|
إضاءات
لعل الافتراض الذي ينطلق منه الإعدادُ لهذه الندوة الهامة في الذكرى المئوية الأولى لرحيل أحد روَّاد الفكر النهضوي – عبد الرحمن الكواكبي – في حاجة إلى مراجعة: هل صحيح أن مشروع "الإصلاح الديني" في منظومة فكر النهضة العربي قد فشل في تحقيق أهدافه؟ لا يمكن إعطاء إجابة شافية عن هذا السؤال دون تحديد طبيعة الأهداف التي سعى مشروعُ "الإصلاح الديني" إلى تحقيقها. فالأهداف، كما نعلم، تمثل الركائز الأساسية لبَلْوَرَة الوسائل التي تصوغ، بدورها، المبادئ النظرية التي يمكن لنا أن نطلق عليها اسم "المنهج". ولا يستقيم في منهج الفكر العلمي – التحليل النقدي – أن ينطلق حكمُنا على مشروع "الإصلاح الديني" – نجاحًا أو إخفاقًا – من منظور أهداف نتصوَّر نحن أن المشروع كان عليه إنجازُها. في عبارة أخرى، لا يجوز أن نفترض أهدافًا من منظور إشكالياتنا الإصلاحية الآن، ونحاسب جيلَ الروَّاد على فشلهم في تحقيقها. فالذي لا شك فيه أن مطالبنا الإصلاحية الآن تتجاوز بدرجات سقفَ المطالب الإصلاحية التي كان يطمح جيلُ الروَّاد إلى تحقيقها، وهي المطالب التي حدَّدتْها طبيعةُ المرحلة التاريخية وتحدياتها الداخلية والخارجية. نحن إزاء تحديات داخلية وخارجية تختلف، كميًّا وكيفيًّا، عن تلك التحديات التي تعامَل معها خطابُ الإصلاح الديني آنذاك. من المطلوب في البداية كذلك إزالةُ الالتباس الذي يمكن أن ينتج عن كون الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني الإسلامي يُعاد طرحُها اليوم بإلحاح بعد أحداث الحادي عشر من سپتمبر 2001، في سياق الضغوط الأمريكية على العالم العربي والإسلامي لتعديل برامجه التعليمية، خاصة منها ما يرتبط بتعليم الإسلام. فلا أظن أن المُعِدِّين لهذه الندوة كانت تحرِّكهم دوافعُ الاستجابة للضغط الأمريكي بطرح التساؤل عن أسباب فشل مشروع النهضة من زاوية مشروع "الإصلاح الديني" بصفة خاصة. لكن نفي هذا الارتباط بين الضغط السياسي الأمريكي وبين إعادة تقييم مشروع الإصلاح الديني لا يعني عدم الاعتراف بما أثاره حدثُ الحادي عشر من سپتمبر من أصداء في العالمين العربي والإسلامي، بعضها سلبي وبعضها إيجابي. وفي تقديري أن بعض النتائج الإيجابية تتمثَّل في الحاجة إلى إعادة النظر في صيغة "الأنا"، من حيث علاقتُها بالآخر، من منظور نقدي. ولا يحتاج الكاتب هنا إلى إبراز جهوده في مجال "نقد الخطاب الديني" خلال أكثر من ربع قرن، هي مجمل حياته الأكاديمية؛ وهي جهود صارت مكثَّفة خلال السنوات العشر الأخيرة بصفة خاصة. الكاتب هنا لا يتعامل مع الأسئلة والإشكاليات التي يطرحها علينا الآخرون بقدر ما يتعامل مع أسئلة الواقع الراهن – وكثير منها أسئلة مؤجَّلة. أكثر الأسئلة المؤجَّلة تتعلق بحقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق الأقلِّيات، وهي الحقوق التي يمكن لنا تصنيفها تحت مفهوم "العدل". وثمَّة أسئلة تتعلق بقضايا التعليم والحرية والديموقراطية والتقدم والنهضة إلخ. إنها قضايانا وأسئلتنا منذ عصر النهضة، الذي بدأناه في القرن التاسع عشر، وتعثَّرت مسيرتُنا معها لأسباب عديدة، فتأجَّلت القضايا وتوقف حسمُها منذ أمد ليس بالقريب. ينبغي، إذن، ألا نتقاعس عن التعامل مع هذه القضايا وغيرها لمجرد أنها تُثار وتنعكس علينا من مرايا الآخرين، فيركبنا العناد، متصوِّرين أننا بذلك ندافع عن "هويتنا". ليست هويتنا هي "التخلف" ومقاومة "التطور"، ومن العبث أن ننحاز إلى صفوف دعاة "التجمد" باسم الدفاع عن الدين والهوية. وأخيرًا، فإن المعيار الذي على أساسه نقيس الأمور يجب أن يكون معيار حاجتنا إلى التطور، ومقاومة "الجمود"، وهو المعيار الذي قامت على بنائه أسُس نهضتنا الحديثة، والتي لم يتحقق الكثيرُ من طموحاتها، فتركت وراءها كثيرًا من القضايا المؤجَّلة. لا سبيل أمامنا إلى استئناف مشروع النهضة على أسُس أكثر متانة إلا أن نبحث عن أسباب إخفاقها ونواجه في شجاعة أسئلتها، أو بالأحرى أسئلتنا المؤجَّلة، وعلى رأس هذه القضايا قضية "تجديد الخطاب الديني". وقد اخترت في هذا البحث أن أتناول قضية "التأويل" بوصفها واحدة من أخطر قضايا الفكر الديني، وإنْ تكن، على الرغم من ذلك، من أكثر القضايا المهمَّشة في الخطاب الديني الراهن؛ لذلك حرصت على إثارتها بوصفها "إشكالية". هذا بالإضافة إلى أنها واحدة من قضايا مشروع الإصلاح الديني المتعثِّرة لأسباب سنتناولها في سياق تحليلنا للمشكلة في تطورها التاريخي. في ظلِّ التردِّي المتفاقم الذي تشهده الحالةُ الإسلامية في مختلف ميادين الحياة، تظهر نداءاتٌ ومطالباتٌ عديدة تنادي بالإصلاح والتقدم والتطور. ويحاول أصحاب هذه النداءات تحديد المشكلة الإسلامية لكي تبرز وجهاتُ النظر المختلفة حول تحديد المشكلة الواجب معالجتها. لكن الغريب في الأمر أن القليل من أصحاب هذه النداءات مَن تنبَّه إلى أساس المشكلة وإلى علَّة المرض الإسلامي. فقد تركزتْ معظم الرؤى على المظاهر والأعراض لأساس المشكلة، فطالبت بحلول لها، فكانت هذه الحلول لا تتعدَّى كونها مسكِّنات ومهدِّئات لحالة الاحتضار الإسلامي. الوحدة هي تعدُّد مختلِفٌ يتكامل. فلا وحدة بلا تعدد، ولا وحدة بلا اختلاف، ولا وحدة بلا تكامُل. الجسم البشري لا ندركه إلا بتركيبٍ متناسق متكامل لجميع أعضائه. فلا يمكن لليد، مثلاً، أن تمثل الجسمَ كلَّه. ولا يمكن أن نجعل أعضاء الجسم نسخًا بعضها عن بعض – وإلا فلا داعي لوجودها. يجب أن يكون كلُّ عضو مختلفًا عن الآخر، لكنه منسجم معه ويعمل معه، لا ضدَّه. فلا يمكن للقلب، مثلاً، أن يعمل بلا دم، ولا للدم أن يعمل بلا شرايين، ولا للشرايين أن تعمل بلا لحم، ولا للَّحم أن يعمل بلا عظام، وهكذا. قبل نحو أربعين سنة كنت أعظ رعيتي، وكان ذلك يوم عيد مار جرجس. فقلت في ما قلت: إن مار جرجس لم يقتل التنين، لأننا لا نجد في علم الحيوان ما يسمى تنينًا. هذا فقط صورة رمزية للخطيئة التي يبيدها الشهيدُ بالمحبة. فسمعتُ همهمةً معناها أن هذا الكاهن قد كَفَر! ذلك أن المؤمنين لا يكتفون بأن يهزم الشهيدُ الشرَّ. الأهم أن يركب الخيل ويضرب! وقد يقوِّي الموقفَ أن يُجعَل فارسًا. ومار جرجس لم يكن فارسًا، ولكنه اتُّخِذَ رمزًا للجُنْد المسيحيين الذين قتل منهم الإمبراطورُ ديوكليتيانوس الكثيرين في اضطهاده.
|
|
|