|
علم نفس الأعماق
بين جملة المفاهيم الخاطئة عن الحبِّ؛ الأقوى – والأكثر تضليلاً – هو الاعتقاد أن "الوقوع في الحب" هو الحب ذاته، أو أحد مظاهره على الأقل. إن هذا هو عين الخطأ؛ لأن الوقوع في الحب هو تجربة ذاتية يجري اختبارها على نحو قوي جدًا كما لو أنها هي الحب. حين يقع شخص في الحب فإن ما يشعر – أو تشعر – به هو بالتأكيد: "أنا أحبه" أو "أنا أحبها". وثمة مشكلتين تبدوان لنا هنا، في الحال: الأولى هي أن تجربة الوقوع في الحب ترتبط على الخصوص بالشهوة الجنسية؛ فنحن لا "نقع في حبِّ" أولادنا رغم أننا قد نحبهم بعمق؛ وعلى النحو ذاته، لا "نقع في حبِّ" أصدقائنا الحميمين من الجنس ذاته – خلا حالات الشذوذ الجنسي – رغم أننا قد نهتم بهم إلى أبعد الحدود. نحن نقع في الحب، إذًا، حين يدفعنا حافز جنسي فقط، سواء أكان شعوريًا أو لاشعوري. المشكلة الثانية هي أن الوقوع في الحب تجربة مؤقتة حتمًا؛ فبصرف النظر عمَّن "نقع في حبه"، نحن سوف "نقع خارج حبِّه" عاجلاً أم آجلاً إذا ما استمرت العلاقة وقتًا كافيًا. وهذا لا يعني القول أننا سنكفُّ حتمًا عن حب الشخص الذي "وقعنا في حبه"، بل يعني أن مشاعر الشغف والانجذاب التي تميز تجربة الوقوع في "الحب" تختفي على الدوام. شهر العسل ينتهي دومًا إذًا، وزهرة الرومنسية تذوي وتضمحل.
كنا نقول إن الوعي متشابه لدى جميع البشر. وأينما كنت تعيش، في الشرق أو في الغرب، فإن الوعي يتألف من عدة طبقات هي المخاوف والأمور التي تدعونا للقلق والرغبات والآلام وكل أشكال الإيمان. وبين الحين والآخر نجد الحب أيضًا في الوعي، والحنان والشفقة، ومن هذا الحنان بالذات يتولد نوع مختلف تمامًا من الذكاء. أما الخوف من الاندثار، من الموت فهو موجود دومًا. ومنذ فجر التاريخ حاول الإنسان حول العالم أن يجد شيئًا مقدسًا يتجاوز كل فكر، شيئًا لا يفسد ولا يتخرَّب، شيئًا أزلي الوجود. يوجد الوعي الجماعي لدى مختلف المجموعات، مثل وعي مجموعة رجال الأعمال، ووعي مجموعة العلماء والنجارين، وغيرهم. وهذه كلها تصوغ جزءًا من محتويات الوعي الكلي، وهي حتمًا نتيجة للفكر، حيث قام الفكر بخلق أمور رائعة الجمال من الحواسيب ذات التقنية الفائقة، إلى الاتصالات، إلى الآليين، وصولاً إلى أدق العمليات الجراحية والأدوية. وقام أيضًا باختراع الديانات، حيث أن كل المنظومات الدينية حول العالم موجودة وتتراكب مع بعضها بسبب الفكر.
انبثقت الثورة التونسية من النقطة العمياء الواقعة خارج نطاق الرؤية. ليس كافيًا أن نسعى إلى تفسير أسبابها من خلال المقولات الموضوعية للمنطق الاقتصادي-الاجتماعي. فهذه التفسيرات تقودنا إلى الانجرار وراء وهم الحتميَّة الذي يتسبَّب بالكثير من الضرر في عصرنا حيث يبدو كل شيء مبرمَجًا. وتُجرِّد الوجود البشري من المستقبل عبر جعل هذا الوجود قابلاً للتوقُّع، في راحة الاستذكار المبرَّدة. لا، الثورة التونسية هي مفاجأة بما في ذلك للأشخاص الذين أطلقوها وقادوها بعزم وتصميم. فضلاً عن ذلك، تأتي في وضع انكفأ فيه مفهوم الثورة من مساحة التفكير عندنا، على الأقل منذ انهيار جدار برلين. أخذت انطلاقة الثورة التونسية وقوَّتها الجميع على حين غرَّة. بدءًا من نظام بن علي. فقد انطلقت شرارتها من نقطة واقعة خارج نطاق الرؤية المضبوط الذي شكَّله هذا النظام.
|
|
|