|
علم نفس الأعماق
لقد تأهَّل فرويد كطبيب، ثم قام بأبحاث فسيولوجية على الخصائص المخدِّرة للأفيون، قبل زمن طويل من تحوُّل اهتمامه إلى التعقيدات الپسيكولوجية التي يتَّسم بها سلوكُ الإنسان. لذا، لم يكن مفاجئًا، بخلفيته هذه وبالروح الداروِنية التي سادت عصره، أنه كان لا بدَّ من أن يتوصل إلى نظرية في السلوك البشري تمتد جذورها عميقًا إلى طبيعة الإنسان الحيوانية. ففي الوقت الذي يعتمد فيه الإيثولوجيون، على مشاهداتهم للحيوانات الدنيا، فقد ركَّز فرويد على الإنسان، مستنبِطًا معظم استنتاجاته من تحليل ديناميَّته الداخلية ومن المعالجة التحليلية النفسية لمرضى الاضطراب النفسي، وكذلك، إنما بدرجة أقل نوعًا ما، من خلال دراسته لنتاج الإنسان الأدبي والفني. في الرسالة المفتوحة التالية الموجَّهة إلى أينشتاين والمكتوبة في السنة نفسها التي استلم فيها هتلر السلطة، حاول فرويد أن يستخدم نظرية التحليل النفسي لتفسير أخطر أمراض الإنسان النفسية: نزعة الحرب. فالحرب العالمية الأولى كانت قد خلَّفتْ تأثيرًا عميقًا في تفكير فرويد. وهو قبل ذلك الصراع "البشع" أكَّد على قوة الحياة (الليبيدو أو الرغبة الجنسية) بوصفها المصدر البيولوجي للدافعة عند الإنسان. بيد أن التدمير الهائل الذي خلَّفتْه الحرب جَعَلَ مؤسِّس مدرسة التحليل النفسي، ابن الستين عامًا، يقتنع بأن الإنسان لا يسير مدفوعًا بالليبيدو وحده وحسب، بل وبجملة أخرى مجهولة من الدوافع اصطلح على تسميتها بـ"غريزة الموت . والوظيفة الأساسية لغريزة الموت، بحسب اعتقاده، هي تدمير الفرد وإعادته إلى حالة الجمود وانعدام الحياة. وقد رأى فرويد في العدوان الصريح المظهرَ الخارجي لهذه الغريزة. وعلى الرغم من أن ك. لورنتس قال بأن الدوافع العدوانية والكوابح كلتيهما فطرية، فقد أكَّد فرويد على أنه، على الرغم من وجود أساس بيولوجي للدوافع العدوانية، فإن قوى الكبح تتطور إبان مرحلة الطفولة كنتيجة لحلِّ عقدة أوديب وما يتبع ذلك من تكوُّن الأنا الأعلى، أو الضمير. لقد قوبلت "غريزةُ الموت" المفترَضة هذه، شأنها شأن الكثير من نظريات فرويد، بشيء من الريبة والتشكك، من داخل حركة التحليل النفسي وخارجها على حدٍّ سواء. ففكرة أن الإنسان يحمل في داخله بذور دماره ذاته بَدَتْ منافيةً لكثير من المبادئ اللاهوتية والفلسفية، بل والعلمية أيضًا. وكما هي الحال بالنسبة إلى الموقف الإيثولوجي، لم يكن ثمة طريقة صالحة لوضع فرضيات فرويد موضع التجريب، ولم يكن دعمُ وجهة نظره قائمًا في الأساس إلا على المحاكمة المنطقية والمشاهدات الخاصة. لنظرية فرويد دلالات عملية هامة. فكما هو الشأن مع لورنتس، فإن الفكرة القائلة بأن التحريض على العدوان هو صفة فطرية من صفات البشر إنما تدل على أنه لا يوجد إلا القليل مما يمكن أن تتوصل إليه الجهودُ التي تُبذَل للحيلولة بين الدوافع العدوانية وبين الظهور إلى حيِّز الواقع. بل الأكثر من ذلك، فإن الفكرة تدل في شدة على أن العنف – ومثال عليه النزوع إلى القتل – هو الشكل الطبيعي الذي يتخذه السلوك العدواني، ما لم توقفْه كابحة ما. من جهة أخرى، فإن نظرية فرويد القائلة بأن الكوابح تنمو بنموِّ تفاعلات الطفل مع عائلته في مسيرته الحياتية إنما تدل على أن لدى ممارسات تربية الطفل الهادفة إلى تعزيز الكوابح ضد العدوان الكثيرَ من الأمل في التخفيف من غلواء العنف. المحرِّر إن البحث في المعايير المتعلقة بما ينبغي أن نفعله وألاَّ نفعله يسمى "فلسفة الأخلاق". وهذه، إذ تحدِّد لنا كيف علينا أن نتصرف بوصفنا قوًى فاعلة، تتخذ، لا محالة، شكل علم معياري. ولا بدَّ لفلسفة الأخلاق كذلك من أن تدرس ما يمكن لنا أن نفعله لتلبية مطالب الالتزام؛ أو لنقلْ ذلك بطريقة أخرى: إنها معنيَّة أساسًا بالـمسؤولية الإنسانية. وليست المسؤولية، ببسيط العبارة، نتيجة للحرية، بل العكس: فأن يكون المرء مسؤولاً، عن الآخرين وعن نفسه، هو الأساس لما ندعوه "الحرية" بالمعنى الأخلاقي. ***
|
|
|