مقدمة:
تحكي الأسطورة
عن طائر جذَّاب يُدعَى الققنس (الفينيق)، ومقرُّه في بلاد الهند والبنجاب، له
منقارٌ صلب طويل عجيب يشبه الناي، وبه العديد من الثقوب، ففيه ما يقرب من مائة
ثقب وفتحة، ولا زوج له إذ يعيش في عزلة، ولكل ثقب نغمة متباينة، ووراء كل نغمة
أسرار مغايرة، فإذا ناح بكل الثقوب متأوهًا، يُفقِد السمك والطير راحتها
واستقرارها، ويسيطر الصمت على جميع الطير، وتصبح فاقدة الشعور إزاء صوته، وأمام
مكانتِه هذه هامَ به فيلسوف، وتعلَّمَ الموسيقى من صوتِه العذب.
وكان عمر الققنس (الفينيق) قد ناهز الألف أو اقترب، لذا وضح أن موعد أجله قد
اقترب، وعندما حان وقت انتزاع قلبه وموته، إذا به يجمَع حولَه من الحطَب مائة
كومة، ويظل لا يعرف الراحة والاستقرار وسط الحطب، ويواصل النواح بحرقة واضطراب،
فكان كل ثقب يرسِل بفعلِ روحِه الطاهرة، نواحًا متباينًا يحمل الأسى والحرقة،
وعندما ينوح بكل الثقوب، يكون لكل ثقب لحن مختلف، وفي وسط النواح كانت فرائصه
ترتعِد خشيةَ الموت، وكأنه ورقة شجرة.
بعد
دراسة ديانة ميترا، نتطرَّق الآن إلى دراسة واحدة أخرى تؤكد لنا بأن
لكل الديانات أصل مشترك، وهو أنها تقوم أساسًا على قاعدة سر الجنس.
من وسط العماء وُلِدَ أوزيريس، وعند ولادته، سمع صوتًا كان يقول:
"وُلِدَ حاكِمُ الأرض كلها". ومن الحضن أو الرحم نفسه وُلِدَت إيزيس،
ملكة النور، وتيفون
Tífon،
ملك الظلمات. إذن، ها نحن أمام الثالوث الأساسي.
يقول كتاب الموتى: اعرف اليوم الذي يتوجب عليك أن تتخلى فيه عن أن تكون
(توجَد). اعرف تضحيتَك. كما جاء في الكتاب المقدس "له السلطة على منح
حياته واستعادتها. وقتله يتم طوعًا منه فهو الذي قد شاء ذلك". (أشعيا)
يبدو أيوب (سفر أيوب، الأصحاح الأول، الآية 21) منطقيًا بصورةٍ أفضل إذا ما فهم
في ضوء الفكرة المصرية عن الموت على أنه عودةٌ إلى الإلهة الأم، حيث تقدِّم تلك
الأسطورة سياقًا أقرب احتماليةً بكثير من فكرة "الأرض الأم" التي تتأكد فقط في
النصوص الواردة في فترة لاحقة (أو التي يحتمل أن تكون في فترة لاحقة). وكما في
حالاتٍ عديدةٍ أخرى في الكتاب (مثلاً في تعابير أيوب عن تفضيل الموت)، يطبِّق
أيوب ضربًا من سياسة حافة الهاوية اللاهوتية متجاوزًا خطًا واضحًا، ليتراجع في
البرهة التالية أو الفصل التالي. وفي ضوء مساند رأس حتحور/الرحم في المقابر
الموجودة في سانت إيتيان، قد يكون الأمر أن خطاب أيوب اللاهوتي لم يكن مجرَّد
ابتكارٍ أدبيٍّ.