"ولدي الحبيب، تعال وارقد في داخلي"
عودة أيوب إلى رحم أمه
في ضوء الأسطورة المصرية
كريستوفر ب. هايز
خلاصة
يبدو أيوب (سفر أيوب، الأصحاح الأول، الآية 21) منطقيًا بصورةٍ أفضل
إذا ما فهم في ضوء الفكرة المصرية عن الموت على أنه عودةٌ إلى الإلهة
الأم، حيث تقدِّم تلك الأسطورة سياقًا أقرب احتماليةً بكثير من فكرة
"الأرض الأم" التي تتأكد فقط في النصوص الواردة في فترة لاحقة (أو التي
يحتمل أن تكون في فترة لاحقة). وكما في حالاتٍ عديدةٍ أخرى في الكتاب
(مثلاً في تعابير أيوب عن تفضيل الموت)، يطبِّق أيوب ضربًا من سياسة
حافة الهاوية اللاهوتية متجاوزًا خطًا واضحًا، ليتراجع في البرهة
التالية أو الفصل التالي. وفي ضوء مساند رأس حتحور/الرحم في المقابر
الموجودة في سانت إيتيان، قد يكون الأمر أن خطاب أيوب اللاهوتي لم يكن
مجرَّد ابتكارٍ أدبيٍّ.
الكلمات الدلالية
سفر أيوب، الميثولوجيا المصرية، الإلهة الأم، الأرض الأم، القبر،
الموت، الآخرة، الرحم، الدفن.
*
ויאמר
ערם
יצתי
מבטן
אמי
וערם
אשׁוב
שׁמה
وقال: عُرْيَانًا خَرَجْتُ مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَعُرْيَانًا أَعُودُ
إِلَى هُنَاكَ. (سفر أيوب، الأصحاح الأول، الآية 21)
لطالما استقطبت عودة أيوب إلى رحم أمه اهتمامًا خاصًا من قبل مفسري هذا
الكتاب، حيث نظر إليه على أنه "عثرة" شاذَّة في النص تستلزم التسوية.
فقبل خمسين عامًا، ناقش جوزيبي ريجيتي بإيجازٍ بارعٍ بأن بقايا آثار
مدافن الشرق الأدنى ربما تلقي الضوء على هذه المسألة، حيث أن وضعية
الجنين في الكثير من هذه القبور ربما تفسِّر صورة "العودة عاريًا إلى
[رحم الأم]". يقول ريجيتي:
إن لم يكن هذا القبر مطابقًا من الناحية الجسدية للأم، فقد كان كذلك من
الناحية الرمزية.
لقد اتبع عددٌ من المعلِّقين المهمِّين ريجيتي في تعامله مع الصورة على
أنها إشارةٌ شعريةٌ إلى القبر، ولكن حسبما أرى، لم يشر أحدٌ إلى وجود
سوابق مصريةٍ واضحةٍ لهذه الصورة، التي يوصف فيها التابوت و/أو القبر
على أنه رحم الإلهة التي يخضع فيه المتوفى لولادةٍ جديدةٍ في الآخرة
المباركة. وإن الاعتراف السابق بمعرفة أيوب المؤكدة بمعتقدات المصريين
حول الآخرة، كمحاكمة الموتى، يدعم فكرة تأثير المصريين في الآية 21.
وإن تمييز مصدر هذه الصورة لا يوضح خطاب أيوب وجذوره فحسب، بل يلقي
الضوء أيضًا على جدالٍ طويل الأمد حول مساند رأس ذات أشكال غير عادية
في قبور محددة في القدس تعود إلى حقبة الهيكل الأول. وأخيرًا فإن هذا
التمييز يسعى جاهدًا لدحض حجج لاهوت "الأرض الأم" الكامنة في النص.
وربما يكون ذلك تطورًا لاحقًا، في الفكر اليهودي على الأقل.
ثمة "تطابقٌ مذهلٌ" في النصوص الجنائزية المصرية خلال الحقبة الواقعة
بين المملكة القديمة والحقبة الهلنستية عن كون صورة الموت أنه عودة إلى
رحم الإلهة. وإن صورة الإلهة نوت على أنها من يلد الملك المتوفى على
أنه ولدها – مما يحييه "ويجعله يعيش" - صورةٌ واسعة الانتشار في نصوص
هرم المملكة القديمة. تكفي أمثلةٌ قليلةٌ في هذا السياق، حيث تنادي نوت
ولدها الملك في تعويذة تيتي 5أ:
تيتي هو ولدي الذي تسببت بولادته والذي شقَّ بطني، وهو من نشدته
واكتفيت به.
تعبِّر تعويذةُ بيبي 337 بوضوحٍ عن الرابط بين صورة الولادة هذه وبين
إحياء الجسد عبر البعث إلى الآخرة:
نوت، مدِّي ذراعك إلى بيبي بالحياة والقوة، اجمعي عظامه وركِّبي
أطرافه، اربطي عظامه بـ [رأسه]. لن يبلى ولن يفسد ولن يسيل ولن تصدر
رائحة وصيته.
(لم يسع المصريون إلى فصل التباين الواضح بين الأمل بـ"مجرد" الحفظ،
وبين الأمل بالولادة الجديدة، حيث توجد الفكرتان ضمن النصوص ذاتها.)
تتضمن فكرة الحفظ الحماية، ويعبر عن ذلك بطريقةٍ أخرى في تعويذة بيبي
41:
أوزيريس بيبي، أمك نوت بسطت نفسها فوقك بحيث يمكن أن تخبِّئك عن كل ما
هو سيء. فأنت الأكبر بين أبنائها.
إن جانب التعزية في هذه النصوص جليٌّ تمامًا في هذه الأمثلة، ومرةً
أخرى يُعرض الدخول في التابوت (وربما في القبر نفسه أيضًا) على أنه
دخولٌ في الإلهة الأم التي تلد المتوفى من جديد في الحياة الآخرة.
يمكن للمرء أن يدرك بصورةٍ أكثر وضوحًا من التابوت الخارجي لمرنبتاح
"المجموعة المؤلفة من الكفن والجثة على أنها اتِّحاد الأم والولد" رغم
أن نيث يؤدي دور الأم هنا بدلاً من نوت (وفي أماكن أخرى يؤدي حتحور
الدور):
أنا أمُّك التي ترعى جمالك،
أنا أحمل بك في الصباح،
وألدك (ري) في المساء.
حين تدخلني، أحضن صورتك،
أنا الكفن الذي يقي شكلك الغامض.
أنا أوحد أطرافك وأربط زفراتك،
أحيط بلحمك وأبعد سوائل تفسُّخك،
أمسح دموعك، ألأم أطرافك حين تعتضد؛
ألفُّك بما تخيطه إلهة الحياكة،
أكملك وأصيغك على أنك ري.
يدعو أسمان "صورة الإلهة الأم التي تجسِّد الكفن وترحِّب بالمتوفى حين
يدخلها على أنه ابنها" أنها "صورة نموذجيةٌ تمامًا".
يكرر نصٌّ يعود إلى قرابة ألف عام بعد ذلك بعض الصور ذاتها:
ولدي الحبيب أوزيريس
تعال وارقد في داخلي
أنا أمك التي تحميك كل يوم
أحمي جسدك من كل الشر
أحرس جسدك من كل الشر
وهكذا تترسخ الصورة خلال كامل حقبة تأليف الكتاب المقدس.
في بعض الحالات كما في بردية لوفر 3148، ثمة تمييز بين الأم البشرية
التي ولدت وبين الأم التي استقبلت، حتى من خلال المقارنة:
حملتك أمك "الدنيوية" لعشرة شهور،
وغذتك لثلاث سنوات.
أما أنا فأحملك لمدة زمنيةٍ غير محددة،
ولن ألدك أبدًا.
يناقض ذلك صورة أيوب (الآية 21) التي تعرِّف الأم البيولوجية التي ولدت
أيوب بـ"الأم" التي سيعود إليها. ولكن من الملحوظ أن نصوصًا مصريةً
أخرى قامت بنفس الأمر تمامًا، حيث لم تهتمّ بالتناقض المنطقي الظاهر
بقدر ما اهتمَّت بفكرة أن "الابن" ينبغي أن يصبح أوزيريس. على سبيل
المثال، يُرسم الوزير في قبره محضونًا من قبل أمه التي يحدَّد اسمها
تحديدًا في شرح الصورة. ولكن "الوزير يخاطب أمه على أنها تجسيد إلهة
الغرب":
ابتهجي، أيتها المدينة العظيمة
يا حقل الموتى، الذي خرجت منه!
انظري، فقد أتيت لأنعم بالراحة معك.
فتردُّ الأم في سياق الإلهة الأم:
كم هذا جيّد! قلبي مترعٌ بالبهجة
لقد ارتوى ظمأ أشواقي.
وبذلك يتم التعارف بفعالية بين الأم البشرية والأم المقدسة.
وأخيرًا تجدر الإشارة إلى أن صورة العريِّ في أيوب (الآية 21) على
اتِّساق مع تقاليد الدفن المصرية: حيث أن الأموات المصريين ولجوا
"الرحم" (التابوت) عراةً بالفعل. وبخلاف موتى اليهود الذين كانوا
يدفنون عادةً بعباءات، لم يكن على موتى المصريين ملابس ضمن أغطية
المومياءات.
بالالتفات إلى النطاق الساميِّ، يبدو أن أيوب يمثل الإشارة الأسبق إلى
الموضوع في النصوص الساميَّة. ويمكن للمرء لاحقًا أن يورد نصوصًا
سريانيةً وعربيةً تستخدم الفكرة ذاتها، ولكن لا يمكن الافتراض أنها
تلقي الضوء على أيوب كون الموضوع كان يتغير ويتطور باستمرارٍ بمرور
الوقت. وربما ينشد المرء وجود مؤشراتٍ تفيد بأن هذه الصورة كانت
معروفةً بصورةٍ عامةٍ شمال مصر وغربها على نحوٍ سابقٍ لسفر أيوب. ولكن
ثمة مؤشر أكثر أهميةً عن التأثير المصري على أيوب، وهو أن المرء يجد في
الكتاب سلسلةً ملفتةً من الإشارات إلى الثقافة المصرية وإلى أساطير
الموت والحياة الآخرة تحديدًا. ولابد أن أمثلةً مختصرةً أربعةً تكفي
لتوكيد هذه النقطة:
-
ثمة إشاراتً في أدب الحكمة تقترح معرفةً بالأفكار المصرية السائدة منذ
وقتٍ طويلٍ حول محاكمة الموتى. وهنالك مشهدٌ رئيسيٌّ في محاكمة الآخرة
ألا وهو وضع القلب على الميزان مقابل ريشة وتتضمن الإشارات إلى الوزن
في موازين العدل المقدَّسة (أيوب 31:6): "دعوني أوزن في ميزانٍ عادل
وليعلم الله استقامتي!"
وتظهر تعديلاتٌ أكثر براعةً على فكرة محاكمة الموتى في أيوب 33: 22-26
("تقترب روحه من الهاوية". إلخ) و19: 25-27 ("وبعد أن تتلف بشرتي، سأرى
الله دون لحمي").
-
وثمة انعكاس أيضًا في أيوب "للاعتراف السلبي" لكتاب الموتى (التعويذة
125) الذي ينكر فيه الميت ارتكاب الذنب أمام القضاة العادلين. وإن
تأكيدات أيوب على استقامته في 31: 40-1، و29: 11-17 ("كنتُ عينيِّ
الأعمى وقدمي الأعرج. كنت أبًا للفقراء ونصيرًا للغرباء" إلخ.) هي
تذكرة عن تلك السير الذاتية المصرية عن الخير. ناهيك عن أن المقاطع
التالية في أيوب 29 تعبر عن آماله في مضاعفة أيامه بعدد حبات الرمل
(الآية 18) وولادته كالشجرة (الآية 19) وتجديد مجده وقوة "قوسه" (حيث
أن
קשׁת
تشير على نحو مؤكد إلى الفالوس) - كل الأفكار تقع ضمن توقعات المصريين
عن الحياة الآخرة.
-
قورنت العديد من النصوص الأخرى في سفر أيوب مع القائمة الموسوعية
للأشياء التي شكَّلها بتاح في بعض البرديات: (The
Onomasticon of Amenemope)
و(The
questions of Papyrus Anastasi I)
و(The
Admonitions of Ipuwer).
-
كمثالٍ أخير في 17: 7-9، يحتفي أيوب بفكرة أنه يمكن أن يمرَّ بالولادة
الجديدة كشجرة ("للشجرة أمل، وهو أنها إذا ما قطعت ستتبرعم من جديد")،
ولكنه يتراجع في البرهة التالية عن هذا الأمل (14: 12) "يرقد الأموات
ولا ينهضون من جديد").
يعرض أيوب 1: 21 نموذجًا مشابهًا للمثال الأخير أعلاه، فهو يحتفي بفكرة
العودة إلى الإله الخالق والمريح في القبر ليعترف في البرهة التالية
بعدم وعد المؤمنين بهذه الراحة في يهوه. إن التأكيد على كلمة يهوه
(المذكورة ثلاث مرات في الآية)، يستأصل الصورة الدخيلة، ويحول صورة
العودة إلى الإلهة الأم عند الموت إلى تعبيرٍ مطمئنٍ عن الطاعة ليهوه،
ويمكن القول حقيقةً أن تاريخ تفسير 1: 21 أ يبدأ بـ 1: 21 ب.
نظرياتٌ أخرى
إن النظريتين المتعارضتين اللتين سبق أن كان لهما أبلغ الأثر هما: (1)
نظرية أن العودة إلى رحم الأم في 1: 21 تنمَّان عن إيمانٍ بـ"الأرض
الأم" و(2) نظرية أن مصطلح
שׁמה
(الذي يعني من هناك/من ذلك) كان كنايةً عن العالم السفلي.
بدءًا بالنظرية الثانية بين هاتين النظريتين نقول إن فكرة "هناك" هي
ببساطة كناية عن أن الجحيم غير عملي، لأن لكلمة
שׁמה
عائدًا يسبقها، ألا وهو الرحم. تعتمد الكناية على شيءٍ لم يقل، وعلى
القارئ إيجاده، والحال هنا ليس كذلك. وبالتالي فإن البيانات العائدة
ذات الأصل الواحد والتي يستشهد بها لهذا الغرض لا علاقة لها بالموضوع
كون بناء جملة الآية هو الحاسم.
لم تزل النظرية التي يشير فيها أيوب إلى الأرض الأم ملفتة، وهذا مفهوم،
فالنصوص اللاحقة تفسر هذا العرف بتلك الطريقة بالذات كما في سفر سيراخ
40: 1
ألقى الله حملاً شاقًا،
وعبئًا ثقيلاً على الإنسان،
من يوم قدومه من رحم أمه (מרחםאמו)
إلى يوم عودته إلى أم الأحياء كلهم (אםלכחי)
ربما يشكُّ المرء لأيِّ حدٍّ يشكِّل ذلك تلميحًا إلى أيوب (الأصحاح
الأول، الآية 21)، نظرًا لاستخدام
רחם
عوضًا عن
בטן-
النص الضمني في 20:3 حيث يشار إلى حواء بـ
אםכלחי.
لطالما عالجت التفاسير اللاهوتية النصوص التوراتية زمنيًا بحيث يفسر
الأكثرُ وضوحًا الأقلَّ وضوحًا، ولكن لا ينصح بذلك من منظورٍ تاريخي.
ولعلَّ ج. ب. غراي كان محقًا حين أشار:
لو أن كاتب الأصحاح الأول، الآية 21، قصد رحم أمه في السطر الأول وقصد
الأرض الأم في الثاني لكان، بلا ريب، عبَّر عن الفكرة بوضوحٍ يماثل
الوضوح في سفر بن سيراخ.
تطرح الدراسات الأخيرة التي أجراها جورجي فال هذه النصوص كأمثلةٍ عمَّا
هو جوهريًا تفسيرٌ متضمَّن في التوراة نفسه. فيما يلي الشواهد الرئيسة
عن ذلك:
-
سفر الجامعة 5: 14 و5: 15 هو الصيغة الأقرب إلى ذلك، لكنه لا يشدد على
فكرة "العودة" المتضمنة في أيوب مستبدلاً
אשׁובשׁמה
بـ
ישׁובללכת
أي حرفيًا "سيعود ليذهب"، وهذه الفكرة أكثر توافقًا مع فكرة أن الموت
بمثابة المغادرة:
كما أتى من رحم أمه،
سيعود مرةً أخرى، عاريًا كما أتى؛
لن ينال شيئًا مقابل عنائه
ربما يحمله بيديه.
-
يضيف سفر الحكمة 7: 1-6 إشارةً واضحةً إلى أن البشر سلالة آدم (الحكمة
10: 1)، الذي خلق من الأرض وعاد إليها:
إنِّي ميتٌ أيضًا، كغيري، أتحدر من أول ولد شكَّلته الأرض؛ جبلت إلى
لحمٍ في رحم أم خلال أشهر عشر، وجرى الدم في عروقي، أنا من بذرةِ رجلٍ
وبهجة زواج. وحين ولدت بدأت أتنفس الهواء الطلق، وسقطت في حضن الأرض
الحنون، صوتي الأول كان صرخة، وحالي في ذلك حال الجميع. ضمَّني ثوب
الحضانة. لم يكن لأي ملكٍ بداية وجودٍ مختلفة، فللكل مدخلٌ واحد إلى
الحياة، ومخرجٌ واحدٌ منها.
-
تيموثاوس 1 (6:6-8):
بالطبع، ثمة كنزُ كبيرٌ في البركة إذا ما اقترنت بالقناعة؛ وكوننا لم
نأت بشيءٍ إلى العالم، فليس لنا أن نخرج بشيء منه، ولكن إن امتلكنا
الغذاء والكساء لكانا كافيين لنا.
يفسر كل من هذه النصوص على التوالي أيوب (الأصحاح الأول، الآية 21)،
ومع كل خطوة تحذف بعض عناصر الأسطورة إلى أن يخلو تيموثاوس من أي ذكرٍ
للأم على الإطلاق. ينوِّه فال على نحو صحيحٍ تمامًا إلى أن
بعض المعلقين لم يميزوا كيف تعدِّل النصوص الثلاثة موضع النقاش في هذا
الجزء فكر نماذجها. فهؤلاء المفسرون يقرؤون خطأً فكر النصوص اللاحقة في
ضوء النصوص السابقة.
ويؤكد فال بدلاً من ذلك أن مثل هذه التفاسير "تتجنب ذكر الأرض الأم" في
أيوب (الأصحاح الأول، الآية 21).
ولعلنا نرى نصًا ضمنيًا أخيرًا على صلةٍ بذلك في مزمور 139: 13، 15:
لأنك أنت من شكَّل أجزائي الداخلية
أنت نسجتني في رحم أمي (בבטןאמי)...
لم يكن هيكلي مخفيًا عنك
حين كنت أُصنَعُ في السرِّ
وتربط أوصالي بتماسكٍ في أعماق الأرض בתחתיותארץ...
في الحقيقة يربط هذا المزمور، الذي ربما يعد متأخرًا، الأرض نفسها برحم
الأم في مجاز
مطوَّل. ولكن بما أنها لا تشير إلى عودة، فإنه من غير الواضح أنها
تكمن وراء صياغة أيوب البديعة، التي ربما وجد فيها، حتى الكتاب
التوراتيون المعاصرون، موضع اعتراض كما يشير فال نفسه. وإن كان ثمة أي
إشارةٍ ضمنيةٍ إلى أيوب في الآية 21 فإنه ينبغي على المرء أن يضم
المزمور 139: 13-15 ضمن قائمة النصوص أعلاه والتي أعادت تفسير أيوب
الآية 21 وليس عدَّها وكأنها توضحها. يعكس أيوب الآية 21 عوضًا عن ذلك
احتفاء أيوب غير المباشر بأفكار الهرطقة.
إذا ما كان ذلك صحيحًا، فإن ما "تتجنبه" النصوص اللاحقة ليس
الميثولوجيا عمومًا، ذلك أن الميثولوجيا موجودة إلى حدٍّ كبيرٍ أيضًا
في صفحات المزمور 139: 13-15 وفي سفر سيراخ 40: 1، لكنها تتجنب تحديدًا
إشارة أيوب إلى الأملِ بحياةٍ لاحقةٍ تحمي فيها الإلهة الأم ولدها
المتوفى وتعيد خلقه. إنها تلك الفكرة الغريبة التي لم يتقبلها وعَّاظ
اليهود (ومن بعدهم المسيحيون)، وقد امتصها التناقل وحوَّلها ثم نفاها.
ولكن فكرة الأم الإلهة تعود إلى التوراة قديمًا (ويبدو أن المزمور 139
يمثل الإشارة الوحيدة إليها)، وهي تأتي متأخرةً بشكلٍ كبيرٍ عن إيمان
المصريين بإلهة تتلقى الموتى في توابيتهم، ولربما هي متأخرة أيضًا عن
كتاب أيوب نفسه.
من المهم جدًا أن نوت كانت أيضًا إلهة سماوية وليست إلهة أرضية. ولذا
إن كان ثمة أية علاقةٍ تاريخيةٍ بين الأفكار المصرية الدينية الموصوفة
أعلاه وبين صيغة الأرض الأم فأنه لا بد أن يكون ثمة ربط بين فكرتي
الإلهة الأم (السماوية) وبين خلق الإنسان من تراب.
ليس للمرء أن يرغب في ممارسة الاختزالية لتحديد التأثير في كتاب أيوب
أو الحط من قدر كاتبه الموهوب. وتنتهي بعض الدراسات الحديثة الأكثر
استفاضةً بالتعبير عن الخيبة من السعي وراء تفسير الآية 21 من سفر
أيوب، مفضلةً التأكيد على إبداع الكاتب الأدبي. على سبيل المثال، اعترض
فال أن ريسيوتي "يحصر كل من كلمات الآية 21 من الأصحاح الأول بمعنىً
وحيد"، ويزعم نيكولاس ترومب أن الكتاب الذين يسعون وراء تفسيراتٍ
واقعية "هم ضحايا لشكلٍ خاص من التفكير المنطقي". وعلى العكس من ذلك،
فإنه يندهش من "مدى طبيعية ووضوح هذه الأشياء بالنسبة للأشخاص البعيدين
عن الطبيعة وربما حتى عن التفكير التوراتي". يذكر دافيد كلاين في فترةٍ
لاحقة أن "من يجد أن المجازات
تناقض نفسها ليس سوى مفسرٍ جامدٍ متخشب". ولذا فإن صورة مولد المرء
أيضًا تنصهر بصمتٍ مع صورة خلق الإنسان، وبالتالي فإن "هناك" هي الأرض
في الحقيقة، وليس الأمر اصطلاحًا تقنيًا لها أو تلميحًا إليها، وليس
لتعريفها أيضًا بـ "الأرض الأم". لعل المرء يسعد بالاحتفاء بالطبيعة
المعقدة للصورة حتى مع الإصرار على أنها تتطلب تفسيرًا مختلفًا عما
يقدمه كلاينز.
تؤكد هذه الاعتراضات على احترامٍ صحيٍّ للتعقيد الكامن في المؤلفات
الأدبية، ولكنها تنتهي باختتام مبكرٍ للدراسة بالتأثيرات الثقافية على
كاتب أيوب. وربما علينا أن ننظر بريبةٍ إلى الروابط الثقافية التي تبدو
"طبيعيةً وواضحةً" بالنسبة لنا الذين نقف في نهاية تاريخٍ طويلٍ من
التطور الثقافي.
الموت كعودةٍ إلى الإلهة في علم دراسة الأيقونات
سيكون من العبث أن نغفل ذكر بيانات علم الآثار والأيقونات، حيث أن هذه
الدراسة يمكن أن يكون لها أثر في تفسيرها.
الشكل 1. مسند رأس حتحور من قبر في مجمع كهف سانت إيتيان
تضم قبورٌ محددةٌ لفئة النخبة من اليهود تعود إلى حقبة الهيكل الأول
مساند رؤوسٍ محفورةً من الحجر لها شكل حدوة حصان، لكن طرفيها محنيَّان
أو متسعان للخارج كحرف أوميغا اليوناني
(Ω)،
انظر الشكل 1. وقد وضع تفسيران اثنان لمساند الرأس هذه، والموجودة في
مجمع الكهف 2 في أراضي دير سانت إيتيان في القدس، وهذان التفسيران
يضاهي أحدهما الآخر. فقد فسر عالم الآثار غابرييل باركاي هذه المساند
أنها "غطاء رأس حتحور" نسبةً إلى الإلهة المصرية التي عادةً ما تربط
عادةً بها (الشكل 2)، بينما فسرها عثمان كيل على أنها رموز للقبر، كون
أشكالاً شبيهةً بها إلى حدٍ كبيرٍ تفهم على أنها رموزٌ للقبر في
الأيقونات الشامية. حيث وصفها كيل في إصداره الأول (المرتكز على
المزمور 139 بصورة رئيسة) على أنها تمثل "رحم الأرض"، لكنه دعم ذلك
بالإشارة إلى الأيقونات الكنعانية وأيقونات بلاد ما بين النهرين التي
تنتمي إلى العصر البرونزي.
ردَّ باركاي على ذلك في مقالةٍ أخرى مفيدًا أن هذا التفسير "مستبعد"
كون "العودة إلى القبر... لم تكن جزءًا من فلسفة الإسرائيليين القدماء
واعتقادهم". وقد كان محقًا حين نظر بعين الشكِّ إلى البيانات البعيدة
والغامضة إلى حدٍّ ما التي استشهد بها كيل، وكان محقًا أيضًا حين أشار
إلى أن مساند رأس مجمع القبر 2 هي الوحيدة من نوعها التي اكتشفت في تلك
المنطقة، ولكنه ذهب بعيدًا في ادعائه أن يهود حقبة الهيكل الأول لم يكن
لديهم أسطورة الموت باستثناء فكرة النوم في الجحيم.
الشكل 2. تمائم حتحور. مأخوذة من عقرون وتعود إلى العصر الحديدي
رد كيل مرةً أخرى ووافق ضمنيًا أن فكرتي حتحور والقبر لم تكونا
متكاملتين، حيث أصر من جديد أنه كان يرى مساند الرأس بمثابة "بقيةٍ
متأخرةٍ لفكرة أن الأرض تمثل رمزًا رحم الأم"، لكنه تراجع عن ادعاءاته
السابقة حول الأهمية الأسطورية قائلاً:
من المريب أن لدينا مسحةً أسطوريةً [أي في الإشارة إلى حتحور] مستخدمةً
في سياقٍ غير أسطوري من الناحية الأدبية.
وليس لذلك أن يكون صحيحًا بصورةٍ كاملة، ففكرة أن قاطني قدس الهيكل
الأول كانوا "غير أسطوريين" في مقاربتهم للموت (أو أنهم يؤمنون بكليتهم
أن الموت كان يعني النوم في الجحيم)، هي فكرةٌ للمرء أن ينبذها دون خوف
على أنها نتاجُ جيلِ سابقٍ من العلم. ثمة كم كبير من المراجع حاليًا
تتحدث عن تنوع المعتقدات الخاصة بالموت والتي سادت في يهوذا، الهيكل
الأول، وهي أوسع بكثير مما تقترحه قراءة النص التوراتي للوهلة الأولى.
فيما يخص نقطة "القبر بمثابة رحم" بالتحديد، يمكن الآن رؤية أن سفر
أيوب ، الآية 21 يقدم إشارةً واضحةً إلى حدٍ ما إلى العودة الأسطورية
إلى الرحم عند الموت.
في ضوء ما طرحناه فيما سبق، يمكن رؤية تفسيري مساند الرأس على أنها
حتحور وعلى أنها الرحم تفسيرين متكاملين وليسا متناقضين.
وفي حقيقة الأمر، هذان التفسيران متوافقان تمامًا في الأسطورة المصرية:
فقد كانت حتحور تربط بسماء الليل، وكانت مختلفةً عن الإلهة الأم. وفي
الحقيقة كان اسم حتحور (Hwt
Hr)
يعني بالمصرية "معبد حورس"، ولكن حدث أن أصبحت
Hwt
تفهم مجازًا على أنها "قبر"، وبالتالي فإن حتحور
كانت "قبر/أم حورس" ومن ثم ري:
كانوا يؤمنون أن حتحور كونها سماء الليل كانت تتلقى ري كل ليلةٍ عند
الأفق الغربي وتحميه في جسدها بحيث يولد بسلامٍ من جديد كل صباح. وعلى
أساس هذا المثال الإلهي كان ينظر إلى حتحور أنها مصدر بعث كل الموتى
وولادتهم الجديدة، ملوكًا أم غير ذلك، وكلهم كانوا ينشدون حمايةً
مماثلةً منها.
وذلك هو ذات الأمل الذي رأينا أن قد عبَّر عنه تجاه الإلهة الأم
الموصوفة أعلاه. ويبدو أن أيقونات حتحور في مصر تلمح إلى شكل القبر
أيضًا. (ليس ذلك لإنكار أن شكلاً مختلفًا للرحم بمثابةِ رمزٍ للإلهة
الأم كان موجودًا في بلاد ما بين النهرين أيضًا، ولكن لم يؤكَّد بوضوح
أنه كان يرتبط بالموت وإعادة الولادة في ذلك السياق.)
باختصار كانت حتحور في مصر تربط بشكلٍ وثيقٍ مع الرحم ومع الآمال
بإعادة الولادة، وبالتالي فإن المفاجأة الوحيدة بالنسبة لبعض العلماء
التوراتيين وعلماء الآثار كانت في إيجاد نفس الربط في يهودا الهيكل
الأول، حيث اعتاد أولئك العلماء على التفكير بأن اليهود القدامى ربما
كانوا أقل وعيًا بمصرنة الأسطورة مما كانوا يفعلون. إن التأثير المصري
في هندسة قبور الهيكل الأول تأثير راسخ جدًا. فالحجارة لا تقدر أن
تتحدث عن نفسها، ولكن من الممكن جدًا أن النخبة الذين ابتكروا قبور
مجمع الكهف 2 المثيرة للإعجاب كانوا على اتصالٍ أيضًا بالأفكار المصرية
وكانوا يلمحون إليها بطريقةٍ خفيةٍ كطريقة أيوب. يمكن عدُّ مساند الرأس
(التي كانت مميزةً لمقابر الهيكل الأول) والتجسيدات التوراتية المتعددة
للأفكار المصرية أنها "رواياتٌ للأقلية" - فلعلها لا تعكس الاتجاه
السائد من الأفكار - لكنها مع ذلك تشهد بأهمية تبادل الأفكار الدينية
بين الحضارات في الشرق الأدنى القديم.
الخاتمة
يبدو سفر أيوب، الأصحاح الأول، الآية 21 أكثر منطقيةً إذا ما فهم في
ضوء الفكرة المصرية عن الموت أنه عودةٌ إلى الإلهة الأم، حيث تقدِّم
تلك الأسطورة سياقًا أقرب احتماليةً بكثير من فكرة "الأرض الأم" التي
تتأكد فقط في النصوص الآتية في فترة لاحقة (أو التي يحتمل أن تكون في
فترة لاحقة). وإن القول بأن النص يشير إلى الأسطورة المصرية لا يعني
القول بأنه يتبناها بصورةٍ كاملة. بل كما في الكثير من الأمثلة في
الكتاب فإنه يتلاعب بالأفكار المتنوعة عن الموت والحياة الآخرة في
مناقشته الأسطورية المعقدة. وكما في العديد من الحالات الأخرى في
الكتاب (كتعبيره مثلاً عن تفضيل الموت) يطبِّق أيوب ضربًا من الحنكة
الأسطورية متخطيًا خطًا واضحًا ليتراجع في البرهة التالية أو الفصل
التالي. وفي ضوء مساند رأس حتحور/الرحم في المقابر الموجودة في سانت
إيتيان قد يكون الأمر أن خطاب أيوب اللاهوتي لم يكن مجرَّد ابتكارٍ
أدبيٍّ، بل كان يعكس على الأقل آمال كثيرٍ من نخبة السكان في يهوذا.
ترجمة: محمد الطبل
*** *** ***