<LINK href="favicon.ico" rel="SHORTCUT ICON">

 ميثاق العبرمناهجية - Charter of Transdisciplinarity

هذا الشعار مستوحى من شعار المركز الدولي للأبحاث و الدراسات العبرمناهجية، عن رسم أصلي للفنان البرتغالي الراحل ليماده فريتاس

 إصدارات خاصّة

Special Issues

  المكتبة - The Book Shop

The Golden Register - السجل الذهبي

 مواقع هامّة

Useful Sites

أسئلة مكررة

F.A.Q.

الدليل

Index

 معابرنا

 Maaberuna

الصفحة التالية                  الصفحة السابقة

اللذة: توجُّه أولي٭

 

ألكسندر لوِون

 

مبدأ اللذة

تسعى الحياة إلى اللذة، ولا تسعى أبدًا إلى الألَم. فهذا توجُّه بيولوجي لأن اللذة تتيح على هذا المستوى الشعور الجيد للكائن الحي وللحياة ذاتِها. والألَم يُعَاش كما نعلَم كتهديد لتكامل الكائن الحي، وبالتالي، فنحن ننفتِح ونخرج بشكل عفوي باحثين عن أمرٍ ذي طبيعة هي اللذة. إننا ننكمِش ونهرب من مواقف مؤلِمَة. وعندما يحتوي موقف ما على وعدٍ باللذة، ولكنها ممزوجة بتهديد بالألَم فإن ما ينتابنا هو الشعور بالقَلَق.

لا يناقِض مفهوم القلق هذا عرضَنا السابِق لأن الوعد باللذَّة يستحضِر دافعًا ينحو إلى خارج الكائن الحي باتجاه ينبوع اللذة، بينما يُجبِرُ تهديد الألَم الكائن الحي على خنق هذا الدافع مولِّدًا حالة من القَلَق. أظهرَ عمل بافلوف الانعكاسات الشرطية بوضوح عند الكلاب، كيف أنه من الممكن للقَلَق أن يظهر وذلك من خلال توافق بين تحريض مؤلِم مع آخَر للذَّة في الحالَة نفسِها. كانَت تجربةُ بافلوف بسيطةً جدًا، فهو قد قام بإشراط الكلب أولاً للاستجابة إلى جَرَس بتقديمِه له طعامًا على الفور بعد سماعِه لضوضاء. وبعد قليل من الوقت، توَصَّلَ صوتُ الجَرَس وحدَه إلى جعل الكلب يُستثار ويسيل لعابُه قبلَ لذَّة الطعَام.

عندما صار هذا الانعكاس مرسَّخًا بشكلٍ جيِّد، قام بافلوف بتغيير في الحالة، وذلك بإعطاء الكلب صدمةً كهربائية في كل مرة يرنُّ فيها الجرَس. وفي عقل الكلب أصبح رنين الجرَس مشترَكًا بين لذَّة الطعام والتهديد بالألَم. وهكذا صار الكلب كما لو أنه في طريق ضيِّق لا مخرج منه، فهو يريد الاقتراب من الطعام، ولكنه يخشاه في الوقت نفسِه، فصار على هذا النحو في حالةٍ من القَلَق الشديد.

هذا المستوى من الشعور بالخضوع إلى إشكال مزدوَج مكوَّن من خلال إشارات متناقِضَة، هو السبب في الشعور بالقَلَق الكامِن في كل اضطرابات الشخصية العصابية والذهانية. تتأصَّل هذه المواقِف التي تقود إلى هذا النمَط من المُعْضِلَة في الطفولة وذلك فيما بين الآباء والأبناء. فالأطفال يعتبِرون الآباء كينبوع للذَّة، ويسعَوْن إليها بحب. فهذا هو المستوى البيولوجي الطبيعي على قدر ما أن الأبوَيْن هما مصدر الطعام، والمخالَطَة، والتحريض الحسِّي الذي يحتاج إليه الأبناء. وطالما أن الأطفال لا يواجهون عذابات ولا يعانون حرمانًا فلسوف يمتلكون قلبًا نقيًا، أو بعبارة أخرى سوف يمتلكون جوهرهم الشخصي. ولكن، هذا لا يدوم طويلاً في ثقافتنا حيث الحرمان من الاتصال العاطفي، والعذابات هي من العناصر الشائعة، وحيث النمو مصحوب بشكل عام بالعقوبات والتهديدات. ولسوء الحظ، فليس الوالدان منبعًا للذَّة فقط، وإنما يصبحان خلال وقت قصير مرتبطين في عقل الطفل بإمكانية شعورِه بالألَم. والقلق الناجِم وفقًا لطريقتَيْ النظَر إلى الأمور، هو العنصر المسؤول عن الاضطرابات والنشاط المفرِط الظاهِر عند الكثير من الأطفال. وتتنشَّطُ الدفاعاتُ عاجِلاً أم آجِلاً لخنْقِ القلَق، والمشكلة هي أن الدفاعات تقلِّل بدورِها من قلق الحياة وحيوية الجسد.

هذه النتيجة: البحث عن اللذة – حرمان، عذاب أو عقوبة – قلَق، وفيما بعد – دفاع، هي إجمال عام لتفسير كل مشاكل الشخصية. وعندما يتناول الأمر فهم حالة فردية فعلى هذا النموذج أن يُكمَل بمعرفة الحالات الخاصة بفئات معينة أدَّت إلى القَلَق والدفاعات الناشئة لمجابهتها. عامِلٌ آخرٌ هام هو الزمن، لأنه بقدر ما يكون ظهور القَلَق في حياة شخص باكرًا أكثر كلما كانت الدفاعات منظومةً بشكل أكثر عمقًا وأكثر دهاءً. فالطبيعة وشدَّة الألَم المتوقَّع يلعبان عامِلاً هامًا في تحديد الوضعية الدفاعية.

يكاد كل الأشخاص يُنمُّون دفاعاتٍ فيما يتعلَّق بالسعيِ إلى اللذة، نَظَرًا إلى أن ذلك يعود إلى قلق شديد كان قد حصل في الماضي. فالدفاع لا يحتبِس كليًا دوافع السعي إلى اللذة، لأنه إذا ما فَعَلَ ذلك فلسوف يتسبَّب بموت الكائن الحي. وفي تحليل أخير، الموت هو الدفاع الكلي ضد القلق. لكن، وبما أن كل دفاع هو تقييد للحياة، فهو أيضًا موت جزئي، ويُسمَح بكمية ما من الدوافِع أن تتجاوَز العائق حتى درجةٍ ما، وتحت ظروفٍ معينَة. ولكن، كما قلتُ لتوِّي، تتنوَّع الدفاعات من فردٍ إلى آخَر، على الرغم أنه من الممكن تجميعها في عدَّةِ أنماط.

وفقًا للمنهَج الحيوي الطاقي فإن عدة أنماط من الدفاعات متَّحِدَة تحت عنوان "بُنَى الطبع". فالطبع معرَّف على أنه نموذج ثابِت من السلوك، كأسلوب نمطي يبحث الشخص من خلاله في مسعاه عن اللذة. فالطبع ينتظِم على المستوى الجسماني في هيئة توتُّرات عضَلية لاواعية بشكل عام، ومزمِنَة، وتحتَبِس أو تحدُّ الدوافِع في مسارِها لبلوغ الهدَف أو المصدَر. الطبع هو أيضًا موقفٌ نفسي يستنِد على نظام من الإنكارات والعقلَنات والإسقاطات التي تعود بدورها إلى تجسيد أنا مثالية تؤكِّد قيمتَها. إن الهوية الوظيفية للطبع النفسي مثل البنية الجسمانية أو الحالَة العضلية هي مفتاحٌ لفهم الشخصية. فهي تسمح لنا القراءة اعتبارًا من الجسد وتفسير الوضعية الجسمانية من خلال ممثِّلَيْها النفسيِّين والعكس بالعكس.

نحن لا نتطرَّق في المنهَج الحيوي الطاقي إلى المرضَى كأمثِلَةٍ عن هذا أو ذاك من نمَط الطبع. إننا ننظُر إليهم كأفراد مُمَيَّزين يسعوْن إلى الذَّة، وهذا المسعى مُعَرقَلٌ بسبَب القَلَق ضد ما قام لأجله بإقامة نظامِه الدفاعي. وعند تحديدِنا لبُنيَةِ طبعِهم، فبوسعِنا مواجَهَة إشكاليتِهم الأكثر عمقًا، ومساعدتهم هكذا على التحرُّر من الرباطات التي قيَّدَتهم خلال تجارب حياتِهم الماضية. وقبل أن أصِفَ أنماط الطبع المتعدِّدَة حسب النموذج الجسماني والنفساني أيضًا، بودِّي مناقشة طبيعة اللذة وتحضير الطبيعَة النظرية للمنظومَة المرجعية الموصوفَة.

من الممكن تعريف اللذة بعدَّةِ أساليب. فالعَمَل المعتدِل والمُتناغِم للجسد يؤدي إلى الشعور باللذة، ويظهَر الألَم أو القَلَق بالطريقة نفسها، عندما يعاني عمَل الجسَد هذا من تهديدٍ ما، أو اختلالٍ بتوازنِه. وثمَّة حالة أخرى تمنحنا إحساسًا باللذة، وهي السعي إلى أمرٍ ما. وبالطبع فإننا نسعى إلى أمر يتيح لنا الشعور باللذة، ولكن على حدِّ رأيي فأنا أؤكِّد بأن فعل السعيِ إلى أمرٍ ما هو في حد ذاته قاعدة لخُبْرَةِ اللذة ويمثِّلُ انبِساطًا لكل الكائن الحي، وسيَلانًا للمشاعِر والطاقَة حتى محيط الجسَد. وفي التحليل الأخير، فالمشاعِر هي إدراكات لحَرَكَات الكائن الحي. وباعتبار الأمر هكذا، فعندما نقول إن أحدًا يشعر باللذة، فنحن ندرِك أنها حركاتُ جسدِه، وبشكلٍ أساسي تتجسَّد الحرَكات الداخلية في الإيقاعات، والإطلاقات، والسيَلانات.

في النتيجَة، بإمكاننا تعريف الشعور باللذة، كإدراك لحَرَكَة انبساط داخل الجسم: انفتاح، ومسعى لأمر ما، وترسيخ اتصال. أما الانغلاق، والانسِحاب، والكبت أو الانحصار، فليسَت هي تجارب لذة، متمكِّنَة ضمنيًا الوصول إلى التسبُّب بالألَم أو القَلَق. وسيكون الألَم هو النتيجة لضغط متولِّد عن طاقَة دافع يواجه انحصارًا. ويكمن الأسلوب الوحيد لتجنُّب الألَم أو القَلَق في معارَضَة المقاومة للدافِع. وإذا ما أُلغِيَ هذا الأخير فلن يشعر الشخص بقلق ولا ألَم، لكنه أيضًا لن يكون بوسعه اختبار اللذة. ومن الممكن التعرُّف عمَّا يحصَل من خلال تعبير الجسَد.

عندما يشعر الشخص باللذَّة تصبِح عيناه برَّاقتيْن، وجلده مُوَرِّدًا وحارًّا، وحركاته حيَّة وسهلَة، وتصير حالُه كلها رضيَّة الخلق، وذات انطلاقة. هذه الإشارات المرئية هي مظاهر لتدفُّق الدم والطاقَة إلى محيط الجسد، وذلك مقابل حركة أو دافِع للجسم ذي طبيعة منبسِطة ناجِمَة عن طرد مركزي. يُظهِر غياب إشارات كهذه أن الشخص لا يشعر باللذة وإنما بالألَم. وقد يستطيع الشخص إدراك ذلك أو عدم إدراكه. ففي كتابي لذَّة أشرتُ إلى أن الألَم هو غِيَاب للَّذة. هناك إشارات جسمانية تؤكِّد هذه النظرية. مثلاً تشير قسوة النظَر إلى فقدان المشاعِر في هذين العضويْن أي العيْنين. كما يدلُّ الجلد البارِد والشاحِب على انقباض الأوعية الشعرية والشرايين الصغيرة، مشيرًا إلى أن الدم في حالة انحباس دون سطح الجسم. وبقدر ما هي الصلابَة فكذلك نقصان العفوية يُشيران إلى أن الحمولَة الطاقية لا تتدفَّق بشكل حر داخل الجهاز العضَلي. ويعادِل هذا الوضع حالَةَ انكماش الكائن الحي، أو أنه مظهر جسماني للألَم.

تتوَجَّبُ الإشارة هنا إلى أن بعض الأجساد تمثِّل ردودَ أفعال متنوِّعَة: فبينما يكون جزء حارًا وناعِمًا ومتألِّقًا، يكون جزء آخر باردًا ومتوتِّرًا وبدون لون. وليس خطُّ الفصل واضِحًا جدًا دائمًا، وإنما من المُمكِن الشعور بذلك، وإدراك الاختلاف. إن صورة مألوفة لهذه الوظيفة غير المعتدِلَة هي النصف الأعلى من الجسم الذي يمثِّل لونًا جيِّدًا وقوَّةً عضليّةً جيدة، في حين يمثِّل النصف الأسفل من الجسم مظهرًا مناقضًا: لون قبيح (لون مائل إلى الصفرة)، وقوَّةٌ عضلية هشَّة، وثِقَلٌ أعظم بشكل غير متكافئ مع ذلك الذي للجزء الأعلى. يكمن معنى هذا المظهَر الجسماني في وجود انحصار لتدفُّق المشاعِر في النصف الأسفَل من الجسم، وبشكل رئيسي المشاعر ذات الطابع الجنسي، وتكون منطِقَةٌ كهذه في حالَةٍ من الكبت أو الانحصار. وتُلاحَظ صورةٌ أخرى بسهولة نسبية، وهي صورة جسدٍ حار مع قدَمَيْن ويَدَيْن باردتين. تشير هذه الحالَة إلى التوتر أو كبت البنى المحيطية التي تلعب دورًا في الاتصال مع الوسَط المحيط. كما أن مقولة "يدان باردتان، وقلب حارٌّ" تدعم هذا التفسير. إن هدفَنا الأساسي عند أخذنا بعين الاعتبار لجسَدٍ ما، هو تحديد درجة انبساط أو تحقيق استجابة لذَّةٍ للوَسَط الحاضر في ذلك الكائن الحي. وكما أشرتُ سابقًا، إن استجابةً كهذه تعطي مجالاً لتدفُّقِ المشاعِر والاستثارة أو الطاقَة، اعتبارًا من قلب الشخص باتجاه الأعضاء والبُنَى المحيطية. استجابة اللذة هي أيضًا استجابة حارَّة وودِّيَّة، نظرًا إلى كون القلب إذَّاك في تواصل مباشَر مع العالَم الخارجي. والشخص المحدود من خلال حضور توتُّرات عضلية مزمِنَة تحصُرُ أقنية اتصال القلب، وتحدُّ من تدفُّق الطاقة إلى محيط الجسم، ويعاني الفرد بعدة طرق: يعاني الشعور بالعذاب، وعدم الرضى في حياته، ويشعر بالقَلَق، ويكتئب، ويشعر بالانعزال والاغتراب، وقد يطوِّر حتى بعض الاضطرابات الجسمانية. وهذه المعطيَات هي الشكاوى الأكثر شيوعًا التي تُقدَّم للطبيب النفساني، يجب القبول بأنه لكي نلغيَ هذه الشكاوى، فمن الضرورة بمكان استعادة الإمكانية الكلية للذة ذلك الكائن الحي.

للجَسَد الإنساني ست مناطِق اتصال رئيسية مع العالَم الخارجي: الوجه، ويتضمَّن الأعضاء الحسية المتموْضِعَة فيه، واليَدان، والجهاز التناسلي، والقدَمان. وهناك مناطق بأهمية ثانية كما هي الحال عند المرأة، الثديان، والجلد بشكل عام، والردفان. تصوِّر هذه المناطِق الست الأساسية هيئة هامَّة تتمظهَر جيدًا عندما يكون الشخص واقِفًا على قدميْه، وهما بعيدتان الواحِدَة عن الأخرى، وذراعان، ويدان مفتوحتان وممدودتان. تحاكي صورة الجسم الرسم التخطيطي التالي محدَّدًا بالرسم النقاط الستة المشار إليها.

بتحويل هذه الصورة إلى رسم بياني ديناميكي، مثل ذاك الذي سيُرَى تاليًا حيث تمثِّل المناطق الستة الأجزاء الأكثر امتدادًا، متكلِّمين من منظور المنهَج الحيوي الطاقي.

في الرسم البياني، تمثِّل النقطة 1 الرأس، مكان الوظائف الأنَوِيَّة، والتي تتضمَّن الأعضاء الحسية لحاسَّة السمع، والذوق، والرؤية، والشم؛ وتمثِّل النقطتان 2 و3 اليدين اللتين تلمسان وتتعاملان مع الوسَط المحيط؛ وتمثِّل النقطتان 4 و5 القدَمَيْن المسؤولتين عن الاتصال الأساسي مع الأرض، في حين تمثِّل النقطة 6 الجهاز التناسلي، وهو العضو الأساسي للاتصال وإقامة العِلاقَة مع الجنس الآخَر.

تتضمَّن استجابة اللذَّة أو الانبساط تدفُّقًا لحمولة مركز الكائن الحي إلى النقاط الستة كلها، وبوسع هذه أن تُفهَم كامتدادات للكائن الحي على شبه الاستطالات البروتوبلازمية الثابتة للأميبا. وبصرف النظَر عن كونِها بُنَى ثابتة، فهناك إمكانية وجود مستوى ما من التمدُّد. يمكن للشفتين على سبيل المثال أن تمتطَّا أو تنكمشا، وللذراعيْن أن تستطيلا أو تقصُرا، وذلك وفقًا لرحَابَة امتداد ذلك الجسد، ومن الواضِح أن الأعضاء التناسلية سواءً للرجل أو للمرأة، تعمل كامتدادات حقيقية للكائن الحي عندما تكون ممتلئة بالدم، ومحمَّلَة بالمشاعِر ومتمدِّدَة. فالأعضاء الدنيا هي أقل حركية، وتُظهِر تنوُّعًا ضئيلاً بشكل نسبي. وبقدر ما أن الرقبة هي جزء مَرِنٌ، فمن الممكن للرأس أن ينضغِط فيها، أو ينتصِب، أو تكون لديه هيئة متعجرِفَة. وعندما يكون الاتصال مع الوسَط المحيط قويًا، فالتبادل الطاقي يصبِح شديدًا في هذه النقاط. وعلى سبيل المثال، عندما يترسَّخ اتصال بالنظَر بين فردين مستثاريْن، فمن الممكن الشعور بالحمولَة التي تعبُرُ فيما بين عينيهما. وبالطريقة نفسِها، عندما يُلمَس أحدُهم من خلال يديْن محمَّلتيْن بالطاقة، فالاختلاف يكون عظيمًا فيما لو لُمِسَ من خلال يدين باردتين، وجافَّتيْن أو متوتِّرتيْن. كما تكون التفاعلية الطاقية في الجنس بشكل واضح الهيئة الأكثر شدة لكل الاتصالات، ولكن تتعلَّق نوعية المضمون لهذا التبادل بكمية الطاقة التي تنساب إلى هذه المنطقة من الاتصال.

الأنا والجَسَد

ينشُط الراشِد تزامُنيًا على مستوييْن اثنيْن: على المستوى العقلي أو النفسي، وعلى المستوى الفيزيقي أو الجسماني. ولكن، هذا لا يعني إنكارنا لوحدة الكائن الحي. فالأمر يتعلَّق بمبدأ أساسي بالنسبة للمنهَج الحيوي الطاقي وقد تبنَّيْنا هذا المبدأ من رايش: إن كل السياقات البيولوجية بدون استثناء متَّسِمَة بالتناقض والوحدة. فالثنائية والوحدة تندمِجان في مفاهيم جدلية كتلك التي تُمثَّل بالرسم البيَاني التالي.

يتضافر المستويان الجسماني والعقلي لتوفير الإحساس بالشعور الجيد لدى الفرد ذي الشخصية السوية. أما لدى الشخص المضطرِب فهناك مناطق من الشعور والسلوك يظهَر فيها صراعٌ بين هذين المظهَريْن من الشخصية أي المستوَيَيْن الجسماني والعقلي المذكورين أعلاه. والحق يُقال إن مناطِق الصراع هذه تخلق انحصارات إزاء حرية تجلِّي الدوافع والمشاعِر. إنني لا أقصد الكبح الإرادي لبعض التجليات الخاضِعَة للسيطرة الإرادية. وإنما أشير إلى التقييدات اللاواعية للحركات والتجليات. كما تحدُّ هذه الانحصارات من إمكانية الشخص في إشباع حاجاته من خلال مسعاه ضمن العالَم حواليْه، وعلى هذا القدر تُمثِّل الانحصارات إنقاصًا من إمكانية الشعور باللذَّة.

نوظِّف الآن التناقُض في مصطَلَحَيْ الأنا والجَسَد، خلافًا لما هو الحال بين المظهرَيْن العقلي والجسماني، لأن هذا سوف يسمَح لنا بإدخال مفهومَي الأنا المثالية، والصورة الذاتية باعتبارِهما قوَّتان تستطيعان التصدِّي للمجاهَدَة الجسمانية في سبيل الحصول على اللذة. وتنجم هذه المفاهيم عن دور الأنا كعامِل تأليفي. فهذا هو المرجِع التوسُّطي بين العالَميْن الداخلي والخارجي، وبين الذات والآخَرين. كما تتأصَّل وظيفتها التأليفية من موقعِها على سطح الجسم والعقل، وتهيِّئ صورةً عن العالَم الخارجي يتعيَّن على الكائن الحي أن يمتثِلَ لها، وعند قيامِه بذلك فهو يشكِّلُ الصورة الذاتية حول شخصه. وتُحدِّدُ الصورة الذاتية أية مشاعر ودوافِع ينبغي لها أن تظهَر. وفي سياق الكلام عن الشخصية فالأنا هي المُمَثِّل لحقيقة هذه الشخصية.

لكن ما هي الحقيقَة؟ فالصورة التي نملكها عن الحقيقة في عقلِنا لا تلائم دائمًا الواقِع الحقيقي. والحق أننا طوَّرنا صورةً كهذه على مدار سياق نموِّنا، وذلك بكونها تعكس عالَم طفولتنا وحياتنا وسَطَ العائلة أكثر مما هي الحال في مرحلة رشدنا وحياتنا الاجتماعية، والحق أن هذين العالَمَيْن مختلِفان كليًا، نظرًا إلى أن العالَم الاجتماعي يعكس الحياة الأكثر اتساعًا للعالَم العائلي. لكن، وبأية حال، يتضمَّن الاختلاف واقِعَ أن العالَم الاجتماعي يقدِّم سلسلةً من الخيَارات لإقامة علاقات أكثر رحابة من تلك التي تتمثَّل من خلال العائلَة. فعلى سبيل المثال، عندما نكون أطفالاً قد نتعلَّم أنَّ طَلَبَ المُساعَدَة هو علامَةُ ضعفٍ وتَبَعية. وإذا أتى هذا التعليم مشترِكًا بالشعور اللامعقول بالهجران والتبعية، فمن الصعوبة بمكان التوصُّل إلى طلب مساعدة، ولو في حالات تكون فيها هذه الخدمة تحت تصرُّفِنا. يطوِّر الفرد صورةً عن الأنا تتوافق مع ما يتوجَّب عليه أن يكون مستقلاً، ويقوم بالأشياء دائمًا وحدَه، شاعِرًا بأنه عرضةٌ للسخرية والإذلال إذا ما خان هذه الصورة التي كوَّنَها عن نفسِه. وسوف يختار بشكلٍ لاواعٍ حتى تلك العلاقات التي تدعَمُ استقلاليته الزائفة، والتي ستكون محطَّ إعجابِه، ويقوم على تقويتِها معزِّزًا على هذا النحو صورةً ذاتية وهمية نسبيًا.

لكي نستطيع فهم تشكُّل الطبع، علينا أن ندرك وجود سياق جدَلي فعَّال يشمل الأنا والجسد. والصورة الأنَوِيَّة تقَوْلِب الجسد من خلال السيطرة التي يمارسها الأنا على العضلات الإرادية. فعلى سبيل المثال، نقوم بكبت دافع البكاء، بتحريك الذقن، وجعل الحنجرة منقبِضَة، وبالإمساك عن التنفُّس، وبجعل البطن قاسيًا. وكما أن الغضَب يظهَر من خلال لكَمَات، فمن الممكن أن يتمَّ كبتَه بتقليص عضلات الطوق الكَتِفيِّ، التي تقوم بدفع الكتِفَيْن إلى الوراء. ومنذ البداية، بوسع هذه المكبوتات أن تصبِحَ واعية هادِفةً إلى تحرير الشخص من صراعات وآلام أكبر. لكن الكبت الواعي والإرادي يتطلَّب استثمارًا لطاقة لا تستطيع البقاء لوقتٍ غير محدَّد. وإذا كان ضروريًا كبت المشاعِر على نحوٍ غير محدَّد، فذلك لأن التعبير عنها أمرٌ شائن بالنسبة لعالَم الطفل، والأنا تتخلَّى عن السيطَرَة على الوضع إزاء الفعل الممنوع، وتسحَب الطاقة من الدافِع. إن احتباس الدافع ينتقِل ليصير لاواعيًا، وعلى العضَلات أن تظلَّ في حالَة انقباض بسَبَب نقصان الطاقَة الضرورية لانبساطها وعدَم انقباضِها. كما أن الطاقة المحرَّرَة من خلال هذه الآلية، يمكن توظيفها في أفعالٍ أخرى تكون مقبولة، وهذا السياق هو الذي يؤدي إلى ولادة الصورة عن الأنا.

مع مرور الزمن، يعقب شيئان على هذا الاستسلام: فالجزء من الجهاز العَضَلي الذي تمَّ سحبُ الطاقة منه يدخل في حالَةِ انقباض مزمن أو تشنُّج لا إرادي، الأمر الذي يجعل التعبير عن المشاعِر المكبوتة غير مُمْكِنٍ. وعلى هذا النحو تُلغَى هذه المشاعِر بطريقةٍ فعَّالَة لدرجة أن الشخص لا يشعر بعد بالرغبة المكبوتة. ولكن الدافِع الذي تم إلغاؤه، لم يختفِ، وإنما يدخل في حالة نوم فقط تحت سطح الجسم في المكان حيث لا يزعِج وجوده وعي الفرد. وتحت وطأة توتُّر لا يُحتمَل أو تحت تحريضٍ كافٍ، بإمكان الدافع أن يصبِحَ من جديد محمَّلاً بشدَّة، مما يدفعه إلى الانفجار متجاوزًا حالة الكبت أو الانحصار. فعلى سبيل المثال، يحصل هذا في هَجَمَات هستيرية أو في نوبة غضب قاتل. وتكمن النتيجة الأخرى في الإنقاص من استقلاب الطاقة داخِل الكائن الحي. فالتوترات العضلية المزمنة تمنع تنفُّسًا طبيعيًا ممتلئًا مُنقِصًا على هذا النحو من المستوى الطاقي. وربما يتوصَّل الشخص للحصول على الأوكسجين الكافي بدءًا من النشاطات الطبيعية، على نحوٍ يبدو فيه استقلابُه الأساسي طبيعيًا. ولكن تظهَر صعوباتُه التنفُّسية بشكل واضِح في حالَةٍ من التوتُّر سواءً في هيئة عدم إمكانية امتصاص الهواء بكمية كافية، أو في هيئة عدم إمكانية مواجهة التوتُّر وهو الأمر الأكثر احتمالاً.

يُجبِر النشاط الجسماني في هذه الظروف السياق الجدلي في عملية عكس قطبيْه. فالحالة الجسمانية هي التي تُقِوْلِب الفكر والصورة الذاتية عن الشخص نفسه. ويُجبِره المستوى الضعيف من الطاقة على القيام ببعض التعديلات في أسلوب حياته، الأمر الذي يجعلُه يتجنَّب بالضرورة المواقِف التي بوسعها البلوغ إلى تحريض المشاعِر الملغاة. ويصبِح فعلُ التجنُّب مبرَّرًا من خلال تطوير عقلَنات نسبية حول طبيعة الحقيقة. وكل هذه المناورات هي آليات الأنا لكي تتجنَّب صراعات انفعالية لاواعية في أن تصير واعية، واعتبارًا من ههنا فإنها تُدعَى بدفاعات أنَوِية. وهناك دفاعات أخرى أيضًا مثل: الرفض، والإسقاط، والاستفزاز، والشعور بالذنب. فهذه كلها تتلقى الدعم من الطاقة المسحوبة من الصراع. والآن، يكون الفرد محميًا على نحو طبائعي من خلال درع عضلي ضد هجمات الدوافِع الملغاة. وسيكون المستوى الجسماني محفوظًا من خلال توترات عضلية مزمنة. ويحملُه هذا السياق إلى العيش فيما وراء جدارٍ عالٍ، سامِحًا له بهذا الحدِّ من العيش فقط، والتصرُّف على نحوٍ محدود، وفي منطقة ضيِّقَة جدًا.

بعد الحصول على سياقٍ ما من الاستقرار والشعور بالأمان، تتفاخَر الأنا بإنجازاتها. وينال الشخص الرضى على مستوى الأنا هذا مع تعديلاته وتعويضاتِه. فالرجل الذي لا يستطيع البكاء، يعتبِر عدَمَ استطاعتِه هذه، علامةَ قوة وشجاعة، متمكنًّا من السخرية خاصةً من الرجال الآخَرين، والصبيان الذين يبكون بسهولة، جاعِلاً هكذا من ميزته العصابية الخاصة على أنها فضيلة. فالفرد الذي لا يتوصَّل إلى الغضَب ولا إلى أن يكون عدائيًا في حركاته فبإمكانِه أن يجعل لهذا العيب سِمَةَ الفضيلة، مؤكِّدًا معقولية واقِعِ أن ينظُرَ الشخص دائمًا جانِبَ الشخص الآخَر. والمرأة التي لا تستطيع السعيَ علانِيَةً في بحث عن الحب، سوف تستعمِل الجنس والخضوع كوسيلة للحصول على المعاشَرَة الضرورية، والشعور بنفسِها على أنها مثيرةٌ وأنثوية.

تحصُر كل التوتُّرات العضَلية مسعى الشخص المباشَر إلى اللذة الموجودة خارجَه. وأمام تضييقات مثل هذه فسوف تتلاعَب الأنا بالوسَط المحيط مؤكِّدةً هكذا على حاجتِها إلى المعاشَرَة واللذة التي يشعر الجسد أنه بحاجةٍ إليها. ولكن سيكون هذا التلاعُب مبرَّرًا لاحِقًا كضرورةٍ طبيعية لأنه سيفقد اتصالَه مع صراعِه الانفعالي الذي دفَعَ به إلى وجود وضعٍ كهذا. ويصير هذا الصِّراع بدورِه ذي بنيةٍ داخِلَ الجسَد بعيدًا عن متناول الأنا. ومن المُمكن للشخص حتى أن يوجِّهَ انتباهَه إلى فكرة التغيير، ولكنه إن لم يواجِه مشكلته هذه على مستواها الجسماني فمن المُستبعَد بشكلٍ كبير أن تحصَلَ هذه التغييرات ضمنَ مستوى عميق.

لكي نستطيع فهم مركَّبات العُقَد فيما بين العلاقات التي تشمل الأنا والجسم، فعلينا دمج وجهتيْ نَظَر متناقضتيْن ومتعلِّقتيْن بالشخصية الإنسانية. الأولى تصعد من القاعِدَة، ووفقًا لهذا تبدو تراتبية وظائف الشخصية مثل هَرَم الرسم البياني السابِق.

تشتمِل قاعِدَةُ الهَرَم على سياقات جسمانية تحافِظ على الحياة وتدعم الشخصية، تستريح هذه السياقات وهي على اتصال مع الأرض أو الوَسَط الطبيعي المحيط. وفي الحقيقَة أن هذه السِّيَاقات تؤدّي إلى ظهور المشاعِر والانفعالات التي تقود بدورِها إلى سياقات الفكر. وفي الذروة يُعثَر على الأنا التي تتطابَق مع الرأس في منظور المنهَج الحيوي الوظيفي الطاقي. تُظهِر الخطوط المنقَّطَة بأن كل الوظائف مترابِطَةٌ بعضها مع بعض، في علاقة من التبعية المتبادَلَة.

من الممكن أن تجريَ مقارَنَةُ الأنا والجسَد بالعلاقة القائمَة بين جنرال ومرؤوسيه. فبدون جنرال أو ضابِط مكلَّف بإصدار الأوامِر، يشكِّل المرؤوسون أو الجنود حشدًا لا جيشًا. وأيضًا، بدون الجنود فالجنرال ليس أكثر من "قبَّعَة عالِيَةٌ". عندما يعمَل الجنرال والجنود معًا، وفي انسجام، وفي اتصال مع الواقِع، فحينئذ نملك جيشًا فعَّالاً ذا أفعال منسَّقَة بشكلٍ جيد. وعندما ينشب نزاعٌ بين الجنرال ومرؤوسيه فما يحصَل هو الفوضى والمشاكِل. ويمكن لهذا أن يحدُث إذا ما اعتبر الجنرال جنودَه كعددٍ من البيادِق في لعبة حربية يقوم هو بلعبِها. وقد ينسى بأنه يجاهِد في الحرب لا باستخدامِه الجنود فحسب، وإنما في مصلحتِهم لا في تسخيرِهم لمجد القادَة. وبالطريقة نفسِها، فقد تفقد الأنا أيضًا رؤيةَ واقِعِ أن الجسَد هو المهم وليسَت الصورة التي يسعى في تقديمها عنه.

من مبدأ المثال المطروح من خلال الجنرال، والتراتبية الطبيعية للسلطة القائمَة على جيش، يجب أن نعكُسَها. فليس ثمة جنرال يعمل وحيدًا، إلا إذا شعر بنفسه كليَّ القدرة. وينطبِق الأمر نفسه على ثنائية الأنا والجسد. ووفقًا للرسم البياني الأخير، أو بعبارة أخرى، من وجهة نَظَر الأنا يجب عكس هَرَم وظائف الشخصية. ويقيس المنظَر الأعلى من الهرَم درجةَ الوعي أو السيطرَة، وتتلقى الأنا أعظمَ استثمار للوعي بالمقارنة مع الوظائف الأخرى. وبالتالي، لدينا بالمُقابِل وعيٌ أعظَم لأفكارِنا من مشاعِرِنا، والأفعال التي تطوِّرها أجسامُنا تكاد تبدو لنا غير مُدرَكَة. هذه هي وجهة النظَر العامة فيما يتعلَّق بالتراتبية في جيشٍ ضِمْنَ مصطلحات القدرة. ويمكن مساواتُها بالوضعية التالية، حيث نرى وظائفَ الشخصية في مصطلحات المعرفة، أو بعبارة أخرى، في مصطلحات عملية الأنا. ومن جهةٍ أخرى، فلدى الجسَد حكمتُه الخاصة التي تسبُقُ المعرفة في الزمن والفراغ. كلتا الطريقتين في أخذ الشخصية الإنسانية بعين الاعتبار، يمكن دمجهما من خلال الوضعية العليا لكلا المثلَّثيْن، مصوِّرين على هذا النحو، صورة من ستِّ نقاط، استعملناها آنفًا في الفقرة السابِقَة للتعرُّفِ بالجَسَد كلِّه. فالخط المنقَّط يفيد للإشارة في أي مكان يكون فيه الصراع أكثر شدَّةً: في منطقة الحجاب الحاجز أو الخصر حيث يلتقي نصفا الجَسَد.

يستطيع المثلَّثان حتى تقديم علاقات أخرى كثيرة للقطبية في الحياة: السماء والجحيم، النهار والليل، الذكَر والأنثى، النار والماء. وقد استخدم الصينيون القدماء رسمًا بيانيًا مختلِفًا بشكلٍ مهم وذلك للتطرُّق إلى ثنائية القوى الحيوية التي تُدعَى وفقًا للفلسفة الصينية القديمَة باليَن واليانغ. يشير الاختلاف فيما بين الرسمين البيانيين إلى نَمَطَيْن مختلِفَيْن للحياة. فالرسم البياني الدائري للصينيين القدماء يشدِّد على التوازن، والنجمة السداسية المعروفة أيضًا باسم نجمة داوود تشير إلى التفاعلية.

لا تتفاعل هذه القوى فيما بينها داخل الكائن الحي لكي تُنتِج شدَّةَ التأثير المتَّسِم بالنشاطات الغربية كما أيضًا تُجبِر الكائن الحي على التفاعل المتبادَل على نحوٍ عدائي مع الوسَط المحيط. لا أوظِّف مصطلح "عدائي" في دلالتِه المدمِّرَة، وإنما قبل ذلك في تباينه مع "الانفعالية". فبقدر ما لدى العدائية الغربية مقدار كبير من الجانب الإيجابي كذلك أيضًا لديها من الجانب السلبي. وليكن ما يكون الجانِب المُهَيْمِن، فإن هدفَه هو التغيير، على عكس ما هو الحال في الموقف الشرقي الذي يهدف إلى الاستقرار. ولتبسيط الأمر، أُقَسِّم الفعاليات الإنسانية إلى أربع فئات: الفكرية، والاجتماعية، والخلاَّقة، والجسمانية التي تتضمَّن الحياة الجنسية. ويصير مفهوم التفاعلية واضِحًا إذا وَضَعْنا هذه الفئات في أربعة جوانب من صورتنا كما سنرى في الأسفل.

الآن، إذا وفقنا فيما بين هذا الرسم البياني مع الآخَر المشابه له من الفَقَرة السابِقَة، فسوف تتكوَّن صورة لدينا عن القوى الديناميكية الفاعِلَة في الشخصية الإنسانية.

تتعلَّق قوة الدوافِع التي تشكِّل قوةً طارِدَة من المركز في قاعدة التفاعلية بين الشخص وعالَمه؛ بقوَّة السياقات الحيوية الطاقية لجسمه. وعدا عن هذا تتعلَّق فعَّالية الدوافِع للحصول على إشباع الحاجات بحُرِّيَّتِها في التعبير عنها. وتقوم مستوَيَات مكبوتة أو توتُّرات عضلية مزمنة بحصر تيار الدوافع والمشاعِر، فهي لا تُضعِف فعَّالية الشخص في ذاتِه بقدر ما تحدُّ من اتصالِه وتفاعلِه مع العالَم أيضًا مُقلِّصةً من ملاءمته ومشاركتِه في العالَم، ومحدِّدَةً بذلك في التحليل الأخير درجةَ روحانية هذا الشخص.

ليس في نيَّتي البرهان ضد أو لصالِح طريقة الحياة الغربية. فبصيرورتِنا عدائيين على نحوٍ مفرِط، أو بعبارة أخرى، بتصرُّفنا كمستكشفين ومستغلِّين للوَسَط المحيط، فإننا نفقد حسًّا هامًّا ألا وهو التوازن. إننا نسمح لأنيَّاتِنا بالسيطرة على أجسامنا، ونستخدِم المعرفة لكي نهمِل حكمة الجسد. نحن بحاجة لاستعادة توازن لائق بقدر ما يكون في داخِلِنا كذلك في علاقاتِنا مع العالَم الذي نعيش في وَسَطِه. ومع ذلك، أشك بأن لدى توازن كهذا الفرصة لاستعادة الحصول عليه من خلال نبذ المواقف الغربية وتبنِّي الشرقية منها. يجب أن نعِيَ أيضًا بأن الشرق هو الآخَر يحاوِل حاليًا، وبطُرُقٍ متنوِّعَة تبنِّي بعض الطرق الغربية.

علم الطباع الإنسانية

وفقًا للمنهَج الحيوي الطاقي، تُصنَّف الأنماط المتعدِّدَة لبنية الطبع في خمسة أنماط أساسية. وكل واحد من هذه الأنماط له نموذج مميَّز من الدفاعات، وبقدر ما هي على المستوى النفسي، فكذلك هي على المستوى العَضَلي. ونموذج كهذا هو الذي يميِّز فئة نمطية عن أخرى. فمن المهم الملاحظة بأن هذا التصنيف لا يشمل أشخاصًا، وإنما أنماط دفاعية. نقرُّ بأنه ما من أحد هو عبارة عن نمط واحد فقط، وبأن أي عنصرٍ في ثقافتِنا يضم مستويات متنوِّعَة في شخصيتِه، بعضًا من هذه الأنماط الدفاعية أو كلها. فبينما شخصية فرد هي شيء مميز عن بنية طبعه، فهي محدَّدَة من خلال حيويتها، أو بعبارة أخرى، من خلال قوة الدوافع والدفاعات المشيدَة بهدَف السيطرَة على هذه الدوافع. ليس هناك شخصين متشابهين فيما يتعلَّق بالحيوية الملازِمَة لجسميهما أو على الأقل فيما يتعلَّق بالنماذج الدفاعية المشيَّدَة اعتبارًا من تجاربهم الحياتية. إنه لضروري مع ذلك أن نتكلَّم بمصطلحات الأنماط لكي نحافظ على وضوح ما للتواصل والفهم.

الأنماط الخمسة هي: الفصامي (المجزَّأ)، والفموي (الطفولي)، والمعتل نفسيًا (المنزاح)، والمازوخي (الذليل)، والصلب. نستخدِم هذه المصطلحات لكونها معروفة ومقبولة كتعريفات لاضطرابات الشخصية في أوساط الطب النفسي. كما لا ينتهِك تصنيفنا المعايير الراسِخَة.

لا يقدِّم الوصفُ التالي لهذه الأنماط أكثرَ من رسمٍ أولي، بما أنه من المستحيل ضمنَ عَرَض أكثر تعميمًا للمنهَج الحيوي الوظيفي الطاقي الدخول في تفاصيل عند مناقشة كل اضطراب. وبقدر ما أن أنماط الطبع معقَّدَة جدًا، فلسوف نذكر فقط المظاهر الأكثر انتشارًا لكل نمط.

1.    بنية الطبع الفصامي (المجزَّأ)

الوصف

يُشتقُّ مصطلح الفصام من انفصام في الشخصية، وهو يشير إلى فرد ذي شخصية تلتقي فيها ميول لتكوين حالة من انفصام في الشخصية. وهذه الميول هي التالية:

  1. انشطار في العمَل الوحدوي للشخصية. فعلى سبيل المثال: يميل الفكر إلى الانفصال عن المشاعِر، فيبدو أن ما يفكر به الشخص له صِلَةٌ ضئيلَة مع ذلك الذي يشعر به أو مع الأسلوب الذي يتصرَّف به.
  2. ملاذه في داخل نفسه، محطَّمًا أو فاقدًا اتصاله مع الحقيقة الخارجية. الفرد الفصامي ليس منفصِم الشخصية. ومن الممكن ألا يصير منفصمًا البتة. لكن، هذه الميول تظل هناك كامِنَةً في شخصيَّتِه، وبشكل عام مترسِّخَة جدًا.

يصِفُ مصطلحُ "فصامي" الشخصَ الذي حسُّه بنفسِه متدنٍّ، والذي أناه ضعيف، واتصاله مع جسمه وأحاسيسه محدودة إلى حدٍّ كبير.

الحالَة الحيوية الطاقية

إن الطاقة مقموعَة دون البنى المحيطية للجسم، ولنعلم أنها بعيدة عن الأعضاء التي تقيم اتصالاً مع العالَم الخارجي: الوجه، واليدان، والأعضاء التناسلية، والقَدَمان. ونلقى هذه الأعضاء منفصِلَة عن المركز إلى حد ما، وذلك ضمن المصطلحات الحيوية الوظيفية الطاقية، لأن استثارة المركَز لا تنساب مباشرة لهذه الأطراف والأعضاء، لكونها مُحتَبَسَة من خلال توترات عضلية مُزمِنة مُتَمَوْضِعَة في قاعدة الرأس، وفي الكَتِفَيْن، وفي الحوض، وفي مَفاصِل الورك. وبالتالي، تصير الوظائف التي تقوم بها هذه الأعضاء منفصِلَة عن المشاعِر الموجودَة في مركز الشخص.

تؤول الحمولَة الداخلية إلى التصلُّب في المنطقة المركزية. ونتيجةً لذلك يصبح تكوّنُ الدوافِع ضعيفًا. ومع ذلك، فإن الحمولَة، هي ذاتُ نوعٍ انفجاري (بسبب انضغاطها)، متمكِّنةً من الانفجار بعنف أو تتجلَّى على شكل ميتاتٍ مفاجئة. ويحصل هذا إذا لم تتوصَّل الدفاعات على احتواء الجسم، وهذا الأخير يجد نفسه مغمورًا بكمية من طاقة لا يستطيعُ استعمالَها. إذَّاك تنشطر الشخصية، وتتطوَّر حالَةُ انفصام فيها. وفي هذه الحالَة، ليسَت نادرة جرائم القتل.

يشتمل الدفاع على نمطٍ من التوترات العضلية التي تُبقي على الشخصية موحَّدَة، من خلالِ منعٍ للبُنَى المحيطية من امتلائها بالدم أو الطاقة. وهذه التوترات العضلية هي نفسها التي وُصِفَت سابقًا باعتبارِها مسؤولة عن واقع كون الأعضاء المحيطية معزولة عن اتصالها بالمركز. إذن، فالدفاع هو المشكلة.

على نحو حيوي طاقي ثمة انشطار للجسم في أعلى الخصر، وبالنتيجة ينجم نقصانًا في التكامل بين الأجزاء العليا والأجزاء الدنيا.

اتبع في الأسفل الرسم التمثيلي لهذا التحليل الحيوي الطاقي.

يشير الخط المضاعَف إلى الحدود الحيوية الطاقية المنكمِشَة عند الطبع الفصامي. وتشير الحدود المنقَّطَة إلى نقصان للحمولة الحيوية الطاقية للأعضاء المحيطية، وحرمانها من الاتصال بالمركز. أما الخط المنقَّط في مركز بنية الفصامي فيشير إلى انشطار الجسم إلى جزأين.

المظاهِر الجسمانية

في معظَم الحالات، الجسد ضيِّق، ومنكمِش، مع وجود عناصِر بارانوئية في الشخصية، ويظل الجسد أكثر امتلاءً، ورياضيًا.

تتموضع مناطق التوتر الرئيسية في قاعدة الجمجمة، وفي مفاصِل الكتفيْن، وفي المفاصِل الوركية، وحول الحجاب الحاجز. وهذا الأخير مشدود جدًا بالشكل الطبيعي، مما يؤدي إلى شطر الجسم إلى جزأين. فالتشنُّجات اللاإرادية المسيطِرَة متوضِّعَة في العضلات الصغيرة التي تحيط بالمفاصِل. ومن الممكن أن نرى في هذا النمط من الطبع سواءً صلابةً قصوى أو مرونةً مفرِطَة عند المفاصِل.

لدى الوجه مظهَر قِناع. وبالرغم من أن العينين ليستا غامضتين كما هي الحال لدى انفصاميي الشخصية، فهما تحتويان على الحيوية الطبيعية، ولا تتصلان مع الآخرين. تتدلَّى الذراعان كمُلْحَقَيْن أكثر من كونهما امتدادًا للجسم. القدمان منكمشتان وباردتان، ومن الشائع أن تكون القدمان مقوَّستيْن، ذلك أن ثِقَل الجسم يقع على جوانبهما الخارجية.

ثمَّة غالبًا تناقض بارز بين نصفي الجسم. وفي حالات كثيرة لا يبدو أنهما ينتميان للشخص نفسه.

على سبيل المثال، عندما يتبنَّى الشخص وضعيَّة القوس في حالات من التوتر، يبدو خط الجسم في كثير من الأحيان كما لو كان مكسورًا. فالرأس، والجذع، والساقان تظل إذاك مشكِّلةً زوايا فيما بينها، كما بيَّنَّا في الفصل الثاني٭.

المتلازمات النفسية

ليس لائقًا الانطباع عن الذات أمام غياب التواحد مع الجسم. فلا يشعر الشخص أنه متصل ولا متكامل جسمانيًا.

الميل هو إلى الانفصال عن المستوى الجسماني من خلال غياب الاتصال الجسماني بين الرأس وباقي الجسم، مما ينشئ حالةً من انقسام في الشخصية على شكل مواقف متناقضة. فمن الممكن على هذا النحو أن نلقى سلوكًا متعجرفًا، وفي الوقت نفسه يكون وضيعًا، أو مثل سلوك عذراء إلى جانب سلوك عاهرة في الوقت نفسه أيضًا. وتعكس هذه السلوكيات انشطارًا للجسم إلى قسمين، أعلى وأسفل.

يتَّصِف الطبع الفصامي (المجزَّأ) بالحسَاسِيّة المفرِطَة بسبب هشَاشَةٍ محدودة تحيط بالأنا، وهي تعويض نفسي عن غياب الحمولة الطاقية المحيطية. ويقلِّص هذا الضعف من مقاومة الضغوطات الآتية من الخارج مما يدفع به للجوء إلى دفاعاته الذاتية. وعدا عن ذلك، يُظهِر الطبع الفصامي (المجزَّأ) ميلاً شديدًا لتجنُّب العلاقات الحميمة والفردية. وفي الحقيقة، فمن الصعوبة بمكان أن تستقرَّ هذه العلاقات بسبب نقصان البُنَى المحيطية للاتصال.

إن إرادة الحثِّ على الأفعال تعطي سلوك الطبع الفصامي صبغةً اصطناعية، فتتناول على هذا النحو التصرُّف الذي نسمّيه "كما لو أن"، مما يعني، كما لو أنه قائم على مشاعِر، لكن الأفعال في حد ذاتها لا تعبِّر عنها.

عوامل الأسباب المرضية وتاريخها

من الأهمية بمكان أن نقدِّم هنا بعض المعطيات التاريخية بخصوص الأصل النمَطي للبنية الفصامية. والتفسيرات التي ستأتي تاليًا تلخِّص ملاحظات باحثِين عالَجوا هذه المشكِلَة، وحللوها في كثير من الأشخاص الحامِلين لهذا الاضطراب.

ثمة في الحالات كلها بديهية لاشك فيها بحصول رفض من جانب الأم في بداية حياة هذا الشخص، الذي شعر بهذا الرفض كتهديد لحياته. وترافق الرفض مع عدائية مقنَّعَة، وفي أحيان كثيرة تظهَر هذه العدائية أيضًا من قِبَل الأم.

يخلق الرفض والعدائية الخوف عند المريض من كل مسعى، ومن كل محاولة في إثبات الذات، الأمر الذي يقود المريض إلى نوع ما من الانمحاق.

تشير سيرته الذاتية إلى حرمان من شعور إيجابي مليء بالأمان والفرح. والمخاوف الليلية هي أمر شائع أثناء الطفولة.

إنه نمطيُّ التصرف اللاانفعالي والانسحاب، وأزمات من الغضَب، الأمر الذي نسمِّيه بالتصرُّف التوحُّدي.

إذا ما أفرط أحد الأبويْن في حماية الطفل أثناء الفترة الأوديبية لأسباب جنسية – وهو أمر شائع – يتنامى لديه عنصر بارانوئي[1]. ويؤدي هذا الوضع إلى مجال من المحاولة المفرِطَة لجلب الانتباه عند انتهاء فترة الطفولة. وأثناء مرحلة الرشد.

وفقًا لسيرة الطفل الذاتية هذه، ليس ثمة بديل ما عدا الانفصال عن الواقع (حياة مكثَّفَة من التوهُّم)، وجسده عبارة عن (ذكاء مجرَّد) لكي يتمكَّنَ من البقاء على الحياة. وبما أن المشاعِر المهيْمِنَة هي الذعر، وغضب قاتل، فيحبس الطفل مشاعره كلها لكي يدافع عن نفسه بنفسه.

2.    بنية الطبع الفموي (الطفولي)

الوصف

نصف الشخصية التي تحوي على سمات نمطية من الطفولة الأولى على أنها بنية طبع فموي. وهذه السمات هي ضعف، تعبِّر عن ميل للتعلق بالآخَرين، وعدائية هشَّة، وإحساس داخلي بالحاجة لأن يُحمَل ويتلقَّى الدعم والعناية. تحوي هذه السمات على حرمان من الإشباع في مرحلة الطفولة. ويمثِّل أيضًا درجة من التثبيت على هذا المستوى من النمو. فهذه السمات مقنَّعَة عند بعض الأشخاص من خلال فعل السلوكيات التعويضية على نحوٍ واعٍ. تُظهِر بعض الشخصيات المميزة بهذا النمط من البنية استقلالية مفرِطَة، إلا أنها لا تستطيع الاعتماد على نفسها في حالات من التوتر. فالتجربة الأساسية للطبع الفموي هي الحرمان العاطفي مثلما هو الأمر في تجربة الفصامي الموافقة لها من حيث معاناته من الرفض.

الحالَة الحيوية الطاقية

البنية الفموية هي حالة من حمولة طاقية منخفِضَة. فالطاقَة ليسَت محصورة على المركز فقط، كما هي الحال لدى الفِصامي، لكنها تنساب حتى محيط الجسد، لكن بشكلٍ ضئيل.

لأسباب ليسَت معروفة حتى الآن بالشكل الكافي، فالنمو الطولي هو الأرجح، مؤديًا كنتيجة لذلك إلى جسد طويل وأهيَف. وثمة تفسير ممكن هو أن تأخُّر النضج يتيح للعظام الأكثر طولاً بأن تنمو أكثر من الطبيعي. وعامِل آخَر حيث تعجز الِعظام عن النمو، الأمر الذي يؤدِّي إلى عَضَلات متخلِّفَة عن النمو.

إن نقصان الطاقة والقوة هو الأكثر ظهورًا في القسم الأسفَل من الجسم، لأن نموَّ الجسم الطفولي يحصل نحو الاتجاه الرأسي.

لدى كل نقاط الاتصال مع الوسَط المحيط حمولة طاقية أقل من اللازم. فالرؤية ضعيفة، وتنزع إلى قِصَر في البَصَر. ويتضاءل مستوى الاستثارة التناسلية.

السمات الجسمانية المميزة

يميل الجسم لأن يكون أهيَفًا، ونحيفًا موافقًا لنمط ظاهري البنية لشيلدون Sheldon. وهو يختلِف عن جسم الفصامي بكونِه ليس متصلِّبًا على نحوٍ مفرِط.

بنيته العضلية متخلِّفَة عن نموِّه، ولكنه ليس ليفيًا مثلما هو الأمر لدى جسم الفصامي. إن نقصان النمو يظهر بشكل أكثر وضوحًا في الذراعين والساقين. إن ساقين طويلتين ونحيلتين هما إشارة عامة لهذا النمط من البنية. فالقدمان هما أيضًا ضيِّقتان وصغيرتان. ولا تعطي الساقان الانطباع بأنهما تسندان الجسم كله بشكل جيد. والركبتان منكمشتان بشكلٍ طبيعي، فتقدِّمان الدعم الإضافي المتمثِّل من خلال الصلابَة.

يُظهِر الجسم ميلاً إلى انزلاق، وذلك يعود إلى ضعف البنية العضلية.

غالبًا ما نعثر على علامات لعدم النضج. فالحوض أصغر من الطبيعي، وبقدر ما يكون ذلك عند الرجال كذلك أيضًا عند النساء. وشعر الجسم متناثِر. ولدى بعض النساء، يكون كل سياق النمو متخلِّفًا، مانِحًا إياهنَّ أجسام أطفال.

التنفُّس سطحي، الأمر الذي يفسِّر المستوى الطاقي المنخفِض في جسمِه. والحرمان الذي عاناه أثناء المرحلة الفموية[2] قلَّلَت من قوة دافع المصِّ (إن تنفُّسًا جيدًا يتعلَّق بالمقدرة على امتصاص الهواء).

المتلازِمَات النفسية

لدى الفرد ذي الطبع الفموي صعوبات لكي يعتمِد على نفسِه. فهو ينزَع لأن يكون عالَةً أو مدعومًا من قِبَل أحدهم. وكما ذكرت آنفًا، فهذا ميل يمكنُه أن يختفيَ وراء موقفِه الاستقلالي المفرِط. فأن يدعم نفسَه، ينعكِس في الوقت نفسِه في عَدَم استطاعته على البقاء وحيدًا. فثمَّة رغبة مفرِطَة في أن يكون برفقة أشخاص آخَرين لكي يتلقَّى دفء محبتهم ودعمهم.

غالبًا لدى الشخص ذي الطبع الفموي إحساس بالفراغ. وهو يبحَث باستمرار عن الآخَرين لكي يملؤوا هذا الفراغ وبالرغم من تصرُّف هؤلاء الأشخاص، فبمقدورِه حتى لفت الانتباه إلى أنه هو الذي يقدِّم المساعدة. يعكس فراغه الداخلي إلغاء المشاعِر الكثيفة لأنه في حال تم التعبير عنها فلسوف تؤدي إلى بكاء شديد جدًا، وتنفُّس أكثر عمقًا.

إن الفرد ذا الطبع الفموي خاضِع لتناوبات المزاج بين الكآبَة والنشوة بسبب مستوى طاقته المنخفِض. والميل إلى الكآبَة هو السِّمَة المرضيّة المميزة للسِمات الفموية في الشخصية.

ميزة نمطية أخرى للفموي هي الموقف الذي يتبنَّاه بأن الأشياء تنتسِب له أي أن الآخَر مديون له بها. ويمكن إظهار ذلك من خلال الفكرة بأن على العالَم أن يسنده. إنه مركَّبٌ ينجم بشكل مباشر عن تجاربه الأولى من الحرمان.

عوامل الأسباب المرضية وتاريخها

يمكِن للحرمان الأولي أن يكون بسبب الفقدان الحقيقي لوجه أمومي دافئ بالحب والودِّ، سواءً كان الأمر بسبب وفاة أو مرض أو غياب اضطراري للحاجة إلى العمل. والأم المنهَكَة ليس لديها الاستعداد لكي تكون تحت تصرُّف ابنها.

تُظهِر سيرته الذاتية غالبًا نموًا قبل أوانِه. كما على سبيل المثال، تعلُّم الكلام، والمشي باكرًا أكثر من الوقت الطبيعي لابتدائه بالمشي. وأفسِّر هذا التسرُّع كمحاولة للتغلُّب على شعور الحرمان من خلال الحصول على الاستقلال.

أن تكون لديه تجارب أخرى من خيبات الأمل لهو أمر شائع في بداية حياته، خصوصًا حين يحاول وهو طفل السعي للاتصال والدفء الإنساني والدعم من قِبَلِ الأب والإخوة، والأخَوَات، ولكنه لا يحصل على مرادِه هذا. ومن هنا تنزَع هذه العذابات إلى ترك بصمة من المرارة في شخصيته.

إنها نموذجية عوارض الإنهاك في نهاية الطفولة وبداية المراهقة. ولا يُكشِف الطفل الفموي عن نفسِه، ولكنه التصرُّف التوحُّدي نفسه للطفل الفصامي. علينا القبول بالوجود الافتراضي لعناصر فصامية في الشخصية الفموية بالشكل نفسه للعناصِر الفموية لدى الفصامي.

3.    بنية الطبع المعتل نفسيًا (المنزاح)

الوصف

تستدعي بنية الطبع هذه بضعة كلمات كمدخل. فهي تتناوَل نمطًا من طبع لم أقم بتحليله ولا وصفه في دراساتي السابقة. ومن الممكن أن تكون بنيته معقَّدة كثيرًا، ولكن مع الأخذ بالحسبان الاختصار والوضوح، سأقوم بوصف هذا الاضطراب بشكل مبسَّط.

إن جوهَر حالة المعتلِّ نفسيًا تكمن في إنكار الشعور. فالفرد ذو الطبع المعتلِّ نفسيًا  يتناقض مع الطبع الفصامي الذي ينفصل عن مشاعره. ففي شخصية المعتل نفسيًا، يقف الأنا أو العقل ضد الجسم وأحاسيسه، وبشكل رئيسي تلك ذات الطبيعة الجنسية. وهذا هو الباعِث الذي تأسَّسَ عليه مصطلح "علم الأمراض النفسية". فالوظيفة الطبيعية للأنا تكمن في إعطاء دعم لمحاولات الجسم في العثور على اللذة، وليس في تدميرها لصالح صورة الأنا. ففي كل الاعتلال النفسي، ثمة تجمع كبير للطاقة في الصورة الخاصة به. ويكمن مظهَر آخَر في حافزها نحو السلطة، والحاجَة للهيْمَنَة وضبط الآخَر تحت السيطرة.

السبب في تعقيد هذا الطبع هو واقِع وجود أسلوبين لكي يمارس هيمنته على الآخَرين. أسلوب في ظلم وتعذيب الآخَرين، وفي هذه الحال إذا لم يقاوِم الشخص المظلوم الظالِم له، فإنه يتحوَّل إلى ضحيته بشكل أو بآخَر. أما الأسلوب الثاني فيكمن في إضعاف الشخص من خلال التقرُّب الإغوائي الذي يكون فعَّالاً جدًا مع الأشخاص السذج، فهؤلاء يقعون بشكل مباشَر في شبكات سلطة المعتل نفسيًا.

الحالَة الحيوية الطاقية

ثمَّة نمطين، والأجساد التي تتوافق مع هاتين البنيتين للمعتلين نفسيًا. فالنمط المستبدُّ هو الأكثر سهولة لشرحه في المصطلحات الحيوية الوظيفية الطاقية، وقررت توظيفها لتوضيح الفقَرَة. فالحصول على قدرة أكبر من شخص آخَر يحدث عندما يكون واحد في مستوى أعلى من الآخَر. ففي هذا النمَط ثمة انزياح واضِح للطاقة نحوَ الطرف الرأسي للجسم، مع الإقلال المرافِق للحمولة في القسم السفلي للجسم. فقسما الجسم ليسا متناسقَيْن بشكل ظاهر، وذلك بكون القسم الأعلى عريضًا أكثر و يُهَيْمِن على مجموع المظهَر.

بشكل عام، ثمَّة تقلُّص واضِح جدًا حول الحجاب الحاجز والخصر، الأمر الذي يوقِف نزول تيار الطاقة والمشاعِر.

يتصرَّف الرأس بحمولة من الطاقة ما فوق الطبيعي، الأمر الذي يعني وجود استثارة مفرِطَة في القدرة العقلية، من هنا ينجم تركيز كبير على وسائط بلوغ ضبط الأوضاع تحت السيطَرَة، والهيْمَنَة عليها.

العينان متنبِّهتان، ومرتابتان، وليستا مفتوحتين لرؤية العلاقات المتبادلة. وهذا الإغلاق للعينين فيما يتعلق بالفهم وإدراك طبيعة الأشياء هو علامَة مميَّزة لكل شخصيات نمط الاعتلال النفسي.

تتوَجَّه الحاجة للسيطرة أيضًا ضد نفسِه ذاتها. فالرأس يبقى مرتفعًا جدًا (فليس ممكنًا فقدان الرأس) ولكن الجسم بدوره يبقى صلبًا في حدود سيطرته.

انظروا للرسم التمثيلي أعلاه لتوضيح هذه العلاقات الطاقية.

السمات الجسمانية المميزة

يُظهِر الجسم ذو النمط المستبد نموًا غير متناسِب للقسم الأعلى، معطيًا الانطباع بكونه ممتلئ بالهواء، وهذا يتوافق مع صورة الأنا التي يحملها الشخص عن نفسه ممتلئًا بها. ومن الممكن القول بأن هذه البنية تنظر إلى القمة، بكونها أيضًا صلبة. أما القسم الأسفل من الجسم فهو أكثر ضيقًا، وبوسعه إظهار الضعف النمطي لبنية الفموي عند هذا الطبع.

أما جسم النمط الثاني، والذي أسميتُه بالغاوي أو المضعِف، فهو أكثر اتساقًا، ولا يمثُل  بالمظهَر المنتفِخ. وبشكل عام، تكون الكتفان مَرِنَتيْن جدًا.

في كلتا الحالتين ثمة اضطراب في سيَلان الطاقة بين قسمي الجسم. ففي النمط الأول، تكون حمولة الطاقة مخفضَة ومدعومة بشكل صلب عند الحوض، أما لدى النمط الثاني فتكون الحمولة مفرِطَة، وغير متَّصِلَة مع بقية الجسم. يُظهِر كلا النمطين تشنُّجًا لا إراديًا واضحًا للحجاب الحاجز.

ثمة أيضًا توترات واضحة في الجزء العيني الذي يشمل العينين والمنطقة القذالية (مؤخِّرة الرأس).

يمكن بالطريقة نفسها إدراك توتُّرات عضلية خطيرة على طول قاعدة الجمجمة، وفي منطقة الجزء الفموي تكون حاضرة لمنع دافع الامتصاص.

المتلازمات النفسية

يحتاج الفرد ذو الشخصية "المعتلة نفسيًا" لأحد ما كي يسيطر عليه، ناهيكم أنه بالإمكان ظاهريًا السيطرة عليه، والتعلق به أيضًا. وبالتالي، فثمة حد ما من الطبع الفموي في كل الأفراد "المعتلين نفسيًا". ففي أدبيات الطب النفسي، يصفونهم لنا على أنهم يحملون تثبيتًا في المرحلة الفموية.

إذا ما نظرنا لحاجة هذا النمط للسيطرة عن كثب لرأيناها مرتبطة بخوفه من أن يُسَيْطَر عليه، الأمر الذي يعني أن يتمَّ استعماله. بمقدورنا الملاحظة أنه في قصص أفراد هذه البنية من الطبع، وجود تنافس للسيطرة بين الآباء والأبناء.

يكمن تبرير البقاء في الأعلى والحصول على النجاح في أن الشخص تلحُّ عليه ضرورة قصوى في عَدَم استطاعته قبول ولا حتى السماح لحدوث فشل، لأن ذلك يضعه في موقِع الضحية، وبالتالي، عليه دائمًا أن يكون المنتصِر في كل ما يحمل طابع المنافسة.

الجنسانية موظَّفَة بشكل ثابِت في هذه اللعبة لبلوغ القدرة. فالمعتلُّ نفسيًا غاوٍ مع مظاهره في التحكُّم بالآخَرين، أو أنه يُجبِر الضحية على التصنُّع والتكلُّف.

يأتي السرور في العمَل بالدرجة الثانية من الأهمية فيما يتعلق بأدائه الخاص أو تحقيقه لما يريد.

إنكار المشاعر بشكل أساسي هو إنكار للحاجات. فاستراتيجية المعتل نفسيًا تكمن في جعل الآخَرين بحالة احتياج دائم له، ولكي لا يحتاج التعبير عن هذه الحاجة، فإنه يبقى دائمًا على هذا النحو فوق الآخَرين.

عوامل الأسباب المرضية وتاريخها

مثله مثل أية بنية طبع أخرى، فإن سيرة هذا الشخص تفسِّر سلوكه هذا. يفيد خصوصًا التعميم التالي: ليس ممكنًا فَهْم سلوكيةٍ ما إلا إذا عُرِفَت سيرة الجسم المسبَقَة. فيكون هذا عاملاً من العوامِل الأساسية لكل علاج ألا وهو توضيح تجارب حياة المريض. وبشكل عام فهذا صعب جدًا في حالات "الاعتلال النفسي"، لأن ميل هؤلاء المرضى يكمن في إنكار المشاعِر، الأمر الذي يتضمَّن إنكار التجارب. وعلى الرغم من هذه العقَبَة، فقد توصَّل المنهج الحيوي الطاقي مُسبقًا إلى تعلُّمِ أشياء كثيرة فيما يتعلَّق بأصول هذه المشكلة.

الأكثر أهمية ضمن عوامِل الأسباب المرَضيّة لهذه الحالَة هو حضور والدٍ غاوٍ جنسيًا. فالإغواء مغطَّى ويتحقِّق لإشباع الحاجات النرجسية لهذا الوالد، كائنًا لديه هدَف ربط الطفل بالوالد الغاوي (أو الأم) الغاوية.

الوالِد الغاوي هو شخص يُنكِر على الطفل دائمًا مستوى حاجاته من دعم واتصال جسماني. إن غياب هذا الملء للحاجات الأساسية هو العنصر المسؤول لسِمَة "الطبع الفموي" لبنية الطبع هذه.

يكوّن الاتصال الغاوي مثلثًا حيث يكون الطفل في موضع تحدٍّ أمام والده من الجنس نفسه. ويخلق على هذا النحو عائقًا للتواحُد الضروري مع الوالِد من الجنس نفسه، لا بل معمِّمًا أكثر التواحُد مع الجنس الغاوي.

في هذه الحال، إن أية محاولة للخروج في السعيِ للمخالطة يضع الطفل في وضع قابلية قصوى للانجراح. فالطفل سوف يحتقِر الحاجة (انزياح متصاعِد)، متجاوزًا حاجته أو سوف يقوم بإشباعها من خلال مناورة الأبوين (النمط الغاوي).

كما تُظهِر شخصية "المعتل نفسيًا" أثرًا مازوخيًا، ناجمًا عن الخضوع للوالد الغاوي. فليس لدى الطفل الشروط الكافية لكي يتمرَّد أو يخرج من حدود هذا الوضع: فدفاعاته كانت داخلية فحسب. والخضوع هو ظاهريًا فقط. ومع ذلك، فبقدر ما يخضع الطفل بشكل معلَن أكثر، فلسوف يتوصَّل إلى البقاء أكثر قربًا من الوالِد.

العنصر المازوخي هو أكثر قوةً في الإغواء المغايِر لهذه البنية من الطبع. واللعبة الأولية تكمن في الانطلاق إلى مخالَطَة حيث يتخِذ دورًا مازوخيًا بالخضوع الذي يصبِح هو الأساس. فيما بعد، وبقدر ما يحرز الإغواء تقدمًا ويصير ثابتًا الارتباط مع الشخص الآخَر فالدور يصبح معكوسًا، وتظهَر السادية.

4.    بنية الطبع المازوخي

الوصف

تعني كلمة مازوخية في المفهوم الشعبي الرغبة في التألُّم. ولا أعتقِد بانطباق هذه الحالَة على شخص يمتلك هذه البنية من الطبع. فهو يعاني فعلاً ذلك أنه عاجِز عن تغيير هذا الوضع، الأمر الذي يشير إلى أنه يرغب البقاء فيه. لا أتكلم عن شخص ذي انحراف مازوخي، أي ذلك الذي يسعى لأن يُشبَع ضربًا لكي يبلغ الشعور باللذة الجنسية. وإنما ما أقصده من وصف هذه البنية بالطبع المازوخي هو ذلك الذي يتألَّم، وينوح على نفسِه، والذي يشتكي، ويظل مذعِنًا. والميل المازوخي المُهَيْمِن هو الخضوع.

عندما يُبدي الفرد ذو الطبع المازوخي موقِفًا مذعنًا في السلوك الظاهر خارجيًا. في حين ما يحصَل في الداخِل هو العكس بالضبط. يحتوي الشخص على المستوى الانفعالي الأكثر عمقًا على مشاعر قوية من السخط، والسلبية، والعدائية، والفوقية. ومع ذلك، تظل هذه المشاعِر في منأى بقوة عن نوبات الخوف التي قد تنفجر في تصرف اجتماعي عنيف. وبالتالي، فالخوف من الانفجار يقابله مستوى عضليًا من الكبت. فالعضلات كثيفة وقوية. تقيِّد أي إثبات مباشر للذات، متيحةً فقط المجال للشكاوي والنواح.

الحالَة الحيوية الطاقية

على خلاف بنية الطبع الفموي. فالمازوخي موهوب بمستوى عالٍ من الطاقة التي تظلُّ مع ذلك محتبِسَةً بشكل قوي في الجسم، ولكن ليسَ بشكلٍ مركَّز.

إن الأعضاء المحيطية هي أقل تحميلاً بالطاقة بسبب الكبت الداخلي الشديد، الأمر الذي بقدرِ ما يمنع تفريغ الطاقة فكذلك أيضًا ينطبق الأمر على الإطلاق الطاقي، أي أن الأفعال التعبيرية تكون محدودة. وبإمكانك متابعة تمثيل الرسم التمثيلي لجسم المازوخي:

الكبت الداخلي من الشدة بمكان أنه يؤدي إلى انضغاط وانحلال قوى الجسم. يظهر الانحلال في الخصر، في حين يرزح الجسم تحت ثِقَل توتراته.

تتعرَّض الدوافع التي تتحرك نحو الأعلى، ونحوَ الأسفل للاختناق في الرقبة، وفي الخصر مما يؤدي إلى ميل قوي للتعبير عن القلق عند هذه الشخصية.

إن امتداد الجسم بمعنى الاتساع أو السعي لشيء خارج ذاته محدود على نحوٍ كبير. كما أن الإقلال من الامتداد يؤدي إلى قِصَرٍ في البنية الموصوفة أعلاه.

السمات الجسمانية المميزة

إن الجسم النموذجي للمازوخي قصير، وضخم، وممتلئ. وبشكل عام، ولأسباب لاتزال مجهولة فثمة نمو واضح للشعر في الجسم.

إنه متَّسِمٌ بشكل خاص برقبة قصيرة وثخينة تشير إلى ثِقَل في الرأس، وبالمثل فالخصر أكثر قِصَرًا وأكثر ضخامة أيضًا.

علامة أخرى هامة هي بروز الحوض إلى الأمام الذي قد يكون وصفُه أكثر دقة بأنه محصور نحو الأعلى والردِفان مسطحان.

إن انطواء وانحصار الردفَيْن إلى أعلى مع ثِقَل التوتّر مباشرةً فوقه، هما المسؤولان عن حدوث ثنية في الخصر.

يُرَى لدى بعض النساء توافق من الصلابَة في القسم الأعلى من الجسم مع مازوخية في القسم الأسفَل، ظاهِرًا من خلال ردفَيْن وفخذين ثقيليْن، ومن خلال السطح الحوضي المنكمِش نحوَ الأعلى، ونحوَ لون عاتم للجلد، ناجم عن ركود للحمولة الطاقية.

يميل كل أشخاص البنية المازوخية وجلدها إلى صبغة كستنائية بسبب ركود الطاقة.

المتلازمات النفسية

بسبب كون الكبت شديد، فالعدائية، وإثبات الذات يُصبِحان ضئيليْن جدًا.

على عكس إثبات الذات، فالشخص المازوخي يُظهِر مشاعِر ظلم وشكاوى. وهذا هو التعبير الشفهي الوحيد، الذي يتمكَّن من الخروج بسهولة من حنجرة تكاد تكون مخنوقة. ويحلُّ مكان العدائية سلوك استفزازي ذو هدف هو استجابة قوية بالشكل الكافي من قِبَل الشخص الآخَر لكي يمتلك المازوخي فوق كل شيء الشروط للتحرُّك بعنف، وانفجاري حتى في الحالات الجنسانية.

إن ركود الحمولة الطاقية الذي يسبِّبُه العنف المكبوت يؤدّي إلى تكوِّن الشعور بـ"أنه عالِقٌ في الوحل"، وذلك باعتبار المازوخي عاجز عن التحرُّك بحرية.

إن موقِفَ الإذعان والتودُّد هما سمتان مميَّزتان للسلوك المازوخي. وثمة على مستوى الوعي تمثُّل لمحاولتِه في أن يكون مُرْضِيًا أمام الآخَر، ولكن هذه الحالَة على مستوى اللاوعي مرفوضة بسخط، وذلك بسبب السلبية والعدائية. وعلى هذه المشاعِر المكبوتة أن تُطلَقَ من جانب المازوخي قبل أن يتمكَّن من الحصول على استجابة مرِحَة أمام مواقف الحياة المتنوِّعَة.

عوامِل الأسباب المَرَضِية وتاريخها

إن بنية الطبع المازوخي هو ثمرة لبيت حيث يتواجد فيه الحب والقبول جنبًا إلى جنب قمع شديد. فالأم متسلِّطَة، ومضحِّيَة، أما الأب فهو مستسلِم ومذعِن.

الأم المسيطِرَة والقادرة على التضحية، تخنق بشكل ما الطفل المأخوذ إلى الشعور بالذنب للحد الأقصى بسبب أية محاولة لإعلان حريته أو تأكيد موقفه عندما يكون سلبيًا.

إنه نموذج التشديد المفرِط على التغذية والتغوُّط، ويُضاف عامِلٌ آخَر إلى الضغط الذي أشرتُ إليه لتوِّي: "كن صبيًا طيبًا. كن صغيرًا طيبًا مع أمك. تناول وجبتك كلها... تغوَّط بالشكل الجيد. دعِ الماما ترَ"، وهكذا دواليك...

كل محاولات المقاومة مصيرُها الانسِحَاق، وخاصةً نوبات العناد. إن جميع الأشخاص الحاملين لبنية طبع مازوخية كانت لديهم نوبات من العناد تعرَّضَت كلها للانسحاق. وبالتالي، يترتَّب عليهِم لاحِقًا التخلي عنها.

تشكِّل المشاعِر بكونها محطَّ سخرية مجموعة من التجارب الاعتيادية، والتي هي ممكنة أن تُقاوَم لا أكثَر على الرغم من أن الطفل ينتهي بدوره للتدمير الذاتي. فليس ثمة إمكانية لمخرَج من وجهة نظر طفل في حالة كهذه.

فالمريض حين كان طفلاً صارع ذاته نفسها، مع شعور عميق بالإذلال في كل مرة كان يُترَك فيها الإطلاق بشكل حر على شكل إقياءات، وتحدِّيات، والتبوُّل، أو التغوُّط في بنطاله.

لدى المازوخي خوف من أن يوضَع في ظروف حسَّاسَة (كما لو أنه يبقَى على قَدَم واحدة فقط) أو من التدخُّل (إن مدَّ العنق بالنسبة له هو الأمر نفسه بالنسبة للأعضاء التناسلية) خوفًا من أن يُرفَضَ. كما أن قلق الخصاء واضح جدًا عند هذه النماذج من البنية. يكمن خوفه الأعظَم من إبعاده عن الصلات العائلية المؤدية للحب، ولو تحت ظروف معيَّنَة. في الفقرة التالية سوف نفحص بشكل أفضل المعنى حول هذا الجانِب من شخصيَّتِه.

5.    بنية الطبع الصلب

الوصف

ينجم مفهوم الصلابة عن ميل هؤلاء الأشخاص للبقاء منتصبين غرورًا. وبالتالي، فالرأس مرتفع جدًا، والظهر في خط مستقيم. وهذه السمات يمكنها أن تكون إيجابية في ذاتها ما لم يكن عامِل الغرور شعورًا دفاعيًا، والصلابَة شيء غير مرن. فلدى الفرد ذي الطبع الصلب خوف من الإذعان، لأنه يكافئ فعلاً الخضوع، وبالتالي فهذا يعني خسارة نفسه بشكل كامل. وتصير الصلابة دفاعًا ضد ميل مازوخي تحتاني.

الفرد ذو الطبع الصلب يكون دائمًا ضد أوضاع يجد فيها نفسه معرَّضًا للاستغلال، حيث يمكن استعماله أو تضليله. وتتَّخذ استراتيجياتُه الدفاعية شكل كبت لكل دوافع الخروج في مسعى خارجي، والانفتاح على الآخَرين. لا بل يعني الكبت عنده "أن يحمي ظهره من القيل والقال". ومن هنا تأتي الصلابة عنده. تنجم قدرته على قهر نفسه في وضع للأنا إلى جانب سياق عالي المستوى من ضبط نفسه. وهذا الضبط هو دفاعي أيضًا من خلال حالة تناسلية قوية كذلك، فيستطيع إذّاك النظر إلى الشخصية من الرأس إلى أخمص القدميْن متيحًا اتصالاً جيدًا مع الواقِع. ولكن، لسوء الحظ، فإن غروره في الحقيقة موظّف كوسيلة دفاعية ضد الدوافِع التي تسعى للّذَّة – تنازل عنها – وهذا هو بالضبط الصراع الأساسي لشخصيته.

الحالة الحيوية الطاقية

ثمة حمولة طاقية قوية على نحوٍ يؤخذ بعين الاعتبار عند هذه البنية من الطبع، وفي كل النقاط المحيطية للاتصال مع الوسَط المحيط. فإن هذا يسهِّل القدرة على أن يختبِر الحقيقة قبل أن يتصرَّف.

كبتُه محيطي، ولكونه على هذا النحو، فبإمكان مشاعره الانسياب، ولكن ظهورها محدود.

مناطق توتُّرِه الأساسية هي العضلات الطويلة للجسم. والتشنجات اللاإرادية للعضلات الباسِطَة، والتي تثني، وتتوافق مع بعضها لتؤدي إلى حالة من الصلابَة.

من الواضِح أن ثمَّةَ درجات متعدِّدَة من الصلابَة، فعندما يكون الكبت معتدِلاً، فالشخصية تكون فعَّالةً، وشديدة الحماس.

يوضِّح الرسم التمثيلي في الأسفل هذه الحالَة الحيوية الطاقية:

السمات الجسمانية المُمَيّزَة

إن جسم الفرد ذي الطبع الصلب، تناسقي، ويُظهِر انسجامًا بين أجزائه. فالشخص يشعر بنفسِه متكامِلاً ومتَّصِلاَ. وبالرغم من ذلك فبلإمكان التحقُّق من حضور بعض المظاهر من الاضطرابات والتشوُّهات الموصوفة أعلاه للأنماط الأخرى.

إن سِمَةً مُمَيّزَة هامة هي حيوية الجسم: فالعينان برَّاقتان، ولون الجلد الحَسَن، وخفَّة الإيماءات والحَرَكات.

إذا كانت الصلابَة من الخطورَة بمكان فسيحصَل انخفاض متناسِب مع عدد العناصِر الإيجابية المُشار إليها أعلاه، وبالتالي سيكون التناسق وظرافة الحركات في حالتها الدنيا، وستفقد العينان قليلاً من بريقهما، وسيكتسِب الجلد لونًا شاحبًا أو رماديًا.

المتلازمات النفسية

إن أفراد بنية هذا الطبع هم بشكل عام دنيويون، وجشِعون، وتنافسيون، وعدوانيون. أما الانفعالية فتُختبَر كجانب ضعيف من شخصيتِهم.

هكذا بمقدور شخص كهذا أن يكون عنيدًا، ولكن من الصعوبة بمكان إغضابه. ويأتي هذا العناد من غروره إلى حدٍّ ما، فلديه خوف من الإذعان لئلا يبدو بمظهَر الغبي، ولذلك يظلُّ متكتِّمًا. ومن جانب آخَر، لديه خوف من أن يتسبَّب الخضوع بفقدانه لحريته.

تمَّ تبنِّي مصطلَح "الطبع الصلب" في المنهَج الحيوي الطاقي لوصف العامِل المشترَك لشخصيات متنوِّعَة تحت تسميات مختلِفَة، آخِذين بعين الاعتبار أنه يتضمَّن أنماطًا قضيبية ونرجسية (ذكورية) – يكون فيها العنصر المركزي هو القدرة الانتصابية – والنمط الفيكتوري للمرأة الهستيرية كما وصَفَها رايش في مؤلَّفِه تحليلات الطبع Character Analyses، حيث تستخدِم الجنس كدفاع ضد الجنسانية. أما الطبع القهري (الإلزامي) المعروف سابِقًا أيضًا بشكل جيد، فإنه يشكِّل حيّزًا كبيرًا من هذه الفئة الواسِعَة.

إن صلابة هذا الطبع قوية إلى الحد الأقصى، ويُعثَر عليها أيضًا في البُنَى الفصامية حيث نعثر على حالة معتادة من التصلُّب في بنيانِه الطاقي، وهو يشبِه الجليد مع طبيعته نفسها سريعة العطَب. إلا أن الفرد ذي الطبع الصلب يواجِه بشكل عام، وسطَه المحيط بشكلٍ ناجحٍ جدًا.

عوامل الأسباب المرضية وتاريخها

التاريخ الذي يمنح لهذا الشخص قواعِد هذا النمَط من البنية هام بالمعنى في عدَم توفُّر الظروف المُسَبِّبَة له بالصدَمَات النفسية بشكلٍ عنيف، والتي تؤدي إلى مجال من الوضعيات الدفاعية الأكثَر تعقيدًا.

التجربة البارزة لهذه الحالة هي تجربة العذاب في السعيِ للرضا الجنسي، وبشكل رئيسي على المستوى التناسلي. ويحصَل هذا العذاب من خلال منعِه من الاستمناء الطفولي، وأيضًا في علاقَتِه مع الوالِد من الجنس الآخَر.

إنَّ رفض مساعيه للذَّة الشهوانية والجنسية، تُعتبَر عِنْدَ الطفل كخيانة لتوقه للحب. فاللذة الجنسية، والجنسانية، والحب هي مصطلحات مترادِفَة في عقليته الطفولية.

بسبب النمو الأنوي القوي لهذا الشخص، فالطبع الصلب لا يتخلَّى عن وعيه الأنوي. ووفقًا لما هو متصوَّر من خلال الرسم التمثيلي، فالقلب ليس معزولاً عن المحيط. والشخص الصلب لا يتفاعل مع القلب، وإنما ضمن تقييدات، وتحت هيمنة الأنا. ومن الممكن أن تكون الحالَة المرغوبة هي التغلُّب على الهيمنة وإفساح المجال للقلب لكي يتولَّى قيادة الحياة.

بما أن الظهور المرِح للحب كرغبة لحميمية جسمانية ولذة جنسية تُجابَه برفض مُعلَن من قِبَل الوالدين، فالطبع الصلب يتحرَّك بشكل غير مباشر، وضمن حدود حمايته للحصول على هذه الغاية. وهو لا يلجأ للمناورة الأساسية التي يتَّصِف بها الطبع المعتلّ نفسيًا، فالمناورات هنا تهدف للتقرُّب.

تكمن أهمية غروره في واقع ارتباط الشخص بالشعور بالحب. ورفض حبه الجنسي هو طعنة لغروره، وبالطريقة نفسها فإن رفض حبه يهين غروره.

أخيرًا وليس آخرًا، أحب أن أضيف تعليقًا. فأنا لم أناقِش علاج هذه المشاكل لأن المعالِجين لا يقومون بعلاج الطبع، وإنما الأشخاص. فالعلاج يتركَّز في الشخص، وفي علاقاته الحالية: مع الجسم، ومع الأرض حيث يدوس، ومع الأفراد الذين يلتزمون مع المعالِج. تكوِّن هذه العناصر الخط الأول لاهتمامات المقارَبَة العلاجية. إلا أنها تتحدَّد في العُمق معرفة طبع ذلك الشخص بشكل خاص، دون أن يكون بالإمكان فهم الشخص وإشكاليته. إن معالجًا متدرِّبًا وحاذقًا بإمكانه التحرك بسهولة من الوراء إلى الأمام دون فقدان الرؤية لا لهذا ولا لذاك.

تراتبية أنماط الطبع وإعلان حقوق كل منهم

تحدِّد بنية الطبع الكيفية التي تدفع بالشخص إلى حاجاته للحب، وبحثه عن الحميمية، والتقرُّب، ومسعاه للذَّة. ووفقًا لهذا المنظور تشكِّل مختلف أنماط الطبع طيفًا أو تراتبية حيث نضع في الطرف الأقصى الحالة الفصامية والتي هي هروب من الحميمية، والمُخالَطَة لكونهما يهدِّدانه بقصوى، وفي الجانب الآخَر حيث الصحة الانفعالية تسود مكبوتات الدوافع للخروج بشكل معلَن في سعيٍ للحب والمخالَطَة والحميمية. تندرِج الأنماط المتنوِّعَة للطبع في هذه التراتبية، وفقًا لدرجة الحميمية والمخالَطَة التي تسمح بها. سوف أستخدِم ترتيبًا موازيًا للتوظيف في تقديم أنماط الطبع هذه.

يتجنَّب الفرد ذو الطبع الفصامي التقرُّب الحميم. ويستطيع الفرد ذو الطبع الفموي الدخول في علاقات حميمة فقط على أساس حاجته للشعور بالحرارة الإنسانية والدعم أو بعبارة أخرى، على أساس قواعِد طفولية.

يتوصَّل الفرد ذو الطبع المعتل نفسيًا للدخول فقط في علاقة مع الذين هم بحاجة إليه. في حين إذا كان أحد المتعلِّين نفسيًا هامًا ومُحتازًا على وضع من السيطرة في علاقاته، فبوسعِه أن يسمَح بدرجة محدودة من الحميمية.

أما الفرد ذو الطبع المازوخي فهو قادر بشكل مدهِش على ترسيخ علاقة حميمة على أساس موقفه المذعِن. ومن البديهي أنه يمكن فقط لعلاقة كهذه أن تُرَى باعتبارها سطحية، لكنها أكثر حميمية من أية علاقة أخرى مستقرَّة من خلال الأنماط الثلاثة السابقة. إن قلق الفرد ذي الطبع المازوخي وهو يؤكِّد أي شعور سلبي أو ينادي بحريته سيَتَسبَّب بفقدان أية علاقة.

في حين يرسِّخ الفرد ذو الطبع الصلب علاقات حميمية بالشكل المعقول لأنه يُبقي نفسه حذرًا، على الرغم من التقرُّب ظاهريًا، والالتزام مع الأشخاص الأخرى.

تمثِّل كل بنية طبع صراعًا متلازِمًا لأنها تملك في شخصيتها في الوقت نفسه، الحاجة للحميمية، والتقرُّب، والتعبير الذاتي، والخوف من أن تكون هذه الحاجات استئثارية بشكلٍ متبادَل. فبنية الطبع هي أفضل تدبير يوفِّر للشخص الشروط ليفرض نفسَه في بداية وضعه الوجودي. ولسوء الحظ، يبقى الشخص مقيَّدًا في هذا الإطار، وعلى الرغم من أن البيئة تغيِّره عندما يصبِح في مرحلة الرشد. ونحن نلاحظ صراعات كهذه عن كثب، أيضًا وانطلاقًا من هذا التحليل، وكما جاء معنا فإن كل بنية طبع تصبِحُ بدورِها دفاعًا ضد الوضعية التي تقع تحتها مباشرة في تراتبية أنماط الطبع.

الفصامي: إذا أردتُ التعبير عن حاجتي في أن أكون قريبًا من أحدهم، فوجودي يدخل في خطر. وبعَكْس مصطلحات العلاقة، فسيكون التعبير هو التالي: "فقط أستطيع الوجود إذا لم تكن لدي حاجة للحميمية". وبالتالي، فعلى الشخص الفصامي البقاء في وضع انعزالي.

الفموي: من الممكن للصراع أن يتمَّ التعبير عنه على النحو التالي: "لكي أكونَ مستقلاً، فعليَّ التنازل عن كل حاجة للدعم والحرارة الإنسانيين". ومع ذلك، يُلزِمُ هذا التوظيف الشخص على الاستمرار في حالة الاستقلال، فيعاني نوعًا من التغيير إلى: "أستطيع التعبير عن حاجاتي على قدر ما لم أكن مستقلاً". وإذا ما تخلَّى هذا الشخص عن حاجته للحب والتقرُّب، فسيقَع في الفصامية، والتي هي أيضًا أكثر تضادًا مع الحياة.

المعتل نفسيًا: يكمن الصراع في هذه البنية من الطبع بين قطبي الاستقلالية أو الذاتية من جهة، والحميمية من جهة أخرى. ومن الممكن أن يتم التعبير بالطريقة التالية: "أستطيع التقرُّب منك بقدر ما تتيح لي السيطَرَة عليك أو استعمالَك". وهذا ليس مسموحًا بالقدر الذي يشمل الاستسلامَ الكلِّي لمشاعرِه الخاصة، ومن جهة أخرى، لا يستطيع المعتلُّ نفسيًا الاستسلام إلى جانب حاجته في التقرّب، على نحو ما يفعله الفصامي، ولا حتى المجازفة في أن يكون مستقلاً على طريقة الفموي. فالطفل محتبَس في داخل هذه الحلَقَة المفرغَة، ومُجبَر على عكس الأدوار. وفي المخالطات اللاحِقَة يصير إلى الطرَف المُهيْمِن أو الذي يغوي (كما كان أحد والديه)، وفي حال اتصال صريح جدًا مع شخص آخَر، يمكن رؤيته وهو ينخفِض إلى حالَة الفموي. إذن فبالإمكان إبقاء السيطرة على الآخَر أن يتيح نوعًا ما من الحميمية. وبوسعِنا القول على النحو التالي: "بإمكانك البقاء إلى جانبي لطالما تنظر إليَّ من أسفَل إلى أعلى". فمبدأ المعتل نفسيًا أنه ينظر بطريقة معكوسة: "بوسعك البقاء قريبًا مني" عوضًا عن: "أنا بحاجة للبقاء بالقرب منك".

المازوخي: صراعه في هذه الحالَة هو الدخول في الحب، والتقرُّب، والحرية. وبعبارات قليلة: "إذا كنتُ حرًا، فإنك لن تحبَّني". يقول المازوخي عند الصراع: "سوف أكون الصبي الصغير ذو السلوك الحَسَن وبالمقابل سوف تحبُّني".

الصلب: الفرد ذو الطبع الصلب هو حر نسبيًا، لأنه يحمي حريته بشكل دائم من التهجُّمات، وتشتمل حمايته في عَدَم ترك مشاعِره تهيمن على العقل. من الممكن لصراعه أن يوصَف في المصطلَحَات التالية: "بوسعي أن أكون حرًا إذا لم أفقد رأسي، ولم أستسلِم كليًا للحب". والاستسلام بالنسبة لشخص كهذا هو نفس الشيء الذي يعنيه الإذعان، فالخضوع بدوره ينزِله إلى مستوى مازوخيته. وبالتالي، فإن رغباته والحب هي دائمًا في حالة ردع.

بوسعِنا تبسيط هذا التوظيف من أنماط بُنَى الطبع إلى أكثر من ذلك، مبرزين صراعاتها على النحو التالي:

-       الفصامي: الوجود X الحاجات

-       الفموي: الحاجات X الاستقلال

-       المعتل نفسيًا: الاستقلال X الحميمية

-       المازوخي: التقرّب X الحرية

-       الصلب: الحرية X الإذعان للحب

إن حل أي من هذه الصراعات يعني زوال التضاد بين المجموعتين من القِيَم. فالشخص الفصامي يكتشِف أن وجودَه وامتلاك حاجاته ليسا استثنائييْن بشكل متبادل، لأن بوسعه امتلاك المقدِّمتين المنطقيّتيْن. أما الشخص ذو الطبع الفموي فيكتشِف بأنه ممكن الشعور بالحاجات، وفي الوقت نفسِه يكون مستقلاً (أي الوقوف على قدميْه)، وهكذا دواليك.

إن النمو والتطوُّر الشخصيّيْن هما مدخلان للطفل الذي يحوز من خلالِهما أكثر فأكثر على حقوقه الإنسانية. وهذه هي: حق الوجود أو بعبارة أخرى أن يكون في العالَم ككائن حي فرد. وهذا الحق يُعَاش بالشكل الطبيعي خلال شهوره الأولى من الحياة. وإذا لم يترسّخ هذا الحق في هذه المرحلة، فإنه يخلق من خلال فشله استعدادًا مُسبقًا لبنية الفصامي. ومع ذلك، فكل مرة يكون هذا الحق مهددًا على نحوٍ جدِّي إلى الحدِّ الذي لا يملك الشخص تيقُّنًا أكبر لحقِّه، وبالتالي ينشأ ميل فصامي.

ينجم الحق في الشعور بالأمان ضمن الحاجات الخاصة عن الدعم والينبوع الغذائي للأم أثناء السنوات الأولى للحياة. إن انعدام الشعور بالأمان الأساسي عند هذا المستوى يحدِّد بنية الفموي.

الحق في أن يكون ذاتيًا، ومستقلاً، أو بعبارة أخرى، ألا يكون خاضعًا لحاجات الآخَرين. فهذا هو حق ضائع أو أنه لا يتوصل لترسيخه عندما يكون الوالِد من الجنس الآخَر مُغوٍ. فالخضوع إلى هذا الإغواء يضع الطفل ضمن حدود سلطة هذا الوالِد. ويفنِّد الطفل التهديد بكونه مُغوٍ، وبدوره فهذا التهديد هو الذي يمارِس السلطة على الطفل. وبشكل عام، تؤدي هذه الحالَة إلى بنية طبع المعتل نفسيًا.

الحق بأن يكون مستقلاً يكمن في أن يستقر الطفل من خلال إثبات الذات والمعارَضَة للوالد أو الأم. وإذا كانت هذه الميول مجهَضة فسيُنمّي الطفل شخصية مازوخية. يبدأ إثبات الذات بشكله الطبيعي عند الشهور الثمانية عشرة الأولى من عمره والتي يتعلَّم الطفل فيها أن يقول: "لا" مكملاً نموَّه في العام التالي. تَتزامن هذه المرحلَة مع التربية لعادات النظافة والمُشكِلَة الناتِجَة عن تدريب إجباري تشترِك مع مشكلة تأكيد الذات، والحق بالمعارضة.

لديه حق بأن يمتلِكَ رغبات، وأن يقوم بمجاهدات في سعيٍ لإشباعِها مباشَرةً، وعَلانيَةً. ولهذا الحق مُرَكَّب أنوي هائل، باعتباره آخِر الحقوق الطبيعية التي يتعيَّن عليه اكتسابها. كما أربط هذا الحق بالنسبة إلى انبعاثِه، ونموِّه، تقريبًا في الفترة ما بين الثالِثَة والست سنوات من عمرِه. ويكون مرتبِطًا بقوة بمشاعِره الجنسية الأولى.

عندما لا تكون هذه الحقوق الأساسية، والجَوْهَريّة مترسِّخَةً بشكل مناسِب، فما يحصل هو تثبيت على العمر الذي هو فيه، وعلى الحالة المُسَبِّبَة لاحتباس نمو يُفترَض بأن يكون ناجِحًا بالشكل الجيد.

بما أن لدى الجميع مستوى ما من التثبيت على كل واحدة من هذه المَرَاحِل أو الفَتَرَات، فإن كل صراعِ من الصراعات التي سوف يعاني منها سيكون بحاجةٍ إلى استعداد مُسبَق لها. وحاليًا، لا زلتُ أجهَل فيما إذا كان هناك ثمَّة نظام من أجل العمل على تحقيق طريقة علاجية، ويبدو أن أفضل طريقة عمل قد تكمن في مرافقة المريض على قدر ما يُواجِه كل واحدةٍ من معضلات حياتِه. وعندما يتم إنجاز ذلك بالطريقة السليمَة، فإن المريض ينهي علاجَه مع الوعي بأن لديْه الحق في أن يكون ذاته نفسها، وبأن يكون في العالَم، ومع حاجات، واستقلالية، وحر. ولكن بشكل "ودِّي"، و"محبٍّ"، ومُلتَزِم.

ترجمة: نبيل سلامة

*** *** ***


 

horizontal rule

٭ الفصل الخامس من كتاب العلم الحيوي الطاقي، ألكسندر لوون، ترجمة نبيل سلامة. [قيد الطباعة]

[1]  البارانويا في تشخيص الطب النفسي هي جنون الريبة، أو ما يُدعَى بالفصام الزوري الذي يُعرَف أيضًا بالبارانويا وهو على نوعين واحد يُدعَى جنون الاضطهاد وهو كبرياء منطوية نحو الداخل وعدوانية مسقَطَة نحو الخارج، والآخَر ويُدعَى بجنون العظمة وهو ما يسميه البعض بالكبرياء الذهاني. (المترجم)

[2]  هناك سياق لنمو الليبيدو عند الطفل وفقًا لفرويد وهو يبدأ بالمرحلة الفموية ثم الشرجية ثم القضيبية وأخيرًا التناسلية. (المترجِم)

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود