الصفحة التالية                  الصفحة السابقة

الحقيقة: توجه ثان٭

 

ألكسندر لوِون

 

حقيقة ووهم

أشَرتُ في نهاية النص حول أنماط الطبع، إلى أن هذه الأنماط عليها البقاء كسِتارَة خلفية بالنسبة للمُعالِج عندما يكون على تواصل مع مريضِه. ففي المستوى الأول، تؤخذ بعين الاعتبار الحالَة النوعية لحياة المريض. وهذا يتضمَّن الشكاوَى التي يعاني منها في الوقت الراهِن، والطريقة التي يرى الشخص فيها نفسَه في العالَم (كيف يقيِّم العلاقة بين شخصيتِه وصعوباتِه)، إلى أية درجة يتَّصِل مع جسده (مستوى إدراك توتراته العضلية التي من الممكن أن تساهِم في مشكلته الشخصية)، وما هي توقعاته من العلاج، وفي كل لحظة، كيف يقيِّم علاقتَه مع المعالِج طالما أنه كائن إنساني آخَر. تتمركز البؤرة الأولية حول أهداف الشخص ضمن الواقِع. ويجِبُ أن أضيف على ألا تُفقَد رؤيةُ هذا الجانِب البته، خصوصًا خلالَ مُدَّةِ العِلاج، وذلك على الرغم من كونِه متوسِّعٌ بشكلٍ مستمر وفقًا لما يتمُّ من استقصاءات حوْلَ جوانِب حياته الشخصية أكثر فأكثر.

على الرغم أن البؤرة الأولية يجِب أن تنعكِس على الحقيقة، فأنا أعتبِرها توجُّهًا ثانيًا، ثانيًا بالمعنى الزمني، أي أنَّ توجُّه الشخص ضمن الحقيقة يتطور شيئًا فشيئًا، وفقًا لمتاخمتِه حدود النضج، وبمقدار ما يكون التوجُّه نحوَ اللذة حاضِرًا منذ بداية حياتِه. وبقدر ما يكون توجُّه الفرد ضمن الحقيقة أفضَل فسوف تُشبِع أفعالُه حاجاتِه للذَّة بشكلٍ أكثر فعالية. ففي رأيي إنه أمرٌ لا يُعقَل بأن يتوصَّل أحدٌ ما لبلوغ اللذة، والإشباع، وتحقيق ما يرغَب بلَهفةٍ كبيرة، في حين أنه خارج واقعه الخاص.

لكن، ما هو الواقِع؟ كيف بوسعِنا أن نقول عن أحد إنه واقعي أو لا فيما يتعلَّق بحياتِه الخاصة؟ لا أعتقِد وجود إجابة كافية بالنسبة للسؤال الأول. فثمَّة بضعة حقائق أفكِّر بكونِها قائمة على الواقع، كتلك التي لأهمية التنفس الجيِّد، وقيمة أن يكون المرء حرًا من توتراته العضلية المزمنة، والحاجة بأن يكون متواحِدًا مع جسمه الخاص، والقدرة الخلاَّقَة للِّذَّة، وهكذا دواليك. ففي شأن بعض الأشياء التي قادَتني على نحوٍِ غير حقيقي، أنني كنتُ أعتقِد بإمكانية الربح دون كثير من الجهد وخسِرتُ مالاً في سوق الأسهم المالية. وثمة أيضًا بخصوص بعض الشؤون تلك التي كنتُ مشوَّشًا إزاءَها. وبالتالي، إلى أية درجة يكون المرء فيها واقعيًا ويحمِل حمولةً ثقيلةً جدًا من المسؤوليات؟ فعلى هذا النحو أنظر إلى الكثير من مرضايَ. لا أعتقد بأن أحدًا يعرِف كل الإجابات للسؤال الأول، إلى أن نعود للثاني.

لحسن الحظ، فالشخص الذي يأتي طلَبًا للعِلاج يقبَل بأنه في شِدَّة، وبأن ثمَّةَ شيء ما قد حَدَثَ له في حياتِه، ولكنه لم يخرج منه كما يجِب، وبأن ثمَّة شكوك حول واقعيَّةِ توقُّعاتِه. إن معطيَات كهذه تُعرَف بأنها مشكلات الفرد، وواقِع أن تكون موضوعَ احترامٍ بالنسبة لشخصِ آخَر هو الأمر الأكثَر سهولَة، حيث يستطيع المعالِج بشكل عام تمييز جوانب فكر وسلوكية هذا الشخص، هذه الجوانب التي تبدو غير واقعية. وهكذا يمكننا القول بأنها مرتكِزَة على أوهام أكثر مما هي على الواقِع.

على سبيل المثال، استشارَتني شابة كانت مكتئبَة بسبب فسخ عقد زواجها. اكتشفَت بأن زوجَها كان على علاقَة مع امرأة أخرى. وهذا الاكتشاف حطَّم إلى ألف قطعة الصورة التي كانَت قد كوَّنَتها عن نفسها على أنها "الزوجة الصغيرة والكامِلَة". وكانت الصفتان اللتان استخدمتهما في محلِّهما. فقد كانت امرأة ذكية، وصغيرة، وكانت تعتقِد بأنها تكرِّس نفسَها لزوجِها وبأنَّه لا غِنَى عنها لنجاحه المِهَني. فمن السهولة بمكان أن نتخيَّلَ مدى صدقِها عندما رأت أنه مهتمٌّ بامرأة أخرى. فمن بوسعِه أن يقدِّم لرجُلٍ أكثرَ من زوجتِه نفسِها؟!

من الواضِح بدءًا من هذه القصّة، أن مريضتي كانت ترى الحياة بشكلٍ غيرِ واقِعي. وفكرتها أن بمقدورِها في أن تكون "الزوجَة المثالية" هي مجرَّد وهم، باعتبار الطبيعة الإنسانية نفسها أمرٌ مازال بعيدًا عن الكمال حتى الآن. والاعتقاد أنه بوسع رجل أن يشكر زوجتَه لدورها في كونه رجل ناجح جدًا، لا يستنِد على الواقِع، نظَرًا إلى أن التأثير الناجِم عن موقف زوجة كهذا ليس أكثر من إنكار دور الرجل، وبالتالي فهذا إخصاء له. ويؤدي انهيار الأوهام دومًا إلى شعور بالكآبَة، وهذه الأخيرة تقدِّم للشخص الفرصة لتعرية أوهامه وإعادة ترسيخ فكره وتحليله المنطقي على أسس أكثر صلابةً.

إن أول ما أثار انتباهي في دور الأوهام، كانت دراستي حول الشخصية الفصامية. فالحالَة اليائِسَة للفصامي تجبرُه على خلق أوهام تدعم روحَه الفعَّالة في صراعِها من أجل البقاء. ففي وضع يشعر فيه الشخص بعجزه على التغيير أو الهروب من حقيقة مهدِّدَة، وهكذا بلجوئه إلى الأوهام يمنع نفسَه من أن يؤخَذ باليأس الكلي. فكل فرد فصامي لديه أوهامه السرية التي يحتفِظ بها لنفسِه بكل عناية، والتي يفكِّر بأنها تتحقَّق. فعندما يشعر بأنه مرفوض في طبيعتِه الإنسانية، يطوِّر الوهم بكونِه متفوِّقٌ على الناس العاديين، وذلك من خلال فضائلِه الخاصة، فهو الأكثر نبلاً بين الناس، أو أنها الأكثر نقاءً بين النساء. فهذه الأوهام تتعارض بشكل عام مع تجارب الحياة الواقِعية لهؤلاء الأشخاص. فعلى سبيل المثال، إن الشابة ذات السلوك الجنسي الفاسِق وغير الشرعي، تعتقِد أنها نقيَّة وفاضِلَة. فالفكرة الكامنة وراء هذا الوهم هو أنها ذات يوم سوف يتم اكتشافها من قِبَل شخص عظيم ينظر إلى ما وراء صورتِها الخارجية، فيرى في داخلِها قلبًا من ذهب.

لكن خطورة الوهم تكمن في ديمومة اليأس. أستحضِر هذا المقطع من كتاب الجسد المُخانَ لكي أشرح وجهة نظري هذه:

بقدر ما يكتسِبُ الوهمُ قوةً، فهو ينتقِل إلى إلحاح تحقيقه، مجبِرًا الفرد بهذه الطريقة على الدخول في صراعٍ مع الواقِع، الأمر الذي يؤدي إلى سلوكِه اليائس. إن السعي لتحقيق وهمٍ يستدعي تضحيةً بالمشاعِرِ الجيِّدَة في الحاضِر، والشخص الذي يحيا في الوهم هو من حيث المبدأ عاجِز عن تحقيق متطلَّبات اللِّذَّة. وفي يأسِه يكون على استعداد لتجاهل اللذة، وترك الحياة في حالةٍ من الكمون على أمل وهمِه في أن يتحقَّق، ويُحرِّرَه بالتالي من اليأس.

عبَّرَت إحدى مرضايَ بشكل واضِح عن هذه الفكرة عندما قالَت:

يرسِّخ الأشخاص لأنفسِهم أهدافًا غير واقعية، ومن ثمَّ يُبقون أنفسَهم في حالة مستمِرَّةٍ من اليأس في محاولةِ تحقيقِها.

تأتي الغايةُ من أهدافٍ غيرِ واقعية إلى السطح مجددًا عندما كنت أبحث في موضوع الكآبة. كان المعطى الأساسي يكمن في أن كل شخص مكتئب لديه أوهام تتمَوْضَع كمظهَر للاواقعية في كل أفعالِه وسلوكياتِه. واعتبارًا من هذا المعطى صار واضحًا بأن رد الفعل الاكتئابي يتبع بشكل ثابت فقدان وهم ما. ففي كتابي الاكتئاب والجسد Depression and the Body ثمة فقرة ذات معنى أحبُّ أن أذكرَها ضمن هذا السياق:

إن الشخص الذي عانى فقدانًا أو صدمةً أثناء طفولتِه، فهذا كافٍ لكي يزعزعَ شعورَه بالأمان وقبولَ الذات، ويقومَ بإسقاط المتطلَّب الوجودي على صورتِه المستقبلية بما يتناسَب مع تجارب الماضي. وعلى سبيل المثال، فالفرد الذي عايش إحساسًا بالرفض حين كان طفلاً، يصوِّر المستقبَل كأنه مليء بالوعود في قبولِه والرضا عنه. وإذا تعَيَّنَ عليه أن يُوَاجِهَ في طفولته اليأس والعجز، فسوف يحاوِل تعويض هذه الأنا بشكل طبيعي في عقلِه من خلال إعداد صورة عن مستقبَل يكون مقتدِرًا ومسيطِرًا فيه على الأوضاع. أما التصوُّرات والتخيُّلات التي سوف ينسجها العقل فهي ستسعى لعكس توَجُّه حقيقة غير ملائمَة، ومرفوضة، الأمر الذي يدفَع إلى خلق صُوَر وأحلام يقظة. وهكذا فإن هذا الفرد يفقد اتصاله بأصلِه الطفولي وتجارب الطفولة، ويضحِّي بكل حاضرِه لإرضاء صُوَرِه وتخيُّلاتِه تلك. وهذه الصوَر هي مواضيع غير حقيقية، وتحقيقها لا يمكن الوصول إليه في النهاية.

يتضمَّن معنى هذا النص في واقع تضخيم دور الوهم على كل أنماط الطبع. فكل بنية طبع هي النتيجة لتجارب الطفولة التي زعزعَت إلى حدٍّ ما المشاعِر الشخصية في "الشعور بالأمان وقبول الذات". إذن، في أية بنية طبع سوف نلقى صوَرًا وأوهامًا أو أنا مثاليةً، وهذه كلها تعوِّض الأضرار المسبَّبَة للذات (نفسه ذاتها). وكلما كانت الصدمة أقوى فإن استثمار الطاقَة أعظم في الصورة أو الوهم في كل الأحوال، ولكن، لهذا الاستثمار اعتباره. فكل جزء من الطاقة ينزاح باتجاه الوهم أو باتجاه المواضيع غير الممكن الوصول إليها، فالشخص لن يبقى مستعدًا لكي يحيا الحاضِر، واليومي. وهكذا، يُعثَر على شعور بعدم الجدوى عند شخص كهذا، مع قدرة قاصِرَة على مواجهَة واقعِه الشخصي.

إن الوهم أو الأنا المثالية لكل شخص خاص جدًا بالنسبة لشخصيَّتِه. وبصِفَةِ تعميق معارفِنا بخصوص كل بنية طبع على حِدَة، فبوِسعِنا محاوَلَة وصف طيف واسِع من أنماط الوَهم أو الأنيّات المثالية الأكثر نموذجية لكل واحِد منها.

الطبع الفصامي: أشرتُ إلى أن واقع الفرد الفصامي يكمن في شعوره بنفسِه أنه مرفوض ككائن إنساني مثله مثل الآخَرين. وتنعكِس الاستجابَة إلى رفضٍ كهذا في موقفِه المتعاظِم على الآخَرين. وفي الحقيقة إنه شخص عظيم متوارٍ لا ينتمي حتى إلى والِدَيْه. والبعض منهم يصل ضمنًا إلى التصور على أنهم قد تم تبنِّيهم. فأحد مرضايَ، على سبيل المثال، قال لي:

أدركتُ فجأةً أنني كنتُ قد نمذجتُ صورةً عني هي الأمثل، كما لو أنني شخص عظيم منفيٌّ. أربط هذه الصورة بحلم أن أبي الملك أتى ذات يوم، وقال لي بأنني وريثُه الشرعي الوحيد... وأدركتُ كيف أنني حافَظتُ على وَهمي هذا بأنه سوف يأتي يوم ما ليتمَّ فيه اكتشافي. والأكثر من ذلك أنه كان عليَّ الإبقاء على "مزاعمي". وشخص عظيم لا يستطيع أن يحطَّ من نفسه، ويقوم بأعمال عادية. فعليَّ إظهار طبيعتي الخاصة.

تكمن هنا النقطة القصوى في أن الشخص يستطيع التوصُّل لكي يكون خاصًا أمام رفض طبيعته الإنسانية وهو في صيرورتِه شيزوفرينيًا (الشيزوفرينيا هي الحالة المفكَّكَة، أي انفصام في الشخصية للطبع الفصامي). من الشائع أن نلتقي شيزوفرينيين يعتقدون أنهم يسوع المسيح أو نابليون أو الإلهة إيزيس، وهكذا دواليك. ففي حالَة الشيزوفرينيا، يتولَّى الوهم صفة الهذيَان. وبالتالي، لن تتوفر للشخص الشروط اللازمَة لكي يمِّيَز الحقيقةَ من الوهم.

الطبع الفموي: تكمن الصدمة التي عاناها صاحِب هذا الطبع في حرمانِه من الحق بأن تكون لديه حاجات، وبالتالي إشباع حالة انعدام التوازن لعضويته. الوهم الذي يتطوَّر بشكل تعويضي هو صورة الشخص بكونه مليء بالعنفوان، ومُشبَع بالطاقة والمشاعِر التي تتدهور بدون إكراه. فعندما يميل مزاج الفرد ذي الطبع الفموي إلى التكبُّر، فهذا أمر نموذجي بالنسبة لبنية الطبع لديه، وهذا الوهم قابل عندَه للتحقُّق. ويصير هذا الشخص قابِلاً للإثارة، متقلِّبًا، ينشر زوابع من الأفكار والتصوُّرات داخل بحر من المشاعِر. هذه هي أناه المثالية التي تتكوَّن في مركز انتباهه كأنه أحد ما يكرِّس نفسَه بالكامل لما يقوم به. ومع ذلك، فهذا التكبُّر ليس أكثر صلابةً بكثير من صورة الشخص التي يكوِّنُها عن نفسِه، وليس لديه الشروط الكافية لكي يدافع عن هذه الصورة، بسبب نقصان الطاقة التي سوف يحتاجها من أجل ذلك. وهكذا تختلُّ كلٌّ من الصورة والطاقة في الوقت نفسه، ويدخل الطبع الفموي في حالةٍ نموذجية من الكآبَة أيضًا.

عالجتُ مريضًا منذ سنوات عديدة لبعضٍ من الوقت، وكانت قصَّته ذات شأن. اقترح عليَّ ذات يوم، أن أضعَ بشكل كامِل كل ما أملكُه لأنه كان يتهيأ للقيام بالشيء نفسِه. "لديَّ الرغبة بمشاركتِك في كلِّ ما أملك". وقال: "لماذا لا تقوم أنت أيضًا بالشيء نفسِه؟"، فسألتُه: "كم تملك؟!"، أجابني "دولارين"، وبما أنني أملك أكثر بكثير من ذلك، فالأمر لم يبدُ لي واقعيًا. وبالرغم من ذلك، فقد كان مقتنِعًا بالكرَم الذي تخلَّل عرضَه.

الطبع المعتل نفسيًا: إنه الفرد الذي لديه وَهْمٌ فيما يتعلق بالقدرة، فهو يعتقِد بامتلاكها سرًا، وبأنه كليُّ القدرة. ويعوِّض على هذا النحو تجربته بتعرُّضِه للإهمال حين لم تكن لديه القوة، ساكنًا بين يدي الوالِد المُغوي والملاعِب. ولكنه لكي يُحقِّق الوهم في عقله، فعليه أيضًا أن يظهَر كشخص يملك الثروة والقدرة. فعندما يكون للمعتل نفسيًا قدرات، كما يحصل في مرات كثيرة. الحالَة تصبح خطيرة بقدر ما لا يكون هناك شروط لكي يصير مُقتدِرًا. وباعتبار الأمر على هذا النحو، فالقدرة التي تتأهَّب لن تُوظَّف على نحوٍ بنَّاء، وإنما في أكبر اهتمام بصورته الأنوية.

حكى لي مريض أنه كانت لديه صورة عن نفسه خلال أعوامٍ على أنه أحد ما كان يحمِلُ حقيبةً تحوي ثمانيةَ آلافِ دولارًا، وكانت الصورة تجعله يشعر كما لو أنه ذو مكانة، وعلى درجة كبيرة من الأهمية. وعندما أتى إليَّ للعلاج كان قد جمَّع عدة ملايين من الدولارات، وأخذ يرتاب بأن يفقد الأهمية والقدرة التي كان يُصبِغها على نفسِه بقدر ما لديه من مال. إن كلمة "إدراك" (تحقيق) تشير بمعنى ما إلى مواجهة الحقيقة. فوهم القدرة – ذلك الذي تقوم به القدرة لأحد – هو أمر شائع في ثقافتنا هذه. في كتابي لذة أناقش التناقض قدرة – لذة.

الطبع المازوخي (الذليل): يشعر كل فرد ذي طبع مازوخي بالدونية. إذن، يتعلَّق الأمر بشخص تعرَّض لإذلاله وإخجالِه أثناء طفولته، ولكنه في العمق، يشعر بالفوقية في علاقتِه مع الآخرين. تنكشِف هذه الصورة من خلال المشاعر الملغاة من احتقارٍ إزاءَ المعالِج، وإزاءَ ربِّ العمَل، وإزاءَ الجميع الذين هم في واقع الأمر في مكانةٍ أعلى منه.

تكمن إحدى الأسباب التي تُعتبَر صعبة جدًا في معالَجَة هذه المشكلة في واقع أن مريض هذه البنية من الطبع ليس لديه الشروط الكافية ليسمح للمعالِج بالنجاح بشكل جيد في عمله. فإذا نجح العلاج، فهذا يثبِت بأن المعالِج هو أكثر كفاءة من المريض. يا لها من حَلَقَة مفرَغَة! فهذا الوهم يفسِّر جزئيًا لأي سبب يستثمِر المازوخي الكثير في فشلِه. فهذه مشروحة بشكل مهمَل على قاعدة نقصان الجهد الكافي للخروج سالمًا في ظرف ما، وما أريد قوله هو إذا أراد فسوف يحصَل على نتائج جيدة. وعلى نحوٍ تناقضي، فالفشل يدعم هذا الوهم بالفوقية.

الطبع الصلب: تنجم هذه البنية من الرفض الصادر عن أحَد الأبوَين للحب المثبَت من قِبَل الطفل. وهذا الأخير يشعر بأنه قد تمَّت خيانته وأن قلبَه قد تحطَّم. يتكوَّن دفاعه الذاتي من خلال سياق من التدرُّع أو من استعداد لدفاع ضد مظهَر غير واضح للحب، ومن خلال الخوف بأن يُخَانَ مجدَّدًا. فحبُّه مدرَّعٌ. ولكن على الرغم من أن هذا هو الواقِع لطريقة حياته في العالَم، فالشخص ذو الطبع الصلب لا يُرَى على هذه الطريقة. فوهمه أو صورته الذاتية تقوم على أنه هو الذي يُحِبُّ دون الحاجة لأن يكون محبوبًا.

يثير تحليل الفرد ذي الطبع الصلب تفكيرًا هامًا. فهو شخص ودود، وقلبه مستعدٌّ للحب، ولكن تعبيره عن هذا الشعور محصور ومكبوت. فإذا حبَسَ أحد ما تعبيرَه عن الحب فإن قيمتَه سوف تتضاءل، وبالتالي، فالفرد الصلب هو أحد ما ودود على مستوى المشاعِر، ولكن ليس في تصرُّفاته. والنقطة الهامة هي أن وهمه ليس زائفًا على الإطلاق، ففيه أثَر من واقِعٍ يحملنا على التساؤل: "هل كل الأوهام هي على هذا النحو؟" ناهيكم أنه لم يكن قد فكَّر كثيرًا في عمق المشكلة، فاستجابته الحالية هي المثالية. يجب أن يوجد أثر ما من الواقِع أو من الحقيقة في الوهم كله، الأمر الذي يسمح لنا بفهم لماذا أحد ما يتشبَّث بعنادٍ كبير به. لنتابع بضعة أمثلة:

ثمة حقيقة ما في واقع أن صورة الفرد الفصامي تصوِّره كشخص متميِّز. يصير البعضُ منهم متميزين ومشهورين أثناء حياتهم بشكل حقيقي. فالنبوغ ليس بعيدًا جدًا عن الجنون، كما نعرف جيدًا. سيكون ممكنًا أن نقول بكونهم مرفوضين من قِبَل الأم ذاتها فللأمر علاقة مع واقع كونهم متميِّزين بالنسبة لعينيها؟ أعتقِد بوجود ثمة صحة في هذه الحالة.

الفرد ذو الطبع الفموي الكريم. ولكن، لسوء الحظ ليس لديه إلا القليل لكي يعطِي. وبالتالي، بالإمكان اعتبار أن وهمَه يتأسَّس على المشاعِر وليس على التصرُّفات. وتكتسي في عالَم الرشد السلوكيات بقيمة الحقيقة.

الفرد ذو الطبع المعتل نفسيًا، امتلك شيئًا مرغوبًا من خلال الوالِد، وفي الحالة المعاكِسة لا يكون موضوع إغواء وتلاعب. بينما هو طفل عليه أن يدرِك هذه اللعبة ومنه نشأ استياؤه الأول من السلطة. فعلاً في الحقيقة كان أحد ما مهملاً، وكانت السلطة بالتالي أمر وُجِدَ فقط في عقله. ومع ذلك، تعلَّمَ أمرًا حول الحياة التي استخدمها مؤخرًا: "كل مرة يحتاج فيها أحد إليك من أجل شيء ما، فأنت تملك المقدِرَة على هذا الشخص".

من الصعوبة بمكان العثور على أساسات وهمِ الشعور بالفوقية لدى المازوخي، على الرغم من امتلاكه على الأقل أساس واحِدٍ منها. فالتفكير الوحيد الذي يأتي إلى رأسي والذي أضعه مع بعض التحفظات، هو التالي: المازوخي هو فوقي في إمكانيته على تحمُّل وضعٍ مؤلِم. "فما من أحد يتحمَّل شيئًا من هذا القَبيل، فقط المازوخي نفسه"، الأمر الذي يُقال بشكل طبيعي. فهو يَتحمَّل وضعًا ما ويُبقي على علاقة اجتماعية حيث نجد في المقابِل أشخاصًا آخَرين كانوا قد تخلُّوا عنها منذ وقت طويل. فهل ثمة فضيلَة في هذه الحالَة؟ إن هذا مُمكِنٌ جدًا في بعض الظروف. فعندما يكون شخص في وضع من تبعيَّة مطلَقة في علاقة معك، فواقِع أن تُخضِع نفسَك لهذا الوضع، يُمكنُ لذلك أن يكون أمرًا نبيلاً. يُشكُّ تمامًا في أن تكون هذه تجربة المازوخي في علاقة ارتباطه بالأم، الأمر الذي ينتهي بجعلِه يشعر أنه ذو قيمة على الأقل.

يكمُنُ خطَر وهم أو صورة عن أنا في واقع فقدان بصيرة الشخص، وذلك ضمن مصطلحات الحقيقة. فلا يمكِنُنَا القول عن الفرد ذي الطبع المازوخي: كم هو نبيل أن يُخضِع نفسَه لوضع مؤلِم، وعندما يحصَل ذلك فبإمكانِنا القول بأنه يملك طابعَ جَلْدَ الذات (ضرب الذات بالسوط). وبالطريقة نفسها، فالشخص الصلب لا يستطيع تمييز تصرفه الودود من تصرُّفٍ آخَر ليس ودودًا. الأمر الذي يجعلنا نفقد بصيرتنا، ليسَت الأوهام فقط، فنحن مُوَسوَسون بالصوَر الأنوية التي تحتوي عليها. وباعتبارنا موسوسون فلا نستطيع التوصَّل إلى وضع أقدامِنا على الأرض، وليسَت لدينا الشروط الكافيَة لاكتشاف داخلِنا الحقيقي.

الوساوس

نقول عن أحدٍ أنه "موَسوَس" عندما نراه سجينًا لصِراع انفعالي يشلُّه، ويمنع كل فعل مُجْدٍ في سبيل تغيير الحالَة التي هو عليها. فهذه صراعات مكوَّنَة من شعوريْن متعارِضَيْن يُحتبَسان بشكل متبادَل بالنسبة لظهورِهما. الفتاة المُغرَمَة بفتى إلى أقصى حد هي مثالٌ مُنَاسِب لهذه الحالة. فهي من جهة، تشعر بأنه قد خانَها، وتشعر في الوقت نفسِه بأنها في حاجة إليه، ومن جهة أخرى، فهي ترفضُه في داخلِها، وتشعر بأنه سوف يجرح شعورها إذا ما تقرَّبَت إليه. فهي غير قادرة على الذهاب إلى الأمام بسبب الخوف، وفي التراجع بسبب الرغبة، فهي ضائعة ومُوَسْوَسَة بشكلٍ كامل. ويستطيع الشخص الإبقاء على وظيفته في الوَضع نفسِه كتلك الفتاة على سبيل المثال، مع أنه ليس متعلِّقًا به ولكنه يخشى التخلي عنه بسبب شعور الأمان الذي تقدّمُه له وظيفةٌ في هذا الوضع. وعلى هذا النحو، يصير كالضائع في أية حالَةٍ يجد نفسَه فيها، شعوران متعارِضان يمنعان حركةً فعَّالَة لإيجاد حلٍّ له.

بإمكان المرءِ أن يكونَ واعِيًا أو غيرَ واعٍ لهذه الوساوس. فإذا كان الشخص واعيًا للصراع، ولكنه لا يستطيع التوصُّل لإيجاد حل له، فسَوف يشعر بنفسِه مسجونًا داخليًا. بالرغم من أن الفرد ممكنٌ له أن يكونَ قد تورَّطَ في صراعاتٍ نشَأَت في طفولتِه، ولا يتذكَّرها بعد. ففي حالَةٍ كهذه، ليس للشخص وعيٌ بأنه "موَسْوَس".

كل وسواس، بقدر ما هو واعٍ له، كذلك فهو ليس واعيًا له، ويُحِدُّ من حرية الشخص في حركتِه ضِمْنَ مختلَف قطاعات الحياة، وليس فقط في ميدان الصراع. فالفتاة التي أتَيْنا على ذكرها والمُغرمَة بفتى سوف تتحقَّق بأن عملَها أو دراستَها وعلاقاتِها العائلية سوف تدخل كلُّها أيضًا في المعاناة. وإن هذا يحصَل أيضًا فضلاً عن كونِه – بأقلِّ نسبة – مع الوساوس اللاواعية التي هي على حال كل الصراعات الانفعالية التي لم يوجَد لها حل عملي بعد. وعلى هذا النحو تتَّخِذ هذه الصراعات بنيةً جسمانية على شكل توتراتٍ عضليةٍ مُزمِنَةٍ. وهذه فعلاً تُبقي الجسم معلَّقًا أيضًا، وقد صوَّرتُ بعضَ الهيئات التي سأقوم بوصفِها باختصار.

بشكلٍ عام، لا يُؤخَذُ بعَيْنِ الاعتبار أن كلَّ وهمٍ يجعل من الشخص موَسوَسًا، ومتورِّطًا في فخاخِ صراعٍ لا مخرجَ منه وَسَط متطلَّبات الواقِع من جهة، ومحاولات تحقُّقِ هذا الوهم من جهة أخرى. فالشخصُ ليس مستعدًا للتخلِّي عن وهمِه من جانب، نظرًا إلى أن هذا سوف يعني ضربةً للأنا. وفي الوقت نفسِه، لا يستطيع الشخص إعفاءَ نفسِه كليًا من مواجهة متطلَّبات الواقع. وعلى قدر ما يكون خارج التناغم مع الواقِع، فهذا الأخير غالبًا ما يتَّخِذ مظهَرًا مهدِّدًا ومرعِبًا. وهذه هي الصورة التي تظَلُّ قائمةً لكونِها مرئيةٌ بالنسبة لعيَنَيْ طفلٍ يائسٍ.

لا تزال هذه المشكلة تمثِّلُ تعقيدًا آخَر من خلال واقعِ أن للأوهام حياة سرية، أو بعبارات أخرى، الأوهام والتخيُّلات تشكِّل جزءًا من الحياة السرية لدى أغلبية الناس. وأن نقولَ إنه نادِرًا ما تُعلَن هذه الحياة السرية للطبيب النفساني بشكلٍ عفوي فمِن المُمكِن لذلك أن يُفاجِئ القارئ. فعلى الأقل، هذه كانت تجربتي ولا أعتقِد أنها الوحيدة. ولا أعتقِد أيضًا بأن إخفاء هذه المعلومات يؤدي إلى مناقشتها. وببساطة، لا يرى معظَم المرضى أهميَّتَها. فهم يركِّزون على المشكلة الحالية التي تدفعهم للبحث عن مساعدة، ولا يفكِّرون بأن لصُوَرِهم وأوهامِهم وتخيُّلاتِهم بعض الأهمية. وبالتالي، فإننا نتَّخِذ وجودَ رفضٍ لاواعٍ يعمل في سبيل إبقاء المعلومة مخفية. ولكن عاجلاً أم آجِلاً سوف تظهَر هذه المعلومة المخفية.

عالجتُ فتىً يعاني كآبَةً بدأَت معه منذ وقتٍ طويل. وكان علاجُه يتضمَّن عملاً مكثَّفًا على الجسَد. التنفُّس، والتحرُّك، وإظهار المشاعِر التي كان يتفاعَل معها بشكل مناسب. فكان يعبِّر في الوقتِ نفسِه عن كثيرٍ من المعلومات فيما يتعلَّق بطفولتِه التي كانَت تعطي ضوءًا على حالتِه. إلا أن الكآبة ظلَّت قائمةً على الرغم أن كلَّ جلسةٍ كانت تُظهِر تحسُّنًا ملموسًا في مواقفِه. واستمرَّت هذه الحال لعدة سنَوَات. وكان المريض يعتقِد بحزم أن المنهَج الحيوي الطاقي بإمكانِه مساعدته، وأنا كنتُ متهيئًا للبقاء إلى جانبِه.

كانت إحدى الوقائع ذات معنى في طفولته ألا وهي موت والدته عندما كان له من العمر تسع سنوات. تُوفِّيَت على أثر معاناتها من مرض السرطان، وقبل ذلك، لزمَت فراشَها عدَّةَ سنوات. وعند وفاتِها قال المريض إنه لم يتأثَّر كثيرًا مع أنه تذكَّر أن أمَّه كانَت قد كرَّسَت له نفسَها كثيرًا. وكان يُنكِر أي ألَم، الأمر الذي كان صعبًا عليه فهمه. كان ممكنًا رؤية هذا الإنكار أنه السبب في كآبتِه اللاحِقَة، ولكن العتَبَة التي مثَّلَها هذا الرفض كان متعذَّرٌ فهمَها.

نوقِشَ انقطاع العلاقات بهذا الشكل في مؤتمر طبي، عندما قدَّمتُ هذا الفتى للحضور من الزملاء. وقمنا أثناء تقديمي لحالتِه، بتحليل مشكلتِه باستخدام لغة الجسَد، وأعَدْنا النظر في سيرتِه. اعترف أنه لايزال يشعر بالكآبَة. وفجأة، أشارَت إحدى شريكاتي في المؤتمَر إلى ملاحظَة مُدهِشَة: "كنتَ تعتقِد أنه بمقدورِك جعل أمِّكَ تعود من عالَم الأموات". نظر مريضي إليها في تعبير على وجهِه يلوح فيه الخوف، كما لو أنه كان يقول: "كيف عرفتِ ذلك؟!"، ومن ثمَّ أجابَها بـ: "نعم".

لا أدري كيف أدركَت ذلك. كان حدسًا رائعًا، وجعلَه متعريًا من وهمٍ دامَ أكثر من عشرين سنة الأمر الذي جعل من مريضي كما لو كان معلَّقًا في الهواء. ولم أعتقِد أنه كان بوسعِه إظهار هذا الوهم طوعيًا. ومن المُحتمَل جدًا أنه قام بمحاولةِ إخفائه عنه هو نفسه، وربما خوفًا من الخجَل. وبصعود مشكلةٌ كهذه إلى السطح حدث تحوُّل ذو معنى في مسارِ علاجِه.

يحتاج كل علاج إلى تبصُّرات حدسية من قِبَل المعالِج، بالضبط مثل إدراكِها فيما يتعلَّق باللحظة الوجودية للمريض. فإذا لم نتوصَّل إلى اكتشاف ما هو وهم المريض، بالرغم من أن بعض هذه الأوهام يجري اكتشافها بدون مشاكل، فبوسعِنا على الأقل التحديد بأن الشخص أَسِيرُ وسواسٍ، متفحِّصين جزءًا ما منه في نشاطِه. وهكذا تتوفَّرُ لدينا الشروط الكافية للعمَل على واقع إظهار الوسواس من خلال التعبير الجسماني للشخص. عندما نرى الوسواس، بوسعِنا استدلال الوهم عارفين أو لا ما هي طبيعته بالضبط.

ثمة طريقتان للتحديد اعتبارًا من التعبير الجسماني، فإذا كان الشخص تحت رحمة وهم أو لا: أولاً نقوم بالتفحُّص إلى أية درجة هو على اتصال بالأرض grounded. فهذا الاتصال مع الأرض من خلال قدميْه ذاتهما هو نقيض أن يكون المرء معلَّقًا، وأسيرًا من خلالِ وهمٍ ما. فأن يكون بقدميْه الاثنتيْن على الأرض فهذه هي اللغة الجسمانية التي تُبرِز واقِعَ أن يكونَ الشخصُ على اتصالٍ مع الحقيقة، متحرِّكًا بدون ضغطِ الوهم سواءً كان واعيًا له أو غير واعٍ له. وبالمعنى الحرفي، جميعنا نملك أقدامًا على الأرض، ولكن على المستوى الطاقي، هذا لا يحصَل دائمًا. فإذا لم تنساب طاقةُ الشخص بقوة حتى القدَميْن، فإن الاتصال الحسِّي أو الطاقي مع الأرض يظلُّ محدودًا بشكل مؤكد. إن اتصالاً سطحيًا كمثل ما في الدارات الكهربائية ليس دائمًا كافيًا لكي يغذِّي انسياب التيار.

لكي نلاحظ المنظور الطاقي كما يجب، فإننا نأخذ بعين الاعتبار ما يحدث عندما يكون الشخص سكرانًا على سبيل المثال. فهناك نماذج للشخص كأن يكون فيها "مرتفعًا"، والعنصر الشائع والمتميِّز لجميعها هو الإحساس بأن تكون أقدامُهم خارجَ الأرض. عندما يكون الفرد سكرانًا على سبيل المثال، يشعر بصعوبةِ الإدراكِ بأن الأرضِ هي تحتَ قَدَمَيْه، واتصاله بها يكون غير مستقر بشكل واضِح. فمن الممكن تحمُّل مسؤولية نقصان القدرة على التنسيق عنده، وهذه المسؤولية تتضيَّق من خلال إدخال جرعات من الكحول في معدته. على رغم هذا الواقِع، يحدث الإحساس نفسه عندما يشعر أحدهم أنه "مرتفِع" بسبب أنباء مثيرَة جدًا. فيظهَر الشخص كما لو أنه يطفو مثلما هي الحال عندما يكون مُغرَمًا، فهو يرقص لوحدِه، خفيفًا. وتكاد قدماه تلامسان الأرض. إن إحساسًا بـ"الارتفاع" بسبب إدخال جرعة من المخدرات إلى معدتِه يؤدي إلى إحساس بأنه يطفو، الأمر الذي يُختبَر أحيانًا وأيضًا من قِبَل أشخاص فصاميين. فعندما يكون الشخص في وَسَط محيطِه بدون اتصال ظاهري مع ما يحيط به، فإننا نقول إنه "ليس هنا".

التفسير الحيوي الطاقي لهذا الواقِع هو التحرُّك المتصاعِد للطاقَة، مبتعِدةً عن القدميْن والساقيْن. وبقدر ما يكون ابتعاد الطاقَة أكثرَ وضوحًا، يظهَر الشخص بأنه يرتفِع أكثر علوًا، لأنه من المصطلحات الطاقية أو الحسَّاسَة، يكون الشخص فيها أكثر فأكثر ابتعادًا عن الأرض. وعندما نبقى "مرتفعين" بسبب نبأ مثير – على سبيل المثال الحصول على موضوع هام – يشكِّل ارتفاع الطاقة من القدميْن إلى الرأس جزءًا من موجةٍ تصاعدية للاستثارة وللطاقة نحوَ الطرَف الرأسي. والموجة مصحوبة من خلال تدفُّق موافق للدم يجعل الوجه متَوَرِّدًا وحيويًا، ومنعِشًا للشخص كله. إن الشعور بـ"الارتفاع" من خلال جرعة من المخدرات، يُحدِث مبدئيًا الانسياب التصاعدي نفسه، والذي يزول فيما بعد، وبقدر ما تخرج الطاقة من الرأس فكذلك الأمر بالنسبة للقسم السفلي من الجسم. فالوجه يمتقع لونه، والعينان تجمدان في مكانِهما أو تصيران كما لو أنهما من زجاج، ويحدث نقصان في الحيوية. وعلى الرغم من أن إحساسَه بـ"الارتفاع" يتواصَل بسبب التحرُّك المتصاعِد للطاقة من الأرض إلى أعلى. وفي الطرَف الآخَر للجسم، فإن نزول الطاقَة من الرأس إلى القسم السفلي من الجسم يؤدي إلى حالَة انفصال عن المستوى العقلي، ويبدو العقل أنه يطفو حرًا من حدوده الجسمانية.

تكمن الطريقة الثانية التي نستطيع من خلالِها تصوُّر الوسواس جسمانيًا، في وضعية القسم الأعلى من الجسم. فثمة عدة طرق شائعَة في أن يبقى المرء موَسوَسًا إزاء وهمٍ ما: فما رأيتُه في عدد كبير من الحالات هو ما أسمِّيه بـ "علاَّقَة الثياب". وعمليًا يمثِّل هذا النموذَج الرجالَ فقط: الكتفان منتصبتان، ومسطحتان بخفَّة، وتميل الرقبة والرأس إلى الأمام. وتتدلَّى الذراعان بحرية اعتبارًا من المِفصَل الكتفي، والصدر منتصِبٌ أيضًا. مما يترك انطباعًا أنه توجد علاَّقَة ثياب غير مرئية في جسم الفرد:

يُظهِر تحليلٌ لتعبير هذا الجسم ديناميكيةَ المحتوَى الذي يظلَّ معلَّقًا. فالكتفان المنتصِبتان هما تعبيرٌ عن الخوف، وهذا يُثبِت الطلَب من أحد أن يبقى كما لو أنه خائف. لاحِظ كيف أن الكتفين ترتفِعان آليًا في نفس الوقت الذي يمتلئ فيه الصدر بالهواء. وعندما يكون التعبير هو عن الحب، تنخفِضُ الكتفان بالشكل الطبيعي. فالكتفان المنتصِبتان عادةً ما تُظهِران شخصًا موصَدًا في موقف خوفٍ لا يستطيع التحرر منه نظرًا لافتقادِه وعي الواقِع لكونه مذعورًا. وبشكل عام فهو خارج بلوغ تذكُّر الظرف المسبِّب للخوف، وبالتالي فالتغيير نفسُه قد تمَّ إلغاؤه من شعورِه. ولا تتطوَّر هذه الوضعيات العادية اعتبارًا من تجربة وحيدة، وإنما تمثِّل عَرْضًا متواصِلاً للحالات التي يجد المرءُ نفسَه مُهدَّدًا فيها. فمن الممكن على سبيل المثال، أن تكون تلك حالة صبي يشعر بالخوف من والده منذ وقت طويل.

يكمنُ تعويضُ حالَة الخوف هذه في قِيَامِه بإبراز رأسِه إلى الأمام، كما لو أنه يواجه تهديدات، أو على الأقل ليرى إذا ما كان هناك ثمَّةَ تهديدٍ ما. وبما أن وضع الرأس في أمام الجسم هو أمر خطير من وجهة النظر الجسمانية كما لو أنه في مجابهَة مع إنسان آخَر، فهذا التفصيل للوضعية يشمُل كلَّ عواقِب إنكار الخوف بدلالَة القول: "ليس لديَّ ما أخشاه"، فهذه الوضعية تؤثِّر بشكل كبير على المنطقة السفلى من الجسم لأنه عندما يشعر الشخص بالخوف فهو يدوس الأرض بخفَّة، فالخوف ينتشِل الشخص من الأرض.

البقاء في حالَة الخوف، وإنكار هذا الشعور هي حالَةٌ تُسبِّب الوسواس. فالشخص لا يستطيع التحرك بسبب الخوف ولا الهروب لأنه يُنكِر وجودَه بالأساس. فهو مشلول انفعاليًا، أو أنه مسجون ومُعَلَّق.

يؤدي إلغاء الشعور بالخوف إلى إلغاء الشعور بالغضَب الذي يُرافِق الفرد. وبما أنه ليس ثمة ما يخشاه، فليس هنالك ما يجعله يغضَب. ولكن المشاعِر الملغاة لديها كيفية كاملة لكي تأتي إلى السطح بشكل غير مباشَر. فمنذ مدة قصيرة سعى إليَّ فتى كان ناشِطًا في زعامَة لحركة الطلاب. وكان يشكو بكونه غير راضٍ عن نفسِه ذاتِها، ولم يكن لديه شعور بأنه على سجيته وسط حضور الفتيات. وفي أحيان كثيرة كان يفقد قدرته على الانتصاب أثناء علاقة جنسية، الأمر الذي كان يخلق له إحراجًا كبيرًا. وصرَّح أيضًا بأن لديه صعوبات كبيرة عندما يريد اتخاذ قرار في اختيار مهنة ما.

أبْرَزَ فحص الجسم لهذا الفتى بأن صدره وكتفَيْه كانا مرتفِعَيْن، وكما لو أنهما منفصِلان عن جسمِه، وبطنه منكمِش، وحوضُه يميل إلى الأمام، وهو منكمِش بقوة، ورأسُه منحنٍ إلى الأمام فوق رقبة منضغِطة. وكانت هذه الوضعية تجعل القسم الأعلى من جسمِه كما لو أنه يبدو وهو يميل إلى الأمام. وكانت عيناه في حالة تأهُّب، والذقن متوتِّرَة، وقاسية، وفي وضعية تحدٍّ.

عندما قمتُ بفحص قدميه، وجدتُهما متوتِّرتيْن، وصلبتيْن، إلى جانب صعوبةٍ ما في ثنيِ الركبتين. وعند لمسي للقدميْن فقد ظهرتا باردتين وظاهريًا مُجرَّدتين من الحمولة الطاقية أو الحساسية. وعندما حاول القيام بوضعية القوس فقد انخفض حوضه، محطِّمًا بذلك الانعطاف الطبيعي لوضعية القوس. شعرتُ بأن الحمولة الطاقية أو المشاعِر التي تنزل إلى القسم السفلي من الجسم كانت منخفِضَة بشكلٍ هائل. وهذا ما يُفَسِّر مشاكلَه ذاتَ الطبيعة الجنسية التي كان يشكو منها عند مجيئِه لاستشارتي. فالفتى اعترَف بشعوره في فقدانِه للإحساس بساقيْه. وعليّ أن أضيف أنه حتى تنفُّسه كان سطحيًا جدًا، وخصوصًا بدون أية مشاركة للبطن في حركاتِه التنفسية.

وفقًا لمعطيات مشاكلِه الشخصية فمن الممكِن أن يتفاجَأ القارئ بتخلِّي هذا الفتى أخيرًا عن الاستمرار بعلاج نفسه. ووفقًا لما تمت مناقشة إشكاليته، فقد صار واضحًا لي أنه كان عالِقًا بوسواس الحركة الطلابية لأنه لم يقم بإنزال طاقتِه بالشكل الكافي لمواجهة حقيقة وضعِه الشخصي. لم أعرِفِ البتهْ ما هي الأوهام التي كان يُبقي عليها فيما يتعلَّق بكيفية إمكانية إيجاد حلٍّ لصعوباته الشخصية مع هذا التعلُّق بالحركة الطلابية. ومع ذلك فقد كان جليًا بأنه قد حوَّل إلى النطاق الاجتماعي كفاحًا من أجل حريته، ووقارِه الشخصي، فعلى هذا المستوى، كان مُمكنًا أن تتوَفَّر لديه الشروط لدعم صورةِ رجلٍ فحلٍ جنسيًا، عدائي في تعويضه عن فشله كشخص.

لدى النساء مشكلة شائعة يُبقينَ عليها معلَّقَة، وهو ما يُصَوَّر على أنه "حدبة الأرملة"، وهي كتلة من نسيج يتجمَّع شيئًا فشيئًا بالضبط تحت الفقرة العنقية السابعة في وصلَة الرقبة، والكتفين، والجذع. واشتقاق اسم هذا النتوء ينجم عن واقع كونه نادرًا ما يُعثَر عليه عند النساء الشابات، وبكونه أكثر شيوعًا لدى الأكثر تقدمًا في العمر. وفقًا لمظهرها سُمِّيَ هذا التشكُّل في الجسم بـ"خطَّاف اللحم" لأنه يَظهَر لي كما لو أن خطَّافًا للحَّام يُنتِج هذه الصورة.

إن تموضعَ الحُدبة هو النقطة حيث يخرجُ الشعور بالغضَب من خلال الذراعين ويصعد إلى الرأس. فعلى سبيل المثال، نجد أن الغضب يظهر عند حيوانات كالكلاب والقطط من خلال انتصاب وَبَرِها على امتداد العمود الفقري، ومن خلال تقوُّس الظهر. وكان قد أشار داروين عن هذا الأمر سابقًا في كتابِه المُعَنْوَن بـ التعبير عن الانفعالات عند الإنسان والحيَوانات The expression of the Emotions in man and animals.

أتعلَّم من قراءتي لهذا الجسد بأن هذه الحدبة ناجمة عن كبت وتجمُّع للغضب المُحتَبَس. وواقع حصوله بتواتر عند النساء الأكثر تقدمًا في العمر فهو يشير تدريجيًا إلى احتوائهن على كمية كبيرة من الغضَب المبتلَع، والناجِم عن عذابات حياة كامِلَة. فكثير من النساء الأكثر تقدمًا في العمر لديهن ميل للبقاء أكثر انخفاضًا وأكثر ثِقلاً على قدر ما تمر السنين.

عليَّ الإيضاح بأن العنصر المحصور هو التمظهر الجسماني للغضَب من خلال العنف وليس من خلال تعبيره الشفهي. ومن الملحوظ كيف تكون بعض الأرامل لاذِعات.

إن التحليل الذي أقوم به للمشكلة المتمثِّلَة من خلال شخص محدَوْدَب هو التالي: يشتمِل الأمر هنا على صراع بين موقف من الخضوع أي أن تكون فتاة طيبة لكي ترضي البابا والعائلة كلها – وموقف آخَر بسبب الحرمان الجنسي الذي يتسبَّب به هذا الموقف. تكمن جذور المشكلة في الحالَة الأوديبية، التي ترى الفتاة نفسُها سجينةً من خلال مشاعر متصارعة فيما يتعلَّق بالوالِديْن: فمن جهة الحب ومشاعرها الجنسية، ومن جهة أخرى، الغضب والحرمان. ويعطي هذا الوضع مجالاً لـ"وسواس" ربما ليس للفتاة الشروط الكافية للتعبير عن غضبها وذلك لخوفِها من أن يؤدِّيَ ذلك إلى الاستنكار وفقدان الحب الأبوي، ولا حتى التقرُّب من الوالِد شاعرةً بحاجتِها الجنسية للاتصال لأن هذا يؤدي أيضًا إلى الشعور بالرفض والبلاء. وأنا لا أشير إلى اتصال جنسي مع الأب، وإنما إلى اتصال مُرْضٍ ذي طبيعة جنسية يشكِّل جزءًا من تَمَظْهُر طبيعي للعطف. فالخضوع المُلِحُّ للفتاة بأن تكون صبية طيِّبَة، وهذا واضح أنه يقتضي قبول أخلاقية ملتبَسَة فيما يتعلَّق بجنسانيتِها، ولكن ما يشلُّ المرأة في مسعاها للذة الجنسية هو عدم القبول، مجبِرًا إياها على تبنِّي دور سلبي. والحال كهذه، فبوسعِنا تخيُّل الأوهام التي تطوِّرها فتاة في سبيل تعويض حرمانها من الخشونة الجنسية.

ثمَّة طريق آخَر حيث تبقى المرأة مشوَّشَة ضمن حالةِ الأخلاقية الجنسية الملتَبَسَة: كما لو أنها موضوعة على قاعدة تمثال. وصفتُ هذه الحالَة في كتاب الكآبَة والجسد Deprssion and the body. فالفعل بكونها موضوعة على قاعدة تمثال يرفع المرأة فوق مستوى الأرض بالضبط مثل أي نموذج آخر لـ"الوسواس". وفي الحالة التي تناولتُها، فإن جسمَ المريضة، والحوض إلى الأسفل يبدوان كقاعدةِ تمثالٍ. كان صلبًا، وجامدًا، ويعطي الإحساس بأنه يفيد فقط كقاعدة بالنسبة للقسم الأعلى من الجسم.

لا تزال ثمة حالتين من "الوساوس" من الجدير عليَّ الإشارة إليهما. واحدة متَّصِلَة بالبنية النفسية لطبع الفصامي وتُدعى بـ"المشنوق" لأن وضعية الجسم تستدعي صورة رجل قد شُنِقَ لتوِّه. فالرأس تتدلَّى بخفَّة إلى الجانب كما لو أنها منقطعة عن اتصالها مع بقية الجسم. حيث أننا نعثر في بنية الطبع الفصامي على انقطاع في الاتصال بين الرأس ووظائفه الأنوية والجسمانية. والبقاء معلَّق من خلال الرقبة يرفع الشخص عن الأرض. فالفرد ذو الشخصية الفصامية لا يستنِد على الأرض، واتصال هذا الفرد مع الواقع سطحي للغاية. ولكن النقطةَ الأكثرَ أهميةً هي الواقِع بأن منطقة التوتر لبنية الطبع هذه تتموضع عند قاعدة الجمجمة، لكون هذا التوتر بالضبط هو الذي يشطر وحدةَ الشخصية. ففي الحقيقة أن توترات هذه المنطقَة العضلية تُشَكِّل حلقةً في مِفصَل الرأس مع الرقبة، وهو الذي يعمل كعقدة للشنق. وإننا نعمل بشكل كبير في منهجنا الحيوي الوظيفي الطاقي على هذه التوترات بالضبط في سبيل استعادة وحدة الشخصية.

أخيرًا، ثمة "وسواس" يُلاحَظ بشكل متوقَّع عند المتاخمين لحدود الشيزوفرينيا (مرض انفصام الشخصية) ما يُدعَى بـ"الصليب". فإذا طُلِبَ من أحد هؤلاء أن يفتح ذراعَيْه على مستوى الكتفيْن، فإنه يبقى متأثرًا بقوة الصورة التي تمثِّلُها وضعيَّتَه الجسمانية، مُمَثِّلاً المسيح مصلوبًا أو كما لو تمَّ إنزالَه من الصليب لتوِّه. الكثير من الشيزوفرينيين يتواحدون بعمق مع يسوع المسيح، وبعضهم يصِل ضمنًا إلى تطوير حالةٍ من الهذَيَان يعتقِدون فيها أنهم المسيح نفسه. إن رؤية كيفية أن الجسم يجسِّد هذا التواحد لهو أمر حاسِم بالنسبة لهذا النوع من المرضى.

تُبرِز هذه الوضعيات الجسمانية "وسواس" شخص ليس لديه النيَّة في تكوين علاقة كاملة. فقد رأيتُ سابقًا أشخاصًا ذي أجسام، وتعبيرات جسمانية كانت تحاكي بشكل خارِق اللوحات التي تصوِّر النبي موسى كما نراه عمومًا في هذه اللوحات. لدي اليقين بأن هذا يشير إلى "وسواس" في الشخصية لكنني لم أتوقَّف حتى الآن بشكلٍ كافٍ للتعمُّق في هذه المشكلة، وذلك كي أتمكَّن فيما بعد من تأكيد حاسِم بهذا الخصوص. ومن الممكن بما في ذلك أن تنشأ "وساوس" أخرى في المستقبَل تتمظهَر على المستوى الجسماني.

إنها مساعدةٌ كبرى كي يستطيع الشخص أن يفهم "وساوسه" اعتبارًا من قراءة لغة جسمِه. وعلى الرغم أننا لا نستطيع وصفَ "وسواس" فقط بالنظَر إلى الجسَد، فإذا لم يكن تعبيرُه واضحًا جدًا، فبوسعِنا دائمًا أن يكون لدينا اليقين بأن كلَّ شخصٍ ليسَت قدَمَاه مغروستين بثباتٍ في الأرض بالمصطلحات الحيوية الطاقية، فإن لديه "وسواس" ومشاكل انفعالية لم يوجد لها حلٌّ بعد. فالشخص الذي ليس على اتصال بالأرض هو أيضًا ليس على اتصال مع الواقع بالنسبة ذاتها. فعلى أساس هذه المعلومة تتوجَّه كل أطروحة بخصوص أي مريض، وبما أنني أبدأ بمساعدته على الدخول بثبات أكبر في اتصاله بالأرض، ومع كل جوانب واقعه. وعاجِلاً أم آجلاً، في أي علاج، تصعَد الصراعات الكامنة إلى السطح، وطبيعة "وسواس" ذلك الشخص إلى جانب الأوهام التي تكوِّن استدراكاتِه النفسية البديلة، ستصير واضحة بالنسبة للمريض والمعالِج.

الاتصال بالأرض

في المنهج الحيوي الطاقي، تعني كلمة grounding قيام الشخص بالدخول في اتصال بالأرض. فأن تكون على اتصال بالأرض هو النقيض لوجود "وسواس" لدى الفرد، فكما ذكرنا إن "الوسواس" هو التواجد في الهواء. ولكن على مثيل قسم كبير من المنهج الحيوي الطاقي، فإن هذا المصطلَح له أيضًا دلالَة حرفية، والتي تقوم من خلال ترسيخ اتصال ملائم بالأرض حيث يدوس المرء بقدميه.

يفكِّر معظم الناس بأن أقدامَهم هي على الأرض، وبمعنى ما فهذا يعني الأمر نفسه. وبوسعِنا القول إن لدى الأشخاص عمومًا اتصال آلي مع الأرض، ولكنه ليس حسيًا ولا طاقيًا. ولكن لا يُعرَف ما هو الاختلاف إذا لم تقم باختبار اتصالٍ حيٍّ مع الأرض. فمنذ أعوامٍ خَلَت، في منطقة تدعى إسالن Esalen في إحدى زياراتي نصف السنوية لتعليم المنهج الحيوي الطاقي، بحثَت عني شابَّة كانت تعطي دروسًا في التاي شي للمقيمين والمدعوين. قالَت لي بأنها على الرغم من قيامها بالتمارين الحيوية الطاقية، فإنها لم تتوصَّل أبدًا إلى بلوغ الشعور بالاهتزازات في ساقيها. وكانت قد رأت حصول هذه الاهتزازات في سيقان ممارسي ورشات العمَل التي أقوم بها معهم، وتساءلَت لأي سبب لم يكن يحصَل الأمر نفسه بالنسبة لها. وعليَّ أن أضيف بأنها قبل أن تصير أستاذة لـ تاي شي، كانت راقصة باليه. أعددتُ نفسي للعمَل معها بعد أن قبلتُ اقتراحَها بسرور بالغ. فلجأتُ إلى ثلاثة تمارين. كان الأول وضعية القوس الموصوفة في الفصل الثاني: وكانت تحاوِل وضع جسمها في استقامة وتعميق تنفُّسِها. يستجيب بعض الأشخاص للتوتر في هذا التمرين بانعطافهم بخفَّة، لكنها لم تكن تفعل ذلك. فقد كانت ساقاها شديدتَي التوتُّر وصلبتين، وكانتا بحاجة لتوتر أيضًا أكثر قوة لتحطيم الصلابة كي تستطيع الحركات الاهتزازية أن تظهَر. جعلتُها تقف على قدم ساق واحدة، مع الركبة مثنية، وتتأرجح من جانب إلى آخَر، وهي تدفع بنفسها بمساعدة كرسي. وكان كل ثقل جسمها يتموضع على الساق المثنية، وكان الإرشاد المقدَّم لها في أن تحافظ على هذه الوضعية على قدر ما تستطيع، ومن ثمَّ عندما يصير ألَمُها غير محتمل تسقط على غطاء مثني فوق الأرض أمامها. قامَت بهذا التمرين مرتين على كل ساق بشكل متناوب في كل مرة. وكان التمرين الثالث يتضمَّن الميَلان إلى الأمام مع الركبتين مثنيَّتيْن بخفَّة، وهي تلمس الأرض بأطراف أصابعها (انظر الرسم).

كانت نتيجة التمرينين الأوليْن تكمن في تعميق تنفُّسِها الذي صار هو أيضاً أكثر امتلاءً. فبينما كانت تقوم بالتمرين الثالث الذي كانت نقطة التوتُّر فيه مقصورةً على التوتُّرات خلفَ الركبتين، إذَّاك بدأت ساقاها تمتلئان بالاهتزاز. فقد دعَمَت هذه الوضعية خلال بعض الوقت، متنبِّهةً للإحساس. وعندما انتصبَت، قالَت: "كنتُ واقفةً على ساقيَّ في حياتي كلها، وهذه هي المرة الأولى التي أشعر فيها أنني موجودة فيهما". أعتقد أن تأكيدًا كهذا ينطبِق على كثيرين.

في حالة أشخاص مضطربين بشدَّة، من الممكن أن تصِلَ أقدامُهم إلى درجة انعدام الإحساس بها. أتذكَّر فتاةً أخرى كانت موشِكَة على الدخول في حالة الشيزوفرينيا. أتَت للمعاينة، وهي تحتذي زوجًا من الأحذية الرياضية فقط في يوم مُمطِر من شتاء نيويورك. وعندما انتزعَت الحذاءين، رأيتُ أن قدمَيْها كانتا زرقاوين من البرد ولكن، عند سؤالي لها إذا ما كانت تشعر ببرودتهما، أجابتني "كلا". فهي لم تكن تشعر ببرودتهما، مما يعني أنها لم تكن تشعر بهما.

عندما أُظهِرَت بضعة تقنيات المنهج الحيوي الطاقي لمهنيين، فإنني شرحتُ لهم فيما بعد مفهوم الـ grounding "الاتصال بالأرض"، وأقوم بهذه التقنيات لتحقيق بعض التمارين الأساسية، لتنمِيَةِ الاهتزازات في سيقانِهم ذاتها. إن الظاهِرة الاهتزازية تُزيد من الإحساسات، وإدراكات للساقيْن والقدَميْن. وعندما يحصل هذا فغالبًا ما يقولون: "حقًا، إنني أشعر بساقيَّ وقدَمي. ولم يسبُقْ لي أبدًا أن شعرتُ بهذا الإحساس قبلاً". وهكذا تعطي هذه الخبرة تصوُّرًا بأن يكون الـ grounding "الاتصال بالأرض"، وأيضًا من الممكن الشعور أكثر باتصال مع قاعدة الدعم الخاصة بالشخص نفسه.

بيد أن بضعة تمارين قليلة ليست كافية لكي تمنح قاعدة للشخص. فعليه أن يعمل بشكل منتظَم بهذه التمارين لكي يتوصَّل ويبقي على الإحساس بالأمان، وبأن لديه جذور، يمكن الحصول عليها من خلال وضعية محدَّدَة بشكل جيد. ففي الحلم الذي تناولتُه في الفصل الثالث، وصفتُ كيف كنتُ مربوطًا من خلال خيط دقيق من سلك معدني، ملتفًا حول عقب قدمي، وكان بإمكاني التنقُّل بسهولة. وفي الحلم، كنتُ بحاجةٍ فقط لكي أنحني وأقوم بقطعه. ولكن ماذا كان يعني هذا في الحقيقة؟ ففي أحد أعمالي الأكثر حداثة على ساقيّ. شعرتُ كيف أن عقبي قدمي كانا متصلّبيْن. صحيح أنهما ليسا متوتّريْن جدًا إلى الحد الأقصى بالمقدار الذي نفحص فيه معظمهم، ولكنهما أيضاً ليسا في حالة استرخاء على قدر ما يقتضي ذلك. ولاحظتُ أيضًا توتُّرات في قدميّ. فعلى سبيل المثال، إنه لأمر مؤلِم جدًا أن أجلس على كعبيّ قدميّ في المقدمة. فيؤلمُني عقبا قدمي ويتشنَّج قوسا القدمين. ذات يوم، أثناء درس لتمارين في المنهج الحيوي الطاقي، توجهه زوجتي، فقد بدأت ساقاي ترتجفان بشكل شديد جدًا لدرجة وجدتُ أنهما لن تسنداني أكثر من ذلك. ومن الواضح بأن هذا لم يحدث، ولكن التجربة في حد ذاتها كانت شيئًا جديدًا بالنسبة لي. كان ممكنًا إيعاز هذه المشاكل لعمري الذي بلغ اليوم أكثر من ثلاثة وستين عامًا، ولكنني أفضِّل التفكير بأنني أملك أيضًا قدرةً على النمو بإمكانِها أن تتطوّر إذا ما تجذّرَت أكثر فأكثر، ومع اتصال أعظم مع الأرض أيضًا. وعلى هذا النحو، أستمر في العمل على ذاتي.

أن أتكلم من المنظور الحيوي الطاقي فإن grounding تفيد من أجل النظام للكائن الحي على النحو نفسه الذي ينطبِق على دارة كهربائية ذات توتر عالٍ، وهي مكوَّنة من صمّام أمان من أجل تفريغ الزيادات في الاستثارة. ففي نظام كهربي، إن التجميع المفاجئ لحمولة طاقية يمكنه أن يحرق قسمًا من التمديدات أو التسبُّب في حريق. وكذلك الأمر في الشخصية الإنسانية، فبإمكان تجمُّع الطاقة أيضًا أن يصير خطيرًا في حال لم يكن الشخص على اتصال بالأرض. فمن الممكن والحال هذه أن تتشظَّى بنية الشخص النفسية، وأن يصير هستيريًا، وأن يشعر بالقَلَق أو يدخل في حالة اكتئاب. الخطورة تكون كبيرة جدًا عند الأفراد الذين يكون اتصالهم هشًّا مع الأرض، كما هي الحال عند المتاخمين للشيزوفرينيا. فأنا وزملائي نوظِّف بشكل روتيني مع أشخاص كهؤلاء تناوبًا في تمارين ترفع من درجة الحمولة (التنفُّس) مع نشاطات تفرِّغ الحمولة الطاقية (إظهار المشاعِر)، باستثناء التمارين التي تمنح الشخص قاعدة ما. فإذا خرج شخص من جلسة العلاج أو من ورشة العمل، وشعر بنفسه "مرتفعًا"، فثمة احتمال كبير بأن يعاني انكسارًا. وهذا لا يكون جديًا في حال استطاع توقُّع الانهيار، ومن ثمَّ قام بمواجهته. إلا أنه عندما يخرج الشخص بشعور جيد ومتماسِك، فالاحتمالات تكون أعظَم بأن يقوم بدعمِ أحاسيسِه هذه.

في الواقِع الراهن لمعرفتِنا، إننا لا نفهم بشكل كامل الترابط الطاقي بين القدمين والأرض. ومع ذلك، لدي اليقين من وجود هذه الصلة. وما أعرفه بدون أدنى شك، هو أنه بقدر ما يشعر الشخص أكثر باتصاله مع الأرض، فإنه يستطيع وضع نفسِه في مكانِه الصحيح بشكل أفضَل. وبالتالي، يتمكَّن من تحمُّل حمولة أكبر، ويتوصَّل إلى التعامل مع مشاعر أكثر. وهذا يجعل من سياق الـ grounding موضوعًا أساسيًا للمنهج الحيوي الطاقي، وعلى قدر ما يقتضي انتباهًا أعظَم للعمَل، فيجب التوجُّه إلى الأسفَل، أو بعبارة أخرى، العمل على أن الشخص كما لو أنه يدخل في ساقيْه وقدميْه.

من الممكن التساؤل لأي سبب هذا الأمر صعب جدًا. إنه لواضِح بأن الحركة النازِلَة تُرعِب دائمًا أكثر من تلك الصاعِدَة. فعلى سبيل المثال، إن هبوط طائرة يُفزِع أكثر من صعودِها. فالنزول مرعب لدى عدد كبير من الناس، والخوف من السقوط عادةً ما يكون انفعالاً مكبوتًا. ففي الفصل القادِم سأناقش القلق المشترَك مع فكرة السقوط وفقًا لما يمكن تبيُّنَه. وهي واحدة من أكثر مصطلحات الشخصية الإنسانية عمقًا. على هذا المستوى، بودِّي أن أصِف بعض المشاكِل المُواجَهَة من قِبَل شخص يسمح للطاقة وللمشاعِر التي لديه بالانسياب من خلال جسمه باتجاه الأرض.

بشكل عام، إن إحدى التجارب الأولى عندما تترك نفسَك "تذهب نحو الأسفل" في تجربة الشعور بالحزن. فإذا استطاع الشخص القبول والاستسلام لهذا الشعور، فسوف يبدأ بالبكاء. نعبِّر عن ذلك بأنه "انفجر" بكاءً. ثمة لدى كل الأشخاص شعور بالحزن عميق جدًا، وهو مُعَلَّق ("وسواس") ويفضِّل الكثيرون الاستمرار في حالةٍ معلَّقَة على أن يواجهوا شعورًا كهذا، وبما أنهم مستعدون لليأس في حالات كثيرة، فمن الممكن مواجَهَة اليأس، وتحمُّل الحزن إذا ما أفضى به بمساعدة معالِج كفؤ، ولكنه يحتاج للإدراك بأن هذه ليسَت بالمهمة السهلة. فالحزن والبكاء يتمُّ كبتهما في البطن الذي هو أيضًا الحجرة التي تتجمَّع فيها الطاقة لاندفاعها في التفريغ الجنسي، والشعور بالإشباع. إن الطريق للفرح يمر من خلال اليأس بشكلٍ غير متغيِّر.

تهدِّد الأحاسيس الجنسية العميقة في منطقة الحوض الأشخاص كثيرًا. فهذه الأحاسيس تستطيع تحمُّل استثارة محدودة للحمولة التناسلية التي هي سطحية، ويجري تفريغها بسهولة، وبما أنها لا تتطلَّب طاقةً كلية للاختلاجات الانتعاظية. فالأحاسيس الحلوة والناعِمَة للجنسانية في منطقة الحوض تأخذ إلى هذا النمَط من الاستسلام مستدعيًا الخوف من فقدان السيطَرَة، وهذه إحدى مظاهر قلق السقوط. فالمشكلة بالنسبة لنا تكمن في المواجهَة في العِلاج، وليس في التناسلية، إنها الجنسانية، والخوف من الذوَبان، أو من السمَاح بالغَرَق في نار الشهوة التي تحرق البطن والحوض.

أخيرًا وليس آخرًا، ثمة القلق من البقاء واقفًا على القدمين، الأمر الذي يعبِّر عن حالة الشخص في بقائه وحيدًا. وعندما نصير راشدين، نظلُّ وحيدين، فهذه هي حقيقة وجودنا. ولكنني اكتشفت أن معظم الأشخاص يمانعون قبول حقيقة كهذه، لأن هذا يعني بالنسبة لهم البقاءَ وحيدين. ومن وراء مظهَر الاستقلال يتعلَّقون بالعلاقات ويظلُّون مهووسين بها. وعندما يصيرون مدمنين على علاقَة، فإنهم يدمِّرون قيمتها، وبالرغم من ذلك فإنهم يخشون أن يتركوها تأخذ مجراها الطبيعي، وإذَّاك فهم مسؤولون عن ذواتِهم. ولكنهم إذا فعلوا ذلك، فهم يتفاجأون لاكتشافهم بأنهم ليسوا وحيدين على قدر ما تتحسَّن العلاقة إلى درجة تصير فيها ينبوعًا للسرور لكلا الطرَفيْن. تكمن الصعوبة في الانتقال لأن فترة الزمن التي تجري بين التخلِّي عن الوسواس والشعور بالقدمين مغروستين بثبات في الأرض تمر من خلال الإحساس بالسقوط، ومن خلال القَلَق المستدعى.

ترجمة: نبيل سلامة

*** *** ***


 

horizontal rule

٭ الفصل السادس من كتاب المنهج الحيوي الطاقي، ألكسندر لوون، ترجمة نبيل سلامة. [قيد الطباعة]

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني