|
تحرير الله من شعوبه
قبل نحو أربعين سنة كنت أعظ رعيتي، وكان ذلك يوم عيد مار جرجس. فقلت في ما قلت: إن مار جرجس لم يقتل التنين، لأننا لا نجد في علم الحيوان ما يسمى تنينًا. هذا فقط صورة رمزية للخطيئة التي يبيدها الشهيدُ بالمحبة. فسمعتُ همهمةً معناها أن هذا الكاهن قد كَفَر! ذلك أن المؤمنين لا يكتفون بأن يهزم الشهيدُ الشرَّ. الأهم أن يركب الخيل ويضرب! وقد يقوِّي الموقفَ أن يُجعَل فارسًا. ومار جرجس لم يكن فارسًا، ولكنه اتُّخِذَ رمزًا للجُنْد المسيحيين الذين قتل منهم الإمبراطورُ ديوكليتيانوس الكثيرين في اضطهاده. بعد هذا بسنين، زرت مدينة سان جاك كومبوستلا في إسبانيا. وأهم ما فيها أن شفيعها هو القديس يعقوب الرسول الذي قيل إنه ذهب إلى تلك المدينة وبشَّرَها ثم استشهد. الفن جعله فارسًا، ولم يكن بفارس. وجعله يقتل إنسانًا عربيًّا ليجسِّدوا اعتقادَهم أن المسيحية انتصرت على الإسلام.[1] لا بدَّ من عنف ما، حَدَثَ أم لم يحدث، للتعبير عن أن حضارة تمحق حضارة أخرى أو دينًا ينسخ دينًا آخر. والقديس إلياس النبي الذي نعيِّد له اليوم لا يخرج من هذا النموذج. كان صراعُه مع الوثنية الفينيقية التي انتشرت في مملكة الشمال في فلسطين. أعداؤه أنبياء البعل وعشتروت والبلاط الملكي العبري الذي كان يدعمهم. وإلياس نبي الإله الحقيقي. ويقول الكتاب إنه قتل الأنبياء الكذبة بالسيف، كأنهم عصافير أو فراشات. هذا طبعًا قَصَص ديني للدلالة على أن يهوه أعظم من إله صيدون وكلِّ آلهة الكنعانيين. وليس المهم أن نختار بين سرْد واقعي وحديث مجازي. المهم كيف يتقبَّل المسيحيون في بلادنا هذه الرواية. هاجسُهم أن إلياس كان قويًّا. ولهذا ترى أن الأيقونات التي تصوره ذابحًا هي أكثر بكثير من الموضوعات الأخرى التي في سيرته. وهكذا يبدو لي أن المسيحيين الذين انهزموا في التاريخ السياسي "يفشُّون خلقهم" من طريق الفن. ولا داعي لذكر العهد القديم. فإنه معروف أن الله فَتَحَ فلسطين لبني إسرائيل بأساليب وحشية قد تكون بعضُ نصوصها مجرد أمنيات لاحقة لتعظيم الشعب نفسَه ولإذلال عدوِّه في الأدب. وهذا يجب أن يتحول مجدًا لله. *** في السياق نفسه يقول القرآن: "ولقد نَصَرَكُم الله ببدرٍ" (آل عمران 123). ولكن لماذا لم ينصرهم في أُحُد وعند غزو الإفرنج بلاد الشام وعند خسارة الأندلس؟ ولماذا تمَّ نصر العراق على إيران أخيرًا؟ – وكلاهما مسلم! ثم لماذا نَصَرَ الله الأمريكيين وحلفاءهم المسلمين على العراق الذي رفع على أعلامه أنْ "لا إله إلا الله"؟ وهل الرب هو الذي مَحَقَ الخلافة الإسلامية وأتى، بدلاً منها، بمصطفى كمال العلماني كثيرًا؟ آن الأوان لنمحو عن الله صفته رئيس أركان عند الشعوب المؤمنة بالتوحيد. بكلام آخر، يجب ألا يُترجَم التوحيدُ لاهوتًا لإبادة الشعوب التي قد تكون على التوحيد نفسه. الشعوب المسيحية المقتدرة، مع كون إنجيلها هو الكتاب الوحيد الذي لا يدعو إلى الحرب، قتلتْ مثل كلِّ الشعوب التوحيدية باسم الله. فالحروب الصليبية كانت حروب جهاد؛ أي أنها تبنَّتْ النظرة الإسلامية في محاربة "الكفار". ومن مات من عساكر تلك الجيوش اعتبروه مدافعًا عن المسيح، بحيث إن الفرنجة شوَّهوا المفهوم الإنجيلي للشهادة. وعندما يقول الشيخ أسامة بن لادن إنه يشنُّ حربه على "اليهود والصليبيين" يبقى في فلسفة الجهاد، أكان على حقٍّ أم كان على خطأ في فهم الفقه الإسلامي. فإذا نَصَرَ الله بن لادن لمَّا كان حليف الأمريكيين في أفغانستان، لماذا لا يكون معه عندما انقلب عليهم في أفغانستان نفسها في وقت لاحق؟ يزيَّن لي أن بن لادن، إذا كان حيًّا، يكون مصدومًا صدمةً شديدة لأن الله لم ينصره على الصليبيين! لا خلاص للإنسانية المعاصرة إلا إذا بيَّضتْ وجه الله من فتح كنعان وكلِّ الفتوحات العربية والعثمانية والفرنجية، ومن ضَرْبِ الولايات المتحدة لمن تسميهم "إرهابيين"[2] وتقسيمها العالم "معسكر خير" و"معسكر شر". إن الله ليس رئيس أركان لأحد، ولا يقتل أحدًا. وفي حال أن مار إلياس قتل فعلاً أنبياء البعل وأنبياء عشتروت، لم يكن على حق؛ وما كان ربَّه سانَدَ زنده لمَّا اتخذ السيف وقتل أعداءه، لأن الله ضد السيوف ومن يعمل السيوف. لقد دعا الله الشعوب الكثيرة، على لسان أشعيا النبي، أن "يضربوا سيوفهم سككًا ورماحهم مناجل" (سِفْر أشعيا 2: 4)، أي أدوات حضارة. فإذا أكل من حصاد المناجل الفقراءُ يؤمنون أن ربَّهم ينقذهم من جوع. الموقف السائد اليوم أمريكا أنه ينبغي تقزيم الشعوب الضعيفة لتسود أمريكا وحدها. والمنطق الذي يسيِّر الشعوب المستضعفة أن تنتقم من الشعوب القوية لئلا يصير فقرُها سببًا لإلغائها. الروحية المسيطرة وحدها هي روحية الإلغاء. وخوف القويِّ من الضعيف ناتج من كون القوي لا يريد مشاركةً في الحياة الكريمة بين الأمم كافة. يقابل هذا خوف الضعيف من القوي. هذه ليست حروب ديانات، لأن الديانة الوحيدة التي تؤمن بها بشريةُ اليوم هي ديانة الموت للآخر. ما يجمعنا جميعًا هو التربُّص للآخر، وأن نعدَّ له عُدَّة الموت. البشرية كلها مرشَّحة للإلغاء؛ وقبل الإلغاء الإقصاء. هي إنسانية العَزْل – وكأن الشعور بأننا جميعًا مشمولون برحمة إلهية واحدة قد زال. المشكلة الكبرى هي أننا لا نستعين بالله لنرأف. لم يبقَ الله إله الأحياء وإله جَمْعِهم بعضهم إلى بعض، ولكنه بات ذاك الذي يحفظ بعضًا ويبيد بعضًا! نحن لا نعي في هذا البلد [لبنان] أننا إذا استمررنا في روحية الإقصاء السياسي لا بدَّ أن نصل إلى ممارسة الإلغاء؛ وفي هذه الحال القتلُ مُرجَأ. مَن لا يقول قولك كنتَ تحاوره حتى يقول قولك. الآن تضجَّرنا من الحوار الذي يتضمن أن محاوِرَك موجود. إنك تعبت من المواجهة العقلية، بل يئست من هذا التقابُل. لذلك يجب أن يسكت الطرف الآخر. وللإسراع في إسكاته الأفضل ألا تبقى فيه حياةٌ تجعله ينطق. إزاء ذلك، الإلهُ الحقيقي الذي مسختْه الشعوب المؤمنة به؛ وهو لا يقهرك على شيء، ولكنه يدعوك، ويبقى مكتوفًا حتى تتوب إليه. والمهم عنده أن تصغي إليه في تواضع، لا أن تصغي إلى كلمات شهواتك. إنها هي التي تلغيك؛ وأنت لا تفهم أنك إن أسكتَّ سواك فعندئذٍ تقزِّم نفسك وتنتهي كرامتُك. الله قائم في قبول الإنسان. إنه قائم في جماعة تتحابُّ وتنفتح بالمحبة على الجماعات الأخرى. عند ذاك، تزول القبيلة وتزول "أمَّة الله". ليس اليهود ولا المسيحيون ولا المسلمون – منفصلين بعضهم عن بعض – هم أمَّة الله. ليس لله أمَّةٌ إلا التي تعمل الخير، أي لا تعتبر نفسها كلَّ شيء، وترى أنها مرشحة لأن تصير شيئًا بالتلاقي. الشعوب المسمَّاة "متديِّنة" ليست هي الله. هي مدعوَّة لأن تكون حاملة كلمته. لكنها، في الواقع، تحمل شهواتها. فإذا هذه الشهوات تلقَّتْ الكلمة الإلهية تجعلها شهوة. أما إذا سكتت الشهوة المؤذية يصير الإنسان كلمة، ويزول التقابُل الغَضَبي بين الشعوب وبين الأفراد. لا تسعوا إلى أن تنزِّهوا تاريخًا عن العنف. وهذا كان، في المقام الأول، شأن الأمم الموحَّدة. إذا قبلتْ كلٌّ منها أن تصير قربانًا، بحيث يحمل كلُّ شعب الشعوبَ الأخرى، ينفتح أمام الربِّ طريقُ ظهوره في هذه الإنسانية المسكينة. إذ ذاك فقط يكون ملكوت الله بدأ في الظهور. *** *** *** عن النهار، السبت 20 تموز 2002، السنة 69، العدد 21325 |
|
|