الطائر وتجلياته

 

نبيل سلامة

 

مقدمة:

تحكي الأسطورة عن طائر جذَّاب يُدعَى الققنس (الفينيق)، ومقرُّه في بلاد الهند والبنجاب، له منقارٌ صلب طويل عجيب يشبه الناي، وبه العديد من الثقوب، ففيه ما يقرب من مائة ثقب وفتحة، ولا زوج له إذ يعيش في عزلة، ولكل ثقب نغمة متباينة، ووراء كل نغمة أسرار مغايرة، فإذا ناح بكل الثقوب متأوهًا، يُفقِد السمك والطير راحتها واستقرارها، ويسيطر الصمت على جميع الطير، وتصبح فاقدة الشعور إزاء صوته، وأمام مكانتِه هذه هامَ به فيلسوف، وتعلَّمَ الموسيقى من صوتِه العذب.

وكان عمر الققنس (الفينيق) قد ناهز الألف أو اقترب، لذا وضح أن موعد أجله قد اقترب، وعندما حان وقت انتزاع قلبه وموته، إذا به يجمَع حولَه من الحطَب مائة كومة، ويظل لا يعرف الراحة والاستقرار وسط الحطب، ويواصل النواح بحرقة واضطراب، فكان كل ثقب يرسِل بفعلِ روحِه الطاهرة، نواحًا متباينًا يحمل الأسى والحرقة، وعندما ينوح بكل الثقوب، يكون لكل ثقب لحن مختلف، وفي وسط النواح كانت فرائصه ترتعِد خشيةَ الموت، وكأنه ورقة شجرة.

أمام هذا الصراخ وذلك الصوت، كانت الطير جميعها، وكذلك الحيوانات المفترسة، تُقبِل صوبَه لتنظر إليه، وقلوبهم قد تخلَّت عن الدنيا لشدة أحزانِهم، وفي ذلك اليوم وبسبب ما به من غمٍّ، ما أكثر الحيوانات التي أسلمَت الروح أمامَه! وأصبح الكل حيارى من النواح، وصار البعض فاقدي الأرواح من العجز الذي أصابهم.

وأعجب الأيام يومه، فهو ينزف دمًا من آلام قلبِه، وعندما وصل عمره إلى آخر زفرة، أخذ يُرفرف بجناحيه إلى الأمام وإلى الخلف، فتطايرَت النار من جناحَيه، وبعد ذلك أصبحَت النار كل حاله، وسرعان ما سقطت النار في الحطب، فأحرقت حطبَه وهو في قمَّةِ السرور، وأصبح الطائر والحطب كلاهما جمرة من نار، ثم تحولت الجمرة بعد ذلك إلى رماد... وما أن اختفى كل شيء، حتى بدا الققنس (الفينيق) ناهِضًا من بين الرماد متجددًا منبعثًا إلى الحياة من جديد...!![1]

طائر العنقاء في كتاب المخلوقات الأسطورية لـ فريدريش جوستين

إذن، رفرفة الجناح هنا هي بمثابة توليد لعنصر النار الكامن بالأحرى في خفقة جناحيه. علمًا أن الطائر هوائي لطالما مملكته هي مملكة الهواء، والرياح، وعلى متنِها يسبَح في الفضاء، ولكن يظل عنصر النار، مرتبطًا بالطائر على نحوٍ حميمي، وخصوصًا في عملية الطيَران أو التحليق، والتي هي صورة أو تجلٍّ لفعل الدوران، ذلك أن كل شيء في هذا الكون يدور في فلكه، ضمن حركة دائرية، أو حلزونية، فالذريرات، والإلكترونات تدور حول النواة الذرية، والذريرات في حركة دورانية في الجزيء، وكل شيء في حركة دورانية؛ فالأرض تدور حول نفسها، وتدور حول الشمس، والشمس تدور حول نفسها، وتأخذ مجموعتها من الأفلاك التسعة في دوران حول مركز المجرة. الزمن إذًا دائري يتجلى في حركة عقارب الساعة، والشاكرات (مراكز الطاقة الروحانية) هي دواليب أو عجلات تدور، وهناك الدورة الدموية التي مركزها القلب... فثمة إيقاع في الكون يتجلى في غناء الطيور من جهة، ويتجلى في تحليقها في الأعالي من جهة أخرى.

ولكن، ما شأن النار في ذلك كله؟! إن عنصر النار هو عنصر الطاقة في الكون، ولذلك فهو ينجم من جهة من عملية رفرفة الأجنحة، وهذه العملية ناجمة بدورها عن الطاقة الكامنة فيها - أي النار... والنار غالبًا موضوع أسطوري ينزع عليه طابَع السرقة، فبروميثيوس سرق النار من ورشة هيفيستوس في جبل إيتنا، وأعطاها للإنسان، وأيضًا الطائر يسرق النار ويحترق بها كما رأينا في احتراق الفينيق، ويقال إن احتراق الطير

باللهب وهي تنتقل ماضيةً بالنار، ويُقال إن هذا هو السبب في تنوِّعِ ألوانِها[2].

يروي أحد الباحثين الألمان الذي عاش أربعة عقود بين البدائيين في الغابات البرازيلية، أن البشر لم يكونوا يملكون النار وأن "الآب السماوي" أرسل أوروباب Orobab، وهو طائر، لكي يسرق النار من كوخ نمر يعيش في الغابات الاستوائية، ويمنحها لهم. فذهب الطائر أوروباب Orobab إلى قرية النمور الاستوائية، فسأله أحد النمور هناك: ماذا تفعل هنا؟ قال أوروباب Orobab: أنا أتنزَّه بشوق إلى زوجتي – كذب أوروباب Orobab. ثم جلس بالقرب من النار مديرًا لها ظهره. قال النمر الاستوائي: سوف تحرق ريشك. ابتعد أوروباب Orobab قليلاً ثم قرَّب ذيلَه مرة أخرى. فحذَّره النمر الاستوائي مجددًا بأن يبتعِدَ عن النار، فابتعد، ثم اقترب مختالاً مرة أخرى. وعندما أصبحت ريشته في الجذوة، طار، فركض النمر الاستوائي خلفَه غاضِبًا: أنت سرقتَ ناري!... إلخ. هكذا نرى ارتباط عنصر الهواء مع عنصر النار في تجلي الطائر، وعنصر التراب موجود في تركيبته أصلاً.

الطائر والتكنولوجيا

ما برح نموذج الطائر في اللاوعي الجمعي يحثُّ الإنسان على محاولة الطيران، وعلى الحلم بالطيران، والتحرر من جاذبية الأرض الثقيلة، والشعور بحرية الطائر في سماء لامتناهية، وقد ساعدت التكنولوجيا الإنسان في تحقيق حلمه في عصرنا الحديث، ولكن حتى التكنولوجيا نفسها كانت تفعل في اللاشعور الجمعي، وتظهَر في نماذج بدئية، فمثلاً

كان يُنظَر إلى ديدالوس على أنه أمهر التقنيين في اليونان القديمة. وقد ألبس ابنه إيكاروس الأجنحة التي صنعها له، فطار بعيدًا لينجو بنفسه من المتاهة الكريتية التي كان هو ذاته قد صنعها بنفسه. قال ديدالوس لابنه: "عليك أن تأخذ في طيرانك الحالة الوسطى، فلا تطر عاليًا جدًا وإلا فإن الشمس سوف تذيب الشمع من على جناحيك، ولا تطر منخفضًا جدًا، وإلا فإن مدَّ البحار سوف يقبض عليك.

ديدالوس نفسه سلك الطريق الأوسط، لكنه راح يراقب ولده، وقد أخذته النشوة، وراح يحلق عاليًا. لقد ذاب الشمع، وسقط الابن في البحر ولسبب ما يتحدث الناس عن إيكاروس أكثر مما يتحدثون عن ديدالوس. كما لو أن الأجنحة ذاتها هي المسؤولة عن سقوط رائد الفضاء الشاب. والمسألة لا تمثل أي موقف عدواني من التكنولوجيا. هنا إيكاروس البائس سقط في الماء، في حين نجح ديدالوس الذي طار في المسار الأوسط في الوصول إلى بر الأمان[3].

ولعل النموذج البدئي الأكثر تمظهرًا للمبدع أو المبتكر فينا هو الإله اليوناني "هيفيستوس" الذي أصبح عالِمًا يتمتَّع بالحكمة متمثلاً بـ "ديدالوس"، ثم العلم تطور هابطًا إلى مستوى التكنولوجيا المحضة والفجَّة الخالية من كل قيم الجمال والحكمة والخير. وبالتالي فهذه التكنولوجيا وقد أخذتها النشوة في ابتكاراتها المتزايدة نسِيَت نصائح العلم الذي هو ذوق وفن وحكمة، والذي هو الأساس الذي تقوم عليه التكنولوجيا أساسًا، وهذه الأخيرة أداة لا أكثر أصبحَت في نشوة الإنسان بها بما تعطيه من متعة ورفاهية وأرباح مادية ومكاسب وشعور بالعظمة حتى نسِيَ تمامًا نصائح "ديدالوس" رمزيًا. والمصير نعاينه يومًا بعد يوم من مشاكل وأزمات وصراعات وأوبئة وتلويث للبيئة ومآس... وإشارات إن ألمحت إلى شيء فهي تلمِح إلى انتحار ذاتي يُقدِم عليه الإنسان المعاصِر من دون أن يدري، أي إلى ما أنبأت إليه الأسطورة من خلال شخص "إيكاروس" ابن "ديدالوس"!

طائر العنقاء وهو يخرج حيًّا من الرماد

الطائر والحرية

"الطائر هو رمز لتخلص الروح من عبودية الأرض..." يقول عالم الأساطير الكبير جوزيف كامبل، وبالتالي فهذا النزوع إلى الحرية ليس أكثر من ابتعاد عن العالَم الأرضي المليء بالمتاعب. وكنا ذكرنا أن الطيران شكل من أشكال الدوران المتصاعِد، ولكن لا نرى دائرة في الهواء، فالريح تهب حيث تشاء، وبالتالي فالصور التي تعالج حركة الروح، تكاد تترافق مع موضوع اللاتوقع أو الأزمة المفاجئة كما يقول فراي. إذن، فعل الطيران في حد ذاته يعبِّر عن مخالفة ما هو مألوف تمامًا، وكما يقول ميرسيا إلياد:

رمزية الطيران في جميع مستويات الثقافة، وعلى الرغم من الفروق الكبيرة في السياقات الثقافية والدينية، إنما تعبر بصورة دائمة عن تجاوز الشرط البشري، وعن التعالي والحرية[4].

يقول الشاعر ماتيو أرنولد:

استمعي!.. إنه العندليب
العصفور ذو الحنجرة الصهباء! استمعي!
من عمق الأرزة، في ضوء القمر، يرتفع صوته!
آه! يا لانتصاره!
استمعي!
آه! يا لألمه!

وغنى الشعراء الفيديون الذين وضعوا مبدأ لهم: "من الفرح خرج كل إبداع" عندما قالوا:

خلق الله في حرارة ألمه، كل ما هو موجود.
إن التضحية الموجودة في قلب الإبداع، هي في اللحظة نفسها فرح وألم معًا.

ويصف لنا شاعر هندي من القرون الوسطى ينبوع إلهامه في قصيدة تحتوي على سؤال وجوابه معًا، ها هما:

أين كانت أغنياتك، يا عصفوري
عندما كنتَ تمضي لياليك في عشك؟
ألم يكن كل سرورك مخبَّأ فيه!
لماذا تعطي كل محبتك عبثًا للسماء،
للسماء اللانهائية؟
يجيب العصفور:
"حصلت على سروري
عندما كنت أحيا في فضاء محدود
وعثرت على أغنياتي
عندما انطلقت محلقًا نحو اللانهائي"
[5]

العلاقة الجدلية بين الطائر والإنسان

تقول أ. علياء الداية:

تتخذ العلاقة بين الأب والابن والطائر منحى مختلفًا في مسرحية صرعة العندليب، تأليف وليد إخلاصي، فمن بداية المسرحية يظهر الصراع، فثمة قذائف ومدينة تعاني، يعيش فيها الرجل وزوجته شخصيتا المسرحية الأساسيتان، وثمة شخصية ثالثة غير مرئية، ولكن صوتها مسموع. إنه العندليب الذي سرعان ما يشكل محور المسرحية. فهو الشيء الجميل الوحيد مقابل الحجم الهائل من القبح والشر اللذين يغزوان المدينة، والعندليب هو المثَل الأعلى الذي يطمح الرجل إلى تحقيقه بعيدًا عن الحرب الدائرة التي لم تضع أوزارها بعد. ويختلف تجاوب الشخصيتين في المسرحية مع هذا العندليب، ففي حين يطرب الزوج لسماعه، ويستشعر بعض العزاء والسلوى، نجد أن الزوجة لا تتمكن من سماعه، وهي منشغلة بشيء آخَر، هو الحديث دون ملل عن ابنهما المنتظَر قدومه.

الزوجة: (بلهفة) هل جاء ابننا؟

الزوج: كل غائب سيجيء، وكل حبيب سيلقى حبيبه،

والسماء لا تطيق أبدًا، ولابد من فتحة يطل منها الغد،

وستعود أيام حبنا الصافية كما كانت، وسنصلح ما هدم، وسأدهن جميع الغرف. أنتِ التي ستختارين الألوان[6].

فالرجل مأخوذ بهذا العندليب وغنائه الجميل الشجي، مقابل قبح الطائرات وشر القذائف، في حين أن المرأة يشغلها هم انتظار ابنها الغائب. إن الحوار يتخذ منحى أكثر حدة عندما يتمسك كل من الطرفين باهتمامه الخاص، فلا المرأة تفهم سر العندليب، ولا الرجل يوقن بإمكانية مجيء الابن. ويبقى سيد الموقف الصراع الكبير الدائر بين قوى متحاربة تخرِّب المدينة وتجعل منها مكانًا لا يُطاق.

إننا نجد هنا تقابلاً بين شكلي المثل الأعلى، الأول هو تصور الأطراف المتنازعة أن الحرب الداخلية وسيلة لبلوغ مآربها ومثلها العليا على حساب سعادة الآخرين، لذا فإنهم جميعًا يتبادلون الحقد والأذى بعيدًا عن المنطق وعن قيم الوطنية الحقة. والشكل الآخر هو نموذج الرجل وزوجته اللذين يحلمان بمستقبل أفضل فيه جمال الحياة.

لكن الصراع يبرز عندما يتمسك الزوج بالخيال والحلم مع العندليب في حين تتشبث المرأة بالواقع وتقاوم الخواطر المؤلمة، وتحذر زوجها مبعدةً إياه عن قذيفة كادت تودي بحياته. إنها تنتظر الابن بلهفة، تريد له اللون الوردي، الأيام الوردية في إشارة إلى زمان غير زمان الحرب. وهي على رغم رفضها احتمال الموت الذي يجده زوجها محتمًا على كل شيء، تفكر به في خطوة استباقية، تنتزع من الزوج عهود الحب والوفاء بعد موتها.

إن المسرحية حوار بين خيارين: التعايش مع الحرب، أو ضرورة الموت من أجل الحياة. فالزوجة رمز للوطن، الذي يحلم بعودة ابنه، بعودة الماضي الجميل والانسجام والتوافق بين أبنائه كما كان قبل الحرب، إنه – أي الوطن – يطمح إلى مثل أعلى في التفاهم والوفاق.

أما الرجل فهو الشاهد على ما يجري، ويقرُّ بأن المرأة/الوطن عاقر، وما هذا إلا نتيجة، لذلك لا يحلم بما كان ومضى، وإنما يكتفي بالتعلق بالغناء، بصوت العندليب ذلك الطائر الذي يرمز إلى انبعاث الحياة الجميلة من الموت، عن طريق الإرادة القوية بالحياة[7].

تختلف النتيجة في مسرحية صرعة العندليب، حيث يفلح الأب في اقتناص قيمة الأمل، إن العندليب هو المستقبل الجميل، هو رفض الماضي، وتجاوز للحاضر المؤلم، هذا ما يتبدَّى مع تطور الأحداث، فالحرب مستمرة، الزوجة تقتلها غارة مفاجئة، فتتطور شخصية الزوج تطورًا سريعًا. يومان كاملان مع جثة الزوجة في الطابق السابع من عمارة خاوية، ينطلق صوت العندليب من حين إلى آخر فيعبِّر عن توافقه مع دينامية النفس الداخلية للزوج الذي ينحِّي المثل العليا في الحب المطلق والوفاء، ويكشف في مناجاته الداخلية حقائق العقم، فالابن مُتَخيَّلٌ وليس واقعًا.

يضيق الزوج بالموت المُطبِق والجثة، فيتحامل على نفسه ليلقي بجثة الزوجة أخيرًا من النافذة، فيحصل الارتطام. وهنا تتحقق علاقة جمالية في اتحاد الزوج مع جمال العندليب، يُصَفِّران بنغمة متسقة، ومعهما وحدة المثل العليا الجديدة في الأمل لسعادة قادمة تكون حربًا على العقم والموت ومظاهر القبح.

إن الرجل حين يودِّع جثمان زوجته، الوطن الذي استنزفته الحرب، يحتفظ بالوفاء والذكرى الطيبة، لكنه في صراعه الداخلي، يرجِّح أن يؤمن بانبعاث روح الوطن المتمثلة في غناء العندليب، داخل أجساد جديدة قادرة على اقتفاء أثر الجمال وتحقيق أهداف خيرة بناءة في الحياة للوصول إلى مثل أعلى في الحرية، فتتكامل حينئذ مع أحلام الزوجة/الوطن في قيم الحب والوفاء[8].

سيكولوجية العصفور والطائر الجارح

الصياد أو لنقل نموذج الصياد في عالمِنا هو ذلك الشخص مع بندقيته يُجندِل العصفور أرضًا، مهمته: قتل العصافير، فالعصافير هنا هي الضحية، إنه موت الجمال على يد القبح المحيط الذي لا يرحم البراءة والنقاء في العصافير التي لا تروم سوى الغناء والطيران الحرَّ بسعادة في السماء الواسعة.

وكنتيجة لموت العصافير يحتل المشهد مكانها الطيور الكاسرة (الجارحة) التي تكشف عن مخالبها وقوتها في البقاء، وانتصارها في صراعها لأجل البقاء. فالطائر الكاسر (الجارح) هو ذلك الذي ينال غايته بقسوة وضراوة. وتتمثل هذه الغاية بالفريسة التي يحصَل عليها من خلال فعل القتل في حياة الغابة.

أتحدث هنا عن السيكولوجيا فالعصفور والطائر الكاسر هما مجرد استعارة مجازية لا أكثر، عندما يموت العصفور الكائن في الإنسان يتحول هذا الإنسان إلى طائر كاسر (جارح) فأنا لا أتناول فعل الصيد في حد ذاته، وإنما أتناوله مجازًا عندما أحدهم يعمل على قتل العصفور الداخلي عند فتى أو شاب أو رجل، فما يحصل هو تغير في سيكولوجية الإنسان ويصبح طائرًا كاسرًا (جارحًا) في الغابة المنطوية في حياتنا اليومية يسعى لاقتناص الفريسة (الربح) لكي يقتات عليها أولاده وعائلته وهو أخيرًا...

هناك قصة شعبية حول الأقزام تتحدث عن طفل صغير يعثر على عصفور يغني أغنية جميلة فيجلبه إلى البيت... ثم يطلب من والده إحضار طعام للعصفور، غير أن الأب يرفض إطعام هذا الكائن الذي لا فائدة منه، وهكذا فإنه يقتله. القصة الشعبية تقول إن الأب قتل العصفور، وبالتالي قتل الأغنية، ومعنى ذلك في النهاية أنه قتل شيئًا ما في نفس الولد، أن شيئًا ما في داخله مات إلى الأبد!

إذًا، باختصار، مع فقدان الإنسان لعصفوره الداخلي العميق يطرأ عليه تحوُّل فهو يصبح من الآن فصاعدًا طيرًا كاسرًا (جارحًا) على مستوى اللاوعي، فثمة دينامية للاوعي تتغير نوعيتها، والآن أصبح الإنسان أكثر تلاؤمًا ونجاحًا في عالَم الغابة الإنساني الأكثر ضراوة ووحشية من عالَم الغابة الطبيعي... وفي هذا السياق نفهم معنى ومغزى وأهمية مساررة الفتى في مجتمعاتنا سواءً الحديثة منها أو القديمة، وربما ندرك شيئًا من المساررة في المجتمعات الشامانية الأولى في الفقرة التالية.

الطائر كـ "حيوان قدرة" أو "روح غابة"

توجد الكثير من المجتمعات الشامانية التي يزعمون فيها أن لكل إنسان "روح غابة" إضافة إلى روحه، وأن "روح الغابة" أو ما هو متعارَفٌ عليه بـ "حيوان القدرة" أي "الذات الأخرى" التي تحمل في ذاتها القدرة الخاصة بـ "حيوان الشخص الذي يحميه في أعماقه" أي "روح الغابة" الخاصة به، وكما ذكرنا آنفًا فهذه الروح تتجسَّد على شكل حيوان بريٍّ. فالشامان يكتشف حيوانه الخاص به - "حيوان القدرة" خاصته، فيمنحه قدرته التي يفتقدها الشامان حتى ذلك الوقت الذي يكتشف فيه "حيوانه الحارس"، أو ربما "روح الغابة" هذه تتجسد على شكل نبات أو شجرة يتماهى معها الإنسان، وهذه هي حالة الدكتور إدوارد باخ الذي هجر مختبراته في لندن في القرن التاسع عشر، وأخذ يقضي جُلَّ وقته بين الهضاب والسهول وضفاف الأنهار مكتشفًا ما هو متعارَف عليه عالميًا بـ "زهور الدكتور باخ" التي أخذ يعالج بها مرضاه، مانحًا إياهم قدراتها الشفائية التي اكتشفها فيها.

من جهة أخرى غالبًا ما تحدث الغنوصيون عن التوأم الذي ينفصل عن الشخص المعني عند ولادته، وهذا التوأم يحتفظ بالمعرفة الروحية التي أُعطِيَت لنا قبل الولادة، وعندما يعود هذا التوأم مجددًا ويندمج في النفس الإنسانية، فإن أهم تجلياته كما رأينا آنفًا هي "روح الغابة" أو "حيوان القدرة" أو "النبات". ففي حالة الناسك الكبير الشيخ يوسف الهدوئي من جبل آثوس تعرَّفَ، في أحد انخطافاته، على أهم أمرين تطرقَت إليهما الميثولوجيا الكونية، وهما "مدينة الله" و"توأمه الروحي" وفقًا للغنوصيين و"روح الغابة" أو "حيوان القدرة" وفقًا للشامانيين، فهذا "الحيوان القدرة" قد تجلَّى في ذلك "العصفور السماوي" الذي قاده إلى فتوحات روحية جبارة وكونية وموضوع للميثولوجيا أي ما وراء الزمان والمكان.

لاشك إذًا أن الطائر كـ "حيوان قدرة" هو ملهمٌ روحيٌّ وحامل للقدرة الهائلة سواء للشامان أو أي شخص منا في معراجه الروحيِّ في معرفة نفسه أو البحث عن الشفاء الداخلي، فحيوان القدرة طبيب حقيقي لنفوسنا عرفه الأقدمون في المجتمعات الشامانية. على سبيل المثال، من يعاني من "الكآبة" خصوصًا في أوقات عصيبة مثل أوقاتنا هذه، فمن المستحسَن أن يتأمل حول طائر "المالك الحزين"، وأن يتخيل هذا الطائر، ويعايشه أي يتماهى معه، حتى يُقبِل إليه حيوان القدرة على شكل "المالك الحزين" حاملاً له قدرة شفائية لكآبته، فيصغي الإنسان المكتئب لروح هذا الطائر المعلم يقول له:

إن أفضل مكان لي هو على ضفاف البحر حتى لا يسمع أحد نواحي ونحيبي، وإنني لا أسبب أذى لأحد، كما لا يتأذى أحد في الدنيا مني قط، وإنما أجلس على شاطئ البحر مهمومًا، وأجلس دائمًا مغمومًا.

إن قلبي ينفطر شوقًا إلى الماء، وما لم أكن – ويا للعجب – من أهل البحر فإنني أموت صادي الشفتين على شاطئ البحر. ومهما أرغى البحر وأزبد، فإنني لا أستطيع ارتشاف قطرة منه، أما إذا تناقصت مياه البحر قطرة، فيا لحرقة قلبي غيرةً، فكفى أمثالي عشق البحر...[9]

وهكذا فـ "مالك الحزين" يعلم المريد عشق البحر، ويجلب إليه عنصر الماء الذي يشترك به حميميًا لكي يشفيه من كآبته، ويأخذه في عوالم وحدته الموحشة لكي يتعلم الشفاء من الكآبة، فالمثيل يشفي المثيل هذا هو مبدأ الطب التجانسي، أي كما يقال، وداوها بالتي هي الداء...

تحدثنا في البداية أن أصل تكوين الطائر هو العنصر الترابي، ثم يظهر العنصر الهوائي كجوهر حقيقي للطائر، ثم نكتشف العنصر الناري المختبئ في ثناياه، وأخيرًا تكتمل الدائرة أو الحلقة عندما نرى الطائر يشترك حميميًا مع عنصر الماء، وكم من الطيور تشترك مع عنصر الماء كـ "البطة" التي تخرج من الماء غاية في الطهر مرتدية خير الثياب، في لباس طاهر، وأبيض نقي غالبًا.

ويأتي طائر اللقلق وطائر البجع الجميل الملوكي، وطائر النورس، وسواهم من طيور مغامرة في أعماق البحار، حيث يشكل عنصر الماء عنصرًا أساسيًا في وجودها وكيانها وهي تعرف السباحة والغوص والصيد أيضًا.

نعود إلى طبِّ "حيوان القدرة" فالدواء الناجع للشعور بالعزلة يحمله إلينا طائر "الفينيق" الذي تحدثنا عنه في المقدمة، طائر "الفينيق" يمنح النار الشافية، والتجدد والشباب والولادة الجديدة من الرماد... نعم الرماد هنا هو أيضًا الكآبة والشعور بالعزلة والفقر والهجران... إلخ، ليس لإنسان كهذا إلا طائر "الفينيق" لكي يُغنيَ حياته ويشفيها من سقمها ويحرره إلى الأبد.

أخيرًا فالطائر هو أفضل رفيق لنا في مشوارنا الروحي وهو يتمثل خصوصًا بطائر الهدهد.

هو للطريق هاد، وفي الحقيقة مرشد كل واد، ويا من هو مع سليمان حسُنَ منطق طيره، فصار حافظًا لأسرار سليمان، وشبيهًا بموسى في الصفة، ينهض ويشدو بألحانه في عالم المعرفة...[10]

ومن جهة أخرى

كان الناس يعتقدون أن طائر الهدهد يستطيع الاختفاء عن أنظار كل كائن حي، وهذا يفسر الحقيقة التي تشير إلى أنه في أواخر القرون الوسطى ظل الناس يعتقدون بوجود عشبة عطرية متعددة الألوان في عشِّ الهدهد، والتي يستطيع من يمتلكها أن يختفي عن الأنظار[11].

صراع النسر والأفعى

في هذه الصورة لصراع النسر والأفعى تظهَر أمامنا الأفعى مشدودةً إلى الأرض فيما أن النسر ينعم بطيران روحي. إنه الصراع ذاته الذي يترسخ في خبراتنا أحيانًا كثيرة، ولكن إلامَ يفضي هذا الصراع؟!

لاشك أنه من الحكمة بمكان أن ينتهي إلى اندماج الاثنين معًا حيث يتشكل لدينا تنين عجيب أي أفعى مجنحة.

إذن، صراع النسر مع الأفعى لا يعني إلا تحقيق التوازن والتناغم بينهما حيث يمنح النسر جناحَيْه للأفعى، وتمنح الأفعى قوتها وحكمتها للنسر فينجم عن اندماجهما تنينًا عجيبًا مجنَّحًا رائعًا وجميلاً يملأه العنفوان، ويحلق في أبعاد ميثولوجية تتجاوز المكان والزمان.

نرى هذا الرمز يتجلى على نحو ديناميكي في مقولة طاغور حول علاقة الشرق مع الغرب بما يلي:

إن الفعل الأكثر دلالة في الفترة الحالية هو تلاقي الشرق والغرب... إن عالَم اليوم هو بين يدَيْ الغرب. وهذا الأخير سوف يدمره عن بكرة أبيه إن لم يعمل من أجل إبداع إنساني رائع. أما أدوات هذا الإبداع فهي تحت سيطرة العلم، وأما العبقرية الخلاقة فهي كامنة في المثال الروحي للإنسان[12].

وهذا إن عبَّر عن شيء فهو أن الأفعى تعبر عن العلم الذي هو بحاجة أن يتحد بالعبقرية الخلاقة الآتية من المثال الروحي الأعلى للإنسان. هذا المثال الذي يتجلَّى بـ "النسر". وهكذا فاندماجهما كفيل بإنقاذ البشرية من دمار هائل...

ومن الجدير بالذكر، أنه تنجيميًا كان يُنظَر إلى النسر وكأنه التجلي الأعلى لبرج العقرب الذي يُعتبَر الثعبان تجليه الأسفَل.

ملك الطيور

القلب في حد ذاته هو عبارة عن عصفور يغني الحياة والشعر والموسيقا السماوية، إنه عصفور يثمل بنشوة اللانهائي، ويطير من قفصه حالما يتحرر من إشراطات العالم الأرضي، منطلقًا صوب أبيه السماوي... لعلنا نفهم لماذا كان الناصري يتحدث دائمًا عن أبيه السماوي، وأنه والآب واحد، وأنه ذاهب إلى الآب، ولعلنا نفهم موعظة الجبل: "طوبى للودعاء فإنهم يرثون الأرض، طوبى للمساكين بالروح فإن لهم ملكوت السماوات، طوبى لفاعلي السلام فإنهم يُدعَون أبناء الله، طوبى للرحماء فإنهم يُرحَمون"... الخ، ولعلنا نفهم الاستعارة الشعرية التي لجأ إليها عندما قال:

... أنظروا إلى طيور السماء فإنها لا تزرع ولا تحصَد ولا تجمَع إلى الأهراء، وأبوكم السماوي يقوتها، أفلستم أنتم أفضل منها بكثير؟.. ولماذا تقلقون بشأن اللباس؟ تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو، إنها لا تتعب ولا تغزِل، وأنا أقول لكم، إن سليمان نفسه في كل مجده لم يلبس كواحدة منها.

والحق كما تذكر الأناجيل أنهم وضعوا لافتة على صليبه كُتِبَ عليها: "يسوع الناصري ملك اليهود"، الأمر الذي أثار استياءهم، ولديهم حق، فمن الأجدر كان أن يكتبوا: "يسوع الناصري ملك الطيور"! فكم من مرة أعلن أن مملكته ليست من هذا العالَم، أما اليهود فقد رفضوه لسبب بسيط أن مملكتهم تنتمي إلى هذا العالَم، فهم واقعيون حتى الصميم! يقولون: "لا ملك لنا إلا قيصَر"!

فالمسيح يبدو حينًا كالبجعة التي تُطعِم أولادها من لحمها، "خذوا كلوا فهذا هو جسدي، وخذوا اشربوا فهذا هو دمي"، وحينًا يبدو كنسر جبَّار وهو كما سوف نرى فيما بعد يرمز للمتعالي الذي يخترق عالَم الزمن، وحينًا كعصفور ناري يرقص حول شجرة الحياة ليقطف منها ثمارها نكتار الآلهة، وبعد أكثر من ألف وخمسمائة سنة تراءى للقديس فرنسيس الأسيزي على نحو طائر أو فلنقل

ملاكًا من السيرافيم على جبل لاڤيرنا حيث تراءى للقديس كائن من نار ونور من ذوي الأجنحة الستة دنا من فرنسيس حيث رآه بكل وضوح فتبيّن له أن ذلك الكائن المجيد كان أيضًا كائنًا متألمًا تغطي أجنحته جسمًا مصلوبًا موثوقة يداه وقدماه إلى صليب، فجمال الملاك الذي يندّ عن الوصف أفعم القديس فرحًا، ورؤية آلام المصلوب تضنيه حتى راح يتساءل كيف يستطيع روح ممجَّد أزلي على ذلك القدر من الروعة أن يقاسي مثل ذلك النزاع الضاري!! كان القديس مأخوذًا ومضطربًا في آن معًا، فقد انقضّ عليه المجد والألم مجتمِعَين كانقضاض الكواسر حتى تلاشت الرؤيا تاركة راحتيه وقدميه فيها ثقوب نازفة، وارتسمت على جنبه آثار طعنة حربة، كانت غالبًا تنزّ دمًا يبلِّل غلالاته وثيابه...[13]

لعل هذه الرؤيا تحمل أكثر من دلالة إذ إن فرنسيس هنا يدشِّن عصرًا جديدًا، فكلُّ إنسان هو مسيح ومخلص وربٌّ يسير عبر درب الإنسانية المحفوف بالصعاب والمخاطر ومعاناة الألم إلى درب الربوبية، فمع فرنسيس انتهى دور الكنيسة وبدأ دور كل إنسان، وربما فرنسيس نفسه لم يكن يدرك أنه قد أقفل على عصر، ودشَّنَ عصرًا جديدًا... ولكن علينا ألا ننسى أن كل إنسان من هذا المنظور هو مسيح وشيطان معًا، هو نسر وأفعى معًا. عليه أن يصالح بينهما ويوافقهما ويدمجهما في كيان ربوبي واحد!

نعود إلى ملك الطيور، ولعل أشهر ملك، هو الطائر الميثولوجي الذي يمثل الموت والقيامة أي (الفينيق) والخلود... وذكرناه في المقدمة، والآن نأتي على طائر ميثولوجي آخر يُدعى "السيمرغ" وهو ذو قدرات خارقة، ويقول البعض إن لون جسمه أسود ممثلاً الروح الجمعية لجميع الطيور، ولعل أبرز من أشار إلى هذا الطائر هو الشيخ الصوفي الفارسي فريد الدين العطار النيسابوري في كتابه منطق الطير، حيث يقوم الطير جميعهم برحلة عبر أودية سبعة للقاء سيدهم أو ملكهم "السيمرغ". وقد وقف العطار على العدد (ثلاثين) ذلك أن "سيمرغ" نفسه اسم الإله بالفارسية. أما "سي مرغ" فهو عدد الطير الذي وصل إلى حضرة "السيمرغ" نفسه. إذن، ثمة جناس مركب بين لفظة "سيمرغ" ولفظة "سي مرغ" وهو العدد الذي وصل وهنا هو ثلاثون طائرًا. ومن الجدير ذكره أن من وصل يجد نفسه هو نفسه "السيمرغ" أي الثلاثون طائرًا، ولعل هذا أيضًا يذكرنا بعمر المسيح على الأرض قبل أن يبدأ رسالته، وهو الثلاثون عامًا أتم فيها نضجه، لكي يلخص هذا العمر في ثلاث سنوات، قبل انتقاله عن هذا العالَم. فالمسيح أيضًا هو "سيمرغ" بامتياز!

ملكة الطيور

يشير فراي إلى عمل هورثون فون الإله المرمري:

حيث يرتبط التمثال، وهو الذي أعطى القصة اسمها "دوناتيلو"، والحقيقة أن "دوناتيلو" هو نفسه التمثال. وفيما بعد نقابل فتاة اسمها "هيلدا" كلها لطف وصفاء، تعيش في برج يحيط به الحمام. والحمام مُعجَبٌ بها جدًا، وشخصية أخرى في القصة تناديها "حمامتي" فتشير الدلالات إلى أن المؤلف وشخصيات القصة جعلوا "هيلدا" تتماهى مع الحمام. فلو قلنا إن "هيلدا" ربَّة الحمام مثل ڤينوس قد تماهت مع حمامها، فإننا لا نكون قد قرأنا القصة وفق طريقتها الخاصة، فنكون قد حولناها إلى محض أسطورة[14].

من المفيد أن نقارن فون الإله المرمري بغيرها نجد فيها الكثير من النحاتين، وعلاقة التماثيل بالأحياء، بحيث نتوقع خاتمة كتلك التي في حكاية الشتاء لشكسبير. "هيلدا" تختفي بشكل غامض، وفي غيابها يقوم حبيبها النحات "كينيون" بحفر الأرض، وانتشال التمثال الذي يقترب في ذهنه بـ"هيلدا". بعد ذلك يقود "هيلدا"، وتبرِّر غيابها بسبب معقول...[15].

لعل غياب "هيلدا" هنا يذكرنا بطبيعتها التي تنتمي إلى العالَم الآخَر مما يذكِّرُنا بطائر "الهدهد" أو الروح القدس في المفهوم المسيحي أي أم الله، حيث كانت الحمامة رمزًا للحب الكوني، ورمزًا لڤينوس ربة الحب والجمال في الثقافة الرومانية. وكانت سابقًا هي نفسها طير السنونو الذي كان يرمز إلى أم الحياة إيزيس التي ولدت حور الذي كان رأسه رأس نسر وجسده جسد إنسان، وحملَت به من زوجها المائت إيزيريس، وذلك في الثقافة الفرعونية، إذن تطورت هذه السنونو إلى رمز الحمامة الذي أصبح أخيرًا هو رمز كوني للروح والسلام...

حالات وعي الكينونة (العليا) "الوعي التجاوزي"

ترمز الطيور أيضًا إلى عالَم الملائكة، ذلك أن مملكة الطيور هي السماء كما أن الملائكة مملكتهم هي العالم العلوي الروحاني. وبالتالي فالتغيرات الطارئة على الوعي الذي يعدِّل من نفسه بما يتجاوب مع اهتزازات روحية عليا، فإنه يتواصل، ويتجاوب مع عوالم الروح العليا التي يُشار إليها في الأساطير كأسطورة سليمان الذي كان يفهم لغة الطيور مما يعني أنه كان يختبر حالات من الوعي المتغير أي "الوعي التجاوزي"، وعي حالات الكينونة (العليا).

ومن جهته رونيه غينون يشير إلى أن ما يُسمَّى في القرآن الكريم بالصفات، أي صفات الله، تتجلى في عالمنا أو في الطبيعة على هيئة طيور. ويتابع غينون مشيرًا إلى الصراع بين الملائكة والقوات الجحيمية ليس سوى صراع بين الحالات العليا للوعي مع الحالات الدنيا للوعي.

والحقيقة كما يشير غينون إلى أن الصراع بين حالات الوعي العليا وحالات الوعي الدنيا، يُستخدَم فيه سلاح هو غناء الطيور. ووفقًا للقرآن الكريم فهذا السلاح هو "الذكر" السلاح الذي يتم ترداده وفقًا لإيقاع معين، وهو ما يسميه الهندوس بـ "المانترا" أيضًا وفقًا لإيقاع معين، ولعل أبرزها صلاة اسم يسوع لدى الأورثوذكس التي يرددها النسَّاك على إيقاع الشهيق والزفير أي التنفس البطني العميق، وهكذا نرى هذا الصراع بين الحالات العليا للوعي والحالات الدنيا له، يتصاعد في "الذكر" و"المانترا" و"صلاة اسم يسوع" إلى أن يتمَّ توحيد الوعي الأعلى مع الوعي الأدنى كما رأينا في صراع النسر والثعبان.

بعبارة أخرى، إن "لغة الطيور" ليست أكثر من لغة الملائكة في السماء.

كما أن الكتب المقدسة ثم وضعها على نحو ترنيمي وإيقاعي أي غنائي.

تجليات الطائر في عالمنا المعاصر

أولاً: النسر ذو الرأسين

يشير الأستاذ أكرم أنطاكي في دراسة رائعة لهذا الرمز الذي يحمل عنوانه عمل مسرحي للشاعر والكاتب الفرنسي الكبير جان كوكتو (1889 – 1963). وقام بإخراجه عام 1948:

"النسر ذو الرأسين" مسرحية تحكي "قصة حب أسطورية بين ملكة كانت تعيش في قلب عزلة أحزانها، لأنها فقدت في ليلة زفافها زوجها الذي كانت تحبه، وبين شاب فوضوي معادٍ للملكية يُدعَى ستانيسلاس، اخترق مخدعها ذات ليلة من أجل قتلها. فرأت فيه صورة حبيبها الراحل كما رأى هو فيها أميرة أحلامه، ويجتمع الحبيبان، وتتحول الملكة إلى ثورية فوضوية، ويتحول الثوري إلى مؤيد للملكية. لكن الأجواء المحيطة بينهما، لنقُل البلاط، لا يمكن أن يسمح لقصة حب كهذه أن تكتمل. فتكون النهاية أن ينتحر ستانيسلاس من أجل أن تبقى ملكته على رأس مملكتها، فتقتل الملكة نفسها بيده من أجل أن تلتحق به إلى عالَم الموت الذي سيجمعهما إلى الأبد[16].

لعلَّ هذه القصة تذكرنا بشيء ما مشابه في قصة الهولندي الطائر التي جعل منها الموسيقار العظيم ڤاغنز أوپرا. ولكن يتساءل في بحثه الأستاذ أكرم أنطاكي عن السبب الذي دفع جان كوكتو إلى اختيار "النسر ذو الرأسين" عنوانًا لمسرحيته؟

يجيب الأستاذ أنطاكي بعنوان فرعي "في البدء كان طائر الفينيق"، ثم يستأنف الإجابة قائلاً:

بعجب وصمت كان كهنة معبد رع في هيلوبوليس يتأملون النسر المحلق في أعالي السماء. كانوا ينظرون بإعجاب إلى انعكاس أشعة الشمس على ريشه ما يجعلها تتلألأ بألوان زاهية وعجيبة. كانوا يتأملونه وهو يدور ببطء محركًا رأسه بسرعة يمينًا ويسارًا ما يجعله يبدو وكأنه ذو رأسين.

- إنه رع ينظر إلينا ويتأمل أفعالنا.

هكذا قال أحد الكهنة بصوت منخفض: "إنه رع الذي يذكرنا دائمًا بأن أوزيريس لا يموت إنما يعود دائماً من جديد!

في مصر القديمة كان الإله رع يُرسَم دائمًا وله رأس نسر. وفي مصر القديمة كانت أسطورة الفينيق الذي لا يموت ترمز إلى الخلود وإلى القيامة.

فقد كان النسر على مر العصور رمزًا لآلهة السماء حيث يرمز النسر الكوني إلى أقصى ما تتطلع إليه الروح الإنسانية من سمو وإلى انتصار على طبيعتها الشهوانية. ولهذا السبب ربما كانوا غالبًا ما يصوِّرون النسر في صراع مع الثور الذي يمثل الشهوات الأرضية أو مع الثعبان.

وغالبًا ما كان النسر يُستخدَم كرمز للشمس، وأحيانًا كرمز للبرق والرعد. كما أن الأصول الأسطورية للنسر الإلهي كانت تتصوره كائنًا هجينًا أو إنسانًا متحولاً غالبًا ما يكون ملكًا/أو بطلاً أسطوريًا.

ومن منظور الخيمياء يرمز النسر إلى عنصر الهواء الذي غالبًا ما يتم ارتباطه بعملية التصعيد هذا من جهة ومن جهة أخرى يمثل النسر ذو الرأسين مبدأ تزاوج الأضداد.

وكذلك تبنَّى قياصرة روما شعار النسر ذو الرأسين الذي اقتبسوه (يا للصدفة) من أعدائهم الفرس.

وفي الأسطورة اليونانية القديمة، كان النسر Aquila (الذي كان فيما مضى الملك باريهاس) حامل بروق زيوس كبير الآلهة وناقل رسائله. من هذا الأصل اليوناني للكلمة تم اشتقاق التسمية الإنكليزية للنسر eagle وكذلك تسميته الفرنسية aigle.

كما كانت البومة وهي من فصيلة النسر الشعّار الذي تبناه اليونان القدماء لإلهة الحكمة أثينا ولمدينة أثينا عاصمتهم وأعرق المدن اليونانية.

وإذا انتقلنا إلى حضارات بلاد ما بين النهرين، فإن الأساطير تتحدث عن النسر الذي حمل الملك إيتانا الباحث عن شجرة الحياة إلى السماء. وأيضاً كانت الحضارات القديمة لممالك ما بين النهرين، تستخدم رمزية النسر ذو الرأسين للتعبير عن عظمتها الفائقة على تزاوج السلطتين الدينية والدنيوية.

ثم أصبح النسر في المسيحية شعارًا للقديس يوحنا الإنجيلي وأحد رموز الأناجيل الأربعة المعتمدة.

ولا ننسى أن النسر ذو الرأسين هو أيضًا أحد أهم رموز الماسونية وشعار أعلى درجاتها أي رمز الدرجة 32 التي تحمل اسم الأمير الأعظم للنسر الملكي، ورمز الدرجة 33 الأعلى منها والتي هي درجة المفتش العام الأكبر الأعظم.

مما يعني تزاوج السلطة المدنية المتمثلة في الدرجة 32 والتي شعارها SPES MEA IN DEUST أي أملي بالله، مع السلطة الروحية المتمثلة بالدرجة 33 التي شعارها باللاتينية DEUS MEU MQUE JUS أي الله وحقي، الأمر الذي يفضي إلى اتحاد السلطتين معًا[17]

وأخيراً يصل الأستاذ أنطاكي في دراسته لمسرحية كوكتو "النسر ذو الرأسين" إلى أن هذا دليل دامغ على أن كوكتو كان ينتمي إلى هذه الأخوية العريقة التي تُعرَف اليوم بالماسونية. وعلى أن كوكتو كان يحمل ربما أعلى درجاتها.

ثانيًا: رمزية النسر الأمريكي على ورقة الدولار

وهذه الدراسة مستقاة من حديث جرى بين مويرز وعالم الأساطير الكبير جوزيف كامبل، تمَّ تحويله إلى كتاب يحمل عنوان قوة الأسطورة. يقول كامبل في هذا السياق:

هنا يوجد النسر، إنه طائر جوپيتر. النسر يرمز هبوط الإله إلى حقل الزمن. الطائر هو تجسيد للمبدأ الرباني. إنه النسر الأصلع، النسر الأميركي. وهذا هو النظير الأميركي لنسر كبير الآلهة جوپيتر.

إنه يهبط قادمًا إلى عالم الثنائيات المتناقضة، إلى حقل الفعل. حالة من الفعل هي الحرب وحالة ثانية هي السلم. وهكذا ففي واحدة من ساقيه يحمل النسر ثلاثة عشر سهمًا، وهذا هو مبدأ الحرب. وفي الساق الثانية يحمل ورقة غار تتفرع إلى ثلاث عشرة وريقة، وهذا هو مبدأ الحوار السلمي. النسر يحدق في الجهة التي فيها الغار. وهذه هي الجهة التي أراد مؤسِّسو الولايات المتحدة الأميركية أن نحدق إليها، أعني العلاقات الدبلوماسية، وما يتفرع عنها. والنسر يحمل السهام لكي نمد إيدينا إليها في حال لم تفعل العلاقات الدبلوماسية فعلها[18].

ذيله مكون من تسع ريشات. فالتسعة تمثل عدد القدرة الإلهية المتجلية في العالم، وعندما تدقُّ الأجراس فإنها تقرع تسع مرات.

والآن فوق رأس النسر يوجد ثلاثة عشر نجمًا مرتبة بطريقة تذكرني بالشكل الرباعي الفيثاغوري.

وما لديك الآن على ورقة الدولار هو النسر الذي يمثل الصورة الرائعة للطريقة التي يتبدَّى فيها المتعالي في العالَم. وعلى هذا الأساس تأسست الولايات المتحدة. فإذا أردتَ أن تحكم بشكل صحيح، فما عليك إلا أن تحكم من قمة المثلث واضعًا نصبَ عينيك مغزى عين العالم وهي القمة.

فإذا كنتَ في المستوى الأسفل من الهرم سوف تكون إما على هذا الجانب أو على ذلك الجانب. ولكن عندما ترتفع إلى القمة فإن النقاط تتجمع مع بعضها البعض وهذا هو معنى عين العالم، إنك ترى عين الإله مفتوحة[19].

ومما لاشك فيه أن ما يرمي إليه كامبل هنا إلى أن عين الإله هي نفسها عين النسر التي ترى العالَم من علو، من فوق مجتمعَة كلها في نقطة واحدة. والسلام.

*** *** ***

المراجع

-        فريد الدين العطار النيسابوري، منطق الطير.

-        جوزيف كامبل، قوة الأسطورة.

-        ميرسيا إلياد، الأساطير والأحلام والأسرار.

-        رابندرانات طاغور، ديانة الشاعر.

-        وليد إخلاصي، المجلد 10 من الأعمال الكاملة.

-        علياء الداية، الرموز الأسطورية في مسرح وليد إخلاصي.

-        كارل غوستاف يونغ، الإنسان ورموزه.

-        غاستون باشلار، جماليات المكان.

-        الإنجيل.

-        أديب مصلح، فرنسيس الأسيزي.

-        نورثراي فراي، نظرية الأساطير في النقد الأدبي.

-        أكرم أنطاكي، قصة أسطورة2: النسر ذو الرأسين. (موقع معابر للإنترنيت)

-        مواقع إلكترونية أخرى

-        "Symboles de la Science sacrée" René Guénon

 

 


 

horizontal rule

[1] فريد الدين العطار النيسابوري، منطق الطير، ص 292 – 293.

[2] جوزيف كامبل، قوة الأسطورة.

[3] جوزيف كامبل، قوة الأسطورة.

[4] ميرسيا إلياد، الأساطير والأحلام والأسرار، ص 174.

[5] طاغور، ديانة الشاعر، ص 42 - 44.

[6] وليد إخلاصي، المجلد 10، دار عطية، ط1. ص 142، 143.

[7] علياء الداية، الرموز الأسطورية في مسرح وليد إخلاصي، ص 24، 25، 26.

[8] علياء الداية، الرموز الأسطورية في مسرح وليد إخلاصي، ص 31 - 32.

[9]  فريد الدين العطار النيسابوري، منطق الطير، ص 205.

[10] غاستون باشلار، جماليات المكان، ط 2، ص 103.

[11] غاستون باشلار، جماليات المكان، ط 2، ص 103.

[12] رابندرانات طاغور، ديانة الشاعر، ص 59.

[13] أديب مصلح، فرنسيس الأسيزي، ص 343 – 344.

[14] نورثراي فراي، نظرية الأساطير في النقد الأدبي، ص 29 – 30.

[15] المرجع السابق نفسه. ص 31.

[16] أكرم أنطاكي، قصة أسطورة2: النسر ذو الرأسين، معابر. انظر الرابط: http://www.maaber.org/issue_april13/mythology1.htm

[17] المرجع السابق.

[18] جوزيف كامبل، قوة الأسطورة، ص52.

[19] المصدر السابق نفسه.

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني