|
شبكة الفكر: أحاديث أمستردام: الحديث الثاني
نحن نشبه صديقين يجلسان في الحديقة في يوم رائع ويتحدثان عن الحياة وعن مشكلاتهما، ويتساءلان عن طبيعة الوجود، ويسألان نفسيهما بجدية عن سبب تحوُّل الحياة إلى معضلة هائلة إلى هذا الحد. ولماذا، رغم أننا معقَّدو الذكاء، نعيش حياةً يومية مسحوقة، بلا أي معنى، غير البقاء – الذي يبدو أيضًا أمرًا مشكوكًا فيه؟ لِمَ تحوَّلَت الحياةُ، الحياة اليومية، إلى هكذا عذاب؟ قد نذهب إلى الكنائس ونتبع أحدَ القادة الروحيين أو السياسيين، إلا أن الحياة اليومية تبقى دائمًا مضطربة، فعلى الرغم من مرور بعض الفترات المفرحة والمرحة من وقت إلى آخر، إلا أن هناك دومًا غمامة مظلمة تظلل حياتنا. وهذان الصديقان، مثلنا، أنت والمتحدث، يتحدثان بودٍّ، وربما بعاطفة واهتمام، عما إذا كان من الممكن أن نعيش حياتنا اليومية من دون أية مشكلة. ومع أننا متعلمين تعليمًا عاليًا وأصحاب مهن وتخصصات رفيعة، إلا أننا لم نجد بعد حلولاً لصراعاتنا، للألم وللعذاب، رغم أننا نشعر أحيانًا ببعض البهجة ونشعر أننا لسنا أنانيين بالكامل. لذا دعونا نتعمق في هذا السؤال، لماذا نعيش نحن الكائنات البشرية هكذا؟ لماذا نذهب إلى مكاتبنا من التاسعة صباحًا إلى الخامسة أو السادسة مساءً لخمسين عامًا ويبقى ذهننا مشغولاً بشكل دائم، حيث لا نحظى أبدًا بالسكينة، ولا بالسلام، بل هناك دائمًا انشغال دائم بشيء أو بآخر؟ هذه هي حياتنا، حياتنا اليومية الرتيبة، الانعزالية، وغير المرضية، والتي نحاول الهرب منها عبر الدين أو عبر أشكال مختلفة من التسلية، ونجد أنفسنا في نهاية النهار في المكان ذاته الذي كنا فيه لآلاف السنين، حيث يبدو أننا لم نتغير نفسيًا وداخليًا إلا بشكل ضئيل. تتفاقم مشكلاتنا، وهناك دائمًا الخوف من التقدم في السن، ومن المرض، ومن حدثٍ ما يضعنا خارجًا. هكذا هي حياتنا، من الطفولة حتى الممات، سواء أخذنا الموت برضانا أو رغمًا عنا، حيث لا يبدو أننا كنا قادرين على حلِّ هذه المشكلة، التي هي مشكلة الموت، خاصةً أنه عندما يزداد الإنسان عمرًا يتذكر كل ما مضى من أحداث، من أوقات البهجة والألم والأسى والدموع. مع ذلك يبقى أمامنا ذاك المجهول المسمى بالموت، والذي يخيف معظمنا. وكصديقين يجلسان في الحديقة على مقعد، ليس في هذه القاعة تحت كل هذه الأضواء البشعة، بل هناك تحت نور الشمس التي تطل علينا من بين أوراق الأشجار، حيث البط في القناة، والأرض الجميلة. دعنا نتحدث معًا، دعنا نتكلم معًا كصديقين عايش كل منهما حياة الآخر طويلاً، مع كل مشاكلها، كمشكلات الجنس والوحدة والإحباط وخيبات الأمل والقلق والشك والإحساس باللاجدوى – والموت في آخر المطاف. ونتناول هذا الموضوع بعقلانية لدى تحدثنا عنه – أي نعقلنه، ونقول إنه حتمي، فلا نخاف أو نهرب منه عبر أحد أشكال الإيمان بالآخرة، أو بالتقمص، أو أن نقول، إن كنا رفيعي مستوى الإدراك والذكاء، بأن الموت هو نهاية كل تلك الأشياء ونهاية وجودنا وخبراتنا وذكرياتنا أيًا تكن، رقيقة أو مفرحة أو غزيرة، كما أنه نهاية العذاب والألم. ماذا يعني كلُّ ذلك، ماذا تعني هذه الحياة في الواقع، إن درسناها بعمق، سوى أنها بلا معنى؟ نستطيع ذهنيًا وكلاميًا بناء معنى للحياة، إلا أن الطريقة التي نحيا بها لا تتمتع سوى بقدر ضئيل من المعنى. لا نعرف سوى أن نعيش ومن ثم أن نموت، وكل ما عدا ذلك مجرد تكهنات، وفرضيات، لهاث دون معنى وراء إيمان نجد فيه بعض الأمان والأمل. لدينا مبادىء تعكسها الأفكار ونقوم نحن بالكفاح لتحقيقها. تلك حياتنا، حتى حين نكون شبانًا يافعين مليئين بالحيويةُ وبالمرح، ونشعر أن بوسعنا فعل أي شيء تقريبًا، لكن مع الشباب والكهولة والشيخوخة التي تتبعها، تُطرح دائمًا مشكلة الموت. اسمحوا لي أن أشير إلى أنكم لا تستمعون إلى كلمات فقط، أو إلى مجموعة أفكار، بل نقوم معًا بالتساؤل والتحقيق في إشكالية الحياة والموت بأكملها، وسواء كنت تفكر بها بقلبك، بكل ملكات دماغك، جزئيًا وسطحيًا، فأنت تفكر بها في النهاية. قبل كل شيء، علينا أن نلاحظ أن أدمغتنا لا تعمل مطلقًا بكامل طاقتها، فنحن نستعمل فقط جزءًا ضئيلاً من دماغنا. وهذا الجزء هو فعالية الفكر. وبما أن الفكر بحد ذاته مجرد جزء فإنه ناقص. يعمل دماغنا ضمن حيز ضيق جدًا معتمدًا على الحواس، المحدودة أيضًا والجزئية؛ إذ إن الحواس حبيسة، وغير صاحية أبدًا. لا أعلم إذا ما اختبرتم مشاهدة شيء بكامل حواسكم، كمشاهدة البحر، أو الطيور في ألق القمر خلال ليلة على مرج أخضر، لا أدري إذا ما اختبرتم مشاهدة مثل هذا بكلية حواسكم وبيقظة تامة أو بشكل جزئي. فالحالتان مختلفتان كليًا. لأنك عندما تراقب أي شيء بشكل جزئي فأنت تكرس موقفك الأكثر أنانية وتمركزًا وانفصالاً عن الحياة، أمَّا عندما تراقب تلألؤ نور القمر الفضي على صفحة الماء بكامل حواسك، أي بكل طاقة ذهنك وقلبك وأعصابك، مانحًا المشهد كل انتباهك، فسترى بنفسك أنه ليس هناك مركز تراقب منه. إن أنيتنا، وكامل شخصيتنا كأفراد، مبنية بالكامل من الذكريات؛ فنحن مجرَّد ذاكرة. رجاءً، هذا هو الموضوع الذي نبحثه، فلا تقبلوه، إنما تمعنوا به، واستمعوا. وما يقوله المتحدث هو أن الـ(أنت) الأنية أو الـ(أنا) هي تمامًا الذاكرة، لأنه ليس فيك أي مجال أو أية فسحة صافية – بوسعك أن تؤمن وتأمل بوجود شيء غير ملوث فيك، الذي هو الإله، أو تلك الشرارة المنبثقة من ذلك الأبدي، بوسعك أن تؤمن بكل هذا، لكن ما تؤمن به مجرَّد وهم، وكل المعتقدات هي كذلك، فالحقيقة هي أن وجودنا بكامله عبارة عن ذاكرة واسترجاع للماضي. كل ذرة أو مساحة في أعماقنا هي ذاكرة. بوسعك التحقق من هذا، لأنك إن تقصيتَ داخلك جيدًا لوجدتَ أن الأنا أو الأنية هي، بكاملها، ذاكرة وذكريات. وهذه هي حياتنا. فنحن نفعل، ونحيا من الذاكرة. والموت بالنسبة لنا هو نهاية الذاكرة. هل أتحدث مع نفسي أم أننا نخوض في هذا معًا؟ المتحدث معتاد أن يتكلم في الخلاء، تحت الأشجار أو في خيمة كبيرة بدون كل هذه الأضواء المعمية، عندئذٍ بوسعنا أنْ نتصل ببعضنا بعلاقة حميمة. وفي الحقيقة لا يوجد هنا سوى أنت وأنا لنتحدث معًا، لا كل ذلك الحشد في هذه القاعة الكبيرة، بل أنت وأنا جالسين على ضفة نهر، على مقعد، لنناقش هذا الأمر. ويقول أحدنا للآخر: نحن لسنا سوى ذاكرة، وإننا متعلقين بهذه الذاكرة – بيتي، ملكيتي، خبرتي، علاقاتي، المكتب أو المصنع الذي أذهب إليه، المهارة التي أتقنتها خلال تلك المدة من الزمن – أنا كل هذا. والفكر متعلق بكل هذا. وهذا ما ندعوه حياةً. ويخلق هذا التعلق كل أنواع الإشكاليات، لأننا حين نتعلق بشيء ينمو لدينا الخوف من فقدانه. ونحن نتعلق لأننا نشعر بأننا صرعى وحدة ثابتة مستديمة تخنقنا وتعزلنا وتحبطنا. وكلما تعلَّقْنا ببعضنا أكثر – حتى هذا التعلق ذاكرة – كانت المشكلة أكبر. فأنا متعلق بالاسم، وبالشكل؛ ووجودي هو تعلق بهذه الذكريات التي جمعتُها خلال حياتي. وألاحظ أنه أنى وُجِدَ تعلُّقٌ وجد فساد، لأني عندما أتعلق بمعتقد ما، آملاً من تعلقي به أن أحصل على الأمان على الصعيدين النفسي والجسماني، فإن هذا التعلق يمنعني من المزيد من التعمق، فيرعبني البحث في أي منحى آخر عندما يكون تعلقي شديدًا بشخص أو بفكرة أو بتجربة، ما يعني أن الفساد يوجد حيث يوجد التعلق. إن حياة المرء بأكملها هي سيرورة داخل حيز المعروف. هذا أمر واضح. والموت هو نهاية المعروف، يعني نهاية عهد المتعضية الحية، ختام كل الذكريات التي تكونني، لأنني لست سوى الذكريات – فالذكريات هي المعروف بالنسبة لي. وأخاف من إفلات كل هذا، أي من الموت. وأظن أن هذا واضح جدًا، لفظيًا على الأقل. أما منطقيًا وعقلانيًا فبوسعك بكل تأكيد قبول كلامي، لأنه حقيقة. يؤمن العالم الآسيوي بالعود للتجسد، أي أن الروح-الأنية، كتلة الذكريات، ستولد من جديد في حياة أفضل إذا ما سلكَت سلوكًا خيِّرًا وسليمًا الآن، إذا ما تصرَّفت باستقامة وعاشت حياة بلا عنف أو جشع وهلم جرا، لتستفيقَ في التجسد التالي في حياة أفضل ومكانة أفضل. لكن الاعتقاد بالعود للتجسد ليس سوى اعتقاد، لأن من يؤمنون بهذا بشدة لا يعيشون حياة مستقيمة اليوم. إن الاعتقاد بأن الحياة التالية ستكون رائعة ليس سوى فكرة. ويقولون إن نوعية الحياة التالية ناجمة حكمًا عن نوعية الحياة الحاضرة. لكن الحياة الحاضرة شديدة التعرج، شديدة التطلُّب، وشديدة التعقيد إلى درجة أنهم ينسون ما يؤمنون به ويكافحون، يخادعون، يتحولون إلى منافقين كاذبين ويقبلون كل أشكال الفظاظة والسوقية. لذا كان الاعتقاد بحياة تالية أحد أشكال الاستجابة للموت. لكن ما الذي سيتجسد من جديد؟ وما الذي سيبقى ليستمر؟ ما هو الشيء الذي له استمرارية في حياتنا الراهنة؟ إنه تذكُّر خبرات الأمس، ومتعه، ومخاوفه، وقلقه، وهذا يستمر عبر الحياة ما لم نوقفه وما لم نبتعد عن ذلك التيار. والسؤال الآن هو: هل من الممكن للإنسان أثناء حياته بكل الطاقة والقدرة والاهتياج أن يُنهيَ التعلق على سبيل المثال؟ لأن هذا ما سيحدث حين تموت، ذلك أنك قد تكون متعلقًا بزوجتك أو زوجك، أو بما تملكك، أو قد تكون متعلقًا بشكل من أشكال الإيمان بالله، والتي لا تعدو كونها تصورات أو هذيانات للفكر، إلا أنك متعلق بها لأنها تمنحك شعورًا خادعًا بالأمان، والموت يعني نهاية ذاك التعلق. والآن، أثناء حياتك، هل تستطيع إنهاء ذلك الشكل من التعلق طوعًا وبدون جهد؟ مما يعني موتك بالنسبة لشيء كنت تعرفه وتتَّبعه؟ هل تستطيع فعل هذا؟ لأن هذا يعني الموت أثناء الحياة، وليس الانتظار مدة خمسين عامًا حتى يأتي مرض ما لينهي حياتك، إنه العيش بكل حيويتك وطاقتك وقدرتك الذهنية وبمشاعر عليا عظيمة، وفي نفس الوقت، الموت فيما يتعلق بكل التعلقات والخبرات المحدودة والأذيات. أي أن تعيش مع الموت أثناء حياتك. عندها، لا يبقى الموت أمرًا مستبعدًا لآخر عمر الإنسان، لا يبقى نتيجة تعرضك لحدث أو لمرض أو بسبب الشيخوخة، بل يكون نهايةً لكل أحداث الذاكرة – إنه موت، لكنه موت غير مفصول عن الحياة. كما علينا أن نتساءل – على اعتبار أننا صديقان يجلسان معًا على ضفة نهر تجري فيه أنقى مياه يمكن تصورها، لا مياه موحلة ملوثة، ونحن نرى الأمواج تتعاقب وراء بعضها في مسرى النهر – لماذا لعبَ الدينُ هذا الدورَ الهائل في حياة الناس منذ أقدم العصور وحتى اليوم؟ وما هو العقل المتدين، وما هي طبيعته؟ ما الذي تعنيه كلمة "دين" حقًا؟ فتاريخيًا، تلاشت الحضارات وأخذت مكانها معتقدات جديدة أدت إلى نشوء حضارات وثقافات جديدة أخرى – وإن لا أعني هنا العالم التقني للحواسيب، والغواصات، وآلات الحرب، ولا رجال الأعمال والاقتصاد، بل المتدينين حول العالم وما أحدثوه من تغير عميق. لهذا، علينا التساؤل معًا عمَّا نعنيه بكلمة "دين"؟ ما هو معناها؟ أتره محض خرافات غير منطقية وبلا معنى؟ أم أنه ينطوي على شيء أعظم بكثير، على شيء لامتناه الجمال؟ ولفهم هذا، أليس من الضروري – ونحن هنا نتكلم كصديقين – الانعتاق والتحرر من كل ما اخترعه الفكر عن الدين؟ لقد أعتقد الإنسان دومًا بوجود شيء ما وراء الوجود المادي. وقد أطال البحث والسؤال وعانى وعذب نفسه ليكتشف إمكانية وجود شيء يتجاوز الزمن، شيء ليس صنيعة الفكر، ولا هو اعتقاد أو إيمان. وكي يكتشف الإنسان هذا عليه أن يكون حرًا تمامًا، لأنك إن تعلَّقت بشكل معين من الإيمان فسيمنعك إيمانك من استكشاف الأزلي – هذا فيما لو كان هناك شيء أزلي يتجاوز الزمان ويتجاوز كل المقاييس. لذا على الفرد أن يكون حرًا – إذا ما كان جادًا في التحري عن ماهية الدين –، عليه أن يكون حرًا من كل ما ابتدعه الفكر حول ما يعتبر تدينًا، كالأوبانيشاد على سبيل المثال، والتي هي كل ما ابتدعه الهندوس من خرافات ومعتقدات وتصورات وأدب قديم. على الإنسان أن يكون حرًا من سلطة كل هذا. إذا كان الفرد متعلقًا بها فمن المستحيل طبعًا أن يكتشف كل ما هو أصيل وحقيقي. هل تفهمون المشكلة؟ لأنه إذا كان ذهني مشروطًا بالخرافات الهندوسية وبالمعتقدات والمفاهيم والمنظومات الفكرية وبكل الموروث القديم فإنه سيبقى ذهنًا متعلقًا بكل ما سبق ومن المستحيل تحريكه قيد أنملة، أي أنه ليس حرًا. وبشكل مشابه، على الفرد أن يكون حرًا من كل اختراعات الفكر، من الشعائر والمنظومات الفكرية والاعتقادات والرموز ومخلصي المسيحية وما شابههم. وقد يكون هذا الاقتراب أصعب لأنه يقربنا من مسكننا. ولكن كل الديانات – المسيحية والإسلام والهندوسية والبوذية – هي صيرورات فكرية مستمرة عبر الزمان والأدب والرموز والأشياء التي صنعتها يد الإنسان أو فكره، وكلها تعتبر دينية في العالم الحديث المتحضر. أما بالنسبة للمتحدث الذي ليس متدينًا، بالنسبة للمتحدث فإنها شكل من أشكال الوهم المريح، المرضي، الرومانسي، والشاعري، وهي ليست واقعيةً على الإطلاق. على الدين أن يؤثر على الطريقة التي نحيا بها، على معنى حياتنا، لأنه عند ذلك فقط سيوجد فيها النظام. والنظام أمر منفصل كليًا عن الفوضى. إذ نعيش في فوضى – أي في صراع وتناقضات، فنقول أمرًا ومن ثم نفعل عكسه، نفكر بطريقة ونتصرف بطريقة تناقض أفكارنا؛ هذا هو التناقض. وأنى وجد التناقض الذي يعني الانقسام لا بد أن توجد الفوضى. أما الذهن المتدين فيحيا تمامًا بلا فوضى. وهذا هو أساس الحياة المتدينة – وليس كل الكلام الفارغ الذي نسمعه من الغوروات وبلاهاتهم. ومن المثير للعجب عدد أولئك الغوروات الذين جاءوا لمشاهدة المتحدث، فبعضهم أتى لأنه يعتقد بأني أهاجمه، وهم يريدون إقناعي بأن لا أهاجم من جديد، فيقولون لي: إن ما تعيشه وتقوله هو الحقيقة المطلقة، ولكن ليس بالنسبة لنا لأن علينا مساعدة أولئك الناس الذين لا يتمتعون بمستوى تقدُّمك الروحي. أترون اللعبة التي يلعبونها، أتفهمون ما الذي يقومون به؟ لذا يتساءل الواحد منا عن سبب ذهاب بعض الغربيين إلى الهند ليتبعوا هؤلاء الغوروات ولتتم مسارَرتُهم initiated – مهما كان ما تعنيه تلك المسارَرة – فيرتدون ألبسة مختلفة ويعتقدون أنهم باتوا شديدي التدين. ولكنْ جرِّدوهم من أثوابهم، أوقِفْهم وأمعن النظر فيهم وسترون أنهم تمامًا مثلي ومثلك. لذا تبدو فكرة الذهاب إلى مكان ما للاستنارة، لاستبدال اسمك باسم سنسكريتي مختلف، فكرة عبثية غريبة ورومانسية، خيالية، ومع ذلك فإن الآلاف يفعلون هذا. ربما كان هذا شكلاً من التسلية واللهو الفارغ من المعنى. المتحدث لا يهاجم أحدًا، أرجوكم دعونا نفهم أننا لا نهاجم أي شيء بل نمعن النظر فقط – ندرس عبثية الذهن البشري ولأي درجة يسهل خداعنا، وكم نحن ساذجون. الذهن المتدين ذهن واقعي factual جدًا؛ إنه يتعامل مع الوقائع التي تحدث في العالم الخارجي كما في الداخلي، لأن العالم الخارجي يعبِّر عن ذاك الداخلي، ولا انقسام فيما بين الداخلي والخارجي. الحياة المتدينة هي التي يسودها النظام والاجتهاد والتعامل مع ما يجري في داخل الإنسان من دون أي وهم، ليعيش المرء حياةً منظمة مستقيمة. وحين يتحقق هذا، وبشكل لا يمكن زعزعته، يصبح بإمكاننا البحث في ماهية التأمل. ربما لم توجد تلك الكلمة في الغرب بمعناها الحالي إلا منذ حوالي ثلاثين سنة تقريبًا، حيث أحضرها الغوروات الشرقيون إلى هنا. هناك التأمل التيبيتي، وتأمل الزن، والتأمل الهندوسي والتأمل الخاص بغورو ما – أي تأمل اليوغا حيث تجلس مقاطعًا ساقيك لتتنفس. تعرفون كل هذا. وكل ما سبق يدعى بالتأمل. نحن لا نقصد تسخيف ما يقوم به الناس الذين يفعلون هذا، إنما الإشارة فقط إلى مقدار العبثية التي آل إليها التأمل. ومن ناحية أخرى، يؤمن العالم المسيحي بالتفكر contemplation مسلِّمين زمامَ أمورهم لمشيئة الله، لرحمته وما إلى هنالك. وفي الحقيقة يوجد الشيء ذاته في العالم الشرقي، إلا أنهم يستعملون كلمات مختلفة، بالسنسكريتية، لتحملَ المعنى ذاته – حيث يبحث الإنسان عن نوع من الأمان والسعادة والسلام الذي لا يجده على الأرض، آملاً أن يجده في مكان آخر – ذلك البحث اليائس عن شيء خالد، البحث الإنساني عن زمنٍ بلا حدود. علينا البحث بعمق معًا في ماهية التأمل وما إذا كان هناك أي شيء مقدس – ليس فيما ابتدعه الفكر كمقدس، وهو ليس كذلك، لأن ما يخرج به الفكر ليس مقدسًا ولا إلهيًا لأنه مبني على المعرفة، ثم كيف يمكن لأي شيء يخترعه الفكرُ المحدود الناقص أن يكون مقدسًا أو إلهيًا؟ غير أننا لا نعبد في كل أصقاع الدنيا إلا ما ابتدعه الفكر. لا يوجد أي نظام، ولا أية ممارسة روحية إلا التي تنتج عن فهم عميق لذهن حر قادر على التمعن، ذهن بلا توجه ولا خيار. تعاني معظم أنظمة التأمل من مشكلة السيطرة على الفكر، حيث تحاول أنواعُ التأملِ كافةً – من تأمل الزن إلى التأمل الهندوسي إلى البوذي والتفكر المسيحي وحتى ذلك الناجم عن آخر غورو وصل إلى الغرب – التحكُّمَ بالفكر؛ فمن خلال التحكم أنت تركِّز، وتجمع كامل طاقتك في نقطة معينة، وهذا هو ما يسمى بالتركيز الذي يعني وجودَ متحكِّم منفصل عن المتحكَّم به. والمتحكِّم هنا هو الفكر، الذاكرة، والمتحكَّم به هو أيضًا الفكر – الذي يتأرجح في المقابل، ما يعني وجود صراع. إذ تجلس بسكون بينما يهيم فكرك، كصبي المدرسة الذي ينظر من النافذة فيقول له المعلم: لا تنظر من النافذة، ركز في كتابك. علينا أن نفهم واقع أن المتحكِّم هو نفسه المتحكَّم به. حيث نعتقد أن المتحكِّم، المفكِّر، المجرِّب، يختلف عن المتحكَّم به، عن سيرورة الفكر، وعن التجربة. ولكن لو أمعنا النظر فإننا سنجد أن المفكِّر هو نفسه الفكر. لقد خلق الفكرُ مفكِّرًا منفصلاً عن الفكر، وهذا المفكر يقول: لا بدَّ لي من السيطرة. لذلك، عندما ترى أن المتحكِّم هو نفسه المتحكَّم به تنهي الصراع تمامًا. فالصراع لا يوجد إلا حيث يوجد الانقسام. فعندما يوجد انقسام بين المراقب، الشاهد، المجرب، وبين ما يراقبه ويختبره فلا بد أن يوجد الصراع. وحياتنا بأكملها صراع لأننا نحيا في خضم هذا الانقسام. إلا أن هذا الانقسام مضلل ووهمي، فقد أصبح التحكُّم من عاداتنا، ومن ثقافتنا، لأننا لا نرى أبدًا أن المتحكِّم هو نفسه المتحكَّم به. لذا، عندما يفهم المرء ذلك الواقع – بشكل فعلي وليس بشكل حرفي أو مثالي أو طوباوي حيث ينبغي عليه أن يكافح، من أجل أن يكون المتحكِّم هو المتحكَّم به والمفكِّر هو الفكر – عندئذٍ يطرأ تحوُّل جذري على نمط المرء في التفكير ولا يبقى هناك صراع. وهذا التغيير ضروري حتمًا حين يتأمل المرء، لأن التأمل يتطلب ذهنًا حنونًا للغاية، وبالتالي ذكيًا للغاية، ذكاءً نابعًا عن الحب، وليس عن فكر ماكر. فالتأمل يعني تأسيس نظام في حياة الإنسان اليومية واختفاء التناقض؛ إنه يعني الرفض الكلِّي لكل أنواع نظم التأمل، بحيث يكون الذهن حرًا تمامًا ومن دون أيِّ توجه؛ بحيث يكون ذهن المرء صامتًا تمامًا. لكن هل يمكن تحقيق هذا؟ لأن المرء يثرثر إلى ما لا نهاية، إنه يبدأ في الثرثرة بمجرد أن يترك هذا المكان، ما يبقي الذهن مشغولاً إلى الأبد، ثرثارًا، مفكرًا، ومكافحًا، فلا تبقى أمامه أية فسحة. وهذه الفسحة ضرورية للحُظْوة بالسكينة، لأن الذهن الذي يكافح كي يصمت لا يصمت أبدًا. ولكن عندما يكتشف المرء أن الصمت ضروري قطعًا – ليس القصد هنا الصمت الذي يتصوره الفكر، ولا الصمت بين علامتين موسيقيتين، أو ضجيجين، أو بين حربين، بل صمت النظام – فإنه يكتشف أن الحقيقة، التي لا يوجد لها طريق محدد، موجودة. تلك الحقيقة السرمدية التي لا زمان لها، المقدسة، غير القابلة للفساد. ذاك هو التأمل، وذاك هو الذهن المتدين. 20 أيلول، 1981 ترجمة: يارا البرازي *** *** *** |
|
|