French Arabic

الخبرة مع الله
حب الله والبلاء

 

سيمون ﭭـايل

 

في مجال الألم، البلاء[1] le malheur شيء مختلف، خاص، لا يُختزَل. إنه مختلف تمامًا عن مجرَّد الألم. فهو يستولي على النفس ويدمغها في العمق بدمغته الخاصة به وحدَه، ألا وهي دمغةُ العبودية. إنَّ العبودية التي كانت تمارَس في روما القديمة هي مجرَّد شكلٍ ظاهر للبلاء. كان الأقدمون الذين يعرفون جيدًا هذه المسألة يقولون: "يفقد الإنسانُ نصفَ روحه عندما يصبح عبدًا."

لا ينفصل البلاء عن الألم الجسدي، ومع ذلك فهو متمايز كليًا عنه. في الألم، كل ما لا يرتبط بالألم الجسدي أو ما شابهَ هو سطحي، وهمي، ويمكن القضاء عليه بإجراء مناسب يقوم به الفكر. وحتى في حالة غيابِ كائنٍ عزيز أو موتِه، فإن الجزءَ البسيطَ الذي لا يُختزَل من الحزن هو شيء أشْبهُ بألم جسدي، بصعوبة في التنفس، بمِلْزَمة تحيط بالقلب، أو بحاجة لا تُروَى، أو بجوع، أو بالفوضى شِبْهِ البيولوجية التي يسببها تحريرٌ عنيف لطاقة كانت إلى حينه يوجِّهُها تعلُّقٌ وفقدَتْ من يوجهها. الحزنُ الذي لا يتركَّز حول نواة أصلية كهذه هو مجرَّد رومانسية وأدب. الإذلالُ هو أيضًا حالة عنيفة لجسد الكائن الذي يريد أن ينتفضَ تحت تأثير الإهانة، ولكنه يجب عليه أن يتمالك نفسَه تحت إكراه العجز أو الخوف.

في المقابل، يكون الألم الجسدي فقط شيئًا زهيدًا جدًا ولا يترك أي أثر في النفس. مثالٌ على ذلك ألم الأسنان. فعدةُ ساعات من الألم العنيف الذي يسببه ضِرْسٌ معطوب حالما تنقضي تصبح لا شيئًا.

يختلف الأمر عن ألم جسدي طويل جدًا أو متكرر كثيرًا. ولكنْ غالبًا ما يكون مِثلُ هذا الألم شيئًا مختلفًا تمامًا عن الألم؛ إنه بلاء غالبًا.

البلاء هو استئصالٌ للحياة، هو مُعادِلٌ مخفَّف إلى حد ما للموت، تجعله حاضرًا حتمًا في النفْس الإصابةُ المباشرة بالألم الجسدي أو الخشية من الإصابة المباشرة به. فإذا كان الألم الجسدي غائبًا كليًا، لا يكون هناك بلاء للنفْس، لأن الفكر يتَّجه إلى أي موضوع. يهرب الفكرْ من البلاء بصورة سريعة وحتمية كما يهرب الحيوانْ من الموت. ليس هناك على الأرض سوى الألم الجسدي ولا شيءَ غيرَه يمتلك خاصيةَ ربط الفكر؛ بشرط أن ندمج بالألم الجسدي بعضَ الظواهر العصية على الوصف، ولكنها جسدية، والتي تعادله بدقة متناهية. إنَّ الخشية من الألم الجسدي، بصورة خاصة، هي من هذا النوع. عندما يُجبَر الفكرُ تحت وطأة الألم الجسدي، مهما كان هذا الألم خفيفًا، على الاعتراف بحضور البلاء، تحصل حالةٌ عنيفة كما لو أُجبِرَ شخصٌ محكومٌ عليه بالإعدام على النظر خلال ساعات إلى المقصلة التي ستدقُّ عنقَه. يمكن لبشرٍ أنْ يعيشوا عشرين سنة، خمسين سنة في هذه الحالة العنيفة. ونمرُّ من جنبهم دون أنْ نلاحظَ ذلك. فأيُّ امرئٍ قادرٌ على تمييزهم إنْ لم ينظر المسيحُ بعينيه؟ نلاحظ فقط أنَّ سلوكَهم غريب في بعض الأحيان، ونعيبُ عليهم هذا السلوكَ. لا يكون هناك بلاءٌ حقًا إلاَّ إذا كانت الحادثة التي استولت على حياةٍ ما واستأصلَتْها تصيبُ مباشرةً أو بطريقة غيرِ مباشرةٍ هذه الحياةَ في جميع مناحيها، الاجتماعي والنفساني والجسدي. لا يكون هناك بلاءٌ حقًا عندما لا يكون هناك بأي شكل من الأشكال انحطاطٌ اجتماعي أو خشية من انحطاط مماثل.

بين البلاء وبين جميع الأحزان التي هي شيء آخر غير البلاء بالمعنى الدقيق للكلمة، حتى وإنْ كانت هذه الأحزان عنيفةً جدًا وعميقةً جدًا وتدوم طويلاً، هناك في الوقت نفسه استمرار وانفصال عن عتبة معَيَّنة، مثلما هو الأمر في درجة غليان الماء. هناك حدٌّ يوجد بعدَه البلاء وليس دونه. هذا الحدُّ ليس موضوعيًا صِرْفًا؛ فكلُّ ضروب العوامل الشخصية تدخل في الحسبان. يمكن لنفْس الحادثة أنْ تدفعَ بشخص دون آخر إلى البلاء.

اللغز الكبير للحياة الإنسانية ليس الألمَ، بل البلاء. فليس غريبًا أنْ يُقْتَلَ الأبرياءُ ويعذَّبوا ويُطرَدوا من بلادهم ويُحكَم عليهم بالبؤس والعبودية ويُحبَسوا في معسكَرات أو زنزانات، لأنَّ هناك مجرمين يقومون بهذه الأفعال. وليس غريبًا أيضًا أنْ يؤدِّيَ المرضُ حتمًا إلى آلام طويلة تشلُّ الحياةَ وتجعل منها صورةً عن الموت، لأنَّ الطبيعةَ تخضع للعبةٍ عمياءَ من الضرورات الآلية. ولكنَّ الغريبَ أنْ يعطيَ اللهُ البلاءَ قدرةَ الاستحواذ على نفوس الأبرياء ذاتها والسيطرة عليها سيطرةً مطْلَقة. وفي أفضل الأحوال، لا يعود يحتفظ مَن يطبعه البلاءُ بوَصْمَتِه سوى بنصف [قدرات] نفسه.

هؤلاء الذين حصلَتْ لهم إحدى هذه الصدمات التي يتخبط المرءُ في إِثْرها على الأرض كدودةٍ شِبْهِ مسحوقة، هؤلاء لا يجدون كلماتٍ يُعَبِّرون بها عمَّا يحصل لهم. ومن بين الناس الذين تعترضهم الصدماتُ، لا يكون لدى الذين لم يلامسوا أبدًا البلاءَ بالمعنى الدقيق للكلمة، حتى وإنْ تألموا كثيرًا، لا يكون لديهم أدنى فكرةٍ عنه. إنه شيء خاص، لا يُختزَل إلى شيء آخر، كالأصوات التي لا شيءَ يعطي الأصمَّ الأبكمَ فكرةً عنها. فهؤلاء الذين، هم أنفسهم، شوَّهَهم البلاءُ ليس في وسعهم إغاثةُ أيٍّ كانَ ويكونون شبهَ عاجزين حتى عن الرغبة في ذلك. كذلك تكون الرأفة بالمُبْتَلَينَ أمرًا مستحيلاً. وعندما تحصل حقًا تكون معجزةً أكثر دهشةً من المشي على الماء ومن شفاء المرضى وحتى من قيامة ميت.

لقد أَرغَمَ البلاءُ المسيحَ على توسل الرحمة لنفسه وعلى البحث عن عَزاء لدى البشر وعلى الظن بأنَّ أباه قد تخلَّى عنه. وأَرغَمَ البارَّ الكاملَ بمقدار ما تقتضيه الطبيعةُ البشرية فحسب، وربما أكثر، على الصراخ في وجه الله إذا ما اعتُبِرَ أيوبُ شخصيةً تاريخية أقلَّ من كونه رمزًا للمسيح. "يسخر من بلاء الأبرياء." ليس ذلك تجديفًا أو كفرًا، إنما هو صرخة حقيقية ناتجة عن شدة الألم. إنَّ كتاب أيوب، من أوله إلى آخره، آيةٌ حقيقية من الحقيقة والصِّحة. فيما يخص البلاء، كل ما يحيد عن هذا المثال مشوبٌ نوعًا ما بالكذب.

يجعل البلاءُ اللهَ غائبًا خلال وقت معيَّن، غائبًا أكثر من غياب كائن ميت، أكثر من غياب الضوء من زنزانة يلفُّها الظلامُ. نوعٌ من الرعب يغمر كلَّ النفس. وخلال هذا الغياب، ليس هناك من شيء يُحَب. ما هو مرعب هو أنه إذا توقفَت النفسُ عن الحب في هذه الظلمات التي ليس فيها أيُّ شيء يُحَب فإن غياب الله يصبح نهائيًا. ينبغي أنْ تستمرَّ النفسُ في الحب دون غاية أو أنْ تريدَ على الأقل أنْ تُحِبَّ ولو بجزء منها متناهٍ في الصغر. عندئذٍ يظهر اللهُ بذاته لها يومًا ويكشف لها جَمالَ الوجود كما هي الحال عند أيوب. ولكنْ إذا ما توقَّفَت النفسُ عن الحب فإنها تسقط حتى وهي في الحياة الدنيا في شيء يعادل الجحيمَ تقريبًا.

لذلك فإنَّ من يُوْقِعون في البلاء أناسًا غيرَ مستعدين لتلقِّيه يَقتلون نفوسًا. من جهة أخرى، فإنَّ الإغاثة المقدَّمة للنفوس في عصر مثل عصرنا حيث يخيِّم البلاءُ على الجميع ليست فعَّالةً إلاَّ إذا أدَّت إلى إعدادهم في الواقع للبلاء. وليس ذلك أمرًا يسيرًا.

يبعث البلاءُ على القسوة واليأس لأنه يطبع في عمق النفس، كما يطبع الحديدُ المُحَمَّى، هذا الازدراءَ وذلك الاشمئزازَ وحتى ذلك النفورَ من الذات وذلك الإحساسَ بالذنب والدنس الذي يُفترَض منطقيًا أنْ تسببَه الجريمةُ ولكنْ لا تسببُه. يسكن الشرُّ في نفْس المجرم دون أنْ يشعرَ بذلك. يتم الشعورُ به في نفس البريء المبتلَى. وتجري الأمورُ كما لو أنَّ حالةَ النفْس التي تنبغي بطبيعتها للمجرم قد انفصلَت عن الجريمة وارتبطَت بالبلاء؛ وحتى بمقدار براءة المبتلَين.

إذا كان أيوبُ ينادي ببراءته بنبرة يائسة جدًا فذلك لأنه هو نفسه لم يصدِّقْ ذلك، وذلك أنَّ نفسه في قرارتها انحازت لأصدقائه. حتى إنه التمسَ حُكْمَ الله، لأنه لم يعدْ يسمع حُكْمَ ضميره؛ لم يعدْ الأمرُ عنده سوى ذكرى مجردة وميتة. إنَّ الطبيعة الجسدية للإنسان مشتركة مع الحيوان. فالدجاجاتُ تتدافع على نَقْر دجاجة جريحة. إنها ظاهرة آلية مثلها كمثل الجاذبية الأرضية. فكل ما يربطه عقلُنا بالجريمة من ازدراء ونفور وكراهية يجعله شعورُنا مرتبطًا بالبلاء. كلُّ البشر، باستثناء الذين يشغل المسيحُ كلَّ نفوسهم، يزدرون المبتلَى بدرجة ما، على الرغم من أنه لا أحدَ تقريبًا يعي ذلك.

إنَّ لقانون شعورنا هذا قيمةً أيضًا في نظرنا. فهذا الازدراءُ وذلك النفور وتلك الكراهيةُ، لدى مبتلَىً ما، تنقلب عليه، تدخل في مركز النفْس، وبذلك تُلوِّن بلونها المسموم الكونَ بِرُمَّتِه. يمكن للحب الفائق، إذا بقيَ، أنْ يمنعَ النتيجةَ الثانية من الحصول ولكنْ لا يمنعُ الأولى. فالأولى هي الجوهر نفسُه للبلاء؛ وليس هناك بلاءٌ ما لم تحصلِ النتيجةُ الأولى.

"لُعِنَ من أجلِنا." ليس جسد المسيح المعلَّقُ على خشبة وحدَه الذي لُعِن، بل كل نفْسه أيضًا. كذلك يشعر كلُّ بريء في البلاء أنه ملعون. وكذلك الأمر لدى هؤلاء الذين كانوا في البلاء وانتشلَهم منه تغيُّرُ الحظ عندما يُجرَحون في العمق.

النتيجة الأخرى للبلاء هي أنه يجعل النفسَ متواطئةً معه شيئًا فشيئًا من خلال حقن سُمِّ العطالة فيها. فلدى كلِّ من ابْـتُـلِيَ ردحًا طويلاً من الزمن تواطؤٌ مع بلائه. هذا التواطؤ يعيق جميعَ الجهود التي يمكنه أنْ يقومَ بها من أجل تغيير مصيره نحو الأفضل؛ ويؤدي إلى منعه من البحث عن وسائل خلاصه، وحتى إلى منعه أحيانًا من تمنِّي الخلاص. فيستقر عندئذٍ في البلاء، وقد يظن الناسُ أنه راضٍ. لا بل قد يدفعه هذا التواطؤُ رغمًا عنه إلى تجنُّبِ وسائل الخلاص وإلى الهروب منها؛ فيحتجب عندئذٍ وراء ذرائعَ مضحكةٍ أحيانًا. وحتى لدى من خرج من البلاء، إذا ما جُرِحَ جرحًا دائمًا في عمق نفْسه، يبقى شيءٌ يدفعه إلى التردِّي فيه من جديد، وكأنَّ البلاء كان يستقر فيه على غرار الطُّفَيلي ويوجهه لغاياته. هذا الاندفاع يتغلب أحيانًا على جميع انفعالات النفس نحو السعادة. وإذا انتهى البلاءُ بفعل إحسان، يمكن أنْ يرافقَ الاندفاعُ كراهيةً للمحسن؛ وهذا هو سببُ بعض حالات نكران الجميل غيرِ الإنساني والتي تبدو في الظاهر غيرَ قابلة للتفسير. من السهل أحيانًا تخليص مبتلَىً من بلائه الحاضر، ولكن من الصعب تحريره من بلائه الماضي. الله وحده قادر على ذلك. كذلك فإنَّ رحمة الله بذاتها لا تشفي في الدنيا الطبيعةَ المجروحةَ جرحًا لا شفاءَ منه. فالجسد الممجَّد للمسيح كان يحمل جروحًا.

لا يمكن قبول وجود البلاء من غير النظر إليه على أنه بُعْد.

خلَقَ اللهُ عن محبة ومن أجل المحبة. لم يخلُقِ اللهُ غيرَ المحبة ذاتها وغيرَ طُرُق المحبة. خلَقَ كلَّ أشكال المحبة. خلَقَ كائناتٍ قادرةً على المحبة من جميع المسافات الممكنة. أتى، هو نفسُه، لأنه لا أحدَ غيره قادر على القيام بذلك، إلى المسافة القصوى، المسافة اللانهائية. هذه المسافة اللانهائية بين الله والله، كآبة déchirement مُطْلَقة، ألمٌ لا يدانيه أيُّ ألم، آية المحبة، إنها الصَّلْب. لا شيء يمكنه أن يكون أبعدَ عن الله من ذلك الذي لُعِن.

هذه الكآبة التي تضع المحبةُ المُطْلَقة الصلةَ بالاتحاد الأسمى قَبْلها تتصادى على الدوام عبر الكون، في عمق الصمت، كعلامتين موسيقيتين منفصلتَين ومنصهرتين، كتناغم خالص وباعث على الشجَن. هذا هو كلام الله. وليست الخليقةُ كلُّها سوى اهتزازه. عندما تخترق الموسيقى الإنسانيةُ نفوسَنا بأشد صفائها فهذا هو الذي نسمعه من خلالها. وعندما تُعلِّمنا أنْ نسمعَ الصمتَ فهذا هو الذي ندركه بوضوح من خلاله.

إنَّ الذين يَثبتون في المحبة يسمعون هذه العلامةَ الموسيقية في عمق الانحطاط الذي وضعهم البلاءُ فيه. ابتداءً من هذه اللحظة، لا يعود في مقدورهم أنْ يكون لديهم أيُّ شك.

يكون البشر الذين يصيبهم البلاءُ في أسفل الصليب، على أكبر بُعْد ممكن، إلى حد ما، من الله. ينبغي عدم الاعتقاد بأن الخطيئة هي بُعْد أكبر. ليست الخطيئةُ بُعْدًا. إنها توجُّـهٌ خاطئ للنظر.

هناك حقًا صلةٌ غامضة بين هذا البعد وبين عصيان أصلي. يقولون لنا بأن البشرية حوَّلَتْ منذ البدء وُجهتَها عن الله ومشت في الاتجاه الخاطئ بعيدًا ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً. ذلك أنها كانت تستطيع، إذْ ذاك، المشيَ. لكننا نحن مسَمَّرون في مكاننا، أحرار في نظراتنا فقط، خاضعون للضرورة. إنَّ آليةً عمياء لا تحسِب أيَّ حساب لدرجة الكمال الروحي تتقاذف البشرَ باستمرار وتلقي ببعضهم في أسفل الصليب تمامًا. ويُناط بهم حصرًا الحفاظُ على بقاء أعينهم مشرئبَّةً إلى الله خلال الصدمات. ليس الموضوع هو غياب العناية الإلهية. فبالعناية الإلهية أراد الله أنْ تكون الضرورةُ آليةً عمياء.

لو لم تكن الآليةُ عمياءَ لما كان هناك بلاء على الإطلاق. فالبلاءُ قبل كل شيء مجهولُ الهوية، فهو يحْرِم مَن يصيبهم مِن شخصيتهم ويجعل منهم أشياءً. وهو لا مبالٍ، وبرودة هذه اللامبالاة، كبرودة المعدن، هي التي تُجمِّد حتى العمقِ ذاتِه للنفْس جميعَ من يلمسهم. فلا يعودون يستعيدون الدفءَ أبدًا. ولا يعودون يُصدِّقون أبدًا أنهم أشخاص.

ما كان للبلاء هذه الخاصية لولا ذلك الجزء من المصادفة الذي يحتوي عليه. فالذين اضطُهِدوا من أجل إيمانهم ويعلمون ذلك ليسوا مبتلَينَ مهما كانت معاناتهم. يقعون في البلاء فقط عندما يحتل الألمُ أو الخوفُ النفْسَ إلى درجة تجعلهم ينسون سببَ اضطهادهم. فالشهداء الذين كانوا يقدَّمون للحيواناتِ فيدخلون في الحلبة وهم يغنُّون ليسوا مبتلَينَ. كان المسيح مبتلَىً. لم يمتْ ميتةَ شهيد. مات ميتةَ مجرم في الحق العام، مختلطًا مع اللصوص، ولكنْ فقط بصورة غريبة مثيرة للسخرية أكثر. لأن البلاء غريب مثير للسخرية.

ليس هناك إلاَّ الضرورة العمياء في مقدورها أنْ تُلقيَ بأُناسٍ في البعد الأقصى، قُرْبَ الصليب تمامًا. تشكِّل الجرائمُ البشريةُ التي هي سببُ أغلبِ المِحَن malheurs جزءًا من الضرورة العمياء، لأنَّ المجرمين لا يعون ماذا يفعلون.

هناك شكلان من المحبة، اللقاء والانفصال. وهما ضروريان جدًا. وينطوي الاثنانِ على الخير نفسه، الخير الوحيد، المحبة. لأنه عندما يقترب شخصان ليسا صديقَينِ من بعضهما، لا يكون هناك لقاء. وعندما يبتعدان لا يكون هناك انفصال. هذان الشكلانِ حَسَنانِ أيضًا لاحتوائهما على الخير نفسه.

يُظهِر اللهُ نفسَه ويَعرِف نفسَه تمامَ المعرفة كما نصنع ونعرف معرفةً شحيحةً يُرثَى لها أغراضًا خارج أنفسنا. ولكنَّ الله محبةٌ قبل كل شيء. وقبل كل شيء، يَعرِف اللهُ نفسَه. هذا الحب، هذه المحبة في الله، إنها التثليث. وبين النهايات التي تجمعها علاقةُ الحب الإلهي هذه أكثرُ من تقارب؛ تقارب لانهائي، تطابُق. ولكنْ هناك أيضًا، بالخَلْق والتجسد والآلام، بُعد لانهائي. إنَّ المكانَ بكُلِّيته والزمان بكُلِّيته، من خلال إلقائهما كثافتَهما حجابًا، يضعان بُعدًا لانهائيًا بين الله والله.

للأحباب والخِلاَّن تَوْقانِ. فتَوْقُ الأحباب أنْ يتحابَّـا بقدر ما يَلِجُ أحدهما في الآخر فلا يشكِّلان سوى كائن واحد. وتَوْقُ الخِلاَّن أنْ يتحابَّـا بقدر ما يبقى اتِّحادُهما بلا نقصان وهما يمتلكان كلُّ واحد منهما نصفَ الكرة الأرضية. كلُّ ما يتوق إليه الإنسانُ سُدىً في هذه الدنيا هو كاملٌ وحقيقي في الله. تكون فينا كلُّ هذه الرغبات المستحيلة أشبهَ بعلامةٍ على وُجهَتِنا، وهي مفيدة لنا مادمنا لا نأمل بَعدُ تحقيقَها.

المحبة بين الله والله، والتي هي نفسها الله، هي هذه الصلة ذات الخاصية المزدوجة؛ هذه الصلة التي تجمع كائنَينِ إلى درجة عدم التمييز بينهما فيصبحان كائنًا واحدًا بالفعل، هذه الصلة التي تمتد فوق البُعد وتنتصر على انفصال لانهائي. إنَّ وحدانية الله التي تختفي منها كلُّ تعددية وحالةَ التخلِّي التي ظنَّ المسيحُ نفسَه فيها دون أنْ يتوقف عن حب الآب حبًا كاملاً هما شكلان من الخاصية الإلهية للحب نفسه الذي هو الله نفسه. فالله في جوهره محبةٌ إلى درجة أنَّ الوحدانية التي هي تعريفه ذاته بأحد المعاني ليست سوى مجرَّدِ نتيجةٍ للمحبة. إنَّ الخاصية اللانهائية والموحِّدة لهذه المحبة يقابلها الانفصالُ اللانهائي الذي تنتصر عليه المحبةُ والذي هو كلُّ الخليقة المنبسطة عبر المكان والزمان بكُلِّيتهما والتي قِوامُها مادةٌ حيوانية من وجهة نظر ميكانيكية والمتوضعة بين المسيح والآب.

أما نحن البشرَ فيعطينا بؤسُنا امتيازًا ثمينًا جدًا بالمشاركة في هذا البعد الواقع بين الابن والآب. لكنَّ هذا البعد ليس انفصالاً إلاَّ عند الذين يُحبِّون. فعند من يُحبُّون، يكون الانفصالُ، رَغْمَ إيلامِه، خيرًا، لأنه محبة. حتى الضِّيقُ الذي ألمَّ بالمسيح عندما تُرِكَ هو خير. لا يمكن أنْ يكون لنا في هذه الدنيا من خير أكبر من المشاركة في هذا الانفصال. لا يمكن أن يكون اللهُ في هذه الدنيا حاضرًا لنا كليًا، بسبب الجسد. ولكنْ يمكن أن يكون غائبًا عنا كليًا تقريبًا في أقصى البلاء. ذلك هو الإمكان الوحيد لنا من أجل الكمال على الأرض. لذلك فإن الصليب هو أملنا الوحيد. "ما من غابة تضم شجرةً كهذه، بهذا الزهر وبهذه الأوراق وبتلك البذرة."

هذا الكون الذي نعيش فيه والذي نشكِّل جزءًا صغيرًا منه هو ذلك البعد الذي وضعَتْه المحبةُ الإلهيةُ بين الله والله. وما نحن إلاَّ نقطةٌ في هذا البعد. المكان والزمان والآليةُ التي تحكم المادةَ هي جميعها هذا البعد. وكلُّ ما ندعوه شرًا ليس إلاَّ هذه الآلية. يفعل الله بحيث تتيح نعمتُه للإنسان، عندما تنفذ حتى إلى مركزه فتضيء بذلك كينونتَه بكاملها، أنْ يمشيَ على الماء دون الحاجة إلى خرق قوانين الطبيعة. ولكنْ عندما يُعرِض الإنسانُ عن الله يستسلم ببساطة للعطالة. ويظن فيما بعد أنَّ لديه إرادةً واختيارًا، ولكنه ليس سوى شيء، ليس سوى حجرٍ يسقط. إذا نظرنا عن كثبٍ نظرةَ انتباهٍ حقيقية إلى النفوس والمجتمعات البشرية نرى أنه حيثما تغيب خاصيةُ النور الفائق يخضع كلُّ شيء لقوانينَ ميكانيكيةٍ عمياءَ ودقيقةٍ مثل قوانينِ سقوط الأجسام. هذه المعرفة مفيدة وضرورية. إنَّ ما نسميهم مجرمين ليسوا سوى أحجار قرميد اقتلعَتْها الرياحُ من على السطح وسقطَتْ في يد المصادفة. خطؤهم الوحيد هو خيارهم الأول الذي جعل منهم هذه الأحجارَ القرميدية.

تنتقل آليةُ الضرورة من موضع لآخر على كل المستويات وتبقى نفسها في المادة الخام وفي النبات وفي الحيوان وفي الشعوب وفي النفوس. هذه الآليةُ عمياء تمامًا إذا ما نُظِرَ إليها من النقطة التي نحن فيها وحسب منظورنا. ولكنْ إذا نقلْنا قلوبَنا خارج أجسادنا وخارج العالم وخارج المكان والزمان حيث يكون الآبُ ونظرْنا من هناك إلى هذه الآلية فإنها ستبدو مختلفةً تمامًا. ما كان يبدو ضرورةً يصبح طاعة. المادة منفعلة كليًا، وبالتالي فهي طائعة كليًا للإرادة الإلهية. إنها مثال كامل لنا. لا يمكن أن يكون هناك كائن آخر غير الله وغير من يطيع الله. تستحق المادةُ، لطاعتها التامة، أنْ يحبَّها من يحبون ربَّها، مثلما ينظر عاشقٌ بحنان إلى إبرة كانت تستخدمها امرأةٌ يحبها وماتت. إنَّ جَمال الوجود يُعْـلِمنا بما تستحقه المادةُ من حبنا. في جَمال العالَم، تصبح الضرورةُ الخام موضوعَ محبة. لا شيء يضاهي جَمالَ جاذبية الطيات الهاربة لتموجات البحر أو الطيات شِبْهِ الأزلية للجبال.

لا يصير البحر أقلَّ جَمالاً في عيوننا إذا ما عرفنا أن مراكبَ تغرق فيه أحيانًا. لا بل يصبح أكثرَ جَمالاً بذلك. ولو عدَّلَ حركاتِ أمواجِه ليحميَ مركبًا من الغرق لأصبحَ كائنًا ذا تمييز واختيار وليس ذلك السائل الخاضع كليًا لجميع الضغوط الخارجية. فهذا الخضوع التام هو جَمالُه.

جميع الأهوال التي تحصل في هذا العالَم هي مثل الطيات التي تطبعها الجاذبيةُ على الأمواج. ولذلك فهي تنطوي على جَمال. إن قصيدة مثل الإلياذة تجعل أحيانًا مثلَ هذا الجَمالِ محسوسًا.

لا يمكن للإنسان الخروج أبدًا من طاعة الله. [إذْ] لا يمكن لمخلوق ألاَّ يطيعَ. فالخيار الوحيد المتاح للإنسان كمخلوق عاقل وحر هو أنْ يرغب في الطاعة أو أنْ يرغبَ عنها. فإذا رغب عنها فإنه يطيع مع ذلك على الدوام بصفته شيئًا خاضعًا للضرورة الآلية. وإذا رغب فيها يبقى خاضعًا للضرورة الآلية، ولكنْ تضاف إليها ضرورةٌ جديدةٌ، ضرورةٌ تُشكِّلها القوانينُ الخاصة بالأمور التي تفوق الطبيعة. تصبح بعضُ الأعمال مستحيلةً عليه، وتتم أعمالٌ أخرى من خلاله وأحيانًا على رَغم أنفه إلى حد ما.

عندما ينتابنا شعورٌ بأننا في ظرفٍ ما قد عصينا اللهَ فهذا يعني ببساطة أننا خلال وقت معيَّن توقفنا عن الرغبة في الطاعة. بالطبع، وبغض النظر عن الأسباب الأخرى فإن الإنسان لا يقوم بالأعمال نفسها تبعًا لقبوله أو عدم قبوله الطاعةَ؛ مثلما أنَّ النبات لا ينمو بالطريقة نفسها إذا وضعناه في الضوء أو في الظلمة بغض النظر عن الشروط الأخرى. فالنبات لا يقوم بأي تحكُّم ولا بأي خيار بشأن نموه. إننا نحن كالنباتات التي ربما يكون خيارها الوحيد هو أنْ تتعرَّض للشمس أو لا.

يقدِّم لنا المسيحُ طواعيةَ المادةِ مثالاً موصيًا إيانا أنْ ننظر إلى زنابق الحقول التي لا تعمل ولا تغزِل. أيْ أنها لم تقصد أنْ تلبسَ هذا اللونَ أو ذاك، لم تحرِّك إرادتَها ولم تمتلك وسائلَ لهذه الغاية، تلقَّتْ كلَّ ما كانت الضرورةُ الطبيعيةُ تقدِّمه لها. فإذا كانت تبدو لنا أجملَ بكثير من الأقمشة الثمينة فليس لأنها أثمن، بل بسبب طواعيتها. النسيج طيِّع أيضًا، ولكنه طيِّع للإنسان لا لله. ليست المادةُ جميلةً عندما تخضع للإنسان، بل عندما تخضع لله فقط. وإذا ما بدت أحيانًا جميلةً في عمل فني جمالَها في البحر أو الجبال أو الأزهار فذلك لأنَّ النور الإلهي قد ملأ الفنانَ. لكي يرى المرءُ جَمالَ الأشياء التي صنعها أُناسٌ لم يستنيروا بالله لا بد أنْ يكون قد أدركَ في قرارة نفسه أنَّ هؤلاء الناسَ أنفسَهم ليسوا سوى مادةٍ طائعة وهم لا يشعرون. لا بد أنْ يكون عالَم الدنيا كلُّه جَمالاً بجَمال في نظر من يكون على هذه الحال. فيميِّز آليةَ الضرورة في كل ما هو موجود وفي كل ما يحصل، ويتذوق في الضرورة الحلاوةَ اللانهائية للطاعة. تبدو لنا طاعةُ الأشياء هذه في علاقتها مع الله كشفافية الزجاج في علاقته مع الضوء. وعندما نشعر بهذه الطاعة بكل كينونتنا نرى اللهَ.

عندما نمسك صحيفةً بالمقلوب نرى الأشكالَ الغريبةَ للأحرف الطباعية. وعندما نضعها بالشكل الصحيح لا نعود نرى الأحرفَ، [بل] نرى كلماتٍ. يحسُّ راكبُ قارب تأخذه عاصفةٌ بكل هزةٍ انقلابًا في أحشائه. ويدرك القبطانُ في هذا الموقف فقط كيف يوائم الرياحَ والتيارَ والموجَ هذه المواءمةَ المعقَّدة مع وضعية المركب وشكله وأشرِعته ودُفَّته.

كما نتعلم القراءةَ وكما نتعلم مهنةً، كذلك نتعلم، قبل كل شيء، ولا شيء غير هذا تقريبًا، كيف نشعر في كل شيء بطاعة الكون لله[2]. وهذا تعَلُّم حقًا. ويتطلَّب، كأي تعَلُّم، جهدًا ووقتًا. ليس هناك عند من بلَغَ المرتبةَ المطلوبة من فروق بين الأشياء والأحداث سوى الفرق الذي يشعر به شخصٌ يعرف القراءة أمام جملة واحدة نُسِخَتْ عدة مرات، كُتِبَتْ بالحبر الأحمر، بالحبر الأزرق، طُبِعَتْ بهذه الأحرف أو تلك. من لا يعرف القراءةَ لا يرى فيها سوى فروقات. ومن يعرف القراءةَ يرى كلَّ ذلك واحدًا، لأن الجملة هي نفسها. من أتمَّ التعلُّمَ يرى الأشياءَ والأحداثَ في كل زمان ومكان اهتزازًا للكلام الإلهي نفسه اللامتناهي في اللطف. هذا لا يعني أنه لا يتألم. فالألم هو تلوين بعض الأحداث. في جملة مكتوبة بالحبر الأحمر، يرى من يعرف القراءةَ ومن لا يعرف القراءةَ كلاهما اللونَ الأحمرَ بالطريقة نفسها؛ ولكنْ ليس للتلوينِ الأحمرِ التأثيرُ نفسُه عند كلاهما.

عندما يُجرَح متعلِّمٌ مبتدئٌ في مهنة أو يشكو من التعب، يقول العمال والفلاحون هذا القولَ الجميل: "إنها المهنة تدخل الجسدَ." عندما نعاني من ألم يمكننا أن نقول لأنفسنا حقًا إن الكون ونظام العالم وجَمال العالم وطاعة الخَلْق لله هي التي تدخل في جسدنا. عندئذٍ، كيف لنا ألاَّ نبارك المحبةَ التي أرسلَتْ لنا هذه الهبةَ مقدِّمين لها أسمى آيات العرفان؟

الفرح والألم عطيَّتان ثمينتان أيضًا، وينبغي تذوُّقُ كلاهما بالكامل، كل عطية في صفائها، دون السعي إلى خلطهما. فبالفرح يدخل جَمالُ العالم في نفوسنا. وبالألم يدخل في أجسادنا. بالفرح وحده لا يمكننا أن نصبح أحبابَ الله مثلما أن المرء لا يصبح قبطانًا إذا اكتفى بدراسة مراجعَ عن الملاحة. فللجسد نصيب في كل تعلُّم. يكون الألم وحده، على مستوى الحس الجسدي، تواصلاً مع هذه الضرورة التي تشكِّل نظامَ العالم؛ لأنَّ السرور لا ينطوي على [أي] تأثير لضرورة. إنَّ جزءًا ساميًا من الحس هو المسؤول عن الشعور بالضرورة في الفرح، وهذا يتم من خلال الشعور بالجَمال. لكي يصبح يومًا ما لهذه الطاعة التي هي جوهر المادة وقْعٌ في جميع أبعاد كينونتنا بكُلِّيَّتها ولكي يتشكَّل في داخلنا هذا المعنى الجديدُ الذي يتيح سماعَ الكون كاهتزازٍ لكلام الله فلا بد أيضًا من وجود خاصية الألم التي تصنع التغييرَ وخاصية الفرح. ينبغي، عندما تكونان حاضرتَينِ، فتْحُ مركز النفْس ذاته لكلاهما، كما يَفتَح المرءُ بابَه لرُسُـلِ من يحب. وماذا يهمُّ العاشقةَ إذا كان الرسولُ مؤدَّبًا أو فظًَّا طالما أنه يسلِّمها رسالةً؟

غير أنَّ البلاء ليس هو الألم. البلاء شيء يختلف تمامًا عن مجرَّد طريقة تربوية من الله.

يفصلنا عن الله مكانٌ وزمان لانهائيان. فكيف نبحث عنه؟ وكيف نأتي إليه؟ حتى لو مشينا قرونا طويلةً فإننا لا نفعل شيئًا سوى أننا ندور حول الأرض. حتى بالطائرة لا يمكننا أن نقوم بغير ذلك. ليس في وسعنا أن نتقدَّم عموديًا. لا نستطيع القيامَ بخطوة واحدة نحو السماوات. فالله يقطع الكونَ ويأتي إلينا.

فيما يتخطَّى لانهائيةَ المكان والزمان، يأتي حبُّ الله الأكثر لانهائيةً بما لا يقارَن فيأسرنا. يأتي في وقته. ونحن نمتلك سلطةَ قبول استقباله أو الرفض. إذا بقينا صُمًَّا فإنه يرجع ويرجع تارةً أخرى كمتسوِّل، ولكنه كمتسوِّل أيضًا يأتي يومٌ ولا يعود يرجع فيه. وإذا قبِلْنا يضع الله فينا بذرةً صغيرة ويذهب. ابتداءً من هذه اللحظة، لا يعود هناك شيءٌ ليفعلَه اللهُ ولا لنفعلَه نحن أيضًا غير الانتظار. علينا فقط ألاَّ نأسفَ على الموافقة التي أعطيناها، على الـ"نَعَمْ" للزفاف. ليس الأمر بهذه السهولة التي تبدو، لأنَّ نمُوَّ البذرة فينا مؤلم. زِدْ على ذلك أنه بما أننا قبِلْنا هذا النموَّ فلا نستطيع أنْ نمتنعَ عن القضاء على كل ما من شأنه أنْ يعيقَه وعن قلْع الأعشاب الضارة وعن قطع نبات النجيل chiendent[3]، ذلك النجيلُ يشكِّل، لسوء الحظ، جزءًا من جسدنا نفسه، بحيث تكون عنايةُ البستانيِّ هذه عمليةً عنيفة. في المحصلة، تنمو البذرةُ مع ذلك وحدَها. ويأتي يومٌ تصبح النفسُ فيه لله، ولا ترضى فيه بالحب وحسبُ، بل تحب حقًا وفعلاً. ينبغي عندئذٍ أنْ تقطعَ الكونَ بدورها لتأتيَ إلى الله. لا تحب النفسُ كمخلوق حبًا مخلوقًا. فذلك الحب فيها إلهي غير مخلوق، لأن حب الله من أجل الله هو الذي يمر عبرها. فالله وحده يستطيع أن يحب اللهَ. نحن نستطيع فقط أنْ نرضى بفقدان مشاعرنا لإتاحة المجال في نفوسنا لهذا الحب. هذا يعني أنْ ينفيَ المرءُ نفسَه. إننا لم نُخلَقْ إلاَّ من أجل هذا الرضا.

لقد اجتاز الحبُّ الإلهيُّ لانهائيةَ المكان والزمان ليأتيَ من الله إلينا. ولكنْ كيف يمكنه أنْ يقطعَ من جديد هذه المسافةَ في الاتجاه المعاكس عندما ينطلق من مخلوق محدود؟ بعد أنْ تكبرَ بذرةُ الحب الإلهي التي أُودِعَتْ فينا وتصبحَ شجرةً، كيف يمكننا نحن الذين نحملها أنْ نعيدَها إلى أصلها، أنْ نقومَ في الاتجاه المعاكس بالرحلة التي قام بها الله نحونا، أنْ نجتازَ المسافةَ اللانهائية؟

يبدو ذلك مستحيلاً، ولكنْ هناك وسيلة. هذه الوسيلة نعرفها جيدًا. نعرف جيدًا على أي شَبَه صُنِعَتْ هذه الشجرةُ التي نمَتْ فينا، هذه الشجرة الجميلة جدًا، والتي تحطُّ عليها طيورُ السماء. نعرف أيَّ شجرة أجمل من جميع الأشجار. "ما من غابة تضم شبيهًا لها." شيء أفظع قليلاً من المشنقة، هذه هي أجمل الأشجار. هذه هي الشجرة التي وضعَ اللهُ بذرتَها فينا، دون أن نعلم أنها كانت هذه البذرة. لو كنا علِمْنا لما قلنا بلى من اللحظة الأولى. إنها هذه الشجرة التي نمَتْ فينا وأصبحَتْ راسخةَ الجذور. لا شيءَ غير الخيانة يمكنه أنْ يجتثَّها من جذورها. عندما نضرب بمطرقة على مسمار، تمرُّ الضربةُ التي تتلقاها قاعدةُ المسمار العريضة بكاملها إلى الرأس دون أنْ يضيعَ منها شيءٌ، على الرغم من صغر حجم الرأس. وحتى لو كانت المطرقة وقاعدة المسمار كبيرَتينِ جدًا فالأمر سيَّان. ولسوف تنقل قاعدةُ المسمار إلى الرأس الذي تستند إليه هذه الضربةَ الهائلة.

البلاء هو أعجوبة التقنية الإلهية. إنه آلية بسيطة وبارعة تُدخِل في نفْس المخلوق المحدود هذه اللامحدوديةَ في القوة العمياء الهمجية الباردة. فالمسافة اللانهائية التي تفصل اللهَ عن الخَلْق تتجمَّع بكاملها في نقطة لتخرقَ نفْسًا في مركزها. إن الإنسان الذي يحصل له شيءٌ كهذا لا يساهم بتاتًا في هذه العملية. يتخبَّط كفراشة معلَّقة بدبُّوس في ألبوم وهي حية. ولكنْ يمكنه من خلال الهَوْل أنْ لا يَنِيَ يريد المحبة. ليس في ذلك أيةُ استحالة ولا أية عقبة، نكاد نقول: ولا أية صعوبة. لأن الألم الأكبر، مادام أنه دون مستوى الإغماء، لا يصيب هذه النقطةَ من النفْس والتي ترضى بتوجيه صحيح.

لا بد أنْ نعرِفَ فقط أن الحب هو توجُّهٌ وليس حالةً للنفْس. فإذا جهلنا ذلك نقع في القنوط منذ إصابة البلاء الأولى.

إنَّ من تبقى نفسُه متوجِّهةً إلى الله بينما يخترقها مسمارٌ يجد نفسَه مسمَّرًا في المركز ذاته للكون. ذلك هو المركز الحقيقي الذي ليس في الوسط، الذي يقع خارج المكان والزمان، الذي هو الله. وفْقَ بُعْدٍ لا يمتُّ بصلة إلى المكان وليس هو الزمانَ، بُعْدٍ مختلفٍ كلِّيًا، فإنَّ هذا المسمار قد فتح ثقبًا عبر الخليقة، عبر كثافة الشاشة التي تفصل النفْسَ عن الله.

من هذا البعد الخارق، يمكن للنفْس، دون أنْ تتركَ المكانَ واللحظةَ اللتين يكون فيهما الجسدُ الذي ترتبط به [النفْسُ]، أنْ تقطعَ المكانَ والزمانَ بكُلِّيَّتِهما وتبلغَ الحضورَ نفسَه لله.

تجد نفسَها عند نقطة تقاطُع الخَلْق مع الخالق. نقطةُ التقاطع هذه هي نقطة تلاقي فروع الصليب.

ربما كان القديس بولس يفكر بأشياء من هذا القبيل عندما كان يقول: "اثبتوا في المحبة حتى تكونوا قادرين على إدراك ما هو العرض والطول والارتفاع والعمق وعلى معرفة ما يتجاوز كلَّ معرفة، حب المسيح."

لكي يكون المرءُ في حالة بلاء أقصى مسَمَّرًا على الصليب نفْسِه للمسيح، ينبغي ألاَّ يكتفيَ بأنْ يحملَ في نفسه، عند حصول البلاء، البذرةَ الإلهيةَ فحسب بل شجرةَ الحياة التي تشكَّلَتْ أصلاً.

بتعبير آخر، لدينا الخيار بين الصليبَينِ الذَينِ كانا على جانبَي صليب المسيح[4].

نحن نشْبه اللصَّ الشِّمال [الذي صُلِبَ على شِمال المسيح] mauvais larron عندما نبحث عن عَزاء في احتقار رفاق المِحْنة وكراهيتهم. وهذه هي النتيجة الأكثر شيوعًا للبلاء الحقيقي. لقد كانت هذه هي حالة العبودية في روما. إنَّ الذين يتعجَّبون عندما يلاحظون عقليةً معيَّنةً لدى المبتلَين قد يقعون فيها هم أنفسُهم جميعهم تقريبًا إذا ما أصابهم البلاء.

حتى يتشبَّهَ المرءُ باللص اليمين bon larron، يكفي أنْ يدركَ أنه، في درجة ما من البلاء الذي ينغمس فيه، يستحقُّ على الأقل ذلك. لأننا، قبل أنْ يحكمَ علينا البلاءُ بالعجز، نصبح بالتأكيد ضالعين، عن جُبْنٍ وعطالة ولامبالاة وجهْل مسؤول، في جرائمَ ألقَتْ بكائنات أخرى في بلاء أقلّ ما يقال عنه أنه كبير. لم نكنْ بالتأكيد نستطيع عمومًا منْعَ هذه الجرائم، ولكننا كنا نستطيع القول بأننا نستنكرها. لقد أهملْنا القيامَ بذلك، أو حتى أننا وافقْنا عليها، أو أننا على الأقل جعلْنا الغيرَ يقول عنا أننا وافقْنا عليها. ليس البلاء الذي نعاني منه عقابًا زائدًا على هذا التواطؤ من منظور العدالة الصارمة. فليس من حقنا أنْ نشفقَ على أنفسنا. ونحن نعلم أنَّ هناك ولو مرةً واحدة على الأقل كائنًا بريئًا تمامًا قد عانى من بلاء أسوأ؛ فمن الأفضل أنْ نوجِّهَ شفقتَنا إليه على مر العصور.

يمكن لكل امرئٍ ويجب عليه أنْ يقول ذلك لنفسه، لأنَّ هناك أمورًا في مؤسساتنا وأخلاقنا فظيعةً إلى درجةِ أنْ لا أحدَ يمكنه شرعًا أنْ يظنَّ نفسَه بريئًا من هذا التواطؤ المنتشر. لا جَرَمَ أنَّ كلَّ امرئٍ أصبحَ مذْنِبًا على الأقل بلامبالاة جنائية.

ولكنْ فضلاً عن ذلك، يحق لكل إنسان أنْ يرغبَ في المشاركة في الصليب نفسه للمسيح. لنا حق غير محدود في طلب كل ما هو خير من الله. ولا يليق في مثل هذه الطلبات أنْ يكونَ المرءُ متواضعًا أو معتدلاً.

ينبغي ألاَّ نرغبَ في البلاء؛ فذلك مُنافٍ للطبيعة؛ وهذا انحراف؛ خاصةً أنَّ البلاء هو، من حيث الجوهر، ما يقع علينا رَغْمَ أنفِنا. فإذا لم نكنْ منغمسين فيه، يمكننا فقط أنْ نرغبَ في أنْ يشكِّلَ، في حال حصوله، مشاركةً في صليب المسيح.

لكنْ ما هو في الواقع حاضر على الدوام وما يُسمَح بالتالي دائمًا بحبِّه هو إمكانية البلاء. فمظاهر كينونتنا الثلاثة معرَّضةٌ لها دائمًا. جسدنا هشٌّ؛ وأيةُ قطعةٍ مادية إذا تحرَّكَتْ يمكنها أنْ تخترقه أو تُمزِّقَه أو تسحقَه أو تعطِّلَ أيضًا أحدَ الأجهزة الداخلية تعطيلاً دائمًا. نفسنا هشَّةٌ، معَرَّضة لحالاتِ اكتئاب دون أسباب، متعلقةٌ تعلقًا يُرثَى له بكل ضروب الأشياء والكائنات التي تكون هي الأخرى ضعيفة أو متقلبة الأهواء. إنَّ شخصنا الاجتماعي الذي يتعلق به تقريبًا الشعورُ بوجودنا مُعَرَّض كليًا وباستمرار لجميع المصادفات. يرتبط المركزُ ذاته لكينونتنا بهذه المظاهر الثلاثة من خلال خيوط بحيث تشعر كينونتُنا بجميع الجراح الخطيرة نوعًا ما لهذه المظاهر حتى تنزف هي نفسها. فيبدو، بصورة خاصة، أنَّ كل ما يقلِّل أو يلغي هيبتَنا الاجتماعية وحقَّنا في الاحترام يشوِّه أو يقضي على جوهرنا نفسِه، مادام الوهم جوهرنا.

هذه الهشاشة التي تكاد تكون بلا نهاية لا نفكر بها عندما يكون كلُّ شيء على ما يرام تقريبًا. لكنْ لا شيءَ يُحتِّم عدمَ التفكير بها. يمكننا رؤيتها باستمرار وشكر الله عليها باستمرار. ليس الشكر على الهشاشة نفسها فحسب، بل أيضًا على هذا الضعف الداخلي الذي ينقل هذه الهشاشةَ إلى المركز ذاته للكينونة. لأنَّ هذا الضعف هو الذي ربما يجعل العمليةَ التي تُسمِّرُنا بالمركز نفسه للصليب ممكنةً.

يمكننا التفكير في هذه الهشاشة بمحبة وعرفان بالجميل، وذلك بمناسبة أي ألمٍ صغيرًا كان أم كبيرًا. يمكننا أن نفكر فيها في لحظات اللامبالاة تقريبًا. يمكننا أنْ نفكر فيها بمناسبة جميع الأفراح. وربما ما كان ينبغي علينا أنْ نفعل ذلك إذا كان هذا التفكير من طبيعته أنْ يعكِّر الفرحَ أو يقلِّلَه. ولكنْ ليس الأمر كذلك. فالفرح يصبح بكل ببساطة ذا عذوبة أكثر تأثيرًا وحِدَّةً، مثلما تزيد هشاشةُ أزهار الكرز من جَمالها.

إذا امتلكنا التفكيرَ على هذا النحو فلا بد أنْ يصبحَ صليبُ المسيح بعد وقت معيَّن جوهرَ الحياة نفسَه. هذا ما كان يقصده المسيحُ بلا شك عندما كان ينصح أحبابَه بحمل صليبهم كلَّ يوم، وليس مجرَّد الاستسلام، كما نعتقد اليومَ على ما يبدو، للهموم اليومية الصغيرة التي نسميها أحيانًا صلبانًا [مِحَنًا] بسبب سوء استخدام لغوي يكاد يشوِّه المقدَّسَ. ليس هناك إلاَّ صليب واحد، إنه مجمل الضرورة التي تملأ لانهائيةَ الزمان والمكان والتي يمكنها في بعض الظروف أنْ تتركَّزَ على الذرَّة التي هي كل واحد منا وتدمِّرها كليًا. حمْـلُ الصليب يعني حمْـلَ المعرفة بأننا خاضعون لهذه الضرورة العمياء في جميع أجزاء الكينونة إلاَّ في نقطة من النفْس أخفى من أنْ يطالَها الوعيُ. إذا تألَّمَ إنسانٌ بمرارة وبقيَ جزءٌ من كينونته سليمًا ولم يعِ تمامًا أنَّ هذا الجزءَ قد نجا مصادَفةً ومازال معَرَّضًا في كل لحظة للمصادفات فليس له أي نصيب في الصليب. كذلك الأمر بصورة خاصة عندما يكون الجزء من الكينونة الذي بقي سليمًا أو على الأقل الذي روعيَ إلى حد ما هو الجزء الاجتماعي. ولهذا، لا فائدةَ تُرْجى من المرض إذا لم تقترنْ به روحُ الفقر في كمالها. إنَّ الرجل الذي يعيش في سعادة تامة يمكنه في الوقت نفسه أنْ ينعمَ كليًا بالسعادة وأنْ يحملَ صليبَه إذا كان في الحقيقة وفي الواقع وفي كل لحظة على علم بإمكانية البلاء.

إلاَّ أنه لا يكفي معرفة هذه الإمكانية، لا بد من حبها. يجب أنْ نُحِبَّ بحنانٍ قسوةَ هذه الضرورة التي تشبه ميداليةً بوجهين، حيث يكون الوجه المتَّجه نحونا هو السيطرة والوجه المتجه نحو الله هو الخضوع. ينبغي أن نحضنَها بين ذراعينا حتى وإنْ أبرزَت لنا رؤوسَها المدبَّبة وأنْ نُدخِلَها، من خلال ضمِّنا لها، في جسدنا. من يحب يَسْعَد، في غياب محبوبه، بضم غرض تعود مُلْكيتُه للمحبوب حتى يُدخِلَه في جسده. نعلم أنَّ هذا الكونَ غرضٌ تعود مُلْكيتُه لله. ينبغي علينا أنْ نشكرَ اللهَ من كل قلبنا على إعطائه إيانا الضرورةَ مطْـلَقةَ السيادة، أَمَتَه البَلْهاءَ العمياءَ الخاضعةَ خضوعًا تامًا. تقودنا بالسياط. ولكنْ عندما نخضع في هذه الدنيا لسلطانها المستبد، يكفي أن نختار اللهَ كنزًا لنا وأن نعلِّق قلوبَنا بالله؛ عندئذٍ نرى الوجهَ الآخر لهذا الاستبداد، الوجهَ الذي هو طاعةٌ مَحْض. نحن عبيد الضرورة، لكننا أيضًا أبناء ربِّها. مهما تأمرنا فعلَينا أن نحبَّ مشهد طواعيتها، نحن أبناءَ المنزل. عندما لا تفعل ما نريد وعندما تُجبِرنا على تكبُّد ما لا نريد، يهَبُ لنا الحبُّ المرورَ عبرها ورؤية وجه الطاعة الذي تُظهِره لله. فطوبى لمن تسنح لهم غالبًا هذه الفرصةُ الثمينة.

إنَّ للألم الجسدي الشديد الطويل هذه الميزةَ الوحيدة التي لا يقدر حسُّنا بطبيعته على قبولها. يمكننا أن نتعود على أي شيء ونرضى به ونتأقلم عليه عدا ذلك [الألم]، نتأقلم لامتلاكنا وهْمَ القوة واعتقادنا بأنَّ لنا الأمرَ. نلعب بالتوهم بأننا اخترنا ما فُرِضَ علينا. عندما يتحول كائنٌ إنساني أمام عينيه إلى نوع من الحيوانات شبهِ مشلولٍ وكريهٍ جدًا، لا يعود في وسعه أن يبقى على هذا الوهم. يكون من الأفضل أيضًا إذا تمَّ هذا التحولُ بإرادة البشر، بفعل رفض اجتماعي، بشرط أن يكون فِعْـلَ ضيقٍ وغمٍّ مجهولٍ على نحوٍ ما وليس اضطهادًا مشَرِّفًا. لا يحسُّ الجزءُ المادي من ذاتنا بالضرورة إلاَّ كإكراه، ولا يحسُّ بالإكراه إلاَّ كألم جسدي. إنها الحقيقة نفسُها التي تَدخل الحسَّ الماديَّ بالألم الجسدي وتَدخل العقلَ بالبرهان الرياضي وتَدخل ملَكةَ المحبة بالجَمال. كذلك أيوب، عندما مزَّق البلاءُ حجابَ الجسد، رأى جَمالَ الوجودِ جَهْرةً. فجَمالُ الوجود يتراءى عندما نتعرَّف على الضرورة كجوهرٍ للكون وعندما نتعرَّف على طاعة حبٍّ كاملِ العقلِ كجوهرٍ للضرورة. هذا الكون الذي نحن جزء منه ليس له كينونةٌ أخرى غير كينونة الطاعة.

إنَّ للفرح الحسِّيِّ خاصيةً مماثلةً لخاصية الألم الجسدي عندما يكون حادًا صِرْفًا يفوق التوقُّع إلى درجة اعترافنا في الحال بعجزنا عن الحصول بأنفسنا على أي شيء مشابه أو ضمان امتلاكه. الجَمال هو دائمًا جوهرُ مثل هذه المسَرَّات. والفرح المَحْض والألم المَحْض هما مظهران لحقيقة واحدة لا تقدَّر بثمن. وذلك من حسن الطالع، لأنه بفضل ذلك يحق لنا أن نتمنى لمن نحب الفرحَ بدلاً من الألم.

التثليث والصليب هما قطبا المسيحية، هما الحقيقتان الجوهريتان، إحداهما فرح تام والأخرى بلاء تام. والاعترافُ بكلَيهما وبوحدتهما الخفية أمر لا غنى عنه، لكننا في الدنيا يضعنا الظرفُ البشري بعيدًا جدًا عن التثليث، في أسفل الصليب. فالصليب موطننا.

معرفة البلاء هي مفتاح المسيحية. غير أن هذه المعرفة مستحيلة. من المستحيل معرفة البلاء دون اجتيازه. لأنَّ الفكر يأنف من البلاء إلى درجة أنه يعجز عن المضيِّ طوعًا في استقباله مثلما يعجز الحيوان، إلا في بعض الاستثناءات، عن الانتحار. فلا يعرف الفكرُ البلاءَ إلاَّ بالإكراه. يستحيل على المرء، ما لم تجبرْه التجربةُ على ذلك، أنْ يعتقد أنَّ كل ما لدينا في النفْس من جميع الأفكار والمشاعر والمواقف إزاء الأفكار والبشر والكون وخاصةً الموقف الأكثر حميميةً للكائن إزاء نفسه كل ذلك يقع تحت رحمة الظروف. وحتى إن اعترفنا بالبلاء نظريًا، وهذا الأمر أصلاً نادرٌ جدًا، لا نؤمن به بكل نفوسنا. فالإيمان به بكل النفس هو ما كان يسمِّيه المسيحُ نكرانَ الذات وليس الزهد والتفاني كما نترجم عادةً، وذلك هو الشرط لكي يستحقَّ المرءُ أن يكون تلميذًا له. ولكنْ عندما يكون المرءُ في البلاء أو يكون قد اجتازه لا يزيد إيمانه بهذه الحقيقة، ويمكننا القول أنه يقِلُّ أيضًا. لأن الفكر لا يمكنه أبدًا في الواقع أن يكون مُكْرَهًا، فله دائمًا حرية الهروب بالكذب. فالفكر الذي يضعه إكراهُ الظروف أمام البلاء يهرب في الكذب بسرعة الحيوان الذي يهدده الموتُ وينكشف له مخبأ. وأحيانًا ينغمس، من رعبه، في الكذب حتى أخمص قدميه؛ لذلك يحصل غالبًا أنَّ من يكونون أو كانوا في البلاء يعتادون على الكذب كرذيلة إلى درجة أنهم يفقدون أحيانًا في كل شيء حتى المعنى ذاته للحقيقة. نخطئ عندما نلومهم على ذلك. يرتبط الكذبُ بالبلاء إلى درجة أنَّ المسيحَ هزمَ العالَمَ بكونه الحقَّ فحسبُ وبقيَ الحقَّ حتى في العمق نفسه للبلاء الأقصى. يُكْرَه الفكرُ على الهروب من مظهر البلاء بدافع غريزةِ بقاءٍ أساسيةٍ لكينونتنا أكثرَ بكثير من الغريزة التي تبعدنا عن الموت المادي؛ فمن السهل نسبيًا التعرض لهذا الموت عندما لا يظهر بمظهر البلاء بفعل ظروف أو ألعاب خيالية. لا يمكننا النظر إلى البلاء مواجَهةً وعن كثب بانتباه متواصل إلاَّ إذا قبِلْنا موتَ النفْس حبًا بالحقيقة. وهذا هو موت النفس الذي تكلَّم عنه أفلاطون عندما قال: "التفلسف هو تعلُّم الموت"، والذي كان مرمَّزًا في التعاليم السِّرَّانية القديمة وكان يُرمَز إليه بالمعمودية. ليس المقصود في الواقع موت النفس، بل ببساطة معرفة حقيقةِ أنها شيء ميت، شيء شبيه بالمادة. ليس عليها أن تصبح ماءً، إنها ماء؛ فما نظنُّه أنه أَنِّـيَّـتُنا notre moi هو نتاجُ الظروفِ الخارجيةِ العابرُ والآليُّ كشكل موجة البحر.

ينبغي معرفة ذلك فحسب، معرفته حتى في قرارة النفس. لكنَّ الله وحدَه لديه هذه المعرفةُ بالإنسان، وعلى الأرض الذين وُلِدوا من العلي؛ لأنه لا يمكن لأحدٍ قبولُ هذا الموت للنفس إلاَّ إذا كانت لديه حياةٌ أخرى بالإضافة إلى الحياة الوهمية للنفس وإلاَّ إذا كان كنزُه وقلبُه خارج نفسه، ليس فقط خارج شخصه، ولكنْ خارج جميع أفكاره، خارج جميع مشاعره، فيما يتجاوز كلَّ ما هو قابل للمعرفة، في يدَيْ الآب الساكن في السر. من يكونون كذلك يمكننا أن نقول عنهم أنهم مولودون من الماء والروح. لأنهم لم يصبحوا غيرَ طاعة مزدوجة، طاعةٍ للضرورة الآلية التي يخضعون لها من جَرَّاء ظرفهم الأرضي من جهة، وطاعةٍ للوحي الإلهي من جهة أخرى. ينتفي منهم أيُّ شيء يمكن أنْ نسمِّيَه إرادتَهم، شخصَهم، أَنِّـيَّـتهم leur moi. ولا يصبحون غير تقاطُع الطبيعة مع الله. هذا التقاطع هو الاسم الذي سمَّاهم به اللهُ منذ الأزل، إنه دعوتهم. في المعمودية بالتغطيس القديمة، كان الإنسانُ يختفي تحت الماء؛ ففي ذلك نفيٌ له، اعتراف بأنه مجرَّد جزء من المادة الجامدة التي منها خُلِقَ الخَلْقُ. ولا يعود يظهر إلاَّ برفعه بحركة صاعدة أقوى من الثقالة، وهي صورة للحب الإلهي في الإنسان. فالرمز الذي تنطوي عليه المعموديةُ هو حالة الكمال. والوعد المرتبطُ بالمعمودية هو وعد الرغبة في هذه الحالة وطلبِها من الله على الدوام بلا كلل ولا ملل مادام المرءُ لم يحصلْ عليها، كطفل جائع لا يكلُّ من طلب الخبز من أبيه. لكنْ بماذا يُلزِم مِثْلُ هذا الوعد، لا يمكننا معرفة ذلك مادمنا لسنا ماثلين أمام الوجه المرعب للبلاء. في هذا المكان فقط، وجهًا لوجهٍ مع البلاء، يمكن قطْع عهد حقيقي من خلال اتصال أكثر سرِّيةً وخفاءً وإعجازًا أيضًا من طقس مقدَّس.

بما أن معرفة البلاء مستحيلةٌ بالطبع سواءً على من اختبروه أم على من لم يختبروه فإنها ممكنة مع ذلك على كليهما من خلال نعمة فائقة. وإلاَّ لما كان المسيح قد أعفى مِن البلاء مَن استخلصَه وأحبَّه مِن بين الكل، بعد أنْ وعده بأنه سيسقيه من كأسه. في كلتا الحالتين، معرفةُ البلاء أمرٌ أكثر إعجازًا من المشي على الماء. إنَّ من يقرُّ المسيح بأنهم أخياره ses bienfaiteurs هم من تقوم رحمتهم على معرفة البلاء. فالآخرون يعطون بدافع نزوة، بصورة مخالفة للأصول، أو على العكس بمبالغة في التزام الأصول، إمَّا بدافع عادات تطبعها التربيةُ وإما بدافع التقيُّد بالأعراف الاجتماعية وإما عن تكبُّر وإما بدافع شفقة مادية وإما رغبةً في راحة الضمير، باختصار، بدافعٍ يخصُّهم وحدهم. فهُمْ إما معجبون بأنفسهم أو يتعاملون بفوقية أو يُعَبِّرون عن شفقة فضولية في غير محلها أو يُشعِرون المبتلَى بأنه في أعينهم مجرَّد مثال على نوع معيَّن من البلاء. على كل حال فإن عطاءهم إهانة. ويحصلون على أجرهم في الدنيا لأنَّ شِمالَهم تعرِف ما أنفقَتْ يمينُهم. لا يمكن أنْ يتواصلوا مع المبتلَينَ إلاَّ في الكذب، لأنَّ معرفة المبتلَينَ معرفةً حقيقية تنطوي على معرفة البلاء. ولا يمكن للذين لم ينظروا إلى وجه البلاء أو الذين لم يكونوا على استعداد للقيام بذلك أنْ يقتربوا من المبتلَينَ إلاَّ بحجاب من كذبٍ أو وهْمٍ يحميهم. فإذا اتَّفقَ لوجه البلاء أنْ ظهرَ في مُحيَّا الشقيِّ بغتةً فإنهم يوَلُّون الأدبارَ.

لا يُحسُّ محبُّ المسيح الخيِّر bienfaiteur du Christ أمامَ المبتلَى بوجود أية مسافة بينه وبين ذاك المبتلَى؛ فينقل إلى الآخر كلَّ كينونته؛ عندئذٍ تكون بادرةُ إحضار الطعام غريزيةً ومباشرةً كبادرة قيام الشخص نفسه بالأكل عندما يشعر بالجوع. ويطويها النسيانُ في الحال تقريبًا كما يطوي وجباتِ الطعام التي خلَتْ. مِثْلُ ذلك الإنسان قد لا يخطر بباله أنْ يقولَ بأنه يهتمُّ بشؤون المبتلَينَ من أجل الرب؛ فذلك يبدو لا معنى له عنده مثل قوله بأنه يأكل من أجل الرب. نأكل لأننا لا نستطيع أنْ نمتنع عن الأكل. إنَّ الذين سيشكرهم المسيحُ يعطون مثلما يأكلون.

يعطون شيئًا آخرَ غيرَ الطعام، ثيابًا أو عناية. عندما ينقلون كينونتَهم ذاتَها إلى الشخص الذي يساعدونه فإنهم يعطونه للحظةٍ واحدة ذلك الوجودَ الخاص الذي حرمَه البلاءُ منه. البلاءُ أساسًا هو هدمُ الشخصية، انتقالٌ إلى حالة النَّكِرة l'anonymat. فكما أفرغَ المسيحُ نفسَه من ألوهيته بدافع المحبة، يُفْرِغ النحسُ المبتلَى من إنسانيته. فلا يعود هناك من وجود آخر غير ذلك النحس نفسِه. ففي نظر الآخرين وفي نظره هو، يتحدَّد كليًا بعلاقته مع البلاء. إنَّ الشيء الذي في داخله يرغب أن يوجَد يُرَدُّ باستمرار إلى العدم وكأننا نضرب بشدة وعنف على رأس إنسان يغرق. إنه، حسب الظرف، فقير أو لاجئ أو زنجي أو مريض أو من أصحاب السوابق أو أي شيء آخر من هذا القبيل. فالمعاملات السيئة، شأنُها شأنُ صنائع المعروف، والتي يكون عُرْضةً لها، تنصبُّ في البلاء الذي يكون هو نموذجًا عنه من بين الكثيرين غيره. وهكذا يكون للمعاملات السيئة وللمعاملات الحسنة المفعولُ نفسُه من أجل إبقائه عنوةً في النَّكِرة فهما شكلان لإهانة واحدة.

إنَّ الذي، عندما يرى شقيًا، ينقل إليه كينونتَه، يولِّد فيه بدافع الحب، وللحظة واحدة على الأقل، وجودًا مستقلاً عن البلاء. لأنه، على الرغم من أن البلاء فرصةٌ لهذه العملية الخارقة، ليس سببًا لها. السبب هو هُوية الكائنات الإنسانية عبْر جميعِ المسافات الظاهرة التي تضعها بينهم مصادفةُ الحظ.

أنْ ينقلَ المرءُ كينونتَه إلى مبتلَىً يعني أنْ يتجشَّمَ بلاءه للحظة واحدة وأنْ يأخذَ طوعًا ما تقوم ماهيتُه على فرضه بالإكراه وبما يتعارض مع الإرادة. وهذا أمرٌ مستحيل. المسيح وحده فعلَ ذلك. والمسيح وحده يمكنه فِعلُ ذلك والبشرُ الذين يشغل المسيحُ كلَّ نفوسهم. فهؤلاء، عندما ينقلون كينونتَهم إلى المبتلَى الذي يغيثونه، لا يضعون فيه في الواقع كينونتَهم، لأنه لا يعود لديهم كينونة، بل يضعون فيه المسيحَ نفسَه.

الصدقة التي تطبَّق على هذا النحو هي طقسٌ سِرَّاني وعملية خارقة يضع الإنسانُ الذي يسكنه المسيحُ من خلالها بالفعل المسيحَ في نفس المبتلَى. فالخبز الذي يُعطى على هذا النحو، إذا كان الموضوع يتعلق بالخبز، يعادل خبزَ القربان. ليس ذلك رمزًا أو تخمينًا، إنما ترجمة حرفية لأقوال المسيح نفسها. لأنه قال: "إنه لي قد فعلتم ذلك." إنه، إذَنْ، موجود في المبتلَى أو العريان. وليس نتيجة الجوع أو العري، لأن البلاء بذاته لا ينطوي على أية هبة من السماء. ولا يمكن أن يكون ذلك إلاَّ بعملية هبة. من البديهي أن يكون المسيحُ في الشخص الذي يعطي بصورة نقية تمامًا؛ فمن يمكنه أن يكون محبُّ المسيح الخيِّر bienfaiteur du Christ إنْ لم يكنْ ذلك الشخص؟ ثم إنه من السهل أن يدركَ المرءُ أنْ لا شيءَ غير حضور المسيح في النفْس يمكنه أن يضعَ فيها الرحمةَ الحقيقية. لكنَّ الإنجيلَ يكشف لنا أيضًا أنَّ مَن يعطي عن رحمة حقيقية إنما يقدِّم المسيحَ نفسَه. وللمبتلَى الذي يتلقَّى هذه العطيةَ العجائبيةَ الخيارُ في قبول ذلك أو رفضه.

يُحْرَم المبتلَى، إذا كان البلاء كاملاً، من كل علاقة إنسانية. ليس عنده سوى نوعين من العلاقات الممكنة مع البشر: علاقات لا يظهر هو فيها إلاَّ كشيء وتكون ميكانيكية كالعلاقة بين قطرتَي ماءٍ متجاورتَين، والمحبة الفائقة لا غير. المنطقة الوسيطة محرَّمة عليه. وليس في حياته من مكان سوى للماء والروح. إنَّ البلاء الذي يرضى به ويَقْبله ويحبه هو معمودية حقًا.

ولأنَّ المسيح هو وحده القادر على الرحمة، لم يحصلْ عليها خلال إقامته على الأرض. ولأنه كان متجسدًا على الأرض، لم يكنْ يسكن في نفْس أحد من المحيطين به؛ عندئذٍ لم يكنْ باستطاعة أحد أنْ يترأَّفَ به. لقد أرغمَه الألمُ على طلب الرحمة، ومنعَها عنه أصدقاؤه المقرَّبون. تركوه يتألم وحيدًا. يوحنا نفسه نامَ. وبطرس كان قادرًا على المشي على الماء، ولكنه لم يكن قادرًا على الرأفة بسيِّده الذي وقع في البلاء. فاحتمَيا بالنوم حتى لا يعودا يريَانِه. عندما تصبح الرحمةُ ذاتُها بلاءً فأنَّى تجد هذه الرحمةُ عونًا؟ كان لا بد من وجود مسيح آخر ليرأف بالمسيح المبتلَى. فكانت الرحمةُ بحق بلاء المسيح إحدى أمارات القداسة على مر القرون اللاحقة.

لا تتطلَّب العمليةُ الخارقة للصدقة معرفةً كاملة، بخلاف المناولة على سبيل المثال. لأن من يشكرهم المسيح يجيبون: "متى كان ذلك يا رب؟..." فلا يعلمون من قدَّموا له طعامًا. حتى إنه لا شيءَ يشيرُ، بصورة عامة، إلى امتلاكهم أيةَ معرفة عن المسيح. استطاعوا امتلاكها أم لا. المهم أنهم كانوا مستقيمين. مُذْ ذاك، قدَّمَ المسيح الذي فيهم نفسَه على شكل صدقة. فطوبى للمتسوِّلين، لأنَّ لديهم إمكانيةَ الحصول، ربما مرةً أو مرتين في حياتهم، على مثل هذه الصدقة.

البلاء هو مركز المسيحية بحق. فتطبيق الوصية الوحيدة والمزدوجة: "أَحْبِبِ اللهَ"، "أَحْبِبْ قريبَكَ" تمر عبْرَ البلاء. لأن المسيح قال فيما يتعلق بالوصية الأولى: "ليس أحد يأتي إلى الآب إلاَّ بي." وقال أيضًا: "كما رَفعَ موسى الحيةَ في البرِّية، هكذا ينبغي أن يُرفَعَ ابنُ الإنسان، لكي لا يهلِكَ كلُّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية." الحية هي تلك الأفعى البرونزية التي كان يكفي النظر إليها للوقاية من آثار السم. لا يمكننا، إذًا، أنْ نحبَّ الله إلاَّ بالنظر إلى الصليب. أما القريب فالمسيح قد بيَّنَ من هو القريب الذي أمرَ بحبه. إنه ذلك الجسد العاري المضرَّج بالدم المغمَى عليه الذي نلمحه ممدَّدًا على الطريق. إنَّ البلاء أولاً هو ما نؤمَرُ بحبه، بلاء الإنسان، بلاء الله.

غالبًا ما نأخذ على المسيحية تعاطفًا مَرَضيًَّا مع العذاب والألم. وهذا خطأ. ففي المسيحية ليس المقصود الألمَ والعذابَ الَّذَينِ هما إحساسات وحالات نفسية وحيثما يكون بالإمكان دائمًا البحث عن لذة منحرفة. بل المقصود شيء آخر. المقصود هو البلاء. البلاء ليس حالةً نفسية. إنه انسحاق النفْس بالقسوة الآلية للظروف. فتحوُّلُ إنسانٍ، وأمامَ عينيه، من الحالة البشرية إلى حالةِ دودةٍ شِبْهِ مسحوقةٍ تتقلَّب على الأرض ليس عمليةً يمكن حتى لمنحرفٍ أنْ يُسَرَّ بها. ولا الحكيم ولا البطل ولا القديس أيضًا يُسَرُّون بها. البلاء هو ما يُفرَض على إنسانٍ رَغْمَ أنفه. جوهره وتعريفُه هو هذا الهَوْل وذلك التمرُّد لكل الكينونة عند من يسيطر عليه البلاء. وهذا نفسُه ينبغي قبولُه من خلال فضيلة المحبة الفائقة.

القبول بوجود الكون، هذه هي مهمتنا على الأرض. لا يكفي اللهَ أنْ يجدَ خَلْقَه حسنًا. يريد أيضًا أنْ يجدَ الخَلْقُ نفسَه حسنًا. إنَّ النفوس المتعلقة بنُتَفٍ صغيرة جدًا من هذا العالَم تفيد في ذلك. هذه هي غاية البلاء، وهي أنْ يتيح لنا التفكيرَ في أنَّ خَلْقَ الله حسن. لأنه مادامت الظروفُ تلعب حولنا فتترك كينونتَنا سليمةً نوعًا ما أو حتى شِبْهِ مصابة، فإننا نعتقد إلى حد ما أنَّ إرادتنا خلَقَت العالَمَ وتحكمه. فيعلِّمنا البلاءُ فجأةً، وأمامَ دهشتِنا الكبيرة جدًا، أنْ لا شيءَ من هذا. فإذا أثْنَينا إذَنْ على شيء فإنَّ الذي نُثْني عليه هو خَلْقُ الله. وما المانع؟ نعرف جيدًا أنَّ بلاءنا لا يقلِّل من مجد الله بتاتًا. فلا يمنعنا إذًا بأي حال من حمدِ الله على مجده العظيم.

كذلك يكون البلاءُ أضْمنَ علامةٍ على أنَّ الله يريد أنْ نحبَّه؛ إنه أغلى شهادة على عطفه. ويختلف كليًا عن العقاب الأبوي. ربما يكون من الأَصْوَبِ تشبيهه بمخاصمات رقيقة يتأكد من خلالها العروسَينِ من عمق حبهما. لا نمتلك شجاعةَ النظر في وجه البلاء؛ وإلاَّ فسوف نرى بعد وقت معيَّن أنَّ هذا هو وجه الحب؛ مثلما لاحظَتْ مريمُ المجدلية أنَّ ما كانت تظنه بستانيًا كان شخصًا آخر.

من المفروض أنْ يستشفَّ المسيحيون، برؤيتهم المكانَ المركزيَّ الذي يشغله البلاءُ في إيمانهم، أنَّ البلاءَ هو، بمعنىً ما، جوهرُ الخَلْق. فأنْ نكونَ مخلوقاتٍ لا يعني بالضرورة أنْ نكون أصحابَ بلاء. ولكنه يعني بالضرورة أننا معَرَّضون للبلاء. غيرُ المخلوق وحدَه لا يفنى. نسأل لماذا سمحَ الله بالبلاء، [إذًا] يمكننا أيضًا أنْ نسألَ لماذا خَلَقَ اللهُ. يمكننا فعلاً أن نتساءل عن ذلك. لماذا خَلَقَ الله؟ يبدو بديهيًا جدًا أن الله أكبر من الله والخَلْق معًا. يبدو هذا بديهيًا على الأقل إذا فكرنا بالله ككينونة. ولكنْ لا ينبغي أنْ نفكر به كذلك. عندما نفكر بالله كمحبة نشعر بمعجزة الحب هذه والتي تجمع الابنَ والآبَ في آن معًا في الوحدة السرمدية لله الأحد وفوق انفصال المكان والزمان والصليب.

الله محبة والطبيعة ضرورة، ولكنَّ هذه الضرورة مرآةُ المحبة بالطاعة. كذلك فإنَّ الله فرَحٌ والخَلْق بلاء، ولكنه بلاءٌ متلألئ لنور الفرح. فالبلاء ينطوي على حقيقة وضعِنا. إنَّ الذين يؤْثِرون أنْ يكحِّلوا أعينَهم برؤية الحقيقة ويموتون على أنْ يعيشوا حياةً مديدةً وسعيدةً في الوهم سوف يرون وحدهم اللهَ[5]. ينبغي أنْ يريدَ الإنسانُ أنْ يأتيَ إلى الحقيقة؛ عندئذٍ، وبينما هو يظنُّ أنه يعثر على جثَّة، يلقى ملاكًا يقول: "قامت الجثةُ من الموت."

المصدر الوحيد للإيضاح الذي يكفي نورُه لإلقاء الضوء على البلاء هو صليب المسيح. ففي أي عصر وفي أي بلد وحيثما يكون هناك بلاء يكون الصليبُ حقيقتَه. إنَّ لكل إنسان مهما كانت عقيدتُه نصيبًا في صليب المسيح إذا كان يحب الحقيقةَ حبًا يمنعه من أنْ يلقيَ بنفسه في مهاوي الكذب هربًا من وجه البلاء. وإذا رضيَ اللهُ بأنْ يحرِمَ من المسيح قومًا من بلد محدَّد أو عصر محدَّد، ونتعرف على ذلك بوجود علامة معيَّنة، فذلك لأنه لم يكن هناك بلاء بينهم. ولا نعرف في التاريخ شيئًا من هذا القبيل. أينما يكون البلاء يكون الصليب، خفيًا، ولكنه حاضر لكل من يختار الحقيقةَ بدلاً من الكذب والمحبةَ بدلاً من الكراهية. البلاء بدون الصليب جحيم[6]، والله لم يضع الجحيمَ على الأرض.

بالمقابل، فإنَّ المسيحيين الذين لا يمتلكون القوةَ على التعرُّف على الصليب المبارَك وخوض حياضه في كل بلاء، وما أكثرهم، ليس لهم نصيب في المسيح. لا شيء يُظهِر ضعفَ الإيمان، حتى لدى المسيحيين، أكثرَ من سهولة وقوعنا في المشكلة عندما نتكلم عن البلاء. إنَّ جميع ما يمكننا قوله عن الخطيئة الأصلية وإرادة الله والعناية الإلهية وخِطَطه السرِّية والتي نعتقد مع ذلك أنَّ بإمكاننا محاولةَ فك لغزها وأنواع الجزاء المستقبلية في الدنيا والآخرة إمَّا يخفي حقيقةَ البلاء وإمَّا يبقى لا فاعليةَ له. هناك شيء واحد يتيح الرضا بالبلاء الحقيقي، ألا وهو تأمُّـل صليب المسيح. وليس هناك أي شيء آخر. فذلك يكفي.

إنَّ الأم والزوجة والخطيبة اللواتي يعرفْنَ أنَّ من يحبِبْنَ يمرُّ في ضيق ولا يستطعْنَ إغاثتَه ولا اللحاق به يتمنَّينَ على الأقل لو يتحمَّلْنَ آلامًا تعادل آلامَ المحبوب حتى لا يكُنَّ أقلَّ انفصالاً عنه وحتى يخفَّفَ عنهنَّ حملاً ثقيلاً جدًا من الرحمة التي لا يمكنها أنْ تفعل شيئًا. ينبغي لمن يحب المسيحَ ويتصوره على الصليب أنْ يختبرَ تخفيفًا [أو عزاءً] مماثلاً عند الإصابة بالبلاء.

ونظرًا للصلة الجوهرية بين الصليب والبلاء، لا يحق لدولة ما أنْ تنفصل عن أي دين إلاَّ إذا افترضنا افتراضًا مستحيلاً أنها نجحَتْ في القضاء على البلاء. من باب أَولى، لا يحق لها ذلك عندما تصنع بنفسها أصحابَ البلاء. إنَّ للقضاء الجنائي المنقطع عن أي نوع من الصلة مع الله طابعًا جحيميًا فعلاً، ليس بسبب الأخطاء في الحكم أو الإفراط في القسوة، بل السبب في ذاته، وبمعزل عن كل ذلك. فهو يتدنَّس بالاحتكاك بجميع الدناسات، ونظرًا لعدم وجود شيء لديه يطهرها يصبح هو نفسه مدنَّسًا إلى درجة أنَّ أسوأ المجرمين قد ينحط أيضًا بسببه. فالتعامل معه يقشعرُّ له بدنُ من يكون في نفسه شيء من النزاهة والسداد؛ والفاسدون يجدون حتى في العقوبات التي يفرضها نوعًا من السكينة المروِّعة أكثر أيضًا. لا شيء طاهرًا بما يكفي لنشر الطهارة في الأماكن المخصصة للجرائم والعقوبات، إلاَّ المسيح، ذلك الذي كان محكومًا بالحق العام.

ولكنْ بما أنَّ الصليب وحدَه هو اللازم للدول وليس تعقيدات العقيدة فمن المفجع أنْ يرتبطَ الصليبُ والعقيدةُ ارتباطًا وثيقًا. هذا الارتباطُ انتزع المسيحَ من إخْوته المجرمين.

إنَّ مفهومَ الضرورة كمادة مشتركة في الفن والعِلْم وفي كلِّ ضروب العمل هو الباب الذي يمكن للمسيحية أنْ تدخلَ منه إلى الحياة الدنيوية وتخترقها من طرف إلى طرف. لأنَّ الصليب هو الضرورة نفسُها التي يضعها استحضارُ الألم الجسدي وحضورُ الله على تواصلٍ مع أدنى ما فينا ومع أعلى ما فينا، فيضعها استحضارُ الألم الجسدي على تواصل مع الحس المادي ويضعها حضورُ الله على تواصل مع المحبة الفائقة. وبالتالي، ينطوي في ذلك جميعُ أنواع التواصل والتي يمكن أنْ تقيمها الأجزاءُ الوسطى من كينونتنا مع الضرورة.

ليس هناك ولا يمكن أن يكون هناك، في أي مجال كان، أيُّ نشاط إنساني لا يكون صليبُ المسيح حقيقتَه السرِّية والسامية. لا يمكن فصلُ أي نشاط عن الصليب دون أن يفسد أو يَيْبَسَ كغصنِ كرْمٍ مقطوع. نرى هذا الأمرَ يحدث أمامَ أعيننا، اليومَ، دون أن نفهمَه، ونتساءل أين يكمن شرُّنا. كان فهمُ المسيحيين أقلَّ من غيرهم أيضًا، لأنهم بعلمهم أنَّ هذه النشاطاتِ سابقةٌ المسيحَ تاريخيًا لم يتمكنوا من إدراكِ أنَّ الإيمان المسيحي كان نُسغها.

لو أننا فهِمْنا أنَّ الإيمان المسيحي، تحت حُجُبٍ تَشِفُّ عن صفائه، يحمل أزهارًا وثمارًا في كل الأزمان وكل الأماكن التي يوجد فيها بشرٌ لا يكرهون النورَ لما وقفَتْ في طريقنا هذه الصعوبةُ.

منذ فجر العصور التاريخية، لم يغِب المسيحُ قط كغيابه اليوم، إلاَّ في بعض أحقاب الإمبراطورية الرومانية. ربما كان الأقدمون رأوا هذا الفصل فظيعًا بين الدين والحياة الاجتماعية والذي يجده حتى أغلبُ المسيحيين اليوم طبيعيًا.

ينبغي أنْ تجعلَ المسيحيةُ في كل مكان نسغَها يجري في الحياة الاجتماعية؛ ولكنَّ الأمر كذلك رغم كل شيء بالنسبة للكينونة وحدها قبل كل شيء. يسكن الآبُ في السر، وليس هناك من سر مصونٍ أكثر من البلاء.

هناك سؤال لا معنى له على الإطلاق ولا جواب له طبعًا، سؤال لا نطرحه عادةً أبدًا، ولكنَّ النفْسَ في البلاء لا يمكنها أنْ تمتنع عن المجاهرة به بلا انقطاع بتواصلٍ رتيب ممل من الأنين. هذا السؤال هو: لماذا؟ لماذا تكون الأمور هكذا؟ يطرحه المُبتلَى بسذاجة على الناس والأشياء والله حتى إنْ لم يؤمن به وعلى كل شيء. لماذا ينبغي تحديدًا ألاَّ يكون لديه ما يأكل أو أنْ يهدَّه التعبُ والمعاملاتُ القاسيةُ أو أن يكون لا بدَّ عليه قريبًا من أن يُعدَمَ رميًا بالرصاص أو أن يكون سجينًا؟ فإذا شرحنا له أسبابَ الوضع الذي هو فيه، وهو أمرٌ على أي حال نادرٌ ما يكون ممكنًا بسبب تعقيد الآليات التي تتدخل، فلن يكون ذلك في نظره جوابًا. لأنَّ سؤاله بلماذا لا يعني: بأي سبب، ولكنْ: لأية غاية؟ ولا يمكننا بطبيعة الحال أنْ نذْكرَ له غاياتٍ. اللَّهمَّ إلاَّ إذا "فَبْرَكْنا"[7] غاياتٍ وهميةً، ولكنَّ هذه "الفَبْركة" ليست بالأمر الحسن.

الغريب في الأمر أنَّ بلاء الآخرين، إلاَّ في بعض الأحيان، وليس دائمًا، بلاء الكائنات القريبة جدًا، لا يثير هذا السؤال. نطرحه مرةً كحدٍّ أقصى من دون انتباهٍ ولا تفكير. ولكنْ من يدخلُ في البلاء يستقرُّ فيه هذا السؤالُ فيأخذ يجأرُ[8] بلا توقُّف. لماذا. لماذا. لماذا. المسيح نفسُه طرحه. "لماذا تركْتَني؟" ["إيلي! إيلي! لِمَا شبقْتَني؟"]

سؤال المبتلَى بلماذا لا يستوجب أيَّ جواب، لأننا نعيش في الضرورة لا في الغائية. إذا كانت هناك غائيةٌ في هذا العالَم فلن يكون العالَمُ الآخر مكانًا للخير. كلما طلبْنا الغائيةَ من العالَم رفضَها. ولكنْ لمعرفة أنه يرفضها لا بد من طلبها.

ما يجبرنا على طلبها هو البلاء فقط، وكذلك الجَمالُ، لأنَّ الجميلَ يعطينا بقوةٍ الشعورَ بحضور خيرٍ ما إلى درجة أننا نبحث عن غاية دون أنْ نجدَ شيئًا من ذلك قط. يجبرنا الجميلُ أيضًا على أنْ نتساءلَ: لماذا؟ لماذا هذا جميل؟ ولكنْ يندر وجودُ الأشخاص القادرين على التفوُّهِ في داخلهم بهذا السؤال (لماذا) خلال عدة ساعات متتالية. سؤال البلاء (لماذا) يدوم ساعاتٍ، أيامًا، سنواتٍ؛ ولا يتوقف إلاَّ عن إعياء وضنىً.

من كان قادرًا على أنْ ينصتَ لا أنْ يجْأَرَ فحسبُ يسمعُ الجوابَ. هذا الجوابُ هو الصمت. هذا الصمتُ الأزلي هو ما أخذَه [ألفريد دو] ﭭيني Vigny بمرارةٍ على الله؛ ولكنْ لم يكنْ من حقه أنْ يقولَ ما هو جوابُ الشخص المستقيم على هذا الصمت، لأنه لم يكنْ مستقيمًا. المستقيم يُحِبّ. ومن كان قادرًا على أنْ يحبَّ لا أنْ ينصتَ فحسبُ يسمع هذا الصمتَ كلامَ الله.

تتكلم المخلوقاتُ بأصوات. كلامُ الله صمت. ولا يمكن أنْ يكون الكلامُ السرِّيُّ الإلهيُّ للحب غيرَ الصمت. المسيح صمتُ الله.

لا شجرةَ كالصليب ولا تناغُمَ أيضًا كصمت الله. لقد أدركَ الفيثاغوريون هذا التناغمَ في الصمت العميق الذي يلفُّ النجومَ منذ الأزل. الضرورةُ التي على الأرض هي اهتزازُ صمتِ الله.

تُصْدِر نفوسُنا صوتًا باستمرار، ولكنْ هناك نقطة فيها هي صمتٌ ولا نسمعها أبدًا. عندما يدخل صمتُ الله في نفوسنا يخرقها ويتصل بهذا الصمت الحاضر سرًا فينا، ويصبح عندئذٍ كنزُنا وقلبُنا في الله؛ وينفتح الفضاءُ أمامنا كثمرةٍ تَنْـفَـلِـقُ فِلْـقَينِ، لأننا نرى الكونَ من نقطة تقع خارج المدى.

ليس هناك سوى طريقين ممكنين لهذه العملية، مع استبعاد طرق أخرى. وليس هناك سوى حدَّينِ ثاقبَين بما يكفي للدخول كذلك في نفوسنا، هما البلاء والجَمال.

غالبًا ما يراودنا البكاءُ دمًا ونحن نفكر كم يسحق البلاءُ أناسًا مبتلَينَ عاجزين عن الاستفادة منه. ولكنْ إذا نظرْنا إلى الأمور نظرةً باردةً فليس هناك من هدْرٍ يستحقُّ الرثاءَ أكثر من هدْرِ جَمال الوجود. فكم مرةً قدَّمَ ضوءُ النجوم وصوتُ أمواج البحر وصمتُ الساعة التي تسبق الفجرَ نفسَها لانتباه البشر؟ إنَّ عدم الانتباه لجَمال الوجود هو ربما جريمةُ كُنودٍ[9] تستحقُّ لكِبَرِها عقابَ البلاء. لا تناله دائمًا بالتأكيد؛ ولكنها في هذه الحالة يعاقَبُ عليها بعقاب الحياة الرديئة، وبماذا تكون الحياةُ الرديئة أفضلَ من البلاء؟ من جهة أخرى، حتى في حالة عِظَم البأساء، تكون حياةُ مِثْلِ هذه الكائنات على الأرجح رديئةً دائمًا. بمقدار ما نستطيع التكهُّن عن مدى الحساسية، يبدو أنَّ الشرَّ الموجودَ في كائنٍ ما هو حمايةٌ له من الشر القادم لينقضَّ عليه من الخارج على شكل ألم. ينبغي أنْ نأمل بأنَّ الأمر كذلك وبأنَّ الله يقلِّص تقريبًا برحمته ألمًا لا طائل منه أبدًا عند اللص الشِّمال. كذلك يكون الأمرُ، حتى إنَّ ذلك هو الإغواء الكبير الذي ينطوي عليه البلاءُ، بحكم أنَّ لدى المبتلَى دائمًا إمكانيةَ تقليل المعاناة إذا رضيَ بأنْ يصبحَ رديئًا.

إنه فقط في نظر من عرفَ الفرحَ الصِّرْفَ، حتى وإنْ لم يكنْ سوى دقيقةٍ واحدة، ومن ثَمَّ طعْمَ جَمال الوجود، لأنهما شيء واحد، إنه في نظره فقط يكون البلاءُ شيئًا يتفطَّر له القلبُ. في الوقت نفسه، إنه وحده الذي لم يستحقَّ هذا العقابَ. ولكنَّ ذلك في نظره ليس عقابًا، إنَّ الله ذاتَه هو الذي يأخذ يدَه ويصافحها بقوة قليلاً. لأنه إذا بقيَ مؤْمِنًا فسوف يجد دُرَّةَ صمتِ الله في عمق صيحاته.

ترجمة: محمد علي عبد الجليل

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] البلاء le malheur هو الاختبار والامتحان والشقاء والمِحْنة التي تنطوي على مِنْحة.
ما وردَ في المنقول الإسلامي عن البلاء:
وردَ في القرآن: "الذي خلَقَ الموتَ والحياةَ ليبلوَكم أيُّـكم أحسنُ عملاً؛ وهو العزيز الغفور." (سورة المُلْك، الآية 2) ما ترمي إليه هذه الآيةُ هو أنَّ الخَلْق بلاء؛ وهو ما ستأتي على ذِكْرِه سيمون ﭭـايل. وجاء في حديث البخاري والترمذي: "أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل". فعلى قدْر إيمان المرء يأتي بلاؤه. وجاء أيضًا في حديث أبي هريرة: «إنَّ الله عز وجل إذا أحبَّ عبدًا ابتلاه ليسمعَ صوتَه.» (شعب الإيمان للبيهقي، ج 20، ص 266) وعندما جاء أحدهم إلى نبيِّ الإسلام قائلاً: "يا رسول الله كبُرَتْ سني وسقُمَ جسدي وذهبَ مالي."، قال: «لا خير في جسد لا يُبتلى ولا خير في مال لا يرزأ منه. إنَّ الله إذا أحبَّ عبدا ابتلاه وإذا ابتلاه صبَّره.» (أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب المرض والكفارات من حديث أبي سعيد الخدري). ووردَ في السنن الكبرى للبيهقي: "[...] ومن ابتلاه الله ببلاء في جسده فله به حِطَّة خطيئة. قال خالد: يعني تحط عنه ذنوبه." (السنن الكبرى للبيهقي، ج3 ص 374) وقال النِّـفَّـري: "معرفتُـكَ للبلاء بلاءٌ وإنكاركَ للبلاء بلاء، ولا مهْربَ من البلاء لأنه لا مهرب مني." وقال أيضًا: "هلكَ من ركبَ وهلكَ من لم يركبْ." ويقول المتنبِّي: "على قَدْر أهلِ العزْم تأتي العزائمُ."
وقد يقابل البلاءُ مفهومَ اللعنة في المنقول المسيحي: المسيح افتدانا من لعنة الناموس، إذْ صارَ لعنةً لأجلِنا، لأنه مكتوبٌ: "ملعونٌ كل من عُـلِّقَ على خشبة" (غلاطية 3: 13)
ربما يقابل مفهومُ البلاء
le malheur عند سيمون ﭭـايل مصطلحَ الضَّنى عند الحلاج، في قوله:

نظري بدءُ علَّتي، ويحَ قلبي وما جنى!          يا معينَ الضنى عليَّ أعِنِّي على الضنى.

والضَّنى أو الضَّنا، لغةً، هو سوء الحال. وهو أيضًا المرضُ والهُزال. يقال: ضَنِيَ الرَّجُـلُ يضْنى ضَنَىً: مرِضَ مرضًا شديدًا كلَّما ظُـنَّ بُرْؤه نُكِسَ. فهو ضَنٍ. وضَنِيَ فلانٌ: لزِمَ الفِراشَ من الضنى. وأضناه المرضُ: أثقلَه. وضانى المرءُ الشيءَ أو الأمرَ مضاناةً: عاناه وقاساه. والضِّـنَى (بكسر الضاد): الأوجاع المخيفة. (ولكنَّ العامةُ تقول للولد والنسل: ضنا، وفي الفصحى: الضَّنْءُ والضنْو هو الولد والنسل وجمعه ضُنوء. وأضْنأَتِ المرأةُ وغيرُها: كثُرَ نسلُها. وضَنَتِ المرأةُ تَضْني وضَنِيَتْ ضَنىً وضناءً: كثُرَ ولدُها. وهو غير الضِّنِّ والضَّنانة، أي البخل الشديد. وهو غير الضَّنْك الذي هو الضيق والشدة.) (المترجِم)

[2] تتلاقى هذه الفكرةُ مع فكرة الآية: (ثمَّ استوى إلى السماء وهي دخانٌ فقال لها وللأرض: "ائْتِيا طوعًا أوكَرْهًا"، قالتا: "أتَينا طائعين".) سورة فُصِّـلَتْ، الآية 11. (المترجِم)

[3] النجيل أو الثِّـيْـل أو العِكْرِش أو حشيش الحدائق: نبات عشبي معمِّر، سريع النمو، ضار جدًا بالمزروعات، من فصيلة النجيليات، يسمَّى بالفرنسية chiendent [سن الكلْب]؛ يتألف من سوق أرضية شبيهة بالجذور [جذامير]؛ وقد يصل طوله إلى متر واحد؛ يُستخدَم لأغراض طبية كمُدِرّ للبول؛ هناك عدة أنواع منه: الإيليتريجيا Elytrigia والأغروﭙيروم agropyrum والسينودون cynodon. (المترجِم)

[4] يروي المنقولُ المسيحي أنَّ المسيح صُلِبَ معه لصَّان، واحد عن اليمين وواحد عن اليسار. أما اللص اليمين Saint Dismas, Good Thief, Bon Larron وكان اسمه "ديسماس" فقد بدأ بتعيير المسيح، لكنه ما لبث أنْ تاب وأدرك حاجتَه إلى المخَـلِّص فحصل على وعد المسيح: "اليوم تكون معي في الفردوس" (لوقا 23: 39-43)؛ ولا يُعرف عنه شيئًا؛ واسم "ديسماس" مشتق من اليونانية وتعنى "مائت". لقد كان اللصُّ اليمين خاطئًا توَّابًا فدخلَ الجنة؛ أما اللص الشِّمال Mauvais Larron فكان خاطئًا مُصِرًّا على خطئه ولم يتبْ فذهب إلى الجحيم. (المترجِم)

[5] في هذا المعنى يقول الحلاج:
طوبى لطَرْفٍ فازَ منكَ بنظرةٍ أو نظرتَينْ                  ورأى جَمالَكَ كلَّ يومٍ مرةً أو مرتينْ. (المترجِم)

[6] ولذلك اختار الحلاجُ الصليبَ:
ألا أَبْـلِـغْ أحبَّـائي بِـأنِّـي                   ركبْتُ البحرَ وانكسرَ السفينةْ.
على دين الصليبِ يكونُ موتي                   ولا البطحا أُريدُ ولا المدينةْ. (المترجِم)

[7]  تعمَّدْتُ اقتراضَ الفعل الفرنسي (fabriquer) (فَبْرَكَ) اقتراضًا معرَّبًا emprunt intégré (لا اقتراضًا دخيلاً emprunt intégral) نظرًا لأنه أولاً ينقل المعنى بأمانة ولجَرْيِه على ألسنة العامَّة وتوافقِه مع أوزان الفعل العربية (رباعي) ولانسجامِه مع النظام الصوتي للعربية، ونظرًا لعدم وجود فعلٍ واحد بالعربية، على حد علمي وبعد تمحيص، يجمع في حقله الدلالي معانيَ الصنع والتقليد والتزييف والوهم أيضًا. أمَّا الفعل "اصطنع" الذي اقترحه بعضُ المشتغلين في الترجمة كمقابل للفعل (fabriquer) فلا يصلح، لأنه يحمل معانيَ إيجابية: معنى الاختيار: "واصطنعْتُكَ لنفْسي" (سورة طه، الآية 41) ومعنى الإحسان (اصطنعَ عند فلان صنيعةً) ومعنى التقديم (اصطنعَ الرزقَ) ومعنى طلبِ صُنعِ شيء (اصطنع فلانٌ خاتَمًا) ومعنى التربية (اصطنع فلانًا: أدَّبه وخرَّجه وربَّاه) ومعنى الإعداد (اصطنعَ الرجلُ: أعدَّ طعامًا في سبيل الله). إذا كان هناك من فعلٍ في العربية قريب جدًا من الفعل (fabriquer) فذلك الفعل هو (اختلقَ) ولكنه يحمل فقط معنى الافتراء والكذب. قد يثير هذا الاقتراضُ المعرَّب حفيظةَ المتنطِّسين أو الصفائيين أو لنقُـلِ المتشددين من النُّحاة [؟]؛ فألتمس عذرَهم. (المترجِم)

[8]  جأَرَ يجْأرُ جأْرًا: رفعَ صوتَه بالدعاء مع تضرُّع واستغاثة. ورد في الآية: "حتى إذا أخذْنا مُتْرفيهم بالعذاب إذا هم يجْأرون. لا تجْأروا اليومَ إنكم منا لا تُنصَرون." (المؤمنون، 64، 65) (المترجِم)

[9]  الكُنود (بضم الكاف) ingratitude هو عدم شكر النعمة وجحودها والكفر بها. والكَنود (بفتح الكاف) الجاحد لنعمة ربِّه الكَفور. تقول الآية: "إنَّ الإنسانَ لربِّه لَكَـنود." (العاديات، 6) (المترجِم)

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود