فِي مَعْنَى الدَّرْوِيشُ
خالد محمد عبده
هذا
المقال هو مقاربة لمعنى الدرويش الذي لمسته واقعًا، وحاولت فيه أن
أعبِّر عن الصورة التي تشكَّلت لديَّ من خلال زياراتي لمقامات الأولياء
والموالد المصرية، وتتبعتُ ما كُتب عن معنى الدرويش في الأدبيات
العربية، سواء في المجلات والدوريات أو الكتب وعبَّرت عن ذلك في لغة
أدبية وأرفقت بالهوامش ما يساعد الباحث أو القارئ على تتبع المعنى في
مظانه التي تيسَّرت لي وجاء المقال على الصورة التالية:
الدَّرْوِيشُ هو: الزاهد أو الفقير أو الصوفي أو المسكين أو الجوَّال
أو المتسوِّل أو النَّاسك. بهذا تقولُ أغلب المعاجمُ في شرح معنى
الكلمة في اللغة[1]،
وتردُّ أصلها إلى اللسان الفارسي. ويعرفها الناس في كثيرٍ من البلاد
بهذا المعنى، ففي الحضر والبادية وفي الحجاز ومصر والسودان والشام
وإيران وتركيا لا تخرج الكلمة عن هذه المعاني، ويغلبُ ارتباطها بالفقر[2]
والحكمة ومعرفة أمور الطب ويطلبهم الناس وقت الشدَّة كي يستريحون
بحملهم عنهم مشاكلهم وما يؤرقهم في حياتهم، كونهم مجاهيل ما يُسرد لهم
من تفاصيل التعب لن يُنشر أو يحكى في سياق آخر. فالدرويش يذيب ما ألقي
إليه من أحمال الآخرين بمجرد إخراجها مهما ثقُلت، ويستطيعُ بيديه
البيضاء وقلبه الخالي من الدنيا أن يرسم البسمة على قلوب التعساء.
الدراويشُ مجانين الله يديرون وجوههم عن دنيا الخلائق تظهر في وجوههم
الفرحة وربما انطوت قلوبهم على كثير من الأحزان. مشردون عن خراب
الهياكل التي ترى في ترنُّحها وكذبها ونفاقها وجريها وراء الزائف حياة.
يمارسون الحياة عبر مذاقات لا تُدرك وفلسفة لا يبلغها أهل الأوراق
والدفاتر. يتحققون بقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ
الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ. وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) فلا
يطلبون سواه.
الدَّروشَةُ بخلاف التَّصوُّفِ، أو قُل هي لونٌ من ألوان التصوف في
البدايات يكون وفي النهايات يحدث! أو نتيجة من نتاج أحوال القوم
الصوفية تغلبُ على العوام عند العوام! لا تجدها عند من يعتبرهم العامةُ
شيوخًا وأكابر!
الدرويشُ هو الذي يرقصُ، وهو صاحبُ الحضورِ في حلقة الذكر وحده.
الدرويشُ هو القائمُ والشيخُ هو القاعدُ!
الدرويشُ (رجلٌ فقيرٌ ذو قلبٍ كبير)[3].
الدرويشُ هو الذي يكتفي بفُتات الطعام والشيخُ هو الذي يجلس معزَّزًا
مكرَّمًا وعلى مائدته صنوف الأطعمة والفواكه والحلوى إن استطاعوا أن
يقطفوا من ثمار الجنة للشيخ قطفوا وقدَّموا. أما الدرويش فتكفيه شربة
الماء الراكد!
الدرويشُ يُهلِّل ولا يُهلل له!
الدرويشُ صورة للذكرى والشيخُ حياة للهياكل!
الدرويشُ لا يمكنُ مسُّ يده التي تفتت على بساط الصلاة وعلى تراب
المراقد!
أما الشيخُ فتُقبَّل يديه ورجليه!
الدرويشُ هو الذبيح والشيخُ هو الأُمَّة إبراهيم!
الدرويشُ يعلو على ملذات الحياة... يترك الزينة وما يطلبه ويرغب فيه
أكثر الناس.
يَقْنعُ الدرويشُ بسقوطه في أعين الناسِ، وينصرف عن تأسيس البيت وبناء
الأسرة ويتَّجهُ بكلِّيتِه نحو السَّماءِ. لا يعرفُ سوى الله... ولا
يرتبطُ بغيره. فهو جوَّال بين الناس لا يستقرُ له مقام ولا تحده حدود
أوطان البشر. يسعى كما أُريدَ به!
لغةُ الدَّرويشِ كلُغةِ الوحيِ ولُغةِ الأديب وريشةِ الفنانِ... لا
يقتربُ من فهمها أصحاب المنطق وعابدو الحروف والصور والتقسيمات. لغةٌ
لا يمكن ترجمتها عبر اصطلاحات الحدود والقوالب. وحده صاحب الروح والقلب
النابض من يمكنه إتقان هذه اللغة حتى وإن لم يملك يومًا لسانًا.
الدرويشُ لا يعرف الأقسام والدرجات، لا يؤمن بالرُّتبِ ولا المقامات،
لا ينظر عبر النوافذ. الدرويشُ منه له، النهر له يجري، والبساط ممدود
قاعدًا كان أم واقفًا أو نائمًا! الدرويشُ لا يحتاجُ إلى الأسباب
المسببات.
الدرويشُ لا يستريحُ يوم السبت ولا يترقب الجمعة أو الآحاد، لا ينتظر
موعظة الكاهن أو الشيخ، لا يحتاج لرقائق وأذكار. الدرويشُ غائبٌ بالحق
عن كل الزائفات!
الدرويشُ يفترشُ الأرض لا يعرفُ الكرسيَّ اللاصق أو العهد الإبليسي
للغواية.
الدرويش قمرُ السماء وحاملُ العرش لا يجعل ظهره بساطًا لك ويظل المثال
الذي ترقبه وترجو أن تكونه للحظات ثم تعود إلى دركات الحياة!
الدرويشُ صرخةٌ صادقةٌ من القلب يحسبها الميِّت زعيقًا من أجل الماء
والخبز. الدرويش يُطعم الكلاب والقطط مما تتصدق به أنت عليه من فتاتك!
الدرويشُ ليس لقميصه وجلبابه جيب أو كيس يحمل فيه شيئًا. الدرويشُ هو
الذي محى القميص وهدم الخزانة ولم يبق له من نفسه سوى الصورة التي يحيى
بها بين البشر. ورغم أنهم كلهم يلجأون إليه إلا أنهم يأكلون ما بقي من
لحمه وصورته حيًّا وميتًا. يلجأون إليه في السرِّ لصنع التمائم
والأحراز والرُقى ثم يتهكمون عليه إن مرَّ في طريقهم أو يتفكَّهون
بذكره وسيرته.
*** *** ***