الصفحة التالية                  الصفحة السابقة

قلق السقوط*

 

ألكسندر لوِون

 

الخوف من الأماكن المرتفعة

إن الخوف من السقوط مرتبط بشكل عام بالخوف من الأماكن المرتفعة، وتشعر أغلبية الناس بانفعالات كهذه حينما تكون القدَم على حافة هضبة مرتفعة. وبدون أن تكون أقدامهم مسمَّرة على الأرض، وعدم وجود خطر حقيقي بوقوعهم، فإن هؤلاء الأشخاص يشعرون بالدوار، وفقدان التوازن. إن قلق السقوط هو تجربة إنسانية حصرًا لأن كل الحيوانات ذوات الأربعة قوائم، تشعر بالأمان كثيرًا من خلال حوافرها في ظروف مشابهة للإنسان. ويبلغ هذا القلق لدى بعض الأشخاص شدَّةً كهذه أثناء قيادتهم لسياراتهم على جسر يصل إلى التسبب بإحساس الدوار نفسه، وبالتالي، يتناول الأمر حالةً مَرَضيَّة بشكلٍ واضِح.

ثمّة أفراد يبدَوْن متحرِّرين بشكلٍ غريب من هذا القَلَق. فقد لاحظتُ الأشخاص الذين يعملون على سقَّالات، وهم يتحركون بكل سهولة على سطوح ضيِّقَة على ارتفاعٍ كبير فوق ضوضاء المدينة. ولم أستطِع تخيُّل نفسي هناك في الأعلى لأن قلقي سوف يكون مفرِطًا في حدَّتِه. فمنذ سنواتٍ عديدة كنتُ أشعر بالخوف من الأماكن المرتفعة. وأتذكَّر نفسي أنني عندما كنتُ في الثامنة من عمري، قد تعلَّقتُ لأبقى على كتفيَّ والدي كي أرى استعراضًا، فأحسَسْتُ بنفسي مذعورًا. وأيضًا كنتُ أخاف في هذه المرحلة من التزلُّق حينما كان أبي يرغب في أخذي إلى الحديقة. مؤخرًا، تغلَّبتُ على هذا الخوف في مرحلةٍ كنتُ أعمَل فيها ضمن حديقةٍ صغيرة للتسلية بركوبي كل يوم على إحدى العَرَبات الصغيرة. وعلى مرِّ السنين، فإن خوفي من الأماكن المرتفعة أخذ يتضاءل تدريجيًا، السبب الذي أوعزُه إلى العمل الذي قمتُ به على ساقيَّ بهدف شعورهما أكثر بالأمان، وبالاتصال مع الأرض. وهكذا، فبوسعي الآن العمل على سُلّم عالٍ جدًا أو النظَر إلى الأسفل، وأنا في مكان مرتفع دون الشعور بقَلَق كبير.

ثمة سبَبَيْن لأولئك الذين يُظهِرون الإحساسَ بالأمان، ولا يشعرون بقلق السقوط. كالهنود الأميركيين. والبعض هم دون شك ممسوكون بالأرض جيدًا من خلال أقدامهم، كالذين يعملون على التحام الفولاذ الذي يستعملونه في الدرجة الأولى لأبنية ذات ارتفاع عالٍ. يُنكِر آخرون هذا الخوف بشكل لاواعٍ. ففي كتاب الجسد المُخان روَيتُ حالةَ فتىً شيزوفرينيًا (مصاب بمرض انفصام الشخصية) كانت ساقاه متوترتين، وصلبتين إلى حد أقصى مع أقل قدرٍ مُمْكِن من الأحاسيس. وكان يعاني كآبةً حادَّة مصحوبةً بإحساسٍ أنه "لم يكن يحدث له شيء البته"، أي شيء ذو معنى ومؤثِّر. وعلى الرغم من كل هذا فلم يكن يشعر بخوفٍ من السقوط.

كان بيل Bill غاويًا لتسلّق الجبال، ومن أفضلِهم على حدِّ تعبيره. فقد قام بتسلُّقاتٍ كثيرة في مناطق صخرية مرتفِعَة، ووعِرَة، وبدون أي خوفٍ أو تردُّد. ولم يكن لديه أيُّ خوف من الأماكن المرتفعة أو السقوط واعيًا. ولم يكن لديه خوف لأن أحد جوانب شخصيته لم يكن لديه أدنى أهمية إن سقط. روى حادثًا ذات مرة حيث كان يتسلَّق وحيدًا، وفَقَدَ توازن قدمِه. ولبضعة لحظات فقد ظلَّ معلَّقًا، متمسِّكًا بيديه بنتوء حاد. وفي الحين الذي كان يبحث فيه عن دعمٍ لقدمِه، توقَّف عقلُه عن العمل. وتساءل: "ما الذي سوف يحصل إذا ما وقعتُ؟! لكنني لم أشعر بأدنى رعب".

لم يكن بيل Bill يشعر بالخوف لكون تواصلِه مع مشاعرِه كلِّها كان مجزَّأ، وكان هذا أيضًا السبب في أنه لم يكن يحصَل له ثمة شيء ذي أهميةٍ انفعاليًا في حياتِه. ومع ذلك، ففي الوقت نفسِه كان يبحث يائسًا عن أمرٍ ما يفتح له الأبواب لكي يخرج من قبضة تلك الإرادة الحديدية اللاشخصية التي كانت تحتفِظُ به كما لو أنه في شرنقة. فقد كان يريد أمرًا ما يبلغ قلبَه، ولكن توجَّب عليه أولاً تدمير تلك الشرنقة التي تحيط به. وكان يشعر بإغراءات قوية في هذا الاتجاه: والغريب في الأمر أنه لوحظ لديه دوافع لكي يلمس خطوط كهربائية عالية التوتر، وأيضًا الوقوف وجهًا لوجه أمام سيارات عالية السرعة. وقال إنه بودِّه أن يقفِزَ في هاوية لو كان بمقدوره فعل ذلك بأمان. فقد كان يريد السقوط مثله مثل Humpty Dumpty، على نحوٍ تتحطَّم فيه قوقعتُه، وكان يشعر بخوف، ولكن على أن هذا بالنسبةِ له، سوف يمثِّل نهايةً لهذه القَوْقَعَة.

كان بيل Bill غاويًا لتسلُّق الجبال مع كل المخاطِر التي يقتضيها قيامُه بذلك. بدت أمامَه فرصتان فقط: أن يتعلَّق أو يقفز. ولكن أن يقفز، فكان هذا يعني بالنسبة له الموت، وهو أمر لم يكن بيل Bill مهيأ له بعد. في حين كان التعلُّق يعني البقاء معلُّقًا في الهواء أي مُوَسوَسًا hung up ولم يحصَل له شيء البته.

التقيتُ فتاةً منذ مدةٍ قصيرةٍ قالَت لي إنها لا تملُكُ هدفًا على الإطلاق، ولا أي قلق من السقوط عندما كانت بنتًا صغيرة، ولكن لاحِقًا، انبعثَ هذا الإحساسُ في هيئةٍ من الذُّعر الصافي. فقد أصبحَ لديها تخيُّلات مرعِبَة من السقوط. وكان هذا التغيُّر قد تزامن مع تحوُّلٍ في حياتِها. فهي كانت قد فسخَت زواجًا رديئًا، وأخذَت تعمل كثيرًا لكي تستطيع وضع قدميها على الأرض، وبقدر ما كان ذلك ضمنَ مصطلحات حياتِها فكذلك كان الأمر في علاجِها. لم تكن تستطيع فهم لماذا كان عليها اختبار الشعور بالخوف من السقوط، فسألتني عن السبب. شرحتُ لها بأنها قد بدأت بـ"القفز"، وبأنها لم تكن متعلِّقَة ولا معلَّقة hang on، على نحوٍ يكون الخوف المقموع من السقوط قد اِنبعثَ بشدَّةٍ مُرعِبَة.

الخوف من السقوط هو فترة تدرُّب وسيطَة بين البقاء معلَّقًا، وبين وضع القدَميْن ثابتَتَيْن على الأرض. يزول الخوف من السقوط في المرحلة الأخيرة من فترة التدرُّب هذه. أولاً، نعثر على الخوف من السقوط مخفيًّا وَسَطَ وهمٍ. فإذا قبِلنا تحليلاً كهذا، فإن كلَّ مريضٍ يشرع بنهجِه في إهمال هذه الأوهام والبداية بالرجوع إلى المواجهَة مع الواقع فسوف يمر من خلال قلق السقوط وذلك في شدَّات متفاوتة. ينطبِق الأمر نفسُه على قلَق الاختناق الذي يظهر فقط عندما يكون دافِع الخروج في السعي لأمر ما مشنوقًا أو مخنوقًا. وبقدر ما يُتاح لهذا الدافِع أن يظهَر فقط في الحدود المتاخِمَة المفروضَة من خلال بنية الطبع، فليس ثمة أدنى قلق، إنما التجاوز لهذه الحدود هو ما يعطي الأصل للقلق.

لاحظتُ النقاشَ العام حولَ القلَق الذي تم في الفصل الرابع أن الدرجة العامَّة لقلق أحدهم مكافئٌ لدرجة قلق الاختناق لديه، وأيضًا مع كمية معادِلَة لقلَق السقوط، والعكس بالعكس. يتأسَّس هذا التحليل المنطقي في واقع أن تدفُّق الاستثارة نحوَ كل النقاط المحيطية أو أعضاء الجسم هي نفسها تقريبًا.

تحقَّقنا في دراستِنا حول البنى المتنوِّعَة للطبع بأن كل نمط طبع يتعلَّق بكيفية ما من قلق السقوط، على الرغم من أن هذا المصطلح لم يكن قد تم استخدامُه بعد. فبنية الطبع الفصامي كانت تمثِّل "تماشيًا" مع خوف معين بأن الانطلاق يعني التشظي. وإذا كان المصطلَح "تشظِّي" مفهومًا حرفيًا، فيقتضي مستوى بنية فصامي الطبع، بأن فعل السقوط عنده يقود إلى التشظِّي، أو إلى انمحاق الفرد. وسيكون بالتالي، توقُّع قلق شديد من السقوط ضمن بنية الطبع هذه. وهذا ما يحصل عندما يأتي هذا القلق عَرَضيًا إلى السطح في الأحلام.

قال لي مريضٌ فصامي: "اعتدتُ على الحلم بالسقوط، وكان هذا الحلم سيئًا جدًا. وحلمتُ بأنني حيث أنوي البقاء واقفًا كانت الأرض تلين تحت قدميَّ. فغيَّرتُ المكان، وحتى المكان الآخَر كان يلين أيضًا. صعدتُ سلالِم، وكانت هذه أيضًا تنهار. وهكذا، قرَّرتُ أن أبحث عن والدي وأطلُبَ منه أن يضمَّني إلى حضنه، لأنني كنتُ أعرِف بأنه ليس بوسعِه أن يتركَني أسقط. لكنني بقيتُ متردِّدًا فيما بعد. وكان الأمر مُرعِبًا بشكل فظيع".

نستطيع بسهولةٍ أن نفهَم لماذا كان هذا الحلم مرعبًا إلى هذا الحد. فالأشخاص يعايِشون الذعرَ نفسَه عندما تبدأ الأرض بفقدانِ ثباتِها عند حصول زلزال ما. فالإحساس بعدَم وجود أرضية صلبة تدمِّر توجُّهَنا ككائنات إنسانية. ويشعر الشخص بأنه "ضائع في الفضاء"، وعلى أقل تقدير إذا لم يختبِر تدريبًا صارِمًا لمواجهة تجارب كهذه، فهذه سوف تكون مريعة، وتنهار الحواس، ويصبِح تكاملُ الشخصية مهدَّدًا بشكلٍ مؤقَّت.

يتعلَّق الخوف من السقوط أيضًا في أنماط الطبع الأخرى بنمطٍ من هذه البنى. فبالنسبة للفرد ذي الطبع الفموي يأتي الخوف من السقوط متبوعًا بقلقٍ آخَر، ألا وهو البقاء وحيدًا، وفي الخلف. فإذا ما انطلقَت سيقانُهم، يصبِح كطفلٍ صغير يشعر فجأة لماذا لا تتحمَّلُه سيقانُه أكثر ويكتشِف فورًا بأن والديه قد خرجا سابقًا من هناك، ولم يكن ثمة أحَد يحضنُه.

بالنسبة للفرد ذي الطبع المعتلِّ نفسيًا، فالخوف من السقوط هو الخوف من الفشَل. لطالما أنه واقفٌ على قدميه فهو يسيطِر على العالَم من حولِه. ولكن يكمنُ في الطبقة التحتية لوعيِه الفشَل الذي يجعله يستسلِم لاحتمالٍ بأن يصيرَ غَرَضًا للاستغلال.

بالنسبة للطبع المازوخي، فالسقوط يعني أن القسم السفلي (الأرداف) سيتعطَّل عن وظيفتِه، مما يعني ذلك بالنسبة له نهايةَ العالَم، ونهايةَ علاقاته. ثمَّة عنصر شرجي في هذا السلوك أيضًا. فالتغوُّط على سبيل المثال، يجعلُه وسِخًا بأكملِه، الأمر الذي سيضع نهايةً لدوره كصبي صغير طيِّب.

يعني السقوط بالنسبة للفرد ذي الطبع الصلب فقدانَ الغرور. إنه فقدان ماء الوجه كما نعبِّر عن ذلك بلغتِنا. على هذا النحو تُبتلَعُ أناه بقسوة. وعندما تكون شخصية الإنسان مرتبِطَة بقوة في الشعور بالاستقلال، والحرية فلن يكون هذا القلق ضعيفًا.

إذن، يمثِّلُ السقوط بالنسبة للجميع وأي مريض تنازلاً أو استسلامًا عن وضعيتِه الدفاعية. لأن هذه الوضعية تتأصَّل، مع ذلك، في الحاجة لآلية في البقاء على قيد الحياة، الأمر الذي يضمن التواصل، وبعض الاستقلالية، وحرية ما، وبالتالي، يؤدِّي التخلِّي عن هذه الوضعية الدفاعية إلى كل القلق الذي كان قد تحدَّدَ تكوُّنُه أصلاً. ومن الممكن أن نطلُبَ إلى مريضٍ المجازفَة بالقِيَام بذلك، ولكن على قدر ما يختلِفُ وضعُه كراشِد عن وضعِه كطفل. ففي مصطلحات واقعية، لن يتشظَّى الفصامي إلى ألف قطعة إذا ما انطلق، ولا حتى سوف يكون موضوعًا للانمحاق إذا ما أكَّد هذا الشخص ذاتَه. وإذا كنا نحن باعتبارِنا معالِجين قد توصلنا لمعالجته على تجاوز قلق مرحلة التدرُّب للانتقال فلسوف يستطيع الإدراك بأن الأرض صلبة، وبأنه يملك القدرة على أن يدوس فوقَها.

إحدى التقنيات التي أستخدمها لهذا الهدَف هو تمرين السقوط.

تمرين السقوط

من الضروري القول في البداية، إن هذا التمرين الذي أعتبِره فعَّالاً جدًا، هو فقط إحدى الإمكانيات التي لا تُحصَى من التحرُّك الجسماني المستخدَم في المنهج الحيوي الطاقي.

أضع غطاءً مطويًا ناعِمًا جدًا، أو فراشًا على الأرض، وأطلب من المريض أن يقِفَ على قَدَمٍ واحدة أمام هذ الغطاء أو الفِراش، حتى إذا ما وقع فذلك يحدُثُ على سطحٍ ناعِم. لم يتأذَّ أحدٌ منذ أن بدأوا القيام به، ولم يحصَل حتى اليوم أيُّ حادث في هذا الصدد. فبينما يبقى الشخص واقفًا أمامي، أحاول تشكيل صورة عن سلوكه، على نحوٍ كأن يوضَع في الفراغ بطريقة توضِّح كيف يقف على قدميه في العالَم. يستلزِم إعداد هذه الصورة حذاقةً في قراءة اللغة الجسمانية، وتصوُّر جيد، فهي تجربة مع عدَّة أنماطٍ للأشخاص. وبشكل عام، أستطيع في هذه اللحظة تكوين فكرة ما عن الشخص، وعن مشاكله وسيرته الحياتية. لكنني عندما لا أتوصَّل للحصول على انطباع واضِح لسلوك الشخص، فاستخدامي لهذا التمرين سوف يهدُفُ لإبراز ماهيةِ المشكلة التي تبقيه مُعلَّقًا ومُوَسوَسًا.

أطلب من الشخص تاليًا تركيزَ كلِّ وزنِه على ساقٍ واحدة فقط وهو يثني ركبتَه بشكل كامِل. فقط تلمس القدَم الأخرى بخفَّة باعتبارِها مساعِدَة في التوازن. والتعليمات بسيطَة جدًا. فعلى الشخص أن يبقى على هذه الوضعية حتى يقع، ولكن لا يجب جعل نفسِه يسقط إراديًا. لأن تركَه ينزل بشكل واعٍ ليس هو السقوط لأن الشخص يسيطِر على هذا النزول. فالسقطة لكي تكون فعَّالة، يجب أن تحتوي على سِمَةٍ لا إرادية. فإذا كان العقل موجَّهًا للحفاظ على هذه الوضعية، فالسقطة سوف تمثِّل تحريرَ الجسم من سيطرتِه الواعية. ذلك أن لدى معظم الأشخاص خوف من فقدان السيطرة على أجسامِهم، وهذه بيِّنَة تستدعي القَلَق.

يذكِّر هذا التمرين بمعنىً ما بـ"الكوان" الزنيَّة[1] التي تواجه فيها الأنا أو الإرادة تحديًا ما، يكون في الوقت نفسِه، وقد تحوَّل إلى أمرٍ غيرِ مؤذٍ. ليس بالإمكان البقاء في تلك الوضعية إلى ما لا نهاية، ومع ذلك، فالشخص مُجبَر على استخدام كل إرادته المتوفِّرَة لديه لكي لا يدع نفسَه يسقط. وفي النهاية فعلى عزم الإرادة أن ينتهي، ولكن ليس بقوة الضغط الإرادية، وإنما من خلال تأثير القوة الأكثر قدرة في الطبيعة، وهي قوَّة الجاذبية في هذه الحال. إن تعلُّم الاستسلام أمام القوى العليا للطبيعة ليس لديه سمةً مدمِّرَة، كما أن إرادتَنا ليست بحاجة للانبعاث بشكل مستمر لمقاومة هذه القوى أيًا كان أصلها، فإن كل مستوى للكبت يمثِّل في الحاضر الاستخدام اللاواعي للإرادة في وضعية مضادَّة لقوى الحياة الطبيعية.

يهدفُ هذا التمرين إلى تعرِيَةِ الوسَاوِس التي تبقي الشخص معلَّقًا، والتي تعطي أصلاً لقلق السقوط. فالتمرين يختبِر مدى اتصال ذلك الشخص مع الواقِع. فعلى سبيل المثال، كانت هناك فتاة واقفة على قدمها أمام الغطاء، ونظرَت إليه، وقالَت: أشعر بأنني على ارتفاع عدة كيلومِترات عن الأرض، وبالنظَر إلى الأسفَل كانَت تشعر كما لو أنها في داخل طائرة. والسقوط من علو كهذا سوف يكون دون أدنى شك أمر مروِّع، وكانت تخاف القيامَ بذلك. في النهاية، وعندما سقطَت، أطلقَت صرخةً عظيمة، وأحسَّت بانفراج كبير، وإحساس بانطلاقة. فالأرض كانت على بُعْد بضعة سنتيمترات فقط. جعلتُها تكرِّر التمرين على الساق الأخرى، ولكنها في هذه المرة لم تعد تشعر بأنها بعيدة جدًا عن الأرض.

تعكس نظرةُ الأشخاص للغطاء نظرتَهم للأشياء التي تختلِف من شخصٍ لآخَر. فثمَّة من يدرِك الغطاء على أنه أرض صخرية، فإذا سقطوا عليه سوف يتمزَّقون عليه. وينظر آخرون إليه على أنه كتلة سائلة سوف يغوصون فيها. وبقدر ما هو السقوط فكذلك الماء يتَّخِذان ضمنيًا معنى جنسيًا سوف نقوم بتفحُّصِه فيما بعد. في حين أن آخَرين يرون وجهين إما الأم أو الأب، وهكذا فبالنسبة لأفراد كهؤلاء، يمثِّل السقوط الاستسلام أو الإذعان للوالدين.

يصير التمرين أكثر فعالية عندما يترك الشخص جسمه يتداعَى على الأرض بينما هو مسنود على ساق واحدة فقط. فمن الضروري، تشجيع الشخص بأن يدعَ صدرَه يهبط ويتنفَّس بطَلاقَة لكي يسمَحَ لمشاعِرِه بالظهور. وألحُّ أيضًا بأن يكرِّر بصوت عالٍ: "سوف أسقط". ذلك أن هذا سيحصل. من البداية، عندما يلفظ كلمات كهذه، فالصوت لن يكون لديه أية صبغة انفعالية، ولكن على قدر ما أن الألَم آخِذٌ بالازدياد، فتصبِحُ السقطة أكثر وضوحًا على أنها موشكة الحدوث، ويصبِح الصوت أكثر ارتفاعًا، وحدَّةً، وممتلئًا بالخوف.

ليس نادرًا تأكيد الشخص بعفوية بأنه "لن يسقط". فقد يكون بإمكانه القول بعزم أحيانًا حتى مع القبضتين مُغلَقتين. ففي هذه اللحظة، تبدأ المعركة بالاحتدام بشكل صريح. أسأل الشخص: "ماذا يمثِّلُ السقوطُ بالنسبة إليك؟" فتكون الإجابة بشكل عام هي "الفشل"، أو: "لن أفشل". فقد كافحَت شابَّة بشكلٍ درامي، وهي تقوم بهذا التمرين أربع مرات، مرتين مع كل ساق، وكانت هذه هي كلماتها:

في المرة الأولى: "لن أسقط"... "سأفشل"... "فشلتُ دائمًا"، وبعد هذا التعليق، سقطَت، وشرعَت في البكاء بعمق.

في المرة الثانية: "لن أسقط"... "لن أفشل"... "دائمًا أفشل. وسأفشل دائمًا"، سقطَت وبكَت من جديد.

في المرة الثالِثَة: "لكنني لا أريد الفشل، لن أكون بحاجة للسقوط. فمن الممكن البقاء واقفة إلى الأبد"... "لن أسقط". ولكن بقدر ما كان الألَم يزداد، كان إدراكها ينمو على نحوٍ أنها موشِكَةٌ على السقوط. "لا أستطيع البقاء واقفة على قدميَّ إلى الأبد. لكنني لا أستطيع" وبعد هذا التعليق سقطَت وشرعَت تبكي.

في المرة الرابعة: "لن أفشل"... "في كل مرة أقوم بالمحاولة، أفشل"... "لن أحاول"... "لكن عليَّ أن أحاول". فبعد أن سقطَت أدركَت أنه كان عليها الانتهاء بالفشل.

فلماذا عليها أن تنتهي على هذا النحو؟ سألتُها عمَّا إذا كانت تحاول البلوغ، فأجابَت: "أن أكون تلك التي ينتظِر الآخَرون مني أن أكون". وهذه المهمّة مستحيلة، مثلما هو الأمر في البقاء واقفًا على قدم إلى الأبد. فإذا ما تم التفكير في المضيِّ قدمًا كهذا النمط من المسعى فالشخص محتَّمٌ عليه الفشل، لأنه ما من أحد يستطيع أن يكون شخصًا سوى نفسه. لا أحد يعطي استمراريةً لمهمةٍ إلى درجة كبيرة، وهي بدون هدف – الأمر الذي يستهلِك الكثير من الطاقة الحيوية – إلا إذا كانَت الأنا (الأنا العليا، في المصطلحات الفرويدية) تقود الشخص في هذا الاتجاه. ولإسقاط طغيان كهذا، والتحرر من لاواقعية الأهداف، والوهم الذي سيجري تجسيده، فعلى الشخص الوصول إلى توعية كبيرة لاستحالة تحقيقها. والتمرين موجَّه لهذا الهدف الذي ينتهي في حدوثه.

كل مريضٍ متورّط في نزاع داخلي، أو بعبارة أخرى صراع عصابي، فذلك لأنه يجاهد في أن يكون على ما ليس هو عليه، فبما أنه مثبَّت بأن والديه يقبلانه بهذا الأسلوب الذي يتبعه. فعندما يبدأ الشخص علاجَه فهو ينتظِر من المعالِج أن يساعدَه على بلوغ هدَفٍ كهذا. ليس ثمة شكوك بأن يكون الشخص بحاجة لإعادة تكوينات جديدة في شخصيته، ولكن يعود اتجاه هذا التغيُّر إلى وعي الذات، وقبول الذات، وليس إلى تحقيق الصورة الوهمية التي أتينا على ذكرها. فالتوجيه منتسِب إلى النظَر على الأرضية التي يقف عليها والواقع الذي هو عليه. ولكن، لطالما يدور الشخص حول هذا الصراع العصابي لإرضاء متطلبات الآخَرين فسوف يظَلُّ موَسوَسًا، ويبقى في حالة معلَّقَة من خلال مشاكل الطفولة. ليس ثمة كيفية لخروجه من هذا الصراع سوى الاستسلام.

على سبيل المثال، تظهَرُ مشكلةُ الصراع العصابي بوضوح من خلال هذه الحالة: أتى جيم Jim إلى جلستِه العلاجية، وهو يروي هذا الحلم: "حلمتُ في الليلَة الماضية بأنني كنتُ أحاول جرَّ نفسي على الأرض بساقيْن ميِّتَتَيْن، وقاسِيَتَيْن بشكلٍ كامِل. توجَّب عليَّ استخدام القسم العلوي من جسمي لكي أستطيع تحريك جسمي". أضاف بعد ذلك: "في الماضي كنتُ أحلم كثيرًا بأنني أطفو في الهواء". كان القسم الأسفَل من جسمِه متوترًا، وصلبًا جدًا. كان قد عانى قصورًا شوكيًا في المنطقة العجزية (القطنية) بسبب مشاكل خطيرة في المناطق السفلى للظهر. وكان حلمه يدلُّ على نحوٍ غير مبهَم عما كانت عليه حالتُه الطاقية.

للحال بعد تذكُّر جيم Jim لحلمِه، علَّق قائلاَ: "اليوم صباحًا، تخيَّلتُ بأن أمي كانت عبارة عن حيَّة من نوع البُواء الذي يلتف حول خصري، وكانت تشدُّ عليه بقوة. وكان رأسها يمسك بقضيبي ويمصُّه. كانت أمي تقول إنني أثناء طفولتي كنتُ لعوبًا، ولطيف المعشَر كثيرًا، وإنها كانت تملأ جسمي كلَّه بالقُبُلات، وخصوصًا قضيبي. بينما أنا أحكي لك هذا أشعرني كما لو أنني مصعوق وضائع، وأتعرَّق".

قام تاليًا بتمرين السقوط الذي أبرز شدَّة صراعِه. قال: "يبدو أنني بدأتُ بالاستسلام، ولكنني لن أسقط. سأتمكَّن من البقاء هكذا إلى الأبَد. فلن أسقط".

كان يقول لنفسِه ذاتِها: "جيم Jim سوف تبقى بقيةَ حياتِكَ متماسِكًا".

قال لي من جديد: "إذا ما سقطتُ فسوف أدخل في حفرة لا قعر لها. هل تعلم أن إحساسَ السقوط هذا، تتصلَّب فيه المعدة، كما أنك لا تستطيع التنفُّس. كان لدي أثناء طفولتي تخيُّلات بالطيَران كعصفور صغير، حتى وصلتُ إلى درجة المحاوَلَة، ولكنني سقطتُ. اقتربَ مني والدايَ وضرَباني بشدَّة لأنني سببت لهم الذعر بفعلَتي هذه".

"توجَّب عليَّ أن أكون قادرًا على إسناد نفسي: وهذه الفكرة قوية جدًا في داخلي. فأنا أغضَبُ من نفسي عندما تنحلُّ قوايَ. أستسلِم بسهولة كبيرة. إنني جبان، وهارِب، وطفل بكَّاء. كانَت أمي تجعلني أشعر بأنني فاشل عندما لا تستطيع السيطرة عليَّ. وكانَت تقول في كل ساعة: "الصعب نقوم به حالاً، أما المستحيل فيحتاج إلى أكثر من ذلك بقليل"".

لم يكن جيم Jim مستعدًا في تلك اللحظة للتخلي عن صراعه الداخلي. فخوفه من السقوط كان عظيمًا. سواءً أنا أو هو فقد كان علينا كلانا قبول اللحظة التي يعيشها، وأن يتابِع العمَل على مشكلتِه. أعطيتُه مِنشفَة أخذ يعصرها بينما كان يقول: "إنها حيَّة. عليَّ أن أمسك بها بحزم أو أنها سوف تمسك بي (وكان يعلم أنه يشير بذلك إلى أمه)".

كان جيم Jim معالِجًا نفسيًا أيضًا، على نحوٍ أنني كنتُ بأدنى حاجة لتقديم تفسيراتٍ لأحلامِه وتخيُّلاتِه، لأنه كان يُدرِك بأن أمّه قامَت بإغوائه، وكان الاستسلام من الممكن أن يعني بالنسبة إليه الغرق في شعوره الجنسي تجاهَها. وإذا كان عليه فعل ذلك حين كان طفلاً، فهذا يعني ابتلاعها له، ليس بالمعنى الحرفي، وإنما على سبيل أنها بفعلها ذلك تُستهلَك في شهوتِها على حِساب أيِّ شعور باستقلالية الابن. جَعَلَ نظام الابن خصرَه في حالةِ انكماش في دفاعِه النفسي. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، جعل مشاعرَه ذاتَ الطبيعة الجنسية مُلغاة. وكان هذا دفاعًا ذي طبيعة النمط المعتلِّ نفسيًا. ولكن لم يكن أمام جيم Jim بديلاً آخَر. وحتى في تلك المرحلَة من العِلاج، لم يكن بمقدورِه المجازَفَة، والخروج من حالتِه. فالأمر يرتِّب على المعالِج أن يكون منفتِحًا على المريض بينما هو يواجِه هذه الصراعات المنظومَة في بنيتِه الداخلية بشكلٍ عميق جدًا.

عاد جيم Jim في جلسةٍ لاحِقَة إلى خوفِه من السقوط. فهو حين دخولِه، قال لي: "أثناء قيادتي للسيارة، أدركتُ أنني أضرب بعقب قدمي بشكل متكرر. فأعطيتُ للحركة بضعة كلمات، وخرجَت مني على هذا النحو: "سوف أقتلكِ"".

بدأنا مجددًا بتمرين السقوط، وقال جيم Jim: "عندما اقترحتَ عليَّ أن أقول، بأنني "سوف أسقط" فالإحساس الذي شعرتُ به هو أنني سأموت. أشعر أن الشيء كما لو أنه صراع بين حياة أو موت. فإذا ما انطلقتُ سأكون ميتًا، وإذا قتلتُ هذه المحاولات فسوف أكون ميتًا أيضًا. فالمنحى الذي يُؤخَذ في داخلي مضِلٌّ جدًا. لا أستطيع احتمال أوضاع متأزِّمَة لوقت طويل، لكنني أستطيع البقاء مُمسِكًا بنفسي إلى الأبد. عندما يستسلِم الجميع، أستمر هناك حتى أحقِّق النجاح أو أتوصَّل إلى فعل ما أريد". وعند قوله ذلك، شدَّ مِعصَمَيْه: "إنها رحلة طويلة، وأظلُّ واقِفًا على قَدَمٍ فقط أمام الآخَر بمجهود كبير. كان الأسلوب الذي تضجرني فيه والدتي إلى أقصى حدٍّ هو طريقتُها في اللجوء إليها لسحقي حتى شعوري وقد صرتُ غبارًا. وأنا أقوم بالشيء نفسِه مع ذاتي، ومع العالَم كلِّه. أجاهِد، وأجاهِد، وأكافِح فيما بعد. إلا أنني أعتقِد بأنني فلان يهرب. فأقول لنفسي ذاتها، إنني لو لم أكن في واقع الأمر هارب كبير فلربما كان بوسعي التوصُّل لفعل الأشياء بشكل أفضل".

بالتالي هذا الصراع هو انتقال لتمرين السقوط الذي قام جيم Jim بتحقيقِه. فهو يقول: "سأسقط. سأفشل. ولكن عليَّ أن أفوز. عليَّ أن أخرج على أحسَن وجه". وبعد أن يفرُضَ الواقِعُ نفسَه، يعلِّق: "إنه لمنطقي خروجي بشكل سيئ كالمعتاد".

مع ذلك، لم تكن لـ جيم Jim الشروط لقبول هذه الحقيقة في الوقت الراهِن. فهو يضرب بقبضتيْه المُغلَقَتيْن، ويقول: "سأقتل نفسي إذا لم أستطِع التحمُّل. ولكن، إذا استطعتُ ذلك، سوف أموت. فلدي خوف من أن أمرض بسرطان الرئة. ولكن بقدر ما تكون محاولتي أكبر في عدم التدخين، بقدر ما أدخِّن أكثر".

سقط جيم Jim أثناء هذا الحوار الذاتي، وبكى. كان هذا التفريغ قليلاً جدًا. فيما بعد، أعاد القِيَامَ بالتمرين. ولكن هذه المرة على الساق الأخرى، واستمر بإخراج مخاوفِه. إن إظهار القلَق على هذا النحو، إلى جانب المشاعِر الحادَّة، هي تقنية علاجية على أعلى درجة ممكنة. وبعد إنجاز تمرين السقوط، تذكَّر جيم Jim مشهدًا من طفولتِه مُزيحًا بذلك النقاب عن أشياء كثيرة.

"لديَّ خوف من أن يصير كل شيء على أفضل ما يُرام فأموت. فأنا أظلُّ على قيد الحياة على حساب مجاهداتي. فإذا ما توقَّفت عن المجاهدة فسأموت. حدث لي تسمُّم في الدم رافقَته حرارة مرتفِعَة حين كنتُ طفلاً، وصرتُ في ذهاب وإياب إلى المشافي لمدة عام تقريبًا. ودخلتُ في غيبوبة عدَّةَ مرَّات. وكان عليَّ القيام بتنقية الدم، وإجراءات نقلِه. وكدتُ أموت. لكنني تعلَّقتُ بالحياة مستخدِمًا كل قوة إرادتي. أدرك ماهية الحياة عندما تكون الحالَة خطيرة. فعندما يجري كل شيء على ما يرام لا أعرف كيف أوجَد".

من منظور هذه التجربة، ليس من الصعوبة بمكان رؤية السبب الذي كان جيم Jim يربط فيه السقوط بالموت. فالفعلان كانا يشملان استسلام إرادتِه. ولكن من الغباء التفكير بأنه توفِّرَت لـ جيم Jim الشروط الكافية للقِيَام باختيارٍ واعٍ لكي يستسلِم لجسمِه، ويثِقَ به. وتأسَّس هذا الخَيَار على استخدام عزم يُنكِر الإرادة المجرَّدَة من الهدَف. فالخوف من الموت، وموت روحه الذي أسلمَه للأم، وموت جسمِه في حال تخلَّت عن توجيهه، يجب اختبار كل ذلك وتحليله بشكل مستفيض. وفي الوقت نفسه، على الشخص أن يتعلَّم كيف يثق بجسمه، ومشاعرِه الجنسية. إن جيم Jim مهيأ بشكل واعٍ لقبول حقيقة جسمِه، وأحاسيسه الجنسية، ولكن واقع الاعتقاد بهذه العناصر سوف يكون متوقفًا على مجموعة من التجارب الجسمانية الجديدة بشكل كامِل، والتي يمكن إتاحتها للمعالِج.

يساعِد التمرين النوعي على تقديم تجارب كهذه. فالاستناد على ساقٍ واحدة فقط، يؤدي إلى ضغط كافٍ على عضلات هذه الساق حتى يجعلَها تصل إلى حالةٍ من التعَب. وفي حالَة الإنهاك، لن تستطيع العضلاتُ الإبقاءَ على توتُّرِها أو انقباضِها. وهكذا فليس للعَضَلات إلا أن تستسلِم، وينبعِث اهتزاز قوي تدريجيًا. ويثير هذا الاهتزاز إحساسات الساق على نحوٍ لا يعود يظهَر فيه هذا العضو بعد كـ "ساق ميتة، وقاسية بشكلٍ كامِل". وفي الوقت نفسِه، يصبِح التنفُّس أكثَر عمقًا. وسيكون بمقدور الاهتزازات عبور الجسم، والشخص لن يسقط، ويتفاجأ جيم Jim عند تحقُّقِه باستمرار ساقِه تحمُّل وزنِه. هذا، وعلى الرغم من السيطرَة الواعِيَة على جسمِه بكونه بدأ بالانخفاض. فأخيرًا، وعندما تنتهي الساق للاستسلام، ويسقط الشخص، فثمة انفراج هائل عندما نعلم أننا لم نُخلَق من حديد. وأن الجسم سوف يسقط، عندما لا يستطيع دعم وزنِه أكثَر من ذلك. وفي النهاية، مع إدراكٍ لا مفرَّ منه، من أن السقوط ليس هو النهاية، وليس ثمَّة دمار للشخص، وبمقدور الجسم الوقوف على قدميه مجددًا.

تُستحَقُّ الإشارة إلى الرمزية الكامنة في تمرين السقوط هذا. فالأرض هي رمز للأم. فالأم والأرض–الأم هما ينبوعا قوَّتِنا. ففي إحدى المعارك التي لا تُحصَى، والتي صارع فيها هرقل، هي تلك التي تغلَّب فيها على أنثيوس. ففي المعركة، ينتصِر هرقل على عدوِّه عدَّة مرات، ولكن خلافًا لفوزِه في قتالِه ففي النهاية كاد يخسَر. وقد كان يزداد تعبًا في حين أن أنثيوس كان يعاوِد قوّتَه أكثر بعد كل سقطة، وكل اتصال بالأرض. كان ذلك، عندما أدرك هرقل أن أنثيوس كان ابنًا للأرض–الأم، وفي كل مرة يسقط فيها، كان يُعاوِد قوَّتَه، ويعاوِد نشاطَه، وينتهي ليمتلِكَ قدرةً أكبَر. وبالتالي، أمسكَ هرقل بأنثيوس من ذراعَيْه، وتركَه معلَّقًا في الهواء، وظلَّ مُمْسِكًا به على هذا النحو حتى مات.

نحن كلنا أبناء الأرض–الأم. والأمهات هون اللواتي يتوجَّب عليهنَّ أن يشكِّلنَ ينبوعًا من القوة بالنسبة لنا. لسوء الحظ، كان الأمر على عكس ذلك في حالة جيم Jim، فبوسع الأم أن تكون مصدر تهديد بالنسبة للطفل. وبالتالي، فهي أحَدٌ مع من يواجِه مقاوَمَة أكبَر من التي يرتضيها آخر. وبناءً عليه، ليس ممكنًا "ترك نفسَه يسقط" دون شعوره بقلَق عميق. وتؤدي ديمومة "الوسواس" إلى وضع مهدِّد بخطورة بالنسبة لوجود الفرد بسبب السياقات الوظيفية الطاقية للجسم، في حين سيكون بمقدور السقوط أن يكون استدعاءً للخوف من الموت، على الرغم من عَدَم تمثيلِه لأي خَطَرٍ حقيقي. يُحدِث تحقيق تمرين السقوط صراعًا مع الأم يمكن في هذه الظروف تحليله، ومواجهته، مفسِحًا للشخص المجال للاستسلام والسقوط مع إحساسٍ بالأمان. وهنا تكون الأرض تحت تصرُّفِنا.

استلمتُ مؤخرًا رسالةً من رجل كنتُ قد أوصيتُ به لزميل هو الدكتور Fred Sypher من تورنتو، لعلاجِه من ألَم شديد في المنطقة السفلى للظهر الذي كان ينتقِل إلى الساق اليمنى. "إحدى الجوانِب الأكثر أهمية في علاجي مع الدكتور Sypher – كتب – هو الاتصال بالأرض. فقد صارَت الأرض صديقة، وعنصرًا صلبًا للاستناد الذي كان دائمًا هناك، الأمر الذي يجنِّبني التأذِّي بشكلٍ جدِّي. ولو كان ذلك مؤلِمًا، فلن يكون بمقدوري السقوط إذا ما كنت أصلاً على الأرض، وبإمكاني مواجهة سلسلةٍ من الأشياء التي من الممكن أن تكون مواجهتُها صعبةً فيما لو اعتقدتُ بأنني سوف أسقط. لقد جعلَني الاتصال بالأرض أتمكَّن من تحرير جزء لا بأس به من الذعر الذي يوجد في داخلي".

كنا نعمَل على النهوض في حالاتٍ كثيرة بعد تمرين السقوط. كما أصغيتُ لكثير من المرضى يعبِّرون عن الخوف فيما بعد السقوط بألا يقدروا على النهوض. من الواضِح أن نعرِف بأنه مع قوة الإرادة نستطيع أن نرتكز بشكل عمودي من جديد، ولكن ما هم ليسوا على يقين منه هو أنهم سيتمكنون من النهوض مجددًا.

إن النهوض كما النمو، فإن عشبةً على سبيل المثال، ترتفِع من الأرض، ولكنها لا ترتكز عموديًا ببساطَة. فالقوى تأتي من الأسفل في سياق الارتفاع، وفي الارتكاز عموديًا تأتي القوى من الأعلى. والمثال التقليدي للصعود هو ذلك الصاروخ الذي يصعَد بشكل متناسِب مع قوة الطاقة التي يتمُّ تفريغها نحوَ الأسفَل. وبشكل عام، ينتمي المشي إلى هذا النمَط من الحركَة على قدر ما أن كل خطوة يقوم بها الفرد إلى الأمام تتطلَّب أن نضغط على الأرض التي تعيد لنا هذا الضغط، بدفعنا إلى الأمام. فالمبدأ الفيزيقي المتضمَّن هنا هو الفعل ورد الفعل.

في تمرين النهوض، يكون الشخص بركبتيْه على غطاء مثني على الأرض. وتستنِد القدَمان على الأرض. وإذّاك ينقل الشخص إحدى قدميْه إلى الأمام وينحني أيضًا لكي ينقُلَ القليل من الوزن إلى هذه القَدَم. أطلب من الشخص الشعور بقدمِه على الأرض، وبأن يتأرجحَ من الوراء إلى الأمام، وهو على هذه القَدَم، لكي يزيد من حدَّة الأحاسيس. وبالتالي، فالفرد ينتصِب بخفَّة، ويسند كل الوزن على الساق المثنية إلى الأمام. وإذا دفعنا إلى الأسفل بقوةٍ كافية، سيكتشِف بأنه ينهَض. وعندما يتم إجراء التمرين بالشكل السليم، يشعر الشخص فعلاً بقوة تحرِّك جسمَه بدءًا من الأرض، وتجعله ينهض. ومع ذلك، فليس هذا تمرينًا سهل التنفيذ، وعلى أغلبية الأشخاص أن يرتكزوا عموديًا قليلاً للمساعدة في هذه العملية. ومع التدريب يصير الأمر أكثر سهولةً، ويتعلَّم كيف يوجِّه الطاقة إلى الأسفَل عبرَ الساق لكي يستطيع النهوض. وبشكل عام، يتمُّ إجراء التمرين مرَّتيْن على كل ساق لكي يطوِّر الإحساس بالضغط على الأرض، وبعد ذلك ينهض.

لدى الأشخاص البدينين، وذوي الوزن الثقيل صعوبة شخصية للقيَام بهذا التمرين. فقد رأيتُ هؤلاء الأشخاص يحاولون ويقعون كالأطفال. إنهم يبدون كما لو أنهم فقدوا كل إمكانية على النهوض، مستسلِمين نفسيًا إلى مستوى طفولي يتركَّز على الأكل أكثر من الجري أو المزاح، فهذا هو عنصرهم الأساسي للاهتمام والإشباع. إنني أعتبِر أفرادًا كهؤلاء يتصرَّفون بشكل متزامن على مستويين اثنين: في مستوى الرشد، حيث تجعلهم الإرادة قادرين على الوقوف بقَدَمٍ، ويتحرَّكون على المستوى الطفولي، حيث تكون سِمات الأكل، والشعور بأنفسِهم مُهمَلين (خصوصًا فيما يتعلَّق بالطعام).

يشكِّل كلٌّ من السقوط والنهوض زوجًا من الوظائف المتناقِضَة التي لا تتواجَد مستقلةً عن بعضها بعضًا. فإذا لم تتمكن من السقوط، فلن تستطيع النهوض. وهذا يكون واضحًا جدًا في ظاهرة النعاس، فعندما نتكلَّم عن الوقوع في النوم، والنهوض في اليوم التالي، فعِوَضًا عن الوظائف الطبيعية للسقوط والنهوض، الأشخاص الذين ينتفِعون من قوَّة إرادتِهم، سوف يتركون أنفسَهم يَقَعون إلى أسفَل، ويقِفون ثانيةً على أقدامِهم، أو أنهم سيستلقون، وسوف يستيقِظون. وإذا لم تكن الإرادة في حالَة تأهُّب، كما يحصَل في اللحظات الأولى من الاستيقاظ صباحًا، فسيكون لهؤلاء الأشخاص صعوبة كبرى في التوصِّل للنهوض من السرير. المشكلة التي تكمن خلف هذه الصعوبة هي قلق السقوط، وعَدَم التمكُّن من الذهاب باكرًا إلى السرير وترك الذات تستسلِم للنوم بسهولة. وكنتيجة لهذا يستيقِظ هؤلاء الأشخاص مُتعَبين، وليس لديهم الطاقة للنهوض بدون مشاكل.

بعد اختِبار المريض لتمرين السقوط، فإن جسمَه سوف يكون طليقًا أكثر بكثير. وبشكل عام، فما أفعله هو ترك المريض يتنفَّس، وهو يستنِد على مقعد صغير. إنه لشائع أن يتَّخِذ التنفُّس سِمَةً لا إرادية أكثَر. وبعد القِيَام بهذه التمارين، يتحول ما ينجم من اهتزازات جسمانية بشكل عرَضي إلى بكاء ونشيج. كما أحرِّض الشخص دائمًا على ترك نفسِه يُؤخَذ من خلال هذه الحركات الجسمانية اللاإرادية على قدر ما تمثِّل مجهودًا عفويًا من جانب الجسم لكي يتحرَّر من التوتُّر.

قبل الدخول في مشكلة كيفية نشوء قلق السقوط، بودِّي تقديم حالةٍ أخرى أيضًا: كان مارك Mark رجلاً مُثْلِيًّا في الأربعينيات من عمره، ذي مشكلة أساسية تتلخَّص في شعوره بالعزلة والوحدة لسبب عدم تمكُّنِه من التعبير عن مشاعره بطلاقَة. كما كان لجسمِه بنية كما الشمع الثقيل الذي يغطي طفلاً مرعوبًا عاجزًا عن إظهار نفسِه. أتى مارك Mark إلى إحدى الجلسات، وهو يروي الحلم التالي، ويقوم بالتعليق التالي: "حلمت في الليلة السابقة بأنني كنت أقدم عشاءً، وكان ضيوفي هم السيد "الرأس" والسيد "الجسَد". من المرجَّح أن هذا كان تحضيرًا لاستشارتي في ذلك اليوم. فالاثنان كانا صغيرين، وممتلِئَيْن بالعضلات، ومتصلِّبَيْن. وكان الجسد يمثِّل صدرًا قاسيًا ومُسقَطًا إلى الأمام، ومستقلَّيْن بشراسة. كانا كما لو أنهما لم يتوصَّلا للاجتماع معًا. لم يكن العشاء من الأهمية بمكان إلى هذا الحد. وكنتُ أريد توحيدَهما، ولكننا لم نتوصل للبقاء معًا في هذه الليلة، والحفلة لم تبدأ بكل بساطة".

تهيَّأ مارك Mark بالتالي لتمرين السقوط. وعندما ظلَّ واقفًا على قَدَمِه أمام الغطاء، قال: "أرى ثقبًا. أبدو كما لو أنني اُبتُلِعْتُ من خلاله. إنه عميق جدًا، مثل بئر. وكانَت إحدى تخيُّلاتي تكمن في المحاولة على نحوٍ غير منتهٍ للصعود إلى الخارج. وبدَوْتُ كما لو أنني قادر على فعل ذلك، ولكنني في كل مرة كنت أتأكد من نفسي في أية نقطة أنا كنتُ أتحقَّق فيها بأنني لازلتُ أحاول الخروج.

رأيتُ أحلامًا بالسقوط أثناء حياتي كلها. كنتُ أعتاد الحلم بالسقوط بغتة من سُلَّم، حاليًا أحلم بأنني أسقط من أمكنةٍ عالية إلى درجة كبيرة. في صيف هذا العام، كنتُ في أوروبا، وكانَت غرفتي في الفندق في شرفة عالية جدًا، وعلى الرغم من كوني مستيقظًا بشكلٍ كامِل، فقد تخيَّلتُ نفسي بأنه تمَّ جذبي إلى خارج السرير، وُقذِفَ بي إلى خارج الشرفة، ومن ثم رمِيَ بي في الفضاء. أثناء صبايَ، كنتُ أصعد على الأشجار، وأتمسَّك بالأغصان، وكان يبدو أنني لم أكنْ أخشَى الارتفاع لطالما ثمة شيء ما بوسعي التمسُّك به. وتحدَّاني أحدُهم حين كنتُ في الثامنة من عمري أن أمشيَ على سكة من حديد بقياس 60 سم X 2.4 مترًا موضوعة فوق برج بارتفاع حوالي 30 مترًا فوق الأرض. وكانت المسافة بين الذهاب والإياب تصِل إلى 60 مترًا. فذهبتُ وعدتُ. ومؤخرًا، عندما لازلتُ في الكلية، شعرتُ أنه ليس بإمكاني المجازفَة في الاقتراب من البرج.

وعند الستّ أو السبع أو الثماني سنوات اعتدتُ أيضًا أن أحلم بأنني كنتُ أستطيع الطيَران. وكان الأمر حقيقيًا إلى درجة بدا كما لو أنه سوف يتحقَّق. ووصَلت خصوصًا إلى المحاولة على فعل ذلك أثناء حضور أشخاص آخَرين. حاولتُ الارتفاع طيَرانًا، ولكنني انتهيتُ بالسقوط على وجهي".

بعد أن سقط مارك Mark كان مستلقيًا على الغطاء، وقال: "أشعر بانفراج عندما أسقط. أحس أنني مصنوع من قرميدٍ ليس مستقرًّا جدًا. وأشعرني فوق مبنى خطِير جدًا، وأنني سوف أكون أفضل بكثير عندما أكون مستلقيًا على الأرض".

أسباب قلق السقوط

أكَّدتُ قبل قليل أنه ربما الكائن الإنساني هو الحيوان الوحيد الذي يشعر بقلق السقوط. ومن الواضِح أن كل الحيوانات معرَّضَة للقلق عندما تتعرَّض للسقوط فعلاً. فقد رأيتُ ببغائي يتحول إلى ببغاء قلِق عندما يفقد التوازن على القضيب عند استغراقِه في النوم. إذاك يستيقِظ في اللحظة الأولى من فقدانِه لتوازنه، ويصبِح في حالةٍ من التشوُّش للحظة، وفيما بعد يستعيد سيطرته. في حين أن الكائنات الإنسانية سريعةُ الإحساس بقلق السقوط حتى لو كانوا راسخين على أرضية صلبة. ويمكن لهذا القلق أن يُفهَم على ضوء جذورنا القديمة في قصة تطورنا، وذلك في المرحلة التي كان أسلافنا يعيشون فيها على الأشجار مثل بعض السعادين.

يبدو أنه واقع مقبول بشكل معقول من قِبَل الأنثروبولوجيا التي تشير إلى السلَف الإنساني الذي كان يعيش في الغابة قبل إقبالِه على أن يغامِر عبرَ الحقول في بحثِه عن الغذاء. ففي كتابه The Emergence of Man (نشوء الإنسان) لمؤلِّفِه John E. Pfeiffer يصِف ما كان يعني العيش في وسط الأشجار: "كان العنصر ذي المعنى الأكبَر هو واقع أن الحياة على الأشجار قد ساعدَ في إدخال سمةٍ وحيدة، أو بعبارة أخرى، شعور قويٌّ باللاأمان أو الإحساس بالريبة النفسية المزمنة". كان يتعلَّق الشعور باللاأمان بخَطَر السقوط. ولاشك فالسَقَطَات كانَت متواتِرَة. يشير Pfeiffer إلى دراسات حول الطرائد، والرئيسات (وهي رتبة من الثدييات تشمل البشرية والقرديات) القاطِنَة للأشجار، وهي تُظهِر أن واحِدًا تقريبًا من أربعةٍ بالِغين عانى كسرًا في إحدى عظامِه على الأقل. لاشك أنه كانت توجد بضعة فوائد من السَّكَن في الأشجار، لأن الطعام كان موجودًا بوَفْرَة، وكانَت الحياة آمِنَة نسبيًا من الحيوانات الضاريَة، ووُجِدَ أيضًا الحافز على تطوير استعمالِ اليَدَيْن.

يبقى خَطَر السقوط في أدنى احتمالاتِه من خلال الإمكانية على التمسُّك بغصن أو فرع شَجَرَة. فصغار السعادين يتمسَّكون بالأمّ من خلال أذرعتِهم وسيقانِهم بالشدِّ والضغط عليها، بينما تنتقِل هذه الأخيرَة بين الأشجار. وتضمن لهم أيضًا القليلَ من السَّنَد بإحدى ذراعيْها عندما لا تكون مشغولةً بأمرٍ ما. وبالتالي، فبالنسبة لسعدان صغير، فإن فقدان الاتصال مع جسم الأم يثير التوقُّع الفوري بالسقوط والتأذِّي. فالقوارض كتلك السناجِب التي تقطن أيضًا في الأشجار، فإنها ترفع جراءها من الأوكار، واضعةً إياها في تجاويف الشجرَة حيث تكون في أمان حتى أثناء غيابِها. والسَّعادين التي تعيش في وسط الأشجار، والقرود بشكل عام تأخذ صِغارَها معها، ويكمن الشعور الوحيد بالأمان في التمسُّك بجسم الأم.

توجَدُ غريزة التمسُّك والتعلُّق منذ الوِلادَة للمولود حديثًا. وهي إرثُ سيرتِها في تطوُّر الأنواع. فعندما يكون بعض الصغار معلَّقين في الهوَاء، يتوصَّلون لتحمِّل وزنِهم بالتمسُّك اليدوي. ولكن، هذا ليسَ سوى أثر إمكانية لا يزال باقيًا. لأن أطفال الإنسان يحتاجون ليُحمَلوا لكي يشعروا بالأمان. وعندما يُسحَب منهم هذا الدعم بشكل مفاجئ، فإنهم يتعرَّضون للسقوط، ويُذعَرون ويصيرون قَلِقين بشكلٍ مفاجئ. ثمة حالتين يبدو أنهما يخيفان الطفل: عدم القدرة على التنفس الأمر الذي يؤدِّي إلى مجال من قَلَق الاختناق، وتؤدِّي طَبَقَة صوته العالية والفجائية إلى أن يُعرَف كرد فعل للشعور بالذعر.

تنعكِس حاجة الطفل لأن يُحمَل لكي يشعر بالأمَان في السيرة التطورية لنوع الحيوان الإنساني، على أنها العلَّة التي تُعدُّ مُسبَقَةً لقلَق السقوط. السبب الفعَّال لهذا القَلَق هو حرمانه من احتضانِه واتصالِه الجسماني الكافي مع الأم.

نشر رايش في عام 1945 ما كان قد لاحظَه بخصوص قَلَق السقوط لدى طفل ذي ثلاثة أسابيع. تضمَّنَت دراستُه هذا المثال عن قَلَق السقوط لدى مرضى مصابين بالسرطان حيث يكون هذا القَلَق قويًا جدًا، ومنظومًا في الداخِل بشكل عميق. وسبَّبَت هذه المقالة أثرًا عميقًا في داخلي، على الرغم من أنني أمضيتُ خمسةً وعشرين سنة حتى تمكَّنتُ من مواجهته فيما أبغيه من عملي الخاص.

كتَبَ رايش، وهو ينظر إلى الطفل ما يلي:

في نهاية الأسبوع الثالِث يوجَدُ قلقٌ حادٌّ من السقوط. وكان هذا يحدث عندما يتمُّ إخراج الطفل من الحمَّام، ووضعه على حافَّة المائدة. لم يبدُ واضحًا للحال إذا ما كانت الحَركَة في جعلِه يستلقي على ظهره كان قد تمَّ بشكلٍ متسرِّع جدًا، أم إذا كان تعرَّضُ جلدِه للإحساس بالبرد قد سرَّعَ من قلق السقوط عنده. على أية حال، فقد شرَعَ الطفلُ في البكاء بشدَّة، ومدَّ ذراعَيْه إلى الوراء كما لو أنه يريد التعلُّق بشيء ما، وحاوَلَ رفعَ رأسِه، وأظهر قلقًا عميقًا في عينيه، ولم يستطِع التوصُّل إلى تهدئة نفسِه. وفي المحاوَلَة التالية في وضع الطفل على الطاولة، عاد إلى ظهور قلق السقوط، وفي الشدَّةِ نفسِها. وكان الطفل يهدأ من تلقاء نفسِه فقط عندما يتمّ احتضانُه.

لاحَظَ رايش بعد هذا الحادِث أن كَتِفَ الطفل الأيْمَن مشدودٌ إلى الوراء. "وأثناء هجمة القلق، يردُّ الطفل بقوَّة جذب الكتفيْن، كما لو أنه يريد التمسُّك بغرض ما". وبدا هذا التصرّف متواصِلاً حتى في غياب القَلَق.

كان واضِحًا بالنسبة لرايش أنه لم يكن لدى الطفل خوف واعٍ من السقوط. فمن الممكن لهجمة القلق أن تُفَسَّر فقط من خلال زوال الحمولة من أمكنة الجسم المحيطية، وبقوة هذا الزوال للحمولة، كان يفقد الحِسَّ بالتوازن. كما لو كان الطفل قد دَخَلَ في حالةٍ من صدمةٍ خفيفة، أسماها رايش باضطراب لاعضوي. فالدم والحمولة الطاقية يبتعِدان في حالَة الصدمة عن محيط الجسم، ويفقد الشخص فكرته عن التوازن، ويشعر بأنه موشك على السقوط، أو بأنه يسقط بشكلٍ فعلي. تحدُث ردود الفعل نفسِها عند أي كائن حي يدخل في حالة صدمة. طالما أن الشخص على هذه الحالة فمن الصعوبة بمكان الوقوف على ساقيْه الخاصَّتين، الأمر الذي يتعارَض مع قوَّة الجاذبية. كان رايش يهتمُّ في معرفة السبَب الذي يجعَلُ الطفل يختبِر فيه حالةً تبدو على أنها صدمة.

أدرك رايش حدوثَ نقصانٍ ما في التواصل بين الطفل والأم. فباعتبار أن الطفل يتغذَّى وفقًا لحاجاته الخاصة، فهذا التواصل مع الأم سوف يكون مُرْضِيًا ومُشْبِعًا. ولكن، عندما لا يحصل إرضاعُه، فقد يظلُّ الطفلُ مستلقيًا في مهد أو عَرَبَة صغيرة بالقرب من أمِّه، بينما تعمَل هذه الأخيرة على آلَتِها الكاتِبة. وفقًا لرايش، لم تُشبَع الحاجة التي يُظهرها الطفل للتواصل الجسماني، لأنه لم يُحتضَن بالشكل الكافي. وقبل الإصابة كان الطفل قد أبدى رد فعل شديد بشكل خاص إزاء عملية الرضاعة، والتي أسماها رايش بالرعشة (الانتعاظ) الفموية، وهي تظهَر من خلال ارتجافات وانكماشات الفمِّ والوجه. وفي كلماتِه يَرِد ما يلي: "لا زال هذا أيضًا يزيد من الحاجة للتواصل". وبما أن هذا التواصل لم يحصَل ووُضِعَ الطفل على الطاولة، فقد أدَّى به إلى حالةٍ من الانكماش في عضويَّتِه.

استخدم رايش ثلاث تقنيات لكي يتجاوز الميل عند الطفل لقلق السقوط: "فعلى الطفل أن يُحتضَن عندما يبكي. فهذا يساعده". أعتقد شخصيًا بأنه يتوجَّب إمساك الطفل مرارًا، وذلك على النحو نفسِه الذي كانت النساء البدائيات يستعمِلنَ "حمّالَة الأطفال" على شكل كيس. "فعلى كتِفيه الاندِفاع إلى الأمام بلَطافَة، لكي لا يتثبَّتا في وضعية ارتداد"، وذلك في سبيل استباق أي تكوُّن درع عَضَليّ يعكس الهيئة الجسمانية لطبع معين. قام رايش بهذه الحركة كتسلية على مدار شهرين. "كان ضروريًا بشكلٍ حقيقي – ترك الطفل يسقط – لكي نجعلَه يعتاد على مشاعر السقوط. وكان هذا أيضًا ناجِحًا جدًا". وهذا الإجراء الثالِث، تحقَّق أيضًا بلطافة، وفي التسلية، تعلَّمَ الطفل أن يحب هذه اللعبة.

إذن، لماذا يبقى هذا القلَق عند أشخاصٍ محدَّدين على مدار حياتهم؟ تكمن الإجابَة في واقِع أن الأبوَيْن لم يتعرَّفا على المشكلة. وبالنتيجَة، لم يفعلا شيئًا في سبيل تغيير الوضع. إن حاجة الطفل لكي يُحمَل ليس غرضًا لكي نتجاهلَه. ويلحُّ عليه الدافع في الذهَاب للبحث عن شيء خارجي، ولكنه متَّصِلٌ مع خوف أعظم بشكل تصاعدي بعَدَم وجود أي أساس لانتظار استجابَة، وللايقين الكلِّي بامتلاكه الحق بتَوَلِّيه زمامَ حاجاتِه الخاصّة. وفي النهايَة، لعدَم وجود مكان في الفراغ يستطيع التمَوْضع فيه.

درسَ رايش حالةَ طفل آخَر تمّت متابعةُ تطورِه في مركز الأورغون Orgone للأبحاث الجارِيَة على الأطفال. وبعد بدايةٍ واعِدَة، حيث كان الأمر على خير ما يُرام لمدة أسبوعين، فقد أظهر الطفل إشارات تدلُّ على التهابٍ في القَصَبَات في الأسبوع الثالِث. وصار صدره حسَّاسًا، وتنفُّسه غير منتظَم، وبدا الطفل قلِقًا، ومتحايِلاً، وغير مُشبَع.

برهنَت إحدى الدراسات على وجود بعض الاضطرابات الانفعالية بين الأمِّ والطفل. فالأم كانت تبدو أنها تشعر بالذنب لواقع كونها ليسَت أمًا ذات صحة جيدة، وبعَدَم إشباع كل توقُّعات طفلِها التي كانَت لديه. واعترفَت بشعورِها بالاستياء لعدم قدرتِها على توفير كميةِ الطاقة والوقت اللازِمَيْن لطفلِها، وهي متفاجئة ومُثقَلَة إلى أقصى حد لمتطلِّبات الوضع التي هي فيه. وتفاعَلَ الطفل مع القَلَق، وهموم الأم، فصار بدورِه مشابِهًا لها من حيث القَلَق.

إن سرد هذه الحالَة مُوَضَّح لعدَّة أسباب. ففي الدرَجَة الأولى، لاحظَ رايش أن منطقةَ الحجاب الحاجز "كانت تبدو أنها تستجيب في الدرجة الأولى، وبقوة أكبر للقلق الانفعالي الحيوي الطاقي". ووفقًا لهذا، كانت انحصارات أخرى، تنشأ أيضًا من هذه المشكلة الأولية المنتشِرَة في كلا الاتجاهين. فتوتُّر الحجاب الحاجز مشترَكٌ بشكل صريح مع قلق السقوط، وذلك بالقدر الذي يتناقص فيه تيارُ الاستثارة الذي يتوجَّه للنصف السفلي من الجسم. وفي الدرجة الثانية، من الواضِح أن تواصلاً جيدًا يتضمَّن معنىً أكبَر ممَّا هو مقتصَرٌ فقط على التمسُّك واللمس. من الأهمية بمكان أن نأخذ بعين الاعتبار نوعيةَ هذا التمسُّك أو هذا اللمس. ولكي ينتفِعَ الطفل من التواصل، فعلى جسم الأم أن يكون حارًا، وناعِمًا، ومليئًا بالحياة. فإن أي توتر في جسمها يؤثِّر على الطفل أيضًا. وفي الدرجة الثالثة، وَصَفَ رايش ذلك الذي أفكِّر بكونِه العُنصُر الجوهري لعلاقَة أم–طفل: "أن تترك الأمهاتُ أبناءَهنَّ – يشعرون بالنشوة – ببساطة، فالتواصل سوف يتطوَّر على هذا النحو بشكل تلقائي".

إن قلق السقوط، واضطرابات التنفُّس هما مظهران لسياقٍ واحد. ففي جلسة سابقة، كان جيم Jim يصِف قَلَقَ السقوط، كتلك التي تحدث حين "تتصلَّب المَعِدَة. وأحد لا يستطيع التنفُّس". إن قلق السقوط، وفقًا لرايش "متَّصِل بانكماشات سريعة للجهاز الحيوي، باعتبارها، ناجِمَةٌ في الحقيقة عن قَلَق السقوط، والتنفُّس. وبالطريقة نفسِها تؤدِّي سقطةٌ ملموسة إلى انكماشٍ بيولوجي، فالانكماش بدوره، يفسِح المجال للإحساس بالسقوط". إن فقدان الطاقة في الساقين، والقدَميْن يؤدِّي إلى فقدان التواصل مع الأرض، وهذا الإحساس هو نفسه ذلك الذي يشعر به المرء كما لو أن الأرض تهرب من تحت قدميْه.

الوقوع في الحب

لا يؤدِّي الخوف من السقوط إلى الخوف من التواجد في أمكنة عالية فحسب، بل أيضًا، إلى الخوف من أية حالة تستدعي في الجسَد الإحساس بالسقوط. فكلامنا يُثبِت حالتيْن: الوقوع في النوم، والوقوع في الحب (الغرام). وبوسعِنا التساؤل، فإذا لم تكن هذه التعابير حرفيةً فقط. وعلى أية حال تذكِّرنا لحظة الانتقال من النعاس إلى النوم بفعل السقوط؟ فإذا لاقيْنا على المستوى الجسماني مُوَازيًا بين اللحظتين، فبوسعِنا أن نفهَمَ لماذا هناك الكثير من الأشخاص لديهِم صعوبة في النوم، ويحتاجون تناولَ مهدِّئات لكي يتخلَّصوا من قلقِهم، ويسهِّلوا العبورَ من الوعي إلى اللاوعي.

منذ وقت طويل، كان يُعتبَر هذا العبور كحركة تتوجه نحوَ الأسفَل. ففي الحقيقة، إذا ما أخذَ النعاسُ أحدَهم بينما هو واقِف، يتناهى في السقوط على الأرض، كما لو أنه قد أُغمِيَ عليه، وفَقَدَ وعيَه. إلا أن قِلَّةً من الأشخاص ينامون وهم واقفون، ونجعلهم يستلقَوْن، وفي هذه الحال، ليس هناك انتقال للجسم في الفراغ. وبالتالي، فالإحساس بالسقوط ينجم عن حركة داخلية، ومن حدَث في داخل الجسم على قدر ما يستولي النعاس على الشخص.

ثمة حقيقة ما في التعبير "الوقوع في النوم"، وفي الحقيقة، إننا نشعر كما لو أن "سقطة" في سياق دخولِنا في النوم. يبدأ هذا من خلال إحساس بدوَار ما. وعلى غفلة يصير الجسم ثقيلاً. ونشعر بذلك في العينين، والرأس، والأعضاء. ولابد من جهد بالنسبة لشخص يغلبه النعاس أن يُبقيَ على عينيه مفتوحتين، أو أن يُبقيَ رأسَه منتصِبًا. فإذا كان يترنَّح نعاسًا، فلسوف يظلُّ الرأس كما لو أنه معلَّقٌ. وتبدو الأعضاء كما لو أنها لا تستطيع أن تسنُدَ الجسم أكثر من ذلك. وهكذا يكون الوقوع في النوم كالغرق في الأرض. وإذاك تكون الرغبة عظيمة في الاستلقاء، والتخلِّي عن المقاومة ضد قوى الجاذبية.

يأتي النعاس بسرعة أحيانًا، ففي لحظة معينة، لا يزال فيها الشخص مستيقظًا، وبالتالي، يصير فيها لاواعيًا لتوِّه. وأحيانًا، يأخذ النعاس بالتزايد ببطء، ويمكننا أن ندرك بوضوح فقدان الحس تدريجيًا في بعض أجزاء الجسم. فقد لاحظت عند استلقائي إلى جانب زوجتي ويدي على جسمها، أنني أفقد في البداية وعيي لجسمِها، وفيما بعد، ليدي نفسها. ولكن، إذا ما أبقيتُ انتباهًا زائدًا لأحاسيسي أعود فأستيقِظ. إن الانتباه وظيفة للوعي تجعله يقِظًا. وبشكل عام، يحصَل هذا معي في فترة من الزمن قصيرة جدًا. وقبل أن أشعر بما يحصَل أكون قد استغرقت في النوم بعمق. ومن المنطقي أن لا نتمكَّن من معرفة ما يحصَل بشكل واضِح لأنه إذَّاك تكون وظيفة الإدراك مُبطَلَة من خلال النوم.

فعندما تنام، يحصَل انسحاب للطاقة، وللاستثارة من سطح الجسم، ومن العقل إلى داخل الجسم. وتحصل معي الحركة الطاقية نفسها في سياق السقوط. وبالتالي، فكلا الحالتين هما متكافئتان طاقيًا. ومن الواضح على المستوى العملي أن الحالتيْن مختلِفتان، لأن السقوط على الأرض يقتضي إمكانية التأذِّي، في حين أن الوقوع في النوم يحصَل على السرير، وهو فعل آمِن عمليًا. وعلى الرغم من ذلك، فيمكن للقلق المرتبِط بالسقوط الاشتراك بسياق النوم من خلال قوة التساوي للآلية الديناميكية. والسؤال الذي يطرَح نفسَه هو إمكانية الشخص على التنازل عن السيطرة الأنَوِيَّة التي تكون متضمَّنة في انسحاب الطاقة بقدر ما هو من سطح الجسم، فكذلك من سطح العقل. ففي الحالات التي تكون فيها سيطرة الأنا متوافقة من أجل البقاء على قيد الحياة، كتلك التي عند الأفراد الذين يعمَلون بشكلٍ أوَّلي من خلال أداء إرادتِهم. فالاستسلام عن سيطرةٍ كهذه هو هدف صراع لاواعٍ.

ينجم القلق العصابي عن صراع داخلي بين حركة الطاقة في الجسم، وسيطرة أو انحصار لاواعٍ مفعَّل لكي يحُدَّ أو يوقِف هذه الحركة. هذه الانحصارات هي توترات عضلية مزمِنَة موجودة بشكل رئيسي في عضلات الإنسان الإرادية أو التي عند الركبة، والخاضِعَة لسيطرة الأنا الواعي بشكل طبيعي. فالسيطرة الواعية للأنا تزول عندما يصبِح التوتر العضلي مزمنًا. فهذا لا يعني أن التخلِّي الكامِل عن السيطرة قد حصل، وإنما السيطرة أصبحَت غير واعية. فسيطرة الأنا اللاواعية هي كحارس حيث تفقد الأنا أو الشخصية السيطرة. وتعمل هذه الأنا ككيان مستقل داخل الشخصية، حاصِلةً على القدرة على نحوٍ مباشَر بشكلٍ متناسب مع نوعية التوتر الجسماني المزمِن. فالحمولة، والتفريغ، والانسياب، والحركة هي حياة الجسم. وعلى هذا الرقيب أن يقوم بقمع هذه الحياة، والحدِّ منها في الاهتمام ببقائه على قيد الحياة. فالشخص يرغب في الانطلاق والانسياب، ولكن الحارس يقول: "كلا، فهذا خطير جدًا". عندما كنا أطفالاً، عانينا النمط نفسَه من الإشراط، فقد كنَّا نُهدَّد أو نُعاقَب لما نُسَبِّب به من ضجيج صاخب، ونشاط زائد، ولامتلاكنا الكثير من الحيوية.

ندرك بأن السقطة تكون أقل خطورة إذا "انطلقنا" أو تركنا أية محاولة في ممارسة سيطرة الأنا. وفي الحقيقة، إذا حاول شخص أن يسيطر على السقطة بشكلٍ قلِق، فبإمكانِه التحقُّق بأنه سوف ينتهي بكسر أحد عظامه، خصوصًا عند وصوله إلى الأرض. فالكسر يحصل بسبب انكماش عضلي فجائي. والأطفال ذوو السيطرة الضعيفة على الأنا، والكحوليون الذين أُبطِلَت عندهم هذه السيطرة، يسقطون بشكل عام دون أن يتأذُّوا فوق الحد الطبيعي. يكمن سر السقوط في ترك الجسم يسقط من تلقاء ذاتِه، وفي السماح للتيارات بأن تنساب بحرية من خلاله، وبدون خوف من هذه الأحاسيس. ولهذا السبب، فإن بعض الرياضيين كلاعبي كرة القَدَم، يتدرَّبون على السقطات لكي يتجنَّبوا أذيات خطيرة من الممكن حدوثها.

لا يعاني كل العصابيين من قَلَق السقوط. فقد ألمحتُ سابِقًا أنه في حال توصل إلى محاصرة المشاعِر، فالشخص لن يَشعُرَ بالقلق. وانطبقَ هذا على بيل Bill، الغاوي تسلُّق الجبال. إنه الإحساس هو الذي يجعلنا نخاف. فإذا ما توصَّلنا إلى إيقاف تيار الاستثارَة، أو منعه من أن يُدرَك، فالخوف يزول. وهذا يسهِّل فهمَنا لماذا ليس لدى كل العصابيين صعوبة في النوم. فالوقوع في النوم هو عبارة عن سياق يبعث على القلق، أو الرعب فقط عندما تُدرَك إبعاد الطاقة من السطح إلى مركز الجسم. وعندما لا يكون ثمة أحاسيس متَّصِلَة مع انتقال الوعي إلى حالَة النوم لا يحدث استدعاء للقلق.

ليس هذا الإحساس مرعبًا في حدِّ ذاتِه، ومن المُمكِن أن يُعاش كالشعور باللذة. ولكن إذا صار مهدِّدًا، فذلك لأن مخرج الطاقة يحصَل أيضًا من جهة مركز الجسم، وبالنتيجة فإن غموض الوعي يعادِل الموت. تحصل نفس الحركة الجاذبة للطاقة نحو المركز في حالة الموت، باستثناء أنه لا يحصل في هذه الحالَة العكس. فإذا أدرك أحدهم في مستوى ما، الارتباط الموجود بين الوقوع في النوم والموت، يصير من المستحيل التنازل عن سيطرة الأنا للسياق الطبيعي.

أذكرُ في كتاب الجسد المُخَان حالة شابّة كانت تعاني من هذا القَلَق. وذكَرتُ حلمًا قالَت عنه: "لقد اختبرتُ بشكل حي حقيقة الموت – الأمر الذي يعني النزول إلى داخل الأرض والبقاء هناك حتى الانحلال".

أضافَت بعد ذلك: "لقد فهمتُ أن هذا سوف يحصَل معي، مثلما حصَلَ مع العالَم كله. فعندما كنتُ بنتًا صغيرة لم يكن بوسعي التوصُّل للنوم بسبب قلقي بأن أموت أثناء النوم، وأستيقِظ في داخل تابوت، فأصبح مسجونة دون مخرج".

يحتوي هذا الربط الوصفي على تناقض غريب. فإذا مات أحدهم أثناء نومه، فلن يستيقِظ في داخِل تابوت. تشعر الفتاة بالخوف من الموت، ولكن لديها بالتساوي خوف من البقاء مسجونة، ومشلولة، الأمر الذي يعني الموت بالنسبة لها، لأن الحياة هي حركة. والموت هو أن تكون مكبَّلة، غير قادِرة على القِيَام بحركات، ولكن أن تكون مكبَّلة فهذا يعني الموت أيضًا. وبالنسبة لهذه المريضة، فإن حالة التيقُّظ في الليل هي أكثر من مجرد وعي، إنها حالة من جاهزية مفرطة في حدَّتِها ضد إمكانية البقاء مكبَّلَة. ويتضمَّن الوقوع في النوم انسحابًا من حالة الجاهزية، وبالتالي تضع جانبًا خطورة أن تصير مسجونةً أو أن تموت.

ربَطتُ التابوت بجسمها في تفسير لاحِق لتعليقِها. فمن الطبيعي أنه عندما يستيقِظ أحدٌ ما، فإن أول ما يعيه هو جسمه. ويعود الوعي إلى نفس العاقبة حيث اختفى: أولاً: يعي الجسم، وبعد ذلك، يبدأ بوعي العالَم الخارجي. وبناءً عليه، يتعلَّق جزءٌ كبيرٌ في كيفية شعورِ الشخصِ بجسمِه. فإذا كان بدون حياة، فلسوف يظهَر على أنه تابوت يُحبَس الشخص في داخله. ومن الممكن أيضًا أن يصير عرضةً للانحطاط والانحلال اللذين يحصلان فقط للأجسام الميتة. أما الاستيقاظ بجسم ممتلئ بالحياة حيث يشعر باهتزازات الطاقة الحيوية، فهو أمر ممتلئ جدًا باللذة على قدر ما يحصل الاستسلام للتعَب ومنح الجسم الاستراحَة المطلوبة.

يحصل أمر جميل جدًا مع الجسم عندما ندَعُه يُؤخَذ بالنوم، فهموم اليوم توضَع جانبًا، وينسحِب الجسم هاربًا من العالَم إلى حالةٍ من الاستراحة والسكينة. فالتغيُّر من حالةِ التيقُّظ إلى النوم يَظهَر بشكلٍ أكثر وضوحًا من خلال التنفًّس. ندرك دائمًا أنه عندما يستلقي الشخص إلى جانبنا، فهو ينام بطريقة مختلِفَة في النوعية والإيقاع الذي يتنفَّس وفقَه. فالتنفُّس يصبِحُ أكثرُ عمقًا، ومسموعًا، والإيقاع يصبِحُ أبطأ، وأكثرَ تجانسًا. وينجم هذا التغيُّر عن عدم تقلُّص الحجاب الحاجز لحالتِه من التوتُّر التي يُبقِي عليها قائمة أثناء النشاطات اليومية. ففي النوم، نستسلِم إلى مراكز الطاقة السفلى من الجسم. ويحدث عدم التقلُّص نفسِه للحجاب الحاجز عندما نُغرَم بأحد (نقع في الحب) أو نحصل على شعور بالانتعاظ.

تُقَسِّم الفلسفة القديمة الجسمَ إلى منطقتين تمَوْضعَتا اعتبارًا من الحجاب الحاجز، فهذه العضلة كهيئة قُبَّة تذكِّرُنا بالشكل الخارجي لمحيط الأرض. وكانت المنطقة العليا للحجاب الحاجز مرتبِطَة بوعي النهار، أو أنها منطقة النور. وكانت المنطقة السفلى تنتمي للاوعي والليل، وكانَت تُعتبَر منطِقَةُ الظلمة. كان الوعي مكافئًا للشمس. وظهور الشمس فوق خط الأفق الأرضي، وامتداده يتقدَّم حاملاً ضوء النهار، الأمر الذي يمكن مطابقتَه مع ارتفاع نسبة الاستثارة في الجسم، ومراكز البطن حتى المراكز الصدرية ثم الرأسية. ويمكِنُ لهذا الدفق الصاعِد للمشاعِر والأحاسيس، أن يؤدِّي إلى إيقاظ الوعي. أما في حالَة النوم فما يحصَل هو العكس. فإن تنزِل الشمس من خط القبة الزرقاء، وتسقط في المحيط. ووفقًا لمنظور الشعوب القديمة بالنسبة لهذا النزول، فالأمر يمكن مطابقته مع الدفق المتحدِّر من الاستثارة في الجسم إلى المنطقة السفلى من الحجاب الحاجز.

إن البطن معادِلٌ للأرض رمزيًا، والبحر لمناطِق الظلام. ولكن الحياة تنشأ من هذه المناطق كالبطن. فهذه المناطق هي عش لأسرار القوى المتضمَّنَة في سياقات الحياة والموت. وهي أيضًا مسكَن أرواح الظلمة القاطِنَة في المناطِق السفلى. وعندما أصبحَت هذه الأفكار البدائية مرتبطة بالمسيحية، اُعتُبِرَت المناطِقُ السفلى مُعَدَّة للشيطان، أمير الظلمات. وكان هذا الأخير يعمَل على إغواء البشَر، ودفعهم للانحطاط الخلُقي من خلال الإغراءات الجنسية. فالشيطان يمكث تحت الأرض، وأيضًا تحت البطن، حيث يُشعِل نار الجنسانية. وبوسع الاستسلام لشهوات كهذه أن تقود الشخص إلى الانتعاظ، ولكن هذا يحصَل بينما تحلُّ العتمة على الوعي في حين الأنا يأخذ بالانحلال، وهي ظاهرة مدعوة بـ"موت الأنا". والماء مرتبِطٌ أيضًا بالجنس. على الأرجح لواقِع أن الحياة قد بدأت في البحر. والخوف من الغرق الذي يُظهِرُه كثيرون من المرضى متَّصِلٌ بالخوف من السقوط، ويمكننا ربطَه بالخوف من الاستسلام إلى الأحاسيس الجنسية.

نعلي من شأن الحب كثيرًا دون أن ننتبِه لعلاقتِه الحميمة والمباشرة مع الجنس، وبشكل رئيسي مع انطباعات إيروسية وشهوانية للجنس. عرَّفتُ الحب على أنه استباق للشعور باللذة، ولكن اللذة هي التي تدفع الفرد بشكل خاص على الوقوع في حب شخص آخَر. ويتضمَّن على المستوى النفسي استسلام الأنا لموضوع حبِّها. والذي يصبِح بدورِه الأكثَر أهمية بالنسبة للذات منه بالنسبة للأنا. ولكن استسلام الأنا يُسبِّب حركةً متحدِّرَةً عن الأحاسيس في داخل الجسم، كما أن انسيابًا آتيًا من الاستثارة نحوَ حميمية البطن والحوض. ويتسَبَّب هذا الانسياب المتحدِّر باهتزازات مُمْتِعَة، وأحاسيس بالذوَبان. وكما نقول حرفيًا، إنه يذوب حبًا. وتحصل إحساسات الحب نفسها، عندما تكون الاستثارة الجنسية للشخص على مستوى عالٍ. ولا تُقتصَر على المنطقة التناسلية، وتسبُق كل تفريغ انتعاظي كامل.

إنه لغريب، ولكن فعل السقوط يفسِح مجالاً لأحاسيس مشابِهَة. وهذا هو السبب الذي يجعَل الأطفالَ يشعرون بكثيرٍ من السرور عندما نقوم بأرجحتِهم. فالاستسلام للسقوط في حركة التأرجح يسبِّب تيارات ناعِمَة من الطاقة في الجسم. ولاشك أنه ما من أحَدٍ منا لا يذكر هذه الأحاسيس المُمتِعَة. فمن الممكن أيضًا أن نعايِش هذه الأحاسيس في السقَطَات للألعاب البهلوانية في العَرَبَة الصغيرة الصاعدة للسكة الحديدية في مدينة الملاهي المتعدِّدة الانحناءات والانعطافات النازِلَة والصاعِدَة، والتي تنزل فيما بعد في عنف وسرعة كبيرة. لدي يقين بأن تلك الأحاسيس هي السبب الذي جعَلَت من هذه التسلية شعبية جدًا. وهكذا تشتمِل نشاطات كثيرة على السقوط، وتوفِّر سرورًا مشابهًا، مثل الغطس، والقفز البهلواني، وهكذا دواليك.

يكمن سرُّ هذه الظاهِرَة في تحرير الحجاب الحاجز، الأمر الذي يسمح في تفريغ قوي للتيار الطاقي نحو النصف السفلي للجسم. ويظل هذا واضِحًا جدًا بالنسبة لنا عندما نلاحِظ أن حبسَ التنفُّس أثناء هذه النشاطات يُدخِل القلق، ويقضي على السرور. ويحصَل الأمر نفسه مع الجنس. فإذا كان لدى الشخص خوف من الاستسلام للسقوط، وأمسك بتنفسه، فلن يحصل على أحاسيس الذوَبان. وتكون الذروة جزئية.

إن مصطلَح "الوقوع في الحب" (أن يُغرَم)، يمكِن أن يبدو متناقِضًا، بمعنى الشعور أن يكون المرء محبوبًا فهذا يجعله يشعر بأنه في الأعالي. فكيف يكون ممكنًا السقوط في حالة من الارتفاع؟ ولكن السقوط هو الطريقة الوحيدة للحصول على أعلى حالة استثارة بيولوجية. يسقط ممارس الوثبات الاستعراضية قبل أن يصعَد: فهو يدفع منصَّة البهلوان إلى الأسفَل لكي يحصَل على دافعِ كافٍ من أجل الصعود. ويسمح الصعود بدورِه في سقطةٍ جديدة تفسح مجالاً لصعود آخَر. فإذا كان الشعور بهزَّة الجماع هو عبارة عن السقطة الأخيرة، إذَّاك فإن الشعور بالارتفاع بعد فعل جنسي مشبِع إلى أعلى درجة يكون بمثابة العودة الطبيعية للتفريغ. نشعر بأنفسِنا أننا نمشي بين الغيوم عندما نحبُّ، ولكن هذا يحصل فقط لأننا قد سمَحْنا لأنفسِنا بالسقوط.

لكي نفهَم لماذا للسقطة تأثير قوي جدًا، فعلينا التفكير بأن الحياة هي حركة. فغياب الحركة هو الموت. ولكن بشكلٍ أساسي فهذه الحركة ليسَت الانتقال أفقيًا عبر الفراغ الذي يحتوينا لوقت طويل. وإنما يتعلَّق الأمر أكثر بالإيقاع النبضي لصعود ونزول الاستثارَة في داخل الجسم، والذي يتمظهَر في قَفَزات وَوَثَبَات، والبقاء واقفًا ومستلقيًا في السعي خصوصًا لبلوغ أعالٍ أعظَم، ولكننا نحتاج دائمًا للعودة إلى الأرض الصلبة، وإلى الدنيا، وإلى واقع وجودنا الأرضي. ونستهلِك الكثير من الطاقة في المجهود للصعود أكثر علوًا، وبلوغه أكثر فأكثر، لأننا غالِبًا ما نعتقِد أنه من الصعوبة بمكان الانخفاض أو الاستسلام. ونظل مشلولين من خلال الوسواس، ومع الخوف من السقوط. وإذا كان لدينا خوف من السقوط، فإننا نسعى للصعود في كل مرة أكثر علوًا، كما لو أنه بوسعنا أن نأتمِن على أنفسِنا بهذه الطريقة. فالأطفال الذين أتوا وهم صغار مع قلق السقوط، عليهم بالضرورة أن يصيروا راشدين ذوي هدف في الحياة، هو الصعود في كل مرة أكثر. وإذا صعَدنا عاليًا جدًا في الخيال الذي نستطيع من خلالِه الوصول إلى القِمَم، فثمّة الخطر الجنوني (من الجنون): الانتقال، والفراغ، والعزلة. وعندما نتعالَى فوق الغلاف الجوي للأرض، فإننا نضيع في الفضاء، ونشعر بالتشظِّي. إن تأثير الجاذبية شافٍ، ولكن استمرار تأثير جاذبية الأرض على أجسامِنا، يتم فقدانَه. وهكذا يمكننا الضيَاع بسهولة.

النوم والجنس مرتبِطان بشكلٍ حميمي، لأن أفضل نوم يأتي دومًا بعد علاقة جنسية ناجِحَة. وبالطريقة نفسِها، كما يعلَم الجميع، فالجنس هو أفضل ترياق بالنسبة للقلَق. ولكن لكي يبلغ الجنس هذا التأثير، فعلى الشخص أن يكون قادرًا على الاستسلام لمشاعرِه، وأحاسيسِه الجنسية. ولسوء الحظ، فإن قَلَقَ السقوط يمكنه الارتباط بالجنس، مقتصِرًا وظيفته الطبيعية على القناة الرئيسية للتفريغ والتوتر والاستثارة. وبمقدورنا أيضًا تحقيق الفعل الجنسي، لكنه وقتئذ لن يتجاوز المستوى الأفقي، وعندما نتكلَّم على المستوى الحيوي الوظيفي الطاقي، فبإمكانِنا القول إنه ليس ثمة لا سقوطًا يُفسِح مجالاً للشعور بالانفراج، ولا صعودًا يُبهِج. فنحن مُجبَرون على مساعدة مرضانا في التغلُّب على قلقِهم من السقوط لكي يستطيعوا الإفادَة بالتمام من الجنس والنوم لكي ينبعثوا منهما متجدِّدين، ومُجدِّدين شبابَهم، وذلك بعد أن يكونوا قد استسلَموا.

ترجمة: نبيل سلامة

*** *** ***


 

horizontal rule

* الفصل السابع من كتاب المنهج الحيوي الطاقي، ألكسندر لوون، ترجمة نبيل سلامة، معابر للنشر، 2013.

[1] الزن هي فرع من البوذية منتشِر خصوصًا في اليابان، ويقولون أن نشوءها يعود إلى مهاكاشياب أحد تلاميذ بوذا عندما ابتسم وأخذ يضحك في حين المعلم بوذا كان واقفًا وهو صامت لأكثر من ساعة حاملاً زهرة لوتس، فالوحيد الذي فهم الرسالة من صمت بوذا وراء حمله لزهرة اللوتس كان مهاكاشياب فاستحقّ الحصول على هذه الزهرة، واجتمع حول مهاكاشياب أكثر من عشرة تلاميذ الأمر الذي مهَّد لولادة بوذية الزن، والزن أتت في اليابانية من كلمة زازن أي الجلوس صامتًا دون أن تفعل شيئًا، أما الـ"كوان" فهي حالة حرجة يوضع فيها المريد بهدف إيقاف عقله عن التفكير حتى من خلال ضربه بالعصا من قِبَل المعلم لحثّه على بلوغ اليقظة والاستنارة التي هي بتعبير الزن بلوغ الساتوري. (المترجم)

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني