هذا
المقال هو مقاربة لمعنى الدرويش الذي لمسته واقعًا، وحاولت فيه أن
أعبِّر عن الصورة التي تشكَّلت لديَّ من خلال زياراتي لمقامات الأولياء
والموالد المصرية، وتتبعتُ ما كُتب عن معنى الدرويش في الأدبيات
العربية، سواء في المجلات والدوريات أو الكتب وعبَّرت عن ذلك في لغة
أدبية وأرفقت بالهوامش ما يساعد الباحث أو القارئ على تتبع المعنى في
مظانه التي تيسَّرت لي وجاء المقال على الصورة التالية:
الدَّرْوِيشُ هو: الزاهد أو الفقير أو الصوفي أو المسكين أو الجوَّال أو
المتسوِّل أو النَّاسك. بهذا تقولُ أغلب المعاجمُ في شرح معنى الكلمة في اللغة،
وتردُّ أصلها إلى اللسان الفارسي. ويعرفها الناس في كثيرٍ من البلاد بهذا
المعنى، ففي الحضر والبادية وفي الحجاز ومصر والسودان والشام وإيران وتركيا لا
تخرج الكلمة عن هذه المعاني، ويغلبُ ارتباطها بالفقر
والحكمة ومعرفة أمور الطب ويطلبهم الناس وقت الشدَّة كي يستريحون بحملهم عنهم
مشاكلهم وما يؤرقهم في حياتهم، كونهم مجاهيل ما يُسرد لهم من تفاصيل التعب لن
يُنشر أو يحكى في سياق آخر. فالدرويش يذيب ما ألقي إليه من أحمال الآخرين بمجرد
إخراجها مهما ثقُلت، ويستطيعُ بيديه البيضاء وقلبه الخالي من الدنيا أن يرسم
البسمة على قلوب التعساء.
4- مبادئ عامة
إنني أرغب في جعل هذا الكتاب واضحًا وسهل الفهم قدر الإمكان، ولهذا السبب
سأُقدِّم عن كل مسألة مبادئها العامة فقط، مُحيلاً الراغبين بمعلومات تفصيلية
إلى كتب أكبر حجمًا، أو إلى دراسات متخصصة حول مواضيع محددة. وآمل أن أعطي في
نهايـة كل فصل من هذه الدراسة الموجزة قائمة بمثل هذه الكتب التي يتوجب
الاسترشاد بها من قبل الراغبين في المزيد من التعمق في هذه المعرفة الشيِّقة.
سأبدأ بعد ذلك بعرض الأكثر شيوعًا من المبادئ العامة التي ظهرت كحصيلة لدراسات
الحكمة الإلهية. وقد يجد أُناسٌ ههنا مادة عصيَّة على التصديق، أو مسائل مناقضة
تمامًا لأفكارهم المسبقة. فإذا حصل ذلك، سأطلب منهم أن يتذكروا بأنني لا أطرح
هذه المادة بوصفها نظرية - كتأمُّلات خيالية أو مُعتقد ديني خاص بي - بل كحقيقة
علمية مؤكَّدة تم إثباتها وفحصها مرارًا وتكرارًا، ليس من قبلي فحسب، بل كذلك
من كثيرين غيري.
1. إن الطريقة التي نرى فيها الله ما هي إلا انعكاس للطريقة التي نرى
فيها أنفسنا. فإذا لم يكن الله يجلب إلى عقولنا سوى الخوف والملامة،
فهذا يعني أن قدرًا كبيرًا من الخوف والملامة يتدفق في نفوسنا. أما إذا
رأينا الله مفعمًا بالمحبة والرحمة فإننا نكون كذلك.
2. إن الطريق إلى الحقيقة يمر من القلب، لا من الرأس. فاجعل قلبك، لا عقلك،
دليلك الرئيسي. واجه، تحد، وتغلَّب في نهاية المطاف على "النفس" بقلبك. إن
معرفتك بنفسك ستقودك إلى معرفة الله.
3. إن كل قارئ للقرآن الكريم يفهمه بمستوى مختلف بحسب عمق فهمه. وهناك أربعة
مستويات من البصيرة: يتمثل المستوى الأول في المعنى الخارجي، وهو المعنى الذي
يقتنع به معظم الناس، ثم يأتي المستوى الباطني، وفي المستوى الثالث يأتي باطن
الباطن، أما المستوى الرابع فهو العمق ولا يمكن الإعراب عنه بالكلمات، لذلك
يتعذر وصفه.
أنا أظنُّ أنَّه على المستوى الروحي العميق ليس ثمَّة عمر! فلقد يمكنني
وأنا طفلٌ أن أختبرَ ما يختبره الكبير، فالصغير في خبرته الروحية يكون
كبيرًا، والكبير بخبرته الروحية يعود طفلاً. هذا ما علَّمتني إيَّاه
خبرتي في طفولتي وهو أنَّ هناك شيئًا عميقًا على المستوى الروحي لا عمر
له، وهو أمرٌ يمكنني أن أختبرَه الآن كما اختبرتُه وأنا في الثامنة.
وصلت شيئًا فشيئًا إلى الصليب، وإلى شخصية المسيح. وشعرت أكثر فأكثر أنَّ هناك
حبًا صافيًا. وأحسست أنَّ هذا الحبَّ الصافي هو من الله. وهو حبٌّ بلا مصلحة،
حبٌّ متألم. شعرت أنَّ المسيح لم يكن في ضيقٍ من الناس الذين يصلبونه، بل كان
حزينًا من أجلهم، من أجل جهلهم، من أجل عُقَدِهِم، من أجل مشاكلهم. لقد أدركت
وأنا ولد، أنَّ وراء شرِّ أولئك الناس ألمًا يدفعهم لارتكاب هذا الشَّرِّ. كما
أدركت أيضًا أنَّ المسيح لا يهتمُّ كثيرًا بألمه، ولا بشرِّ الآخر، بل بالألم
الذي وراء هذا الشَّرِّ. ففي صمته حنانٌ لألمهم لا غضبٌ على شرِّهم، وهو يثبت
لهم بهذا الحنان، حبَّه لهم حبًّا بالله!