التبادل المستحيل لحياتنا الذاتية
جان
بودريار
تتموضع
حياتنا الفردية في مناخٍ أخلاقي من الاستملاك الذاتي، وبالتالي من
إنكارٍ لكل آخرية جذرية تعود، على الرغم من ذلك، في شكل مصيرٍ فردي
معاكِس قوامُه أمراضنا العصابية واختلالاتنا النفسية المتنوعة. في
اللحظة التي تتجه فيها كل نتائج الإرادة والحرية والمسؤولية نحو
إشكالية عصية على الحل، وفي اللحظة التي يؤدي فيها تحرير الطاقات
والفضائل الأخلاقية والميول الجنسية والرغبات إلى نتائج معاكسة بيِّنة،
وبينما تباشر كل ثقافتنا، على تخوم الألفية الثالثة، مراجعةً مؤلمة
أمام احتمالية حلٍّ نهائي يأتي من العلم أو من التاريخ – في هذه اللحظة
من التناقض العنيف لسيرورة التحرر الحديثة، يجب بلا ريب الرجوع إلى
الأصول لنرى ما إذا كان هذا الدافع لا يتناقض مع شيءٍ ما أكثر قوة
وأكثر بربرية وأكثر بدائية.
يتصارع في داخلنا طموح ثقافة نحو التحرر الفردي واشمئزازٌ من الفردية
والحرية مصدره أساس النوع. هذه الصيرورة المتناقضة تُترجم عبر ندامة لا
تُقاوم، وعبر حقد عميق إزاء العالم كما هو، وعبر كره للذات يزداد يقظة
أكثر فأكثر. فالوعي يتطلب حرية واستقلالية أكثر فأكثر، الأمر الذي من
خلاله نقتلع أنفسنا من النزعة المحافظة للمجتمعات التقليدية، وفوق ذلك
من التسلسل القديم للنوع، وبذلك نفسخ الميثاق الرمزي ودورة التحولات.
ينتج عن ذلك نوعان من العنف: عنف التحرير، وعنف مضاد انفعالي ناتج عن
الإفراط في الحرية والأمن والحماية والتكامل، وبالتالي خسارة كل بُعد
قدري ومصيري. عنفٌ موجَّه ضدَّ ظهور الأنا والنفس
le Soi،
والذات sujet
والفرد، ينتج على شكل كرهٍ للذات وندامة.
لم يُفهم كره الذات هذا بشكل جيد. لعل المطالبة الأولى للوعي الذي يظهر
في حضارة وسائل الاعلام خاصتنا
civilization de masse
مطالبة تعبيرية؟ الروح، حرية الخرس الخنوعة، تبصق روثاً وتزمجر قلقاً
مخزوناً منذ قرون. [...] إنَّ الوعي الذاتي لدى الإنسان مصحوب، في هذه
اللحظة من التاريخ، بإحساس بفقدان القدرات الطبيعية من مرتبة أكثر
عمومية، وبثمن مدفوع بشكل غريزي عبر التضحية بالحرية والدافع. إن مأساة
التطور الإنساني التي نعيشها تبدو أنها مأساة المرض، مأساة الانتقام من
الذات. فما نشهده اليوم ليس التسوية التي تنبأ بها أليكسيس دو توكفيل
فحسب، وإنما المرحلة الدهمائية لوعيٍ بالذات في طور النمو. لعله لا
يمكن تجنب الانتقام الذي تمارسه أغلبية النوع البشري على وثبات
نرجسيتنا (لكن أيضاً على توقنا إلى الحرية). ففي هذه المملكة الجديدة
للكثرة، ينزع الوعي لأن يُظهرنا أمام أنفسنا كوحوش. (Saul
Bellow,
HERZOG).
اجتاز الإنسان الحديث عتبة حرجة نرى في إثرها
عودة اللهب الأصلي
للنوع البشري، هكذا أصبح إنكار الذات المرحلة القصوى للوعي الفردي،
تمامًا كما أصبح الحقد عند نيتشه المرحلة القصوى لجينالوجيا الأخلاق.
هنا تتداخل المفارقة والآثار المتناقضة لكل تحرر، لما نسميه تقدم العقل
والحضارة. ولا حاجة من أجل ذلك لغريزة الموت، ولا لحنين بيولوجي نحو
حالة سابقة على الفردنة أو الجنس: فوضعنا الحديث والمتناقض هو الذي
يُنتج هذا الإنكار للذات، هذا النفور المميت. وعلى أي حال، غريزة موت
أم لا، نحن لسنا بعيدين اليوم عن إيجاد المعادل لخلود الأوليات
الخلوية protozoaires،
وذلك من منظور المُستنسخ كدرجة قصوى للفرد ودرجة صفر للتطور.
السؤال المطروح هنا هو إذاً سؤال المصير المستحيل، سؤالُ تواطئنا في
المصير المتناقض لنوع مسكون بمخيلة نهايته الذاتية. والمشكلة ليست
مشكلة الحرية – مشكلة كيفية الحصول عليها؟ - المشكلة هي بالأحرى: كيف
الهروب منها؟ كيف الهروب من فردنةٍ بلا حدود ومن كراهية الذات؟ السؤال
ليس: كيف يهرب الفرد من مصيره؟ وإنما: كيف لا يهرب منه؟ لأننا أضعنا
النسخة الأصلية. أُتلف مصير النفس الفردية بشكل كبير. لم يكن الإنسان،
في ما مضى، ملزمًا أن يكون إلا ذاته. كان الله وإبليس يتصارعان فوق
رأسه. وفي ما مضى، كنَّا على درجة من الأهمية لكي يتصارعوا من أجل
نفوسنا. اليوم، فُرض علينا خلاصنا الذاتي. لم تعد حيواتنا تتميز
بالخطيئة الأصلية، وإنما بخطر إضاعة فرصتها النهائية. هكذا نقوم
بمراكمة الخطط، والنماذج، والبرامج، نقوِّمُ أنفسنا ونتجاوزها من خلال
الأداء الكلي. ونقع في حالة أولئك الذين، كما يقول كيركيجارد، لم
يعودوا قادرين على مواجهة يوم القيامة شخصيًا.
في المرحلة النهائية من تحرره، من انعتاقه عبر الشبكات والشاشات
والتكنولوجيات الحديثة، أصبح الفرد ذاتًا كُسورية
fractal
قابلٌ للقسمة إلى ما لا نهاية وغير قابل للقسمة معًا، مغلق على نفسه
ومنذور لهوية بلا نهاية. إنه، نوعًا ما، الذات الكاملة، ذاتٌ من دون
آخر، وبالتالي، لا تتناقض فردانيتها أبدًا مع وضع الجموع. على العكس:
هو المُضاعف للأثر الكلي في كل جزء فردي. كل ذات تختصر داخلها
التسلسلية، والبنية المرصعة بالنجوم والمجازية للكل، والذي خاصيتها
أنها في كل نقطة من أجزائها قابلة للاستبدال مع ذاتها. أو أيضًا: الفرد
يجعل من ذاته كلاً، وبنية الكل تجد نفسها، بطريقة ثلاثية الأبعاد، في
كل مقطع فردي. الكل والفرد ليسوا، في العالم الافتراضي وعالم وسائل
الإعلام، إلا الامتداد الالكتروني لبعضهم بعضًا. أصبحنا بالتالي
مونادات افتراضية، الكترونات حرة، أفرادًا منشغلين بأنفسهم ويبحثون عن
الآخر من دون جدوى. لكن لا وجود لآخر للجزيء. فالجزيء الآخر هو ذاته
دائمًا. كل ما يمكن أن يوجد هو جزيء مضاد سيؤدي التصادم معه إلى تلاشي
الأول. ربما لا يوجد إلا الاحتمالية الأخيرة التالية: مصير تلاشي
المادة في المادة المضادة، والجنس في الجنس الآخر، والفرد في الكل. لم
يعد لدينا، وقد اُختزلنا إلى هويات نووية، مصير آخر إلا الاصطدام مع
نسختنا المضادة. هذه نوعًا ما لعنةُ النوع، أي أن يتفكك أولاً إلى
أفراد، وفي ما بعد تتفكك هذه إلى جزيئيات مبعثرة، تبعًا لعملية تجزيئية
صارمة على شاكلة المادة التي تتفكك إلى ذرات، ومن ثم إلى جزيئيات لا
يمكن الإمساك بها أكثر فأكثر، جازمين أنه لن يوجد مرحلة نهائية للمادة
على الإطلاق، أولية بحق – كذلك بالنسبة للكائن الإنساني، لن يوجد مرحلة
مرجعية نهائية له.
الفرد الحديث، هذا الذي ما عاد مندرجًا في نسق يتجاوزه وإنما طريد
إرادته الذاتية، مفروضٌ عليه أن يكون ما يريد وأن يريد ما يكون – ينتهي
به الأمر بلوم ذاته ويهلك في استنفاد إمكاناته. هذا هو شكل العبودية
الإرادية. نفهم كيف أنه لا يطلب إلا أن يخسر هذه الإرادة وهذه الحرية،
لكي يعهد بقرار الحياة والموت إلى شيء آخر. فأي شكل يمكن أن يغيِّر
الوجود الفردي جيد للهروب من هذه المسؤولية. ومع ذلك، غالبًا ما تأخذ
أشكال تغيير الإرادة وتبديل وجهة الرغبة المختارة شكل محاكاة للمصير،
إستراتيجية قدرية لكن ساخرة. ففي ظل غياب قوىً متعالية تنشغل بنا، وفي
ظل التصميم الأبدي لإقامة براهين على وجودنا، نحن مرغمون على أن نصبح
محتومين بالنسبة لأنفسنا. "فالإنسان الذي حُرِم من المصير يعوض عنه من
خلال تجربة ذات آثار مصيرية عليه" (سلوتردايك،
Sloterdijk).
هكذا هم كل الذين يُخضعون أنفسهم بإرادتهم إلى الأوضاع المتطرفة:
الملاحون، ومتسلقو المرتفعات، والأغواريون، والمحاربون في
مناورات
الأدغال. فكل الأوضاع الخطرة التي كانت في ما مضى القدر الطبيعي للبشر
يتم إعادة ابتكارها اليوم بطريقة اصطناعية عبر شكل من الحنين للحالات
المتطرفة، وللنجاة وللموت. إنه تصنيعٌ تقني للمعاناة وللتضحية، بما في
ذلك هذا الدافع الإنساني بالتعهد ببؤس الآخرين، علَّنا نجد فيه مصيرًا
بديلاً. إنها الإماتة الرمزية ذاتها في كل مكان. ستيفن هاوكينغ
Stephen Hawking
دماغ عبقري في جسد خائر القوى: هو يمثِّل دمية العرض المثالية للعلم
الخارق. كذلك الجراحة التجميلية لـ أورلان
Orlan
ولكل أولئك الذين يختبرون ويبدلون أجسادهم لدرجة تصل إلى قطع الأعضاء
والتعذيب. إعاقات، وقطع أعضاء، وترميمات، وافتتان جنسي بالحادث
وبالتكنولوجيات المميتة، كما في فيلم اصطدام لـ كروننبيرغ (Crash
de Cronenberg).
هكذا حتى نصل إلى المنشطات، هذه الطريقة بالتخدير الخاصة بمعاقي
الألعاب الأولمبية في أتلانتا، الذين يلحقون بأنفسهم المعاملة السيئة
ليحسِّنوا من أدائهم. ذلك من دون أن نذكر المخدرات وأشكل التبديل
الأخرى للوعي، فكل شيء جيد لتجريب هذا التفكيك العنيف للجسد والفكر.
لكن التجريب لا يخص الحالات المتطرفة فقط. فوراء كل شاشة تلفزيونية
وحاسوب، وفي كل عملية تقنية يجابهها الفرد يوميا، يكون هو أيضًا موضوع
تحليل، وظيفةً بوظيفة، وموضوع اختبار وتجريب وتجزئة وإزعاج، ومن
المفترض أن يستجيب لذلك. لقد أصبح ذاتًا كُسورية منذورة للتشتت في
الشبكات على حساب إماتة النظرة، والجسد، والعالم الواقعي.
فمع
وسائل الإعلام واستطلاعات الرأي وكل بروتوكولات التحقق والقيادة، نعيش
في نوعٍ من الامتحان الأبدي
(ماكلون، MacLuhan)
المزود بإجابات آلية نوعًا ما. نتحدث عن مضايقة، عن الاضطهاد، عن
العبودية السلوكية، يبتدع من خلالها الفرد ذاته من جديد، عبر هلوسة
تقنية، شكل مصيري زائف، خطر اصطناعي حيث يتحول الوجود إلى عملية تحد
ذاتي. وذلك على شاكلة الزاهدين والناسكين في ما مضى؛ كانوا يعاقبون
أنفسهم بكافة أشكال المحن آملين أن يستجيب الله لعذابات أجسادهم.
هكذا، في هذه الأيام، يقضي البشر – المتحررون من كل أمر محتوم
والمتخلصون من كل تنافسية مادية – حياتهم بمضايقة أجسادهم وأرواحهم ضمن
تصفية حسابات أبدية، معاقبين أنفسهم، يومًا إثر يوم، بامتحان يوم
القيامة.
ولكن، ما وراء هذه الهوية الساخرة والقهرية التي ليست إلا تكفيرًا عن
رفض وفقدان كل انتماء رمزي على مذبح التقنية، ألا يوجد شكلٌ من المصير
لا فرار منه؟ ألا يوجد طريقٌ لغرائبية جذرية تحطم حلقة الهوية المفرغة،
غرائبيةِ وهم جذري يحطم حلقة الواقع المفرغة؟ مصير لا يتعارض في العمق
مع الإرادة الذاتية، وإنما هو إرادة غير شخصية تحيط بالأولى من خلال
إلزامها الخفي.
ترجمة: جلال بدلة
*** *** ***