعيف، إنما كاف طالما كنا نلتزم بموقف ذرائعي منهجي، بين الفيزياء الكمومية والفيزياء الكلاسيكية. وعلى النقيض من ذلك، كان طموح نظرية بوم أن تمضي إلى ما وراء هذا التوافق العملياتي والكمي البسيط، والحفاظ على علاقة عبر الاستمرارية للمفاهيم والتمثيلات. ولكي تتوصل إلى ذلك كان عليها أن توافق على كمية من التجهيزات التي، من وجهة نظر قيم التجانس والبساطة والأحادية أو التفرد، تبدو كما الكثير من حالات التخلي. التخلي عن شمولية التباين المشترك النسبي، بداية، طالما أن هذا الأخير، الذي يصح دائمًا على المستوى الإحصائي، لا ينطبق من بعد على الصيرورات الفردية. وهو من جهة أخرى تخلٍ عن الوحدة الصورية / الشكلية للنظريات الكمومية، طالما أن بوم وهيلي يتمسكان كما سبق وأشرنا بنوعين اثنين من الكينونات ويطوران نوعين اثنين من الصوريات والتمثيلات المختلفة تمامًا، إحداهما بالنسبة للفرميونات والأخرى بالنسبة للبوزونات.

إن تحليل محرضات هذا التخلي الثاني تفيدنا بشكل خاص. إن النظرية الكمومية للحقول، مع مفهومها المميز للسوية المكمَّمة من تحريض وسط مهتز، هي نظرية قابلة للتطبيق على الفرميونات وعلى البوزونات بالقدر نفسه وذلك مقابل تناوب جبري في حدّه الأدنى: استبدال علاقات الإبدال (بالنسبة للبوزونات) بعلاقات اللاإبدال (بالنسبة للفرميونات). إن اختلافات السلوك بين الفرميونات والبوزونات، التي تجعل من الشائع اعتبار الأولى كـ "عناصر مشكِّلة للمادة" والثانية كـ "وسطاء تفاعل"، تُحَلُّ على هذا النحو ضمن مخطط جبري موسَّع؛ والشعور الذي يتقاسمه الفيزيائيون على نطاق واسع هو أن هذه الاختلافات يمكن أن تحَلَّ بطريقة أكثر جذرية أيضًا من خلال عمليات التناظر الفائق، القابلة لتحويل الفرميونات إلى بوزونات (أو بالعكس) ولإقامة صلة مطلوبة يتم البحث عنها بين فضاءات درجات الحرية "الداخلية" للحقول الكمومية وزمكان مينكوفسكي العام[55]. تضمن بالتالي النظرية الكمومية للحقول سوية مميزة من الوحدة الصورية، وتميل (عبر مفهوم التناظر الفائق) باتجاه سوية وحدة أكثر ارتفاعًا أيضًا.

بوم وهيلي يعرفان ذلك. وهما يبينان إضافة إلى ذلك كيف أنه من الممكن تمامًا، باعتماد كثافات الحقل ككينونات وحيدة بالنسبة لحالة البوزونات، تفسير كافة الظاهرات المتقطعة المعتبَرَة عادة كآثار جسيمية دون أي تدخل على الإطلاق لأي جسيم كان. إن التفسير المطروح يلجأ إلى صيرورات غير خطية من التركيز الآني للطاقة التي كانت قد تبعثرت سابقا في الحقل، في لحظة تفاعلها مع ماصّ. وهو تفسير يستعيد في إطار مختلف فكرة كان قد ذكرها أينشتين عام 1909 كبديل ممكن لفرضية الفوتونات، ثم تخلى عنها فورًا بسبب حجة لامعقوليتها: وهي فكرة اللجوء، من أجل تفسير صيرورات الامتصاص، إلى إعادة تركيز للطاقة الموجية التي تكون النظيرة الزمنية لتشتت الطاقة الموجية الملاحظ أثناء صيرورة الإصدار[56]. ويخلص بوم وهيلي إلى أن التوزع من النمط الموجي لكينونات الحقل هو ما يحدد الظهورات من النمط الجسيمي[57]. إن تأكيد دسبانيا الذي وفقه لا تثبت المظاهر الجسيمية شيئًا فيما يتعلق بوجود جسيمات هو بالتالي بالنظر إلى الماضي تأكيد مبرَّر، وبالمعنى الأكثر قوة، طالما أن تفسيرًا بديلاً تامًا يمكن أن يُقدَّم في إطار نظرية قابلة للتفسير أنطولوجيًا لكثافات الحقل.

إن السؤال الذي نطرحه حاليًا هو التالي: طالما أن كافة الآثار المزعومة آثارًا جسيمية للبوزونات يمكن أن تؤخذ بعين الاعتبار في نظرية للحقول، لماذا لا نوسع هذا النوع من النظرية إلى مجمل الظاهرات، بما فيها الفرميونية والبوزونية على حد سواء؟ ولماذا لا نلجأ إلى الاستفادة من الوحدة الصورية ومن مشاريع الوحدة البنيوية الكاملة للنظرية الكمومية للحقول، لكي نعمم تفسير الانقطاعات الظاهرة عبر صيرورة تركيز محلي آني لطاقة حقل مفسَّر أنطولوجيًا؟ قدَّم بوم عدة أنواع من الإجابات على هذا السؤال، لكن أوضحها نجده في مقالة لبوم وهيلي وكالوييرو Kaloyerou تعود إلى عام 1987:

إذا اعتبرنا الفرميونات كحقول، فإنها ستخضع لعلاقات لا إبدالية anti-commutation ليس لها حدٌّ كلاسيكي [...][58].

بعبارة أخرى، فإن نظرية محتملة للحقول الفرميونية ستكون محرومة من علاقة الاستمرارية القوية مع الفيزياء الكلاسيكية المعتمدة كقيمة سائدة من قبل معظم أنصار نظرية بوم (في نسختها لعام 1952 والموسعة بإدخال كينونات الحقل). فهم يرفضون بسبب ذلك الأخذ الأنيق بعين الاعتبار لصيرورات "خلق" و"إفناء" الفرميونات التي تقدمها النظرية الكمومية للحقول، لكنهم لم يتخلوا مع ذلك عن إعداد نظرية كمومية نسبوية للفرميونات قابلة للتفسير أنطولوجيًا، ولهذا فقد كان لا بد لهم من تجديد تمثيل ليتناسب مع الذائقة المعاصرة وكان قد تم نسيانه إلى حد ما وهو تمثيل يعود إلى ديراك: إنه بحر من جسيمات الطاقة السلبية، وفيه يؤدي انتقال جسيم، إلى سوية طاقة إيجابية، إلى ترك ثقب مكانه يوصف بالجسيم المضاد. ورغم ذلك، فإن أحد الأسباب الرئيسية الذي تم من أجله استبعاد هذا النموذج وفق واينبرغ[59] هو أنه غير قابل للتطبيق على البوزونات في حين أن النموذج المنافس للنظرية الكمومية للحقول هو من جهته نموذج كوني شامل. ولكن كما سبق ورأينا، فإن أنصار نظرية بوم جاهزون للتخلي عن قيمة التوحيد الصوري لصالح قيمة استمرارية تاريخية.

بالاعتماد على هذا النوع من التحليل الأخلاقي لنظرية بوم، فمن الممكن التخفيف من الخشية التي يبديها المؤلفون الذين ينتقدونها بسبب إمكانية تضاعف غير محددة لكينونات النظريات ذات المتغيرات الخفية. فعندما يتم تطويرها بشكل صحيح، فإن هذه النظريات لا تشبه لذلك منظومة العالم البطلميوسي، مع أفلاك مداراتها التي كانت تزاد كلما كان هناك حاجة لإضافتها. فهي لا تتطلب سوى نوعين اثنين من الكينونات: الكينونات الذرية أو الجسيمية وكينونات الحقول، أي بالضبط الكينونات النمطية التي نجدها في النظريات الكلاسيكية التي تهدف إلى الترابط معها من خلال عملية إسقاط تاريخي. إن قائمة كينونات الفيزياء الكلاسيكية في نهاية القرن التاسع عشر لم تكن تتجاوز أبدًا هذين النموذجين البدئيين للمتقطع والمستمر، وبالتالي لا يجب أن نخشى أي تكاثر وانتشار أنطولوجيين لموافقاتها الكمومية.

5- 10 العمق القديم للميتافيزياء ومفاهيم واسعة الطيف

أينما ألقينا بنظرنا في الفيزياء المعاصرة سوف نرى بالنتيجة مواجهة بين اتجاهين أو ميلين متعارضين للوهلة الأولى.

فمن جهة، نلحظ أزمة في شبكة القراءة الذرية بما هي دافع موحِّد لصف متوسع من الظاهرات المنظمة في الفيزياء الكمومية. إن الحجة الأساسية التي طوَّرها جان بران ومن أتى بعده لصالح النظرية الذرية، ألا وهي قابليتها للجمع بطريقة متجانسة وتوحيد عدد كبير من التحديدات الرقمية أو الأرصاد للبنى المكانية، هي حجة وصلت إلى نهايتها. إن القيمة المساعدة على الكشف (الإرشادية) تظل قيمة واسعة وغير منقوصة في عدد كبير من قطاعات الفيزياء وأكثر منها في الكيمياء، لكن تتفوق منذ الآن فصاعدًا على قابليتها لتوحيد هذين القطاعين فيما بينهما ومع قطاعات أخرى قابليةُ مخططات الفكر الاستمرارية والكلية المشتقة من صورية النظرية الكمومية للحقول. يشابه هذا المصير للنظرية الذرية بشكل عام، وإن كان على مستوى أكبر بكثير، المصير الذي تكبده نموذج ذرة بور بين عامي 1913 و1922: فهذا النموذج يحفظ كما نعلم قدرة إرشادية مساعدة على الكشف لا يستهان بها في قطاع محدد من الفيزياء المجهرية، على الرغم من عدم مقدرته على تقديم بيان مقبول وموحَّد لقطاعات التجربة التي يغطيها مجال صحة وشرعية الميكانيك الكمومي المعياري الذي صيغ بين عامي 1925 و1926.

مع ذلك، فإننا نواجه من جهة أخرى ثباتًا واستمرارًا عنيدين لنمط التعبير الذري (بما في ذلك كونه دافعًا موحِّدًا مفترَضًا للفيزياء) باسم إسناد مرجعي إما ضمني أو مؤكَّد إلى ماضيه العقائدي. أعطى ماكس بورن Max Born بعد هايزنبرغ المثال المبكر على مرجعية مؤكَّدَة على الخلفية التاريخية للنظرية الذرية. ففي عام 1952، ردَّ على شرودنغر وعلى حماسته ضد الذرية، ملاحظًا أنه سيكون من "الغرور" التخلي عن المخطط الذري دون أن يكون لدينا بديل قوي له، طـالما أن ذلك يعني تجاوز التقليد التاريخي نفسه الذي مثَّلت الفيزياء الكمومية في بداياتها تجدُّده[60].

وأمام مثل هذه التصريحات، فإن ملاحظات هيلاري بوتنام حول ما يسميه "المفاهيم ذات الطيف الواسع" تكتسب موافقة كبيرة، لأنها تبيِّن أن تجنب شرخ الخيط التاريخي للمفاهيم يفترض أن نوافق على إدخال هامش تسامح متزايد (حتى لا نقول غموضًا ما) في هذه المفاهيم. وفق بوتنام، على سبيل المثال، فإن المفاهيم الصورية لجسم - حامل ولخاصية ما لا تعمل أبدًا في الفيزياء الكمومية بما يوافق ما كان يمكن توقعه من قبولها المبدئي؛ فإذا ما ظللنا نستخدمها عبر استمرار المخطط الذري، فذلك فقط على حساب تغييرها إلى ما وراء ما كان يعتبر مقبولاً في عصر الفيزياء الكلاسيكية.

إن «سبين» «كواركٍ» ما ليس خاصية بالمعنى الذي يكون فيها للأجسام عمومًا خاصية ما، ومن جهة أخرى، فإن «الكوارك» ليس أيضًا جسمًا بالمعنى المتفق عليه عمومًا؛ ونعطي في الواقع للفظة "جسم" معنى جديدًا كنا نجهله سابقًا، مع علاقة خاصية - جسم كانت مجهولة هي أيضًا[61].

إن الجسم (الذري) و"الخاصية" يعملان في الفيزياء كـ "مفهومين واسعي الطيف"، وقد قُرنا في القرن العشرين بالمرونة المطلوبة لكي يستمر استخدامهما كجسر بين نماذج (paradigmes) علمية مختلفة بشكل عميق. ويشير بوتنام إلى أنهما هما اللذان يشكلان نواة حلٍّ عملي لمسألة استحالة القياس بين النماذج المختلفة. وبدونهما، ودون الفكرة العادية بأن الفيزياء الكمومية لم تقم في العمق سوى بتحديد الخصائص والسلوكات القانونية لجسيمي "الإلكترون" و"الذرة" اللذين كانا معروفين في الفيزياء في نهاية القرن التاسع عشر، ومن ثم بالسماح باكتشاف أجسام - مشكِّلة جديدة من النمط نفسه وصفوف جديدة من الخصائص، فإن الصلة بين كون من النقاط المادية في حالة تفاعل في الفيزياء الكلاسيكية والصورية التنبؤية للنظريات الكمومية لن يكون فيها ثمة ما هو مؤكد فعلاً.

وبشكل أعمق، فإن استدامة النموذج الذري بما هو مخطط كوني الطموح، على حساب توسع بلا حدود تقريبًا لطيف المفاهيم المقترنة به، تُفسَّر بقدرته على مد جسر بين الفيزياء الحديثة وما كان نيتشه Nietzsche يسميه "العمق الميتافيزيائي" للغة، أي مع البنية الموضوع - المسند للقضية المُقترَحة، كما ومع النموذج التشريحي للأنطولوجيا[62]. كتب نيتشه:

إنه عمقنا الميتافيزيائي الأقدم [...]، العمق الذي سوف نتخلص منه في المرحلة الأخيرة، إذا افترضنا أننا سوف ننجح في التخلص منه - هذا العمق الذي اندمج مع اللغة ومع التصنيفات القواعدية بحيث أصبح لا يمكن الاستغناء عنه إلى حد يبدو معه أنه سيكون علينا التوقف عن التفكير، إذا ما تخلينا عن هذه الميتافيزياء[63].

إن استبعاد النظرية الذرية سيمثل في هذا المنظور ليس ما هو أقل من التخلي عن استخدام الكلام، أو إعادة صهر من الصعب تحقيقها لاستخدامه، في حقل التجربة المحكوم بالنظريات الكمومية. وفي مواجهة مثل هذا التحدي، يمكننا بسهولة تصور أنه مهما استمر ودام مجال من الظاهرات، حتى وإن كان محدودًا، ويبقى من الممكن العمل تجاهه كما لو كنا نعالج مجموعة من الأجسام المنصوص عنها في التاريخ، فإن العديد من الفيزيائيين يفضلون استخدام نظرية أو خطاب مجزأين يشملان هذه الأجسام بين كينوناتهما، بدلاً بالأحرى من نظرية موحَّدة لا تشتمل عليها.

إن الاحتياط الوحيد الذي يجب اتخاذه لكي لا يتحول هذا التفضيل المفهوم إلى إعلان عقائدي غير صحيح هو تجنُّب اتخاذ الطابع غير الملزم للأسباب التي ستكون لدينا لإعادة النظر في كل موضع بالكينونات التقليدية المفترضة مسبقًا في سبيل سبب جيد هو تأكيد وجودها. يظل يحق للفيزيائيين دائما بالنتيجة أن يقطفوا ثمار الموروث الذري من خلال مفرداتهم وأنماط تعبيرهم، إنما لم يعد باستطاعتهم إخفاء شروط استخدامها. فلا شيء يمنعهم من الاستمرار في مدِّ خطابهم وأفعالهم في "العمق الميتافيزيائي القديم المتضَمَّن الذي تحدَّث عنه نيتشيه، بل إن كل شيء يحذرهم من محاولة إعادة تجميد وبلورة هذا العمق في ميتافيزياء منبسطة. إن النظرية الذرية، التي ولدت منذ ألفين وخمسمائة عام كإعداد للأنطولوجيا البارمينيدية، تستخدَم اليوم كشاهد مفضَّل على انحلال، بدأ منذ كانط إنما أصبح من الصعب بعد الآن تجنُّبه، للنواة الميتافيزيائية للأنطولوجيات.

ترجمة: موسى الخوري

*** *** ***

 


 

horizontal rule

* لفصل الخامس من كتاب القرب المُعْمي من الواقع، ميشيل بيتبول، ترجمة موسى الخوري، معابر للنشر، دمشق، 2014.

[1] N. Bohr, Essays 1958-1962 on atomic physics and human knowledge, Ox Bow Press, 1987, p. 3.

[2] المرجع السابق.

[3] نص لنيلز بور ذكره هايزنبرغ في كتابه: W. Heisenberg, La partie et le tout, Albin Michel, 1972, p. 285.

[4] راجع المقدمة التي كتبها شيفاليه C. Chevalley إلى نيلز بور في: N. Bohr, Physique atomique et connaissance humaine, Folio-Gallimard, 1991.

[5] W. Heisenberg, Physique et philosophie, Albin Michel, 1971, p. 210.

[6] W. Heisenberg, Philosophical problems of quantum physics, Ox Bow Press, 1979, p. 55.

[7] المرجع السابق، ص. 56.

[8] E. Schrodinger, La nature et les Grecs, précédé de M. Bitbol, La cloture de la représentation, Seuil, 1992, p. 197.

[9] المرجع السابق، ص. 137.

[10] المرجع السابق، ص. 193.

[11] E. Schrodinger, "Science et humanisme", in Physique quantique et représentation du monde, Seuil, 1992, p. 47.

[12] D.C. Dennett, Consciousness explained, Penguin, 1991, p. 114.

[13] E. Schrodinger, "Sur la théorie du monde d'Eddington", Nuovo cimento, 15, p. 246-254, 1938.

[14] H.D. Zeh, "There are no quantum jumps, nor are there particles!", Phys. lett., A172, p. 189-192, 1993.

[15] P.C.W. Davies, "Particles do not exist", in S. M. Christensen (ed.), Quantum theory of gravity, Adam Hilger, 1984.

[16] B. d'Espagnat et E. Klein, Regards sur la matière, Fayard, 1993, p. 214.

[17] B. d'Espagnat et E. Klein, Regards sur la matière، المرجع السابق، ص. 215؛ B. d'Espagnat, "On the difficulties that attributing existence to «hidden» entities may raise', in F. Bonsack (ed.), On the status of hidden entities in physics, 1999.

[18] المرجع السابق، ص. 215. B. d'Espagnat et E. Klein, Regards sur la matière

[19] المرجع السابق. B. d'Espagnat, "On the difficulties that attributing existence to «hidden» entities may raise'

[20] المرجع السابق.

[21] B. d'Espagnat, Le réel voilé, Fayard, 1994, p. 421.

[22] C.G. Darwin, "A collision problem in the wave mechanics", Proceedings of the Royal Society, London, A124, p. 375-394, 1929; N. F. Mott, "The wave mechanics of α-ray tracks", Proceedings of the Royal Society, London, A126, p. 79-84, 1929 (repris dans J.A. Wheeler & W.H. Zurek, Quantum theory and measurement, Princeton University Press, 1983).

[23] J.S. Bell, Speakable and unspeakable in quantum mechanics, Cambridge University Press, 1987.

[24] W. Heisenberg, Les principes physiques de la théorie des quanta (1929-1930), Gauthier-Villars, 1972.

[25] B. d'Espagnat, Réponse à "L'avenir de l'atomisme" de M. Bitbol, in M. Bitbol & S. Laugier (eds.), Physique et réalité; un débat avec Bernard d'Espagnat, Frontières-Diderot, 1997.

[26] المرجع السابق. B. Van Fraassen, The scientific image

[27] C. Hempel, Eléments d'épistémologie, Armand Collin, 1972, p. 90.

[28] المرجع السابق. B. d'Espagnat, Réponse à "L'avenir de l'atomisme" de M. Bitbol, in M. Bitbol & S. Laugier (eds.), Physique et réalité; un débat avec Bernard d'Espagnat

[29] إن هذا النوع من العلاقة الاحتمالي وشبه السببي في آن واحد عبر التواصل بين الموجة الحادثة والجزيئات القابلة للتحريض يحمل بعض الشبه مع أطروحة بور وكريمرز وسلاتر في عام 1924: Bohr, Kramers et Slater, ("The quantum theory of ratiation", Phil. Mag., 47, p. 785-802). ولنذكِّر أنه وفق هذه الأطروحة، فإن موجة كهرطيسية كانت تُعتبر ككينونة "افتراضية" صادرة عن كل ذرة وقابلة لأن تثير باحتمال P تحريض الذرات المشعة بواسطتها.

[30] وفق معنى دلالي وكويني (نسبة إلى كوين Quine) بدلاً بالأحرى منه معنى ميتافيزيائي.

[31] من أجل مناقشة معمقة أكثر، راجع: M. Bitbol, Mécanique quantique, une introduction philosopique، المرجع السابق ذكره، وراجع أيضًا الفصل الثاني من هذا الكتاب.

[32] J. Searle, Speech acts, Cambridge University Press, 1969.

[33] S. Kripke, Naming and necessity, Basil Blackwell, 1980.

[34] E. Schrodinger, Physique quantique et représentation du monde، المرجع السابق؛ E. Schrodinger, The interpretation of quantum mechanics, edited and with introduction by M. Bitbol, Ox Bow Press, 1995.

[35] هذا بشكل خاص التبرير الذي يمكننا تقديمه لعبارات مثل "رؤية الذرة بواسطة مجهر ذي أثر نفقي"، أو "دراسة ذرة معزولة في تجويف"، إلخ.

[36] B. d'Espagnat, Le réel voilé، المرجع السابق، ص. 72. والجملة المستشهد بها ناجمة عن تصحيح: "(طالما أن فرضية الاكتمال لم تتحقق)". أي أن صورية الميكانيك الكمومي ليست حيادية فيما يتعلق بمسألة المتغيرات الخفية إلا بشرط أن نرى في هذه الصورية ليس وصفًا كاملاً لـ "ما هو موجود" (الأمر الذي يستبعد بالتأكيد كل إضافة وصفية)، بل فقط أداة تنبؤية أو وصفًا يحمل ثغرات.

[37] يطبق بيتبول هنا مصطلح السياقية contextualisme الذي يدل على نظرية في اللسانيات، ووفقها يكون معنى لفظة ما مرتبطًا مباشرة بسياق هذه الكلمة في الجملة. (المترجم)

[38] المرجع السابق، ص. 372.

[39] قبِل كل من بوم وهيلي نفسهما أن "نظريتهما" لم تكن في الواقع سوى "تفسير" للميكانيك الكمومي، بمعنى أنها لا تعطي أي تنبؤ منفصل عن هذه الأخيرة. أما النقاش حول موضوع إمكانية التمييز تجريبيًا بين الميكانيك الكمومي المعياري ونظرية بوم فيبقى مع ذلك مفتوحًا: فكافة المؤتمرات حول أسس الفيزياء الكمومية التي حضرتها خلال السنوات الثماني الأخيرة كانت تتضمن على الأقل اقتراح "تجربة حاسمة" تزعم أنها تسمح بحسم المسألة بين النظريتين.

[40] تم استخدام محاكمة منطقية من هذا النمط حديثًا من قبل كل من ريدهيد وتيلر: Redhead et Teller ("Particle labels and the theory of indistinguishable particles in quantum maechanics", Brit. J. Phil. Sci., 43, p. 201-218, 1992)، وذلك في إطار مشابه جدًا، فكما يقول هذان المؤلفان: "طالما لا يوجد صورية بديلة تصف الظاهرات على الأقل بالقدر نفسه من الجودة وتكون خالية من العيوب"، سيكون علينا أن نقبل باستخدام الطريقة، المصطنعة جدًا، التي تشتمل على تسمية الجسيمات، ومعالجتها كأجسام فردية، ثم على إخفاء في نهاية المطاف النتائج التنبؤية لتسمية ولفردانية الجسيمات. ولكن بما أنه يوجد مثل هذه الصورية البديلة، أي صورية النظرية الكمومية للحقول، فليس ثمة أي سبب لعدم اعتمادها في محل وموضع الصورية التي تشتمل على ترجمة شكلية للمفهوم الفارغ تجريبيًا للجسيم الفردي.

[41] M. Redhead, From physics to metaphysics, Cambridge University Press, 1995.

[42] المرجع السابق، ص. 299.  B. d'Espagnat, Le réel voilé

[43] أدخل مصطلح التفنيدية كارل بوبر في منتصف القرن العشرين، واعتمد في معظم العلوم الحالية. ووفق هذا المفهوم، يمكن طرح وإعداد نظرية ما دون قيود عليها. ولكن ما أن نحصل على هذه النظرية، فإنه يصبح من اللازم اختبار توافقها مع الطبيعة والواقع من خلال الرصد التجريبي والبرهان في النهاية أنها خاطئة. عندما نقول مثلا إن الطيور كلها بيضاء، فإنه يكفي أن نجد (تجريبيًا) طيرا ليس أبيض اللون لكي نثبت خطأ مثل هذه النظرية. إن منهجية "التفنيدية" تشتمل بالتالي على إثبات أن نظرية ما غير صحيحة عن طريق تفنيد تجريبي أي وضع صيغة نظرية مفندة. فالعلم يتقدم عن طريق الارتكاز على تفنيدات (على عكس الاستنتاجية التي يبنى العلم وفقها على نجاحات متتالية). (المترجم)

[44] I. Lakatos, The methodology of scientific research programmes, Cambridge University Press, 1978, p. 42.

[45] H.R. Brown, C. Dewdney & G. Horton, "Bohm particles and their detection in the light of neutron interferometry"، في المرجع السابق.

[46] من أجل تعليق حول هذه النقطة، راجع B. d'Espagnat, Le réel voilé، المرجع السابق، ص. 343.

[47] D. Bohm, Wholeness and the implicate order, Ark Paperbacks, 1983, p. 155.

[48] المرجع السابق.

[49] التعددية هي وفق برنار دسبانيا رؤية يتكون العالم وفقها من عناصر بسيطة تتفاعل فيما بينها بواسطة قوى تتناقص مع ازدياد المسافة بينها. (المترجم)

[50] المرجع السابق، ص. 336.  B. d'Espagnat, Le réel voilé

[51] R. Carnap, Meaning and cecessity, 2nd edition, The University of Chicago Press, 1956, p. 205, trad. fr. Signification et nécessité, P.U.F., 1997.

[52] H. Putnam, Realism with a human face, Harvard University Press, 1990, trad. fr. Le réalisme à visage human, Seuil, 1993.

[53] حول هذا الموضوع في السببية التجاوزية أو "الموسعة"، راجع B. d'Espagnat, Le réel voilé، المرجع السابق، ص. 361. وراجع أيضًا المقطع 3 ـ 3 من هذا الكتاب.

[54] D. Bohm & B. Hiley, The undivided universe, Routledge, 1993, p. 160.

[55] G. Cohen-Tannoudji et M. Spiro, La matière espace-temps, Folio-Gallimard, 1990, p. 341.

[56] A. Einstein, "L'évolution de nos conceptions sur la nature et la constitution du rayonnement" (1909), in A. Einstein, Œuvres I, Quanta, Seuil, 1989. وانظر أيضًا: L. Soler, Emergence d'un nouvel objet symbolique: le photon, Thèse de l'université Paris-I, décembre 1997.

[57] المرجع السابق، ص. 231.  D. Bohm & B. Hiley, The undivided universe

[58] D. Bohm, B.J. Hiley & P.N. Kaloyerou, "An ontological basis for quantum theory", Physics Reports, 144, p. 321-375, 1987.

[59] S. Weinberg, The quantum theory of fields I, Cambridge University Press, 1995, p. 14.

[60] M. Born, "The ineterpretation of quantum mechanics", Brit. J. Philos. Sci., 4, p. 95-106, 1953.

[61] H. Putnam, Définitions, Editions de l'Eclat, 1992, p. 62.

[62] يتعلق الأمر هنا بإشارة إلى كوين W.V. Quine, The roots of reference, Open Court, 1974.

[63] F. Nietzsche, La volonté de puissance I, Gallimard, 1995, 97.

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني