|
شبكة الفكر: الحديث الخامس
علينا أن نفكر فيما إذا كان الدماغ الذي يعمل جزئيًا الآن قادرًا على العمل كليًا وتمامًا. نحن نستعمل جزءًا منه الآن فقط، وهذا أمر تلحظونه بأنفسكم، وترون أن التخصص (الذي قد يكون ضروريًا) يؤدي إلى تشغيل جزء من الدماغ فقط. فإذا كان المرء عالمًا متخصصًا في مجال ما فسيعمل جزء من الدماغ فقط بشكل طبيعي. الشيء نفسه إذا كان المرء مختصًا بالرياضيات، حيث يجب على الإنسان في العالم الحديث أن يتخصص في مجال ما، ونتسأل رغم ذلك: هل من الممكن إتاحة المجال للدماغ ليعمل كليًا وبشكل كامل؟ والسؤال الآخر الذي نطرحه هو: ما الذي سيحوق بالبشرية، بنا جميعًا، عندما يتفوق الحاسوب على الإنسان بدقته وسرعته – كما يتنبأ خبراء التقانة العالية؟ فمع تطور الروبوتات قد يعمل الإنسان ساعتين ربما يوميًا. قد يتحقق هذا في المستقبل القريب. وعندها، ماذا سيفعل الإنسان؟ هل سيغرق في مجال التسلية؟ هذا ما يحصل الآن، إذ تزداد مع الوقت أهمية الرياضة، وكذلك مشاهدة التلفاز، والترفيه الديني المنتشر؛ أم أن الإنسان سيرتدُّ داخليًا، وهذا ليس ترفيهًا أو ترفًا، بل هو أمر يحتاج إلى قدرة هائلة على الملاحظة والدراسة والإدراك اللاشخصي؟ هذان هما الاحتمالان الممكنان. يتضمن المحتوى الأساسي للوعي الإنساني السعي إلى تحقيق السعادة ومحاولة تفادي الخوف. لذا، هل ستنغمس البشرية أكثر في مجال التسلية؟ يأمل المرء ألا تكون هذه التجمعات نوعًا من التسلية. والآن، أيمكن للدماغ أن يكون حرًا تمامًا بحيث يعمل كليًا؟ لأن أي تخصص أو تمذهب، أو انضواء تحت أي نمط، يعني بلا شك أن الدماغ يعمل بشكل جزئي، وبالتالي بطاقة محدودة. نعيش اليوم في مجتمع التخصصات – مهندسين، فيزيائين، جراحين، نجارين، وكذلك متخصصين في معتقدات معينة أو مفاهيم فكرية بعينها بالإضافة إلى الشعائر الدينية. بعض التخصصات ضرورية، مثل الجراحة والنجارة. رغم ذلك، هل يستطيع الدماغ العمل بكليته، مما يعني العمل بطاقة هائلة؟ هذا في اعتقادي سؤال جدي جدًا يجب أن نتقصى عنه معًا. إذا تمعن المرء في نشاطه الخاص لوجدَ أنَّ الدماغ يعمل بشكل مشايع ومجتزأ، وأن النتيجة هي تناقص طاقة المرء أكثر فأكثر مع التقدم في السن. بيولوجيًا، جسمانيًا، يكون الإنسان في قمة حيويته في مرحلة الشباب، ولكن، مع ازدياد علوم المرء وما يليها من تخصص في مجال ما تضيق نشاطات الدماغ، ليصبح مع الوقت محدودًا ومتناقص الطاقة أكثر فأكثر. مع ذلك، لربما توجب الأمر أن يكون للدماغ شكلاً من التخصص – ليس بالضرورة في الاتجاه الديني لأن هذا خرافة – كأن يكون، على سبيل المثال، جرَّاحًا، فهل يستطيع دماغه العمل بشكل كلي؟ بوسعه أن يعمل بشكل كامل، حاملاً معه كل تلك الحيوية الهائلة التي تعود لملايين السنين، عندما يكون حرًا بالكامل. لن يكون التخصص، الضروري الآن من أجل تحصيل الرزق، ضروريًا إذا ما تولَّت الحواسيبُ العملَ عن الإنسان. هي لن تقوم طبعًا بالجراحة عوضًا عن الإنسان، كما لن تشعر بالجمال لدى النظر إلى النجوم ليلاً، لكن بوسعها القيام بمهام أخرى بالكامل. هل يستطيع الذهن البشري أن يكون حرًا بالكامل من أي نوع من أنواع التعلق – كالتعلق ببعض المعتقدات والتجارب وما إلى ذلك؟ إذا لم يكن بوسع الدماغ أن يتحرر بالكامل فإنه سيتدهور. فعندما تشغله مشكلات التخصص ومشكلات العيش يكون نشاطه محدودًا. لكن إذا ما تولت الحواسيب الأمر فإن هذا النشاط سيتناقص أكثر فأكثر وبالتالي فإنه سيتدهور تدريجيًا. هذا ليس تنبؤًا مستقبليًا، بل هو أمر يحصل الآن ويستطيع أي منكم تلمسه حين يتمعن بنشاطه الفكري. هل بوسع وعيكم، رغم ما يحمله من مخاوف ورغبات في تحقيق السعادة، مع كل الأحزان والآلام والمحن، ورغم كل الأذيات الداخلية التي تعرض لها، الانعتاق كليًا؟ قد يكون لدينا أنواع أخرى من الوعي، كوعي المجموعات، والوعي العرقي، والقومي، كوعي الكاثوليك، والهندوس، وهكذا، إلا أن أساس كل محتويات الوعي يبقى الخوف بالإضافة إلى السعي إلى تحقيق السعادة، والألم والبلايا المتلاحقة التي تكون خاتمتها الموت. كلُّ تلك الأمور تُشكِّل المحتوى المركزي من وعينا. فها نحن معًا ندرس ظاهرة الوجود الإنساني بكاملها، لأنها ظاهرة وجودنا. نحن بشر لأن وعينا، سواء كنا مسيحيين يعيشون في العالم الغربي، أو مسلمين يعيشون في الشرق الأوسط أو بوذيين يعيشون في آسيا، يتضمن بشكل رئيسي الخوف، واللهاث لتحقيق السعادة، والأحمال السرمدية من الآلام والمحن. فوعي الفرد ليس وعيًا خاصًا به على الإطلاق. وهذا أمر من الصعب أن نقبله، لأنه هكذا كانت اشتراطاتنا، ولأننا ربينا بحيث نقاوم الواقع الفعلي الذي يقول أننا لسنا فرادى على الإطلاق وأننا البشرية جمعاء. وهذه ليست فكرة رومانسية ولا مفهومًا فلسفيًا، وليست قطعًا فكرة مثالية، بل هي حقيقة. لذا علينا أن نستكشف ما إذا كان الدماغ قادرًا على أن يتحرر من محتويات وعيه. لماذا تنصتون إلى المتحدث أيها السَّادة؟ ألأنكم تنصتون إلى أنفسكم عندما تسمعون إليه؟ أهذا حقًا ما يحدث؟ لأن كل ما يفعله المتحدث هو الإشارة إلى نقطة ما والتصرف كمرآة تعكس لكم أنفسكم، وواقع وعيكم. لأن المتحدث لا يحاول أن يصِف، فالوصف سرعان ما يتحول إلى فكرة مجردة أخرى إذا ما اتَّبعناه. أما إذا تلمَّست عبر الوصف حالتك الذهنية ووعيك الخاص، فسيكون للاستماع إلى المتحدث بعض الأهمية. أمَّا إذا تساءلت بعد انتهاء هذه الأحاديث: "لماذا لم أتغير؟" فإن الخطأ يكون خطأك. أنت تحدَّثتَ خمسين عامًا ومع ذلك أنا لم أتغير. فهل الخطأ هو خطأ المتحدث؟ أو أن تقول للمتحدث: "أنا لم أستطع تطبيق نصائحك"، لذلك فإن الخطأ هو طبعًا خطأ المتحدث. وتصبح من ثم متهكمًا وتفعل كلَّ الأشياء السخيفة. لذا، تذكَّروا دائمًا أنكم لا تستمعون إلى المتحدث بقدر ما تتلمسون انعكاسًا لوعيكم عبر ما تتحدث عنه الكلمات - التي هي في النهاية وعي البشرية جمعاء. قد يؤمن العالم الغربي برموز وشعائر دينية معينة، وقد يفعل العالم الشرقي الأمر ذاته. لكن، خلف كلِّ هذا نجد الخوف ذاته، ونجد السعي نفسه لتحقيق السعادة، وأثقال الجشع والألم والأذية والرغبة في الانجاز نفسها. وهذه جميعها مشتركة لدى الإنسانية جمعاء. هكذا، نحن باستماعنا نتعلم عن ذواتنا، ولا نتابع الوصف فقط. نحن نتعلم حاليًا أن ننظر إلى أنفسنا لإحداث حرية كلية تعتق الذهن وتمنحه القدرة على العمل بكامل طاقته. وفي النهاية، فإن التأمل والحب والتعاطف هي من فعل الدماغ بكليته. وعندما يعمل الكل يكون هناك نظام متكامل. وحين يكون هناك نظام داخلي متكامل تكون هناك حرية كلية. عندئذٍ فقط يمكن أن يتحقق شيء مقدس أزلي. لكن هذا لن يكون مكافأة ولا أمرًا يجب إنجازه، بل يلوح ذاك السرمدي المقدس فقط عندما يصبح الذهن متحررًا بالكامل ويكون بوسعه أن يعمل بكلِّيته. تلتئم محتويات وعينا عبر نشاطات الفكر. هل من الممكن يومًا أن يتحرر ذاك المحتوى لنجد بعدًا جديدًا تمامًا؟ لنتمعن معًا في صيرورة المتعة، إذ ليس هناك فقط متعة بيولوجية، ومتعة جنسية، بل نحن نجد المتعة في التملُّك، في جني المال، وتلك التي نجدها لدى تحقيقنا لأمر عملنا لأجله طويلاً؛ كما توجد متعة في السلطة السياسية والدينية، وفي التسلط على أفراد آخرين، ومتعة في اكتساب المعرفة واستعراضها كبروفسور أو ككاتب أو كشاعر؛ كما هناك إشباع ناجم عن عيش حياة أخلاقية صارمة، ومتعة ناجمة عن تحقيق شيء داخلي عظيم لا يحققه الناس العاديون. هكذا كان نمط وجودنا لملايين السنين. وقد تكيف الذهن على هذا ولذا بات محدودًا. ولأن كل مشروط محدود حتمًا، فإن الذهن يتقلص ويضيق ويصبح أكثر محدودية مع الوقت عندما يلهث لتحقيق مختلف أشكال المتعة. ولربما من خلال أشكال المتعة المتعددة (كالجنس مثلاً أو مختلف أشكال التحقق) يسعى المرء كي يرفه عن نفسه. رجاء لاحظ هذه الأمور في ذاتك، في نشاطك اليومي. لأنك عندما تتمعن سترى أن الذهن مشغول دومًا بشيء أو بآخر، يثرثر بلا توقف ويهذر ويلغو كآلة لا تنام. وهكذا، يستهلك الذهن نفسه بالتدريج ليصبح عاجزًا لافعالاً عندما تأخذ الحواسيب مكانه. لذا، لماذا يعيش البشر أسرى سعيهم المستديم وراء مصادر المتعة، لماذا؟ أترى لأنهم يشعرون بمقدار هائل من الوحدة؟ أترى لأنهم يحاولون الهرب من ذلك الشعور بالعزلة؟ أترى لأنهم عاشوا منذ الطفولة وفقًا لهذه الإشراطات؟ أيحدث هذا لأن الذهن يخلق تصورًا عن السعادة ويسعى بعدئذ لتحقيقه؟ هل الذهن هو مصدر السعادة؟ مثلاً، يشعر المرء بشكل من السعادة لدى تذوقه طعامًا شهيًا جدًا أو متعةً جنسيةً أو عندما يسمع إطراءً جميلاً، ويقوم الذهن بتسجيل ما حدث. يسجل الدماغُ الوقائعَ التي أدت إلى الحصول على هذا الشعور الممتع. وتذكُّر ما حدث البارحة أو الأسبوع الماضي هو حركة الفكر. والفكر هو محرك السعادة، يسجل الدماغ الأحداث الممتعة والمثيرة التي تستحق أن تُذكر ويخطط الفكر لتحقيقها مستقبلاً ويتصور حصولها مجددًا ويطاردها. ونتسأل الآن: لِمَ يعيدُ الفكرُ ذكرى حادثة ما حصلت وانتهت؟ ألا يعود السبب إلى أنها جزء مما يشغلنا؟ فالأموال والسلطة والمكانة تشغل دومًا الشخص الذي يبحث عنها. وبشكل مشابه، لربما شُغل الدماغ بذكرى ممتعة حصلت الأسبوع الماضي. مما يعني أن الذهن سيسقطها على المستقبل وسيحاول تحقيقها فيما بعد. إن تكرار ما يُرضي ويُشبع ويُسر هو صيرورة الفكر ولهذا فهي صيرورة محدودة؛ لهذا فإن الفكر لا يمكن على الإطلاق أن يعمل بشكل كلي، بل فقط بشكل جزئي. هنا يبرز سؤال: إذا كان هذا نمط عمل الذهن، فكيف يمكن أن نوقف الفكر، أو بشكل أدق: كيف نوقف الفكر، كيف نوقف الدماغ عن تسجيل الحدث الممتع الذي حدث البارحة؟ هذا هو السؤال البيِّن. ولكن، لِمَ يطرحُه الإنسانُ؟ لِماذا؟ ألأنه يحاول دومًا الهرب من ملاحقة السعادة، ولأن هذا الهرب نفسه هو شكل آخر من أشكال السعادة؟ بينما لو لاحظت أن الحادثة التي منحتك المتعة والبهجة والإثارة قد انتهت وأنها لم تعد موجودة وأنها شيء حدث منذ أسبوع مضى أو أكثر (أي أنها كانت أمرًا حيًا وقتَئذٍ ولم تعد كذلك الآن) ألا يكون بوسعك الانتهاءَ منها، وإنهاءها وعدم تكرارها؟ لكن السؤال ليس كيف أنهيها أو كيف أوقفها، إنه فقط أن ترى حقيقة الطريقة التي يعمل وفقها الدماغ والفكر. إذا أدرك الإنسان هذا فسيصل الفكر بحدِّ ذاته إلى نهاية. وسينتهي معه تسجيل المتعة. الخوف هو الحالة العامة الموجودة لدى كل الناس، وهو متجذر بعمق لدى الجميع. فسواء كنت تعيش في كوخ أو في قصر، سواء كنت عاطلاً أو مشغولاً، سواء كنت عارفًا أو جاهلاً، وسواء كنت راهبًا بسيطًا أو أعلى ممثل لله على الأرض، أو أي شيء آخر، فإن الخوف يبقى الأرضية المشتركة التي يقف عليها كل البشر. هذا مما لا شك فيه، فهو حقيقة مطلقة لا يمكن إلغاؤها، كما لا يمكن لأحد دحضُها. وما دام الدماغ أسيرًا لهذا النمط من الخوف تبقى فعالياته محدودة ولهذا فإنه لن يعمل بشكل كلي. لذلك من المهم والضروري (إذا كانت البشرية ترغب في البقاء كبشرية وليس كآلات) أن يجد كل منا لنفسه إمكانية التحرر من الخوف. وما يعنينا هنا هو الخوف بحد ذاته، وليس كيف يعبِّر عن نفسه. فما هو الخوف؟ وعندما يكون هناك خوف، هل نتعرَّف عليه في تلك اللحظة كخوف؟ هل من الممكن وصف الخوف في لحظة ردَّة الفعل؟ أم أن الوصف يأتي بعد الحدث؟ وما بعد هو زمن. ثم لنفترض أن أحدهم خائف، فإما أن ينتج شعوره هذا عن شيء اقترفه فيما مضى ولا يريد أن يعرفه أحد، أو أنه خائف من شيء حدث في الماضي وما زال يوقظ الخوف في نفسه، أم أنكم تعتقدون بوجود خوف بلا سبب؟ وفي اللحظة التي يكون هناك خوف، هل نسميه كذلك؟ أم أن ذلك يحدث فقط فيما بعد؟ بالطبع نحن لا نسميه خوفًا إلا في ما بعد. ما يعني أن الدماغ الذي سجل الأحداث المخيفة السابقة يذكرها تمامًا بعد حدوث ردة الفعل، حين تعترف الذاكرة أنَّ هذا خوف. فحين تحدث ردة الفعل المباشرة، نحن لا نسميه خوفًا. فقط بعدما يحدث نسميه خوفًا. وتأتي تسميته بالخوف من تذكر أحداث قديمة أخرى أيقظتها مشاعر الخوف. حيث يتذكر المرء مخاوفَ الماضي واستجاباتِه الحديثةَ لها مسميًا إياها مباشرة بالخوف. وهذا بسيط للغاية. بمعنى أن هناك دومًا الذاكرة التي تؤثر على الحاضر. لذا، هل الخوف هو الزمن؟ فالخوف من شيء حدث الأسبوع الماضي وسبَّب تلك المشاعر التي أسميناها خوفًا، والتفكير الضمني بأن هذا لا يجب أن يحدث مرة أخرى في المستقبل، رغم أنه قابل للتكرار، وبالتالي يبقى المرء خائفًا منه. لذا يسأل الإنسان نفسه: أيكون الزمن هو جذر الخوف؟ وبالتالي، ما هو الزمن؟ هو مفهوم بسيط إن قيس بالساعة، حيث تشرق الشمس في ساعة محددة وتغرب في ساعة محددة أخرى. هذا ما حصل البارحة، ويحصل اليوم وسيحصل غدًا. إنه تعاقب زمني طبيعي. كما يوجد أيضًا زمن نفسي داخلي، حيث يتم تذكُّر الحادثة السارة أو المخيفة التي وقعت منذ أسبوع ويتم إسقاطها على المستقبل – قد أخسر منصبي، قد أخسر مالي، قد أخسر زوجتي. لذا، هل الخوف جزء من الزمن النفسي؟ يبدو أنه كذلك. ثم ما هو الزمن النفسي؟ حيث لا يحتاج الزمن المادي للمدى فقط، بل يحتاجه الزمن النفسي أيضًا، فالبارحة والأسبوع الذي مضى تحول اليوم والغد. هناك زمن ومكان. وهذا بسيط. لذا هل الخوف هو حركة الزمن؟ وهل حركة الزمن هي، من الناحية النفسية، حركة الفكر؟ وهكذا يكون الفكر هو الزمن والزمن هو الخوف – بالتأكيد. شخص ما شعر بالألم عند طبيب الأسنان. وهذه المشاعر تُخزَّن، ويتم تذكرها وتُعكس، ويأمل الإنسان بألا يشعرَ بها في المستقبل - الفكر يتحرك. لذا فإن الخوف هو صيرورة الفكر في الزمان والمكان. فإذا ما فهم الإنسان هذا وأدركه لا كفكرة بل كحقيقة (ما يعني الانتباه الكلي التام للخوف لدى تبيانه) عندئذٍ لن يُسجِّل الخوف. جرب هذا لتتبيَّنه بنفسك. عندما تولي إهانة ما انتباهك الكامل، لن يكون هناك إهانة. وإنْ قدِمَ أحدهم وقال: ما أروعك من شخص؟ وانتبهت أنت تمامًا لكلماته لوجدت أنها كالماء المتطاير وراء بطة تسبح. حركة الخوف هي الفكر في الزمان وفي المكان. هذه حقيقة. ليست مجرد كلمات يتفوه بها المتكلم أمامكم. فإذا ما تمعنت فيها بنفسك، ستلمس حقيقتها، ولن يكون بوسعك الهروب منها. لا يمكنك الهروب من حقيقة، لأنها دائمًا هنا. قد تحاول تفاديها أو إلغاؤها، وقد تحاول الهرب منها بمختلف الأشكال، إلا أنها ستبقى موجودة دائمًا. عندما وعيت بشكل كامل أن الخوف هو حركة الفكر، فإن الخوف لن يكون نفسيًا، لأنَّ مضمون وعيَنا هو صيرورة الفكر في الزمان وفي المكان. وسواء كان فكرنا محدودًا جدًا، أو واسع الأفق شاملاً، فإنه سيبقى حركةً في الزمان وفي المكان. لقد خلق الفكر نفسيًا أشكالاً متعددة من السلطة فينا، إلا أنها جميعها محدودة. فعندما تتحرر من الحدود ستشعر بقدر مذهل من السلطة، ولا تظهر هذه القوة على شكل قوة ميكانيكية بل على شكل طاقة مهولة تشعر بها. وهذه الطاقة لا علاقة لها بالفكر، لهذا لا يمكن استخدامها بشكل خاطئ. لكن إذا قال الفكر: "إني سأستخدمها"، فإن هذه الطاقة ستتبدد. كما يوجد عامل آخر في الوعي، ألا وهو الأسف والندم، والألم والجراح التي لا تندمل، والموجودة لدى البشر جميعًا، ومنذ الطفولة. تُذكر تلك الأذيات النفسية والألم الناتج عنها دومًا، ويتمسك الناس بها، وينتج عنها الأسى والندم. يوجد شعور كوني بالأسى لدى البشرية جمعاء التي قاست وواجهت آلاف الحروب وانتحب عليها ملايين الناس. وما زالت آلة الحرب موجودة بيننا، يديرها السياسيون، ويعززها الشعور الوطني القومي، ويدعمها ويقويها شعورنا بأننا منفصلين عن الباقين، أننا غيرهم. (نحن) ضد (هم)، و(أنا) ضد (أنت). يبني السياسيون هذه الأحزان والمآسي العالمية ويبنون منها المزيد. نحن جاهزون لحرب جديدة، وعندما نتحضر لشيء ما لا بد أن يحصل انفجار في مكان ما - قد لا يحصل في الشرق الأوسط، إنما قد يحصل هنا. لأننا سنحصل على ما نتحضر له - فالأمر يشبه تحضير الطعام. ولكننا شديدو الغباء لأننا نسمح بحدوث كل هذا، بما فيه الإرهاب. نتساءل الآن عن إمكانية إنهاء كل ما نعاني منه، كل أنماط التعرض للأذى، والوحدة، والألم، ومقاومتها، والانطواء على الذات، والعزلة، ما يسبب مزيدًا من الألم؛ ونتساءل إذا ما كانت توجد نهاية للأسى الناجم عن فقدان معتقد ثمين احتفظنا به طويلاً، أو عن خيبة الأمل، والخيبة التي تأتي لدى خسارة شخص تبعناه وناضلنا من أجله وسلمناه أرواحنا؟ هل يمكن أن نتحرر من كل هذا؟ هذا ممكن إن كرسنا أنفسنا – ليس بالحديث الذي لا ينتهي حولها. تمامًا كما يحدث عندما ندرك الأذية التي لحقت بنا في سني الطفولة، ونرى كل نتائج ذلك الأذى الذي نقاومه، ونتراجع عنه، لأننا لا نريد أن نؤذى من جديد، فنشجع العزلة، ونبنيَ حولنا جدرانًا. نحن نفعل الشيء نفسه في علاقاتنا. نتيجة الأذى الحاصل في الطفولة هي الألم والمقاومة والانسحاب من الحياة والعزلة والمخاوف العميقة جدًا. وكما قال المتحدث من قبل، نالك الأسى الكوني للبشر، فالبشر في مختلف أنحاء العالم تعذبوا في الحروب، وعلى أيدي الديكتاتوريات، والحكومات الشمولية. وأيضًا، هنالك أسى الأخ أو الابن أو الزوجة الذين ولوا الأدبار أو ماتوا، والأسى الناجم عن الفرقة، والأسى الناجم عن الاهتمام بأمر لا يكترث له الطرف الآخر. وفي كلِّ هذا الأسى لا يوجد أي مقدار من الشفقة أو الحب، لأن إنهاء الأسى يجلب الحب – ليس المتعة أو الرغبة، بل الحب. فأنى وجد الحب وجدت العاطفة التي يرافقها الذكاء، ذلك الذي لا يمت بصلة إلى الذكاء الناجم عن الفكر. علينا التأمل مليًا في أنفسنا كبشر. لِمَ ملأْنا حيواتِنا بكل تلك الأشياء، لماذا لم ننْتهِ من تلك الأحوالَ المؤلمة؟ أترى بسبب الكسل أم بسبب العادة؟ نقول عمومًا: لقد تعودنا وتكيفنا مع هذه الحال. فماذا بوسعنا أن نفعل؟. أمَّا كيف سأتخلص من تلك الاشتراطات، فأنا لا أستطيع إيجاد الجواب، لذا تراني أتوجه إلى الغورو الساكن بقربي، أو إلى القس أو إلى هذا أو ذاك. لا نقول أبدًا: لِمَ لا نتمعن في أنفسنا لنرى إذا ما كنا قادرين على تجاوزها، كما نتجاوز أية عادة أخرى، مثل كل العادات الأخرى، إذ يمكن إنهاء التدخين والإدمان على المخدرات وتعاطي الكحول. لكننا نقول: ما أهمية هذا، فأنا أزداد سنًا في جميع الأحوال، وجسدي يدمر ذاته، فما المانع من بعض المتعة؟. وهكذا نستمر في الحياة، ولا نشعر بمسؤولية ما نفعله، فإما أن نلوم البيئةَ التي حولنا أو المجتمع أو أهلنا أو الموروثَ ونجد بعض الأعذار، لكننا لا نلوم أنفسنا، لأننا إن كنا حقًا نمتلك الحافز والدافع لنكتشف سبب تعرضنا للأذى فبوسعنا ذلك. لقد أوذينا لأننا رسمنا تصورًا عن أنفسنا. هذه حقيقة. عندما يقول أحدهم: "لقد لحقت بي الأذية"، فإن من تأذى هو الصورة التي صنعناها عن أنفسنا، لأن أحدهم يأتي ويدوس الصورة بحذائه الثقيل فيشعر أحدهم بالأذى، كما يجرح البعض بسبب المقارنات (حين تقول لنفسك: "هذا حالي لكن أحدهم أفضل مني"). طالما ملَكَ المرء يملك تصورًا ذهنيًا عن نفسه فإنه سيبقى عرضة للأذى. هذه حقيقة. وإن لم ينتبه المرء إلى هذه الحقيقة واحتفظ بتصور ذهني ما عن ذاته سيأتي أحدهم يومًا ليدقَّ المساميرَ في تلك الصورة وستلحق به الأذية. كذلك عندما يكون للمرء تصورًا عن نفسه بأنه مشهور ومعروف لجماهير عريضة، وأنه له سمعة ومكانة يريد لها الاستمرار، فسيأتي أحد ويخرِّب تلك الصورة – شخص لديه جمهور أكبر. لكن إذا ما أعطى المرء الانتباهَ التام لتصوره عن نفسه – وأعني هنا الانتباه وليس التركيز – فسيرى أن تلك الصورة بلا معنى ولن تلبث أن تتلاشى. 21 تموز، 1981 ترجمة: يارا البرازي *** *** *** |
|
|