الواقعية البعيدة والقرب المعمي من الواقع
ميشيل بيتبول
تتبدى اللعبة لمن هو مأخوذ باللعبة، لمن استغرقته اللعبة، مثل كون
مفارق، يفرض دونما شروط أهدافه ومعاييره الخاصة. [...] إن الوهم لا
يكون وهمًا أو
'تسلية'،
كما نعلم، إلا بالنسبة للذي يدرك اللعبة من الخارج، أي من وجهة نظر
'المشاهد
غير المتحيّز'.
بيير بورديو
P. Bourdieu
-
تأملات باسكالية
Meditations pascaliennes
لا يمكن للمرئي هكذا أن يملأني ويشغلني إلا لأنني أنا من أراه، ولست
أراه من أعماق العدم، بل من وسطه هو بالذات [...].
مارلو بونتي
M. Merleau-Ponty
- المرئي واللامرئي
Le visible et l'Invisible
انتقلنا
في الفصل السابق، إنما دون مرحلة انتقالية، من نقد نسخة قوية للواقعية
العلمية إلى اعتماد وجهة نظر تجاوزية حول العلوم الفيزيائية. ولكن ألا
توجد ربما مع ذلك طريقة للحفاظ على شكل معدَّل أو مُلطَّف للواقعية
العلمية بمواجهة التحدي الذي يطرحه الميكانيك الكمومي؟ اقترح إحدى هذه
الطرق، وهي طريقة دقيقة وهامة، برنار دسبانيا تحت تسمية "أطروحة الواقع
المحجوب". وهذه الأطروحة هي التي سوف نناقشها الآن في هذا الفصل وفي
الفصل الذي يليه، بمواجهتها مع مقاربات منافسة أخرى. وسوف نتساءل خلال
هذه المناقشة إذا كان التوتر الذي شعر به دسبانيا بين تصوُّر واقع
مستقل، وهو مصدر القيود التي نصادفها خلال صيرورة البحث، والاستحالة
المؤكدة في نظره في وصف هذا الواقع المستقلِّ بواسطة نظرية فيزيائية،
لا يمكن أن يعبَّر عنه بشكل أفضل في إطار فكر غير ثنائي بالكامل ومتأصل
بدلًا من الحفاظ على التشبيه الثنائي لـ "حجاب" يفصل الباحثين عن واقع
تجاوزي بشكل جذري. إن العديد من السمات المميزة للميكانيك الكمومي،
التي يذكرها دسبانيا دعمًا لأطروحته، تُفسَّر بسهولة أكبر من خلال قرب
من الواقع لا يمكن تخطِّيه، وذلك عبر استحالة أن نعمِّم في هذا القرب
الانفصالية التي تجعل الأمر موضوعيًا على كافة المستويات وفي كافة
مجالات البحث، إلا من خلال ابتعادها المفرط. سوف نحاول أن نبيِّن، دون
أن نتوسع هنا لأجل التوسع بموضوع "القرب المعمي من الواقع" هذا (لن
نقوم بخطوة أولى في هذا الاتجاه إلا في الفصل السابع)، أنه مندرج بشكل
غير ظاهر في التسويات التي رضي بها أشد المدافعين عن الواقعية العلمية
في الفيزياء المعاصرة.
2- 1 الأجسام والخصائص والمرصودات
كتب برنار دسبانيا: "إذا كانت الفيزياء الكمومية تتيح رؤية آفاق
حقيقية، فذلك في جانب منه بسبب التفاوتات الموجودة بينها وبين الحسِّ
السليم - وكان يُنظر إلى هذه التفاوتات في البداية كفروقات سلبية[1]".
فلا بد بالتالي من ترك هذه التفاوتات تُعزف بكامل تناغماتها بدلًا
بالأحرى من مواراتها متسرِّعين عبر فكر جاهز؛ ولا بد أن يكون لدينا صبر
القبول والرضى بـ "فقدان الاتجاه" الجذري هذا الذي وفق اورتيغا إي
غاسيه[2]
Ortega y Gasset
هو الفاتحة الضرورية لتوجُّه حقيقي.
ما أن تظهر التفاوتات فإنها لا تنفك تتضخَّم. وهي تبدأ بملاحظات حول
غرابة خصائص الأجسام، ثم تضعف بعد ذلك مفهوم الخاصية، لتدفع أخيرًا إلى
نوع من التعبئة والتجييش وصولًا إلى المفهوم الصوري للجسم.
إن الأجسام الخاصة بالفيزياء الكمومية هي أجسام من مستوى صغائري. مع
ذلك فإن هذا القول مبتذل ولا يضيء المعنى كثيرًا. إذ لا يكفي القيام
بعملية تشابه هندسي للانتقال من السمات المكانية والحركية للأجسام التي
ندركها في محيطنا اليومي إلى سمات الأجسام من المستوى الذري. فمنذ فترة
مبكرة، تعود إلى بداية القرن العشرين، كشفت اللاإستمراريات
("الكمومية") للصيرورات التي تنتمي إليها، وسلوكها ذو المظهر الجسيمي
حينًا والموجي حينًا، عن الجدَّة المتعذَّر تبسيطها لخصائص الأجسام في
الفيزياء الصغائرية.
ولكن هل من المشروع حتى الحديث عن خصائصها، أي عن تحديدات تنتمي لها
بذاتها؟ وهل لدينا الحق بأن نُحلَّ محل البيانات ذات "الواقعية
الضعيفة" للمعاينات التجريبية، البيانات ذات "الواقعية القوية"[3]
التي تنسب خصائص لموضوع التجربة؟ في الفيزياء الكلاسيكية، تجعل
الإنتاجية الكافية من النتائج مهما كان مستوى التجارب من هذا التبادل
أمرًا غير ضار. إن الإسقاط الأنطولوجي الذي يشتمل على تحويل
الظاهرات إلى براهين على الأشياء، وكذلك بديله الإبستمولوجي الذي يرتكز
على اعتبار الظاهرات كانعكاس وفيّ ومباشر للخصائص التي يمكن أن تملكها
الأشياء بذاتها، ما كانا يجازفان في أية لحظة بأن يكونا على خطأ. كان
كانط يشجب فعلاً وهم إدراك الأجسام كأشياء بذاتها في حين أنها لا يمكن
أن تكون كذلك إلا بما هي ظاهرات، إنما كان يقوم بذلك انطلاقًا من تأمل
خارجي، فلسفي وشامل، حول شروط إمكانية المعرفة؛ ولم يكن ثمة من داخل
تطبيق علم خاص مثل الفيزياء الكلاسيكية ما يمنع من نسيان أمثولة
الفلسفة النقدية والتعبير كما لو كان لدينا منفذ للوصول إلى
خصائص جوهرية ذاتية. إن نتيجة لامتغيِّرة من خلال تغيير في المتواليات
التجريبية وأنماط المعدات المستخدمة يمكن أن تكون منفصلة دونما عقبات
عن الشروط الأداتية للحصول عليها ومندمجة، مع "خصائص أخرى"، في أساس
قابل لإعادة التعيين يختلط مع الشيء نفسه.
لقد قدَّم كانط هو نفسه أحيانًا المنهج والتبرير لمثل هذا النسيان. ففي
الهندسة الإقليدية، كما يلاحظ على سبيل المثال، نجد أن كافة الفرضيات
تكون صحيحة إذا اعتبرنا المكان كشكل من الحساسية وبالقدر نفسه إذا
اعتبرناه كشيء ملازم للأجسام. إن الميزة الوحيدة التي تجعلنا نختار
التصوُّر الأول هي ميزة فلسفية، طالما أنها وحدها تسمح لنا بفهم كيف
يكون لمعرفة مثل الهندسة أن تكون ممكنة، معرفة تشتمل على يقين قاطع.
ولكن من وجهة نظر داخلية في ممارسة الهندسة، فإن التصور الثاني مقبول
أيضًا بالقدر نفسه: "[...] فبالنسبة لكل تجربة ممكنة، يظلُّ كل شيء كما
لو لم أقم بالابتعاد على هذا النحو عن الرأي المشترك"[4].
بل وأكثر من ذلك، يمكننا التساؤل، ودائمًا من منظور الباحث العلمي، إذا
لم يكن التصوُّر الواقعي مفضلًا عن زيادة في الراديكالية
النقدية التي تميل باتجاه التشكُّكية. إن هذا الإفراط، الذي يكتشفه
كانط عند هيوم
Hume،
قاد في الواقع هذا الأخير إلى أن يغيب عن باله "[...] الضرر الفعلي
الذي ينتج عن واقع انتزاع أهم منظورات العقل منه والتي يكون باستطاعته
من خلالها وحدها أن يثبت للإرادة الهدف الأسمى لكافة جهوده[5]".
وهكذا، على الرغم من أنه على الميتافيزيائي أن يثبت لنفسه كهدف أول عدم
الوقوع في "الوهم التجاوزي"، لكن عليه مع ذلك ألا يحرم الباحث العلمي
من عملية تصويب المثل الناظمة؛ وذلك على الرغم من واقع أن العملية
المعنية موجودة في أصل الوهم عندما لا يكون مدرَكًا على أنه وهم. لأن
ذلك وفق كانط سيكون حرمان الباحث من نابض إرادته، أي من محرض ودافع
مسعاه. إن الصعوبة المزدوجة تكمن في النهاية بالنسبة للفيلسوف في عدم
محاولة تعميم التصورات التي تنتج عن انفصاله النقدي، وفي عدم تجاهل
(كما كتب بورديو
P. Bourdieu
في الاستشهاد الذي قدمناه في بداية هذا الفصل) أن واقع الاستغراق نفسه
في لعبة البحث يتصل بتمثيله ككون تجاوزي، إنما مع عدم التنصل المبالغ
فيه بالانتساب بشكل بحت وبسيط لأولية التمثيل التي تنتج عن التزام
الباحث العلمي في ممارسته الخاصة. وهكذا فإنه يجب أن يتم الحفاظ على
تعليم المسيرة الانعكاسية، ليس من أجل أن يُفرض باسم أي سيطرة فلسفية
كانت، ولا من أجل التخلي عنه باسم مكانة العلوم، أي أن يتم الحفاظ عليه
لوقت سيصادف فيه الباحثون العلميون صعوبات كبرى في متابعة مهمتهم
التقليدية في إعداد التمثيلات.
تظهر لنا عند هذا المستوى مفارقة هامة. وضمن الخطوط العامة فإنها تنتج
حيث تعارض حواجز تمثيل كون من المواضيع التجاوزية الموضوعة بمواجهة
الباحثين، كون لا يتبدى إلا بشرط ألا يعود الـ مِثلما لو
الكانطي قادرًا حتى على الفعل؛ بشرط فشل شروط إنشاء مواضيع المعرفة
المستقرة بدرجة كافية بحيث نستطيع الحديث عنها مثل أشياء موجودة
من حيث الجوهر وتحمل تحديدات خاصة. وللغرابة، فإنه لن يمكن بالتالي،
إلا من خلال تساؤل حول الشروط الكانطية في تأسيس الموضوعية، أن تظهر
السمة التي لا يمكن تجنبها لتحليل مثل هذه الشروط، وأن تتكشف استحالة
التعبير بمصطلحات موضوعية مسبقة التشكُّل. فبسبب الوجه المعاكس للتطبيق
الخاص الذي قام به كانط للمنهج التجاوزي تحديدًا إنما سيكون من اللازم
النظر بشكل أوسع لأهمية المبدأ نفسه في المنهج التجاوزي، أي عودة
الانتباه، المنبهر عادة بالموضوع المراد معرفته، باتجاه الشروط المسبقة
للمعرفة.
غير إنه ليس من المستحيل أن يكون المظهر هو بالضبط المظهر الذي يواجهه
الفيزيائيون منذ بداية الميكانيك الكمومي. وفي الواقع، ضمن المجال الذي
تحكمه هذه النظرية، فإن معظم معايير المحاكاة الإبستمولوجية، والإسقاط
الأنطولوجي (وإن بدرجة أقل)، تصبح نافدة. إن السمة المميزة الأكثر
أهمية في جبر "مرصودات" الميكانيك الكمومي هي عدم - تبادليتها، الأمر
الذي يترجم ارتباط النتائج التجريبية بنظام استخدام التجهيزات. فعلى
سبيل المثال لا يمكن إعادة إنتاج أية قيمة لموضع جسم إذا ما أدرجنا، ما
بين حادثتي قياس الموضع، قياسًا لكمية الحركة. أو، على الأقل، (وهنا
يكمن مضمون علاقات "الريبة" لهايزنبرغ)، فإن قيمة للموضع لا تكون قابلة
لإعادة الإنتاج إلا ضمن هامش من التقلبات غير القابلة للضغط تقريبًا،
بحيث يتحدد عرض أو مدى هذا الهامش من خلال دقة القياس الوسيط لكمية
الحركة. يجب بالتالي التخلي عن منظور تلاق مقارب لنتائج القياس نحو
لاتغيرها الكامل حيال تغيرات في المتوالية التجريبية. إن كل نتيجة هي
حدث مفرد، يتميز بلاعكوسية الصيرورات التي تجد منتهاها عنده والتي
ترتبط بشكل لا ينفصم بتاريخ تجريبي. فاعتبارها كترجمة مباشرة ومشاركة
لخاصية كان يملكها الجسم بذاته تمامًا قبل القياس سيكون أمرًا فيه
الكثير من الإقحام والمخاطرة ضمن هذه الظروف.
بالمقابل، ألا يظل من الممكن إسقاطها أنطولوجيًا لنجعل منها خاصية كان
الجسم قد اكتسبها بعد القياس؟ ويبدو أننا نستطيع الاستفادة من أجل ذلك
من إعادة إنتاج نتيجة عند القيام بقياسات مكررة للمتحول الوحيد الذي
تتعلق به. إن هذه النسخة المحددة - الخاصة لإعادة الإنتاجية تبرِّر،
أيًا كان الأمر، أن ننسب بسهولة "حالة" لكل منظومة فيزيائية تعرَّضت
لقياس مسبق (أو أنها كانت ببساطة "محضَّرة"): ووفق معنى اشتقاقي لكلمة
"حالة"، فإن منظومة ما تكون في حالة معينة إذا كنا نستطيع توقع
استقرارية نتائج القياس لإحدى هذه النتائج القابلة للرصد، والمكرَّرة
عبر فواصل كافية القصر على هذه المنظومة. لكن تطبيق الإسقاط الأنطولوجي
يفترض أن نجتاز خطوة إضافية بالنسبة لمجرد نسب حالة إلى منظومة. يفترض
ذلك أننا نحوِّل يقين إنتاج إلى تحديدية فئوية، يقين إنتاج ليس مع ذلك
سوى يقينًا شرطيًا: فالنتيجة ستنتج إذا كانت التجربة قد كُرِّرت
بالفعل. يتطلب ذلك القفز فوق المؤدى التنبؤي للحالة من أجل إعطائها
قيمة تلازمية؛ ويعود ذلك بالإجمال إلى أقنمة التنبؤية في وجود. وبشكل
خاص، فإن نسب خاصية لمنظومة فيزيائية باسم تنبؤية للإنتاج لا تكون
صحيحة إلا إذا كان جهاز تجريبي واحد مستخدمًا بشكل معاد ومكرَّر، يعني
إرادة تأسيس تحديدية أنطولوجية على حالة خاصة. إن التنبؤ، والإسناد
معه، يصبحان فورًا باطلين إذا قررنا أن ندرج ضمن سلسلة القياسات
مرصودات أخرى لا تتبدل مع الأولى. وهكذا فإن التنبؤ يعوزه عدم التأثر
بالظروف التي تسمح بأن ينفصل عنها.
إن حالة ما تعبِّر في الحقيقة عن نمط استقرارية أكثر عمومية من إعادة
الإنتاج الدقيق لقياس مكرَّر على المنظومة نفسها. إنها تترجم استقرارية
توزُّع إحصائي لقيم جسم مرصود مقاس إثر تحضير تجريبي معطى، ويميِّز
بالتالي وضعًا (التحضير) أكثر مما يميِّز جسمًا ("المنظومة
الفيزيائية"). وهكذا فقد اشتملت مذاك استراتيجية عدد كبير من المفسرين
المعاصرين للميكانيك الكمومي على التمييز بشكل أكثر وضوحًا من أي وقت
سابق لخصائص الحالات[6].
ووفق رولان أومنس
Roland Omnès،
"فإن خاصية ما تؤكِّد قيمة جسم مرصود ضمن عيِّنة من قيم الأعداد
الحقيقية في لحظة معينة[7]"،
ومن ناحية أخرى فإن حالة "[...] تتحدَّد بشكل جيد عندما نستطيع أن ننسب
احتمالية محددة تمامًا لكل خاصية قابلة للإدراك[8]".
ووفقًا لروح (إنما ليس لمصطلحات) عقائد بور، فإنه لم يعد للحالات
الكمومية أي مقصد أو ادعاء آخر سوى أن تكون أدوات للتقييم الإحصائي، في
حين أن مفهوم الخاصية يصير، من خلال مفهوم المرصود، غير منفصل
عن الإسناد إلى المرجعية الأداتية. فالأدوات، التي ما كان يجب أن
تُستخدم وفقًا لأشكال التعبير التقليدية إلا من أجل "إثبات" خاصية ما،
باتت تتدخل من الآن فصاعدًا في تعريفها. إن لفظة "خاصية" تُحفظ
على هذا النحو، لكن معناها قد تم تعديله بشكل عميق من خلال الإطار
الجديد "النموذجي" لاستخدامها والذي بات من الصعب معرفته.
فإذا أخذنا على محمل الجدِّ الوضعية التنبؤية للحالة ضمن المقترحات
الناقلة للفيزيائيين ("[...] المنظومة الفيزيائية هي في الحالة
│
Ψ
>.[...]"[9])،
وتجاهلنا الاعتراضات السابقة، لنتخيل الآن أننا ماثلنا الحالات
الكمومية بأنواع من الخصائص. هل سيكون مع ذلك من المشروع أن ننسب هذه
الخصائص ذات النوع الجديد إلى كل منظومة فيزيائية، وفي كل لحظة؟
إن الإجابة على هذا السؤال هي النفي، وسبب ذلك ما يلائم أن نسميه
اللاإنفاصالية. ولكي ندلل على ذلك، لنبدأ بإقامة توافق مزدوج
التشارك بين الحالات والمنظومات الفيزيائية. إن نسب حالة كمومية لكل
منظومة فيزيائية أمر ممكن تمامًا إذا كانت تتوفر لنا مجموعة كافية من
النتائج التجريبية فيما يتعلق بالمنظومات، أضف إلى ذلك أن هذا أمر لا
غنى عنه عندما نريد أن نتنبأ بسلوكها اللاحق. مع ذلك، عندما ينتج تفاعل
ما بين هذه المنظومات، يحصل أن المنظومة الكبيرة وحدها هي التي تشمل
هذه المنظومات (وبالتالي فإنها لا تعود سوى منظومات تحتية) وهي وحدها
التي يمكن أن تنسب إليها حالة كمومية. وبشكل عام، وكما يقول محقًا
شرودنغر، فإن "مجموعة (المنظومات) تكون في حالة محددة، لكن ذلك ليس حال
كل من الأجزاء التي تشكل هذه المجموعة مأخوذة بشكل منفصل[10]".
ولما كانت مثل هذه الصيرورة في تعميم الحالة يمكن أن تمتدّ للتناسب مع
التفاعلات، أو أن تحبَط من حين لآخر بواسطة تمييزات تجريبية، فإن حدود
المنظومة التي يكون من المشروع أن ننسب لها حالة كمومية لا تنفك تتغير.
وبعد مفهوم الخاصية يكون الدور بالتالي على مفهوم حامل الخواص في
التعرض لنار النقد. فبما أن تحديد الحدود لما تكون الحالات الكمومية
قابلة للتنبؤ بها من أجله يتغير مع تغير الظروف، وبما أن حدود حامل
الحالة تنتقل مع الحالة نفسها (باستثناء فقط عندما يكون الحامل
مماثَلًا بالكون كله)، فهل سيكون لذلك أي معنى بالتالي في أن نجعله
يلعب دور الركيزة غير المتفاعلة للتحديدات المتغيرة[11]
الذي هو دور الموصوف في موضع الموضوع القواعدي في اللغة ودور الجوهر
منذ أرسطو؟
لا بد من الحذر بالنتيجة. حذر ينصح به دسبانيا مرات عديدة، محذّرًا من
الروابط بين الأفكار السهلة جدًا التي تجازف بتحريضها أشكال من الخطاب
حيث السبب الوحيد لمواصلتها هو واقع "[...] أننا نتخيل بشكل سيء كيف
يمكننا أن نتجاوزها[12]".
وحتى إذا حصل أن "[...] استُخدم تعبير المنظومة الفيزيائية [...] بشكل
موافق للاستخدام الشائع، وفي معناه المألوف والحدسي[13]"،
لا يجب أن ننسى أن معظم
الشروط
المألوفة لاستخدامه تكون غائبة في المجال التجريبي الذي تحكمه الفيزياء
الكمومية. إن ما يشيد به دسبانيا هو في النهاية الاستمرار في استخدام
اللغة الشائعة[14]،
إنما بحيث نستخدمها فلسفيًا وفق المعنى الويتغنشتايني: "ففلسفة
أمر ما [...] هي قبل كل شيء النضال ضدّ التأثير الساحر الذي تمارسه
علينا بعض أشكال التعبير[15]".
2- 2 المتغيرات الخفية، والتواريخ الثابتة، وفك الارتباط
هل يعني الميكانيك الكمومي "عدم وجود" كثرة في الأجسام المزوَّدة
بخصائص واقعية؟ لا ينفك برنار دسبانيا يحذّر ضد نوع المحاكمة اللاذعة
التي تختبئ خلف هذا السؤال. إن الميكانيك الكمومي لا يعني شيئًا بذاته؛
فهو يترك جدول الخيارات مفتوحًا بكامله، مع فرضه لحدود على كل من هذه
الخيارات. فمن الصحيح، كما سبق ورأينا، أن جسم الظاهرات التي يأخذها
الميكانيك الكمومي بعين الاعتبار ليس جسمًا نستطيع أن ننظمة بشكل مباشر
في تعددية من الحوامل الدائمة المتأثرة بتحديدات جوهرية ذاتية. إن
المهمة الأولى لمؤلف كتاب "الواقع المحجوب" تكمن بالتالي في أن
يدحض نقطة نقطة، بتشدد وإصرار، كافة المحاولات الحديثة لتجاهل أو
لتقليص إثبات الحالة هذا. ولكن، من جهة أخرى، سيكون من المدهش جدًا أن
يكون لنسق من الظاهرات، مثل النسق الذي تبديه الصورية التنبؤية
المناسبة تجريبيًا للميكانيك الكمومي، القدرة على حسم مسألة ذات
الدلالات الإضافية التي لا تقل ميتافيزيائية عن مسألة وجود أو عدم وجود
أجسام ذات خصائص واقعية. إن البنية الكمومية للظاهرات، مع التنافرات
التي تبديها اتجاه التنظيم الإسنادي للخطاب، لا تثبت عدم وجود أي شيء
كان، ليس أكثر مما تفعله البنية الكلاسيكية للظاهرات، مع الإمكانية
التي تقدمها في التعبير عن نفسها كما لو كانت أجسام علم ما
مدركة بما هي أشياء بذاتها، التي لا تثبت هي أيضًا وجود أي شيء. ليس
ثمة ما يمنع من تقديم فرضية أن نظام الظاهرات المدرج في صورية
الميكانيك الكمومي هو فقط الظهور السطحي، غير المباشر وغير القابل
للضبط والتحكم به، للتفاعل بين الجسيمات الدقيقة (المجهرية) المزودة
بخصائص تحتية (خفية) والتجهيزات الجهارية التي يفرض علينا مستوانا
الجهاري استخدامها. إن عدم إمكانية إعادة إنتاج النتائج خلال متواليات
تجريبية معينة لا يترجم ضمن هذه الظروف إلا "تخلخل" الخصائص الجوهرية
بواسطة أدوات فظة[16]،
أو بشكل أفضل يترجم التأثير الذي تمارسه الأدوات على تحديدية
الخصائص نفسها. ومن هنا فإنه لا يبقى سوى خطوة للوصول إلى التسليم
بمتحولات خفية تمثل هذه الخصائص التحتية وتكمل المرصودات في الميكانيك
الكمومي. وهي خطوة لا يستبعدها الميكانيك الكمومي على عكس ما اعتُقد
لفترة طويلة تحت تأثير المبرهنة التي تعود إلى فون نيومن[17]
von Neumann:
"فصورية الميكانيك الكمومي هي بشكل أساسي صورية حيادية فيما يتعلق
بمسألة المتحولات الخفية[18]."
إن النظريات التي تستخدم المتحولات الخفية تخضع ببساطة إلى سلسلة من
الشروط الحاسمة التي يحددها دسبانيا والتي يجب أن نقيِّم مغزاها.
ولكن لنبدأ بالنقد، الذي يلتزم به دسبانيا، لمحاولات إعطاء رموز
الميكانيك الكمومي المعياري (الذي لا تتمّمه المتحولات الخفية) القدرة
على الإسناد مباشرة إلى خصائص مسبقة الوجود والتي تكون قد زُوّدت بها
المنظومات الفيزيائية. وأحد أحدث الانتقادات وأكثرها إثارة للنقاش هو
نقد "التواريخ الدائمة لغريفيث[19]
Griffiths".
فوفقًا لبرنامجه في البحث الواقعي، كان غريفيث "[...] ينتظر من عملية
قياس أن تكشف لنا خاصية كانت موجودة بشكل مسبق[20]".
فكان يجب عليه بالتالي أن يتجنّب إسناد ميزة للقياس غير الميزة
الإبستمولوجية البحتة. فبين تجربتين، يفترض أن تكون المنظومات
الفيزيائية تملك الخصائص، حتى وإن لم نكن قد أُعطينا إمكانية معرفتها.
وعلى المستوى الدلالي، فإن هذا النمط من الفصل بين الكائن وفعل المعرفة
يترجم من خلال استقلال قيمة حقيقة القضايا المعيِّنة للقيم المحدّدة
للمرصودات، وذلك مقابل الإنشاء الفعلي لوسيلة تجريبية للإثبات. ولكن ما
هي الخصائص التي تملكها منظومة بين قياسين؟ وفق غريفيث، فإن اشتراطًا
واحدًا، يسمى اشتراط التماسك، يكفي لتحديدها. ويعلن شرط التماسك
بشكل مضاد للواقعية أن الخصائص المنسوبة للمنظومة ما بين القياسين يجب
أن تكون بحيث إذا كان ثمة وسيلة للإثبات كانت قد استُخدمت من أجل
البرهان عليها، فإن شيئًا لن يكون قد تغير فيما يتعلق باحتمال نتيجة
القياس النهائي. إن متوالية من الخصائص التي تخضع إلى هذا الاشتراط (أو
من القضايا التي تختص بهذه الخصائص) هي تاريخ متماسك ومترابط.
إن شروط خطاب واقعي حول الخصائص تبدو وقد تحققت من جديد على هذا النحو،
ولكن عندما ننظر إليها عن قرب، نلاحظ أن الأمر ليس كذلك أبدًا[21].
إذ لا يوجد عمومًا، بين قياسين، تاريخ متماسك واحد، بل عدة تواريخ
(وأحيانًا لانهاية من التواريخ). فعلى أي أساس نقول إن قضية تنتمي إلى
تاريخ متماسك معين هي قضية صحيحة، بالتفضيل عن قضية مختلفة
تنتمي إلى تاريخ متماسك آخر؟ علينا عندها القبول مع أومنس أنه وحدها
القضايا المعلِنة لنتيجة قياس تم إجراؤه هي إما صحيحة وإما خاطئة، في
حين أن القضايا التي تعلن امتلاك خاصية ضمن الفاصل الزمني بين قياسين
هي فقط قضايا إما موثوقة أو غير موثوقة. وتكون موثوقة
إذا كانت تخضع لشرط التماسك عند غريفيث وتكون غير موثوقة في حال عدم
خضوعها لهذا الشرط.
يبقى أن نستخلص الأمثولة الساخرة بعض الشيء لهذا النقاش. كان هدف العمل
الأصلي لغريفيث أن يعيد إعطاء المعنى لفكرة أن المنظومات لها
خصائص في المطلق واصفًا من أجل ذلك القضايا الحاملة لهذه الخصائص
بالصحيحة أو الخاطئة، وذلك بشكل مستقل عن استخدام وسيلة معينة
لإثباتها. لكن الأمر انتهى إلى الاعتراف بأن القضايا الوسيطة لا يمكن
اعتبارها إلا كقضايا موثوقة أو غير موثوقة، أي لا صحيحة ولا
خاطئة. وبالتالي كانت نتيجة هذه المحاولة في إعادة الهيكلة
الواقعية للميكانيك الكمومي المعياري، وبشكل مفارق، الوصول إلى خلاصات
ترتكز على شكل من اللاواقعية وفق المعنى الذي يطرحه دوميت[22]
Dummett:
فمبدأ الثنائية ليس مبدأ صحيحًا عالميًا؛ إن بيانًا ما لا يملك قيمة
للحقيقة إلا إذا كانت الوسيلة التجريبية التي تسمح بنسب هذه القيمة له
قد وضعت موضع العمل؛ فالـ "صحيح" هو مرادف لـ "واضح تجريبيًا".
كان طموح نظريات "اللاترابط" (التي ارتبطت أحيانًا كما عند جيل - مان
Gell-Mann
وهارتل[23]
Hartle
بموضوع التواريخ المتماسكة) أكثر محدودية في البداية. ولا يتعلق الأمر
هنا بتعيين قيمة حقيقة لكافة القضايا التي تعلن من خلال منظومة
فيزيائية امتلاك خاصية غير قابلة للقياس، بل فقط بفهم كيف يكون من
المسموح، في النموذج الكمومي، اعتبار القضايا التي تُعيّن أو تسند
خاصية أصيلة لمنظومات جهارية مثل أجهزة القياس على أنها قضايا صحيحة.
تشمل المسألة باختصار على إيجاد تمفصل بين الخطاب حول المرصودات
(النسبية)، الذي يسود بالنسبة للمنظومات المجهرية، والخطاب حول خصائص
(مطلقة)، التي تفترض الحياة اليومية والفيزياء الكلاسيكية ملاءمتها على
المستوى الجهاري. إن الحل ليس صعب الفهم أبدًا في مبدئه. ونبدأ باعتبار
أن نمط الوصف بمصطلحات المرصودات والحالات الكمومية يصح عالميًا، وعلى
كافة المستويات. بعد ذلك نطابق السمة المميّزة للنمط الكمومي في الوصف
الذي يشكل حاجزًا أمام فكرة أن منظومة ما تمتلك خاصية محدَّدة تمامًا
حتى وإن كنا نجهل أي خاصية هي: يتعلق الأمر هنا بأول ترابطات المرحلة
بين الحدود الموافقة لمختلف النتائج الممكنة لقياس ما. نبرهن عندها[24]
أنه ما أن تتفاعل منظومة فيزيائية جهارية، حتى ولو بشكل ضعيف جدًا، مع
محيطها فإن ترابطات المرحلة وتأثيرات أخرى ذات شكل موجي تختفي بشكل شبه
كامل خلال فترة زمنية فائقة القصر. وبدءًا من هنا، يصبح بالإمكان من
جديد التعبير والفعل كما لو كانت المنظومة الفيزيائية الجهارية تملك
خاصية يكشف عنها الرصد أو التحليل التجريبي. إن هذه المحاكمة ليست
قابلة للنقاش كثيرًا في خطوطها العامة. فنتائجها المرصودة تتوافق حتى
مع التجربة[25].
غير أن معناها الفلسفي لا يزال موضوع نقاشات حامية. لقد مال كل من زورك
Zurek
(على الأقل في الأوقات الأولى من محاولته)، ثم أومنس، لأن يحمّلا ذلك
نتائج ذات صبغة أنطولوجية بشكل واضح: "[إن نتيجة القياس] غير معروفة
لدينا بعد، بل وليست معرّفة لدينا[26]"؛
إن فك الترابط (أو اللاترابط) هو جواب جوهري على عدم وجود
تراكبات جهارية، وليس فقط جواب من مستوى تطبيقي وعملي[27]."
تعتبر هذه التأكيدات القوية جدًا كإثباتات لا غنى عنها لشرعنة عملية
إسناد قيمة حقيقة للقاضايا التي تعلن نتيجة قياس، أو بشكل أعمّ للقضايا
التي تنسب خاصية ما لمنظومة جهارية. وهي مبرَّرة في نظر القائلين بها
لأن المقاربة الموافق عليها أثناء القيام بها هي من الصغر بحيث أنه لا
يمكن الوصول إليها في تقييم تجريبي متوافق مع حجم وعمر الكون[28].
وهناك
فيزيائيون
آخرون، مثل بل
Bell
ودسبانيا، لا ينسبون مع ذلك لنظريات اللاترابط سوى القدرة على تبيان
كيف أن مظاهر كلاسيكية يمكن أن تنبثق في عالم كمومي[29]؛
مظاهر لا يمكن أن تماثل بخصائص أصيلة إلا لأن إسناد قيمة حقيقة للقضايا
التي تنسب هذه الخصائص إلى منظومة هو عمليًا إسناد غير قابل للدحض
تجريبيًا. أما المنطق الذي يستخدمه أومنس، الذي يميل إلى جعل هذه الحجة
العملية حجة مبدئية باسم الحجم المفرط الضخامة للتجهيزات التي تتيح
الدحض، وباسم محدودية سرعة الضوء، فهو منطق مرفوض من قبل دسبانيا ضمن
أسلوب بوري (نسبة إلى نيلز بور)، حيث يقول: "[...] إن ما يهم هو فقط
مسألة معرفة إذا كان يمكن تحديد بروتوكول للقياس [...]"[30]
وليس إذا كان يمكن فعلًا تطبيقه في الكون الذي نسكنه.
هل يمكننا الاعتماد على الميكانيك الكمومي لكي يتم انبثاق عالم على
المستوى الكبير حيث من المشروع نسب خصائص للأشياء، وإسناد قيمة حقيقة
لكافة القضايا التي لها معنى، والاعتماد على نتائج قياس محددة بشكل
جوهري؟ إن رهان السؤال المطروح عند نهاية هذا النقاش ليس رهانًا
ميتافيزيائيًا فقط؛ بل هو رهان منهجي. فالميكانيك الكمومي يرتكز، مثل
كل نظرية علمية، على إمكانية إسناد قيمة حقيقة للقضايا التجريبية. فمن
أجل تامين التساوق بين بنية الميكانيك الكمومي والمسيرة الإبستمولوجية
التي تضمه من حيث جوانبه، يبدو أنه من الضروري عندها البرهان أنّ
صوريته تبرر إسناد قيمة حقيقة للقضايا التي تتعلق بها من أجل إثباته.
ووجهة نظر أومنس هي أننا نتوصل إلى ذلك من خلال نظريات اللاترابط. وعلى
النقيض من ذلك، فإن الوضعية اللاقياسية لدسبانيا، الذي يرفض أن تكون
الهوة التصورية (النوعية) بين خطاب حول قضايا موثوقة
fiable
والخطاب المألوف حول قضايا صحيحة قد ردمت بواسطة نظريات اللاترابط،
تضعف كما يبدو الأساس المنهجي للفيزياء الحديثة.
أود الإشارة هنا إلى أن مطلب أومنس، المتمثل بالمقابل بأساس لنمط
الخطاب التجريبي من خلال النظرية المراد اختبارها، هو مطلب مفرط. وإلى
أن الدور الأكثر تواضعًا الذي يوليه دسبانيا لنظريات فك الارتباط يكفي
لتأمين المتانة الإبستمولوجية لمسيرة الفيزياء الكمومية. ولهذا، فإنني
سوف أعرض مماثلة بين معايير القياس والوقائع التجريبية.
هل من الصحيح أن متوازي السطوح من البلاتين المحتوي على إيريديوم
والموضوع في جناح
بروتوي
Breteuil
في سيفير
Sèvers
يقيس مترًا واحدًا؟ الجواب وفق ويتغنشتاين[31]
هو النفي: "هناك شيء ما لا يمكننا القول عنه لا إن طوله متر واحد ولا
أن ليس طوله متر واحد، والحديث عن المتر - المعياري في باريس". لقد
بقينا لفترة طويلة جدًا نعدّه كمعيار للطول، ولهذا كان من الخطأ بشكل
مؤكد الزعم بأن قياس عيّنة البلاتين في جناح بروتوي لم يكن مترًا
واحدًا. ولكن فقد كان من الخطأ أيضًا بالدرجة نفسها التصريح بأنه كان
يقيس مترًا واحدًا، لأن تأكيد قضية (أو حقيقتها) لا يكون له معنى إلا
من خلال تناقض مع إمكانية نفيه (أو عدم حقيقته). والحال أن دور المعيار
الذي كانت تلعبه عينة البلاتين في جناح بروتوي في المنظومة المترية
القياسية كان يضعها بالضبط من حيث بناؤها بمعزل عن مثل هذه
الإمكانية. إن القضية القائلة "إن متوازي السطوح من البلاتين في جناح
بروتوي يقيس مترًا واحدًا" لم تكن بالتالي قضية "صحيحة"، ولم تكن بحاجة
لتكون صحيحة لكي تشكّل الحدّ النهائي والضمني للمقارنة التي يتطلّبها
إسناد قيمة حقيقة للقضايا التي تتعلّق بطول الأجسام الأخرى. وضمن هذه
الشروط، لم يكن من المهم حتى أن تبرّرها بالمقابل نظرية فيزيائية،
ترتكز عليها في إثباتاتها التجريبية، من خلال مبرهنة تؤكّد الشرط
الأساسي لحقيقتها، ألا وهو الثبات المطلق لطول العينة المعدنية. فإذا
كان ثمة للصرح النظري الإجمالي بين نتائجه، والذي كانت هذه النظرية
تشكّل جزءًا منه، اللاإحتمالية القصوى للقدرة على الكشف عن التغيرات
المنتظمة لطولها بالمقارنة مع مجموعة متعدّدة من الأجسام الأخرى (حيث
تكون كافة الشروط المتعلقة بالقضية متساوية من جهة أخرى)، فإن ذلك
سيكفي لضمان التماسك - الذاتي الأدائي للمنظومة المشكلة بواسطة النظرية
المثبتة والمفترض المتري (القياسي) لإثباتها. وبجملة واحدة، فإن اعتبار
متوازي السطوح من البلاتين كمعيار لم يكن يعود إلى نَسبِ خاصية له بل
إلى إسناد نظام (قانوني) له. كان من الممكن لامتلاك خاصية أن يكون
قابلًا للاختبار تجريبيًا وكان من الممكن أن يؤخذ بعين الاعتبار بواسطة
نظرية مستنفذة بدرجة كافية؛ بالمقابل، فإن النظام وحده يجب أن يندرج
ضمن لعبة اتفاقيات تتعلق بها إجراءات تجريبية ونظرية، والذي يُبرَّر
استدلاليًا بواسطة فعاليتها الشاملة. إن تخليص معيار البلاتين من نظامه
ذي الامتياز يظل بالطبع أمرًا قابلًا للنظر فيه. غير أنه لا يمكن
القيام بذلك إلا على حساب تحويل في حامل المعيار، من موضعه ذي السمة
الصحيحة الاستثنائية التي تم ربطها به، إلى جسم آخر أو إلى صيرورة
فيزيائية.
إن للصعوبة التي نصطدم بها في الميكانيك الكمومي شكل مطابق إنما ذو مدى
يتم تناوله بشكل مختلف. كان السؤال يتعلق بحقيقة قضية واقعية خاصة (هي
القضية التي تنسب طولًا معينًا لمعيار منظومة قياسية)، وقد باتت هذه
القضية تمتدّ من الآن فصاعدًا إلى إمكانية نسب قيمة حقيقة للقضايا
الواقعية بشكل عام. وكما أن قضية "متوازي السطوح من البلاتين ذي
الإيريديوم في جناح بروتوي يقيس مترًا واحدًا" لم تكن بحاجة لأن تكون
صحيحة لكي تلعب الدور الذي لعبته في المنظومة المترية، فإن القضايا
التي تعلن وقائع ليست بحاجة إلى مقدرة أن تكون صحيحة لكي تلعب دورها
البنائي في العلوم التجريبية. حيث يكفيها أن يكون بالإمكان اعتبارها
على أنها صحيحة، أي أن يكون بالإمكان استخدامها في خطاب الباحثين
العلميين بحيث أن تكون صحة قولهم بمنأى عن الشك عبر اتفاق ضمني. إن
اعتبار قضية كـ "واقع"، لا يعني تأكيد حقيقتها الجوهرية؛ بل يعني أن
نسند إلى هذه القضية نظامًا أساسيًا ذا امتياز ضمن الشبكة المنطقية
للعلوم. أما لكي نثبت حقيقة هذه القضية فإن ذلك يتطلب تأكيدًا تجريبيًا
أو إدراكيًا (مع المجازفة بإطلاق ارتداد لا ينتهي من تأكيدات الحقيقة
وإجراءات الإثبات)؛ كما أنه يستدعي أيضًا أن يؤخذ بعين الاعتبار ضمن
نظرية كاملة. وعلى العكس فإن للنظام الأساسي أو القانون ميزة إيقاف
الارتداد إلى ما لانهاية وأن يوضع بالإجمال على مستوى آخر مختلف عن
مستوى نتائج نظرية فيزيائية، طالما أنه يشكل جزءًا من الشروط المسبقة
لكي تتم صياغة نظرية ما (إذ تتم صياغة نظرية من أجل أن نأخذ بعين
الاعتبار القضايا التي لها نظام "الوقائع") ولكي يتم إثباتها (يتم
إثبات نظرية من خلال مطابقتها لـ "وقائع" معينة). إن الحدّ الأدنى
المطلوب من نظرية ما هو ألا تكون في حالة تناقض واضح مع الشكل المنطقي
للوقائع التي تشرطها بشكل مسبق. وبالمثل، فإن قضية مجهزة بنظام
"الواقع" يجب أن تجد نفسها فقط مبررة بشكل استدلالي من خلال التجربة
عبر تطابق وتلاؤم إجمالي لجملة المعارف التي تساهم في تأييدها. وعلى
الرغم من أن فك الارتباط
décohérence
لا ينجح كما يشير إلى ذلك دسبانيا في أن يؤسس بالمقابل إمكانية إسناد
قيمة حقيقة للقضايا الواقعية، فإنه يكفل ويحمي توافقًا هو أكثر من كاف
كميًا بين النتائج القطعية للميكانيك الكمومي وبيان الحوادث التي تعتبر
نظاميًا على أنها "وقائع". إن فك الارتباط يؤكّد ما كنا أسميناه
الاتساق الأدائي الذاتي: أي تماسك المنظومة المشكلة بواسطة
الميكانيك الكمومي والمفترضات المسبقة لإثباتها التجريبي.
إن الموازي لما سبق يمكن أن يكون كاملًا إذا استطعنا تحديد مكافئ واقعي
لقابلية الحلول محل المعيار. فهل من المسموح أن نغير من الواقع كما
نغير معيار قياس ما؟ ليس بالضبط وفق الطريقة نفسها، أي ليس من خلال
اتفاق معلن. وبالأحرى أن ننظر إلى ذلك مثل تأثير لانقلاب علاقة
ديالكتيكية تتأسس منذ البداية بين القضايا الواقعية والنظريات، تأثير
يرى حينًا الواقع - الفعل يشكل نقطة ثابتة يجب أن يستند إليها عمل
البناء النظري، ويرى حينًا النظرية تُطرح كبنية مؤكَّدة محدّدة حدود ما
هو مشروع أن نعتبره كواقع. تسود الصورة الأولى خلال مرحلة الثورة
العلمية، وتسود الصورة الثانية خلال مراحل "العلم العادي". فما أن يتم
إنجاز الثورة العلمية ويتم تأسيس النموذج الجديد، الأمر الذي كان في
السابق يعدّ واقعًا، حتى يمكن بالضبط ألا يعود النموذج نموذجًا وألا
تعود الثورة ثورة. ولكن، إذا كان الأمر على هذا النحو، ألا نصل هكذا
إلى نسبوية تامة تصدم الشعور، والذي طالما تقاسمه الباحثون العلميون،
باستمرارية متجاوزة للنموذج لعنصر واقعي؟ علينا بالنتيجة أن نميز بشكل
دقيق قابلية الحلول محل الواقع. فثمة شيء ما يبقى فعلًا من نظرية علمية
إلى النظرية التي تحل محلها: وهذا ما تجعله الافتراضات المسبقة لفعلنا
ولقولنا اليوميين (أو إذا أردنا النظريات المسبقة المتضمنة التي تقود
حياتنا) أمرًا من المشروع اعتباره كواقع.
لقد طرح دسبانيا تسهيلًا عقليًا، يشتمل على التفكير بأنه يوجد طريقة في
مماثلة المرصودات الصغائرية أو الجهارية للميكانيك الكمومي مع خصائص
أصيلة بالمعنى المعتاد للكلمة. وثمة تسهيل عقلي آخر يشمل الاعتقاد بأن
إخفاق التسهيل السابق يحكم بشكل صريح وحتمي على الفيزيائيين بإفراغ
خطابهم من كل اعتبار فيما يخص الأجسام الحاملة للخصائص؛ ولا يخطئ
دسبانيا في رفضه أيضًا. إن الأشكال التقليدية للتعبير يمكن أن تدوم
بشكل تام على الرغم من عدم توافقها عند الدرجة الأولى مع بنية الظاهرات
الكمومية. ومن السهل جدًا فهم السبب في ذلك: إذ يكفي أن نسقط بشكل
أنطولوجي الظروف نفسها التي تشكل عائقًا على الإسقاط الأنطولوجي
للمرصودات من أجل الوصول إلى توافق عند الدرجة الثانية. ولنذكر بهذه
الظروف:
أ - الارتباط المتعذر حله لقيم المرصودات تجاه الشروط التجريبية
لقياسها، والذي يندرج زورًا ضد الدلالة الإضافية لـ "تحديد ينتمي بذاته
إلى جسم ما" في لفظة "خاصية".
ب - اللاإنفصالية، التي تؤدي إلى إعطاء المنظومة الفيزيائية، وهي أساس
لـ "حالة" معالجة كخاصية، حدودًا تتغير مع الحالة نفسها.
غير أن استراتيجية "التفسير الأنطولوجي للميكانيك الكمومي" لديفيد بوم[32]
D. Bohm
تشتمل بالضبط على تحويل هذه العوائق إلى القدر نفسه من الميزات الجديدة
للجسيمات. إن ارتباط قيم المرصودات اتجاه الشروط التجريبية يتم إسقاطه
بشكل سياقية (أي بتأثير للتجهيزات التجريبية على الصيرورات
الفيزيائية التي تسعى هذه التجهيزات للكشف عنها). ومن جهتها، فإن
لاإنفاصالية المنظومات الفيزيائية تتحول إلى لامحلية لخصائص مكوّناتها:
[...] في النظريات ذات المتغيرات الإضافية، فإن الجسيمات التي تشكل
منظومة فيزيائية ممتدة تجد نفسها وهي تختص بنوع من الوجود الفردي على
الرغم من أنها تتفاعل بطريقة غير محلية"[33].
لقد أعطى كل من مبرهنة كوشن
Kochen
وسبيكر[34]
Specker،
ومبرهنة بل[35]
Bell
لهذه التحويلات مدى كونيًا من خلال جعلها للسياقية واللامحلية ميزات لا
يمكن تفاديها في كل نظرية ذات متحولات خفية قابلة لأن تعيد إنتاج
التنبؤات التجريبية المؤكدة للميكانيك الكمومي. ونرى بوضوح انطلاقًا من
هنا أن نظريات ذات متغيرات خفية تستجيب لشروط معينة لا يمكن رفضها
اعتمادًا على بواعث ذات بعد تجريبي بحت.
وفي إطار فكر مماثل، إنما مع
مناهج
ونتائج مختلفة جدًا، تم اقتراح إسقاط ارتباط النتائج التجريبية اتجاه
نظام استخدام التجهيزات على "منطق كمومي" غير توزيعي[36]،
بل وعلى منطق "متمّم"[37]
ثلاثي التكافؤ. وهكذا فإنه يتم حفظ إمكانية التحكم بشكل قطعي بالمشاركة
المتصلة مع جسم ذي قيم مرصودات ناشئة عن أطر تجريبية متعارضة، وذلك على
حساب اعتماد منطق غير كلاسيكي.
2. 3 الواقع التجاوزي أو حضور الواقع؟
إن حالة فقدان الذاكرة تجاه الشروط المسبقة للنشاط الإبستمولوجي قد
أصبحت مزعجة بشكل خاص بسبب ظهور الميكانيك الكمومي؛ لكن مزعجة أو غير
مريحة لا يعني أنها غير قابلة للإدراك، كما سبق ورأينا. إن بنية
الميكانيك الكمومي، مع شكل من الحيادية الموجّهة، تجعل من معظم
تفسيراتها الواقعية غريبة جدًا أو مصطنعة إلى حدّ أنها تدعو إلى وضع
لاواقعي دون أن تفرضه. لنقبل الآن أننا تبعنا هذا المنحدر اللاواقعي
(الذي قررنا أعتباره من القضايا ذات "الموضوعية الضعيفة"). هل يقتضي
ذلك بالتالي اعتماد موقف لاواقعي بشكل أصيل، على سبيل المثال مثالية
عقائدية؟ لن يقبل بذلك أي لاواقعي منطقي: فتصوره العقائدي يقوم أكثر
على تعليق المحاكمة مهما كانت المحاكمة، حتى لو كانت سلبية، حول ما
الذي يشمل الصيرورات التجريبية. إن اللاواقعية تدفع بالأحرى إلى فقدان
صورة معينة للواقعية لا إلى فقدان مفهومها. إن الصورة المعلنة هي صورة
كينونة معطاة، موضوعة أمام قابلية التأثر والاستقبال الحساسة واللغة،
والتي بالنسبة لها يقيّم الإخلاص المرآوي للمدركات الحسية نفسه وكذلك
حقيقة القضايا. بالمقابل فإن ما يبقى بمنأى من النقد، هو المفهوم
المجرّد لواقعية تعتبر كتحديدية للمقدرة المحدِّدة للنشاط الإيمائي
والرمزي للمجرِّب، أو أيضًا كمصدر محدِّد مشترك للقيود التي لا يمكن
ضبطها التي تظهر من خلال الإجابات على الاستثارات التجريبية. ومع أن
الصورية التنبؤية للميكانيك الكمومي المعياري لا تزعم أنها تمثل ما هو
قائم، فإنها تترجم هذه التحديدات وتتوافق مع هذه القيود. هذا ما يحاول
دسبانيا التعبير عنه من خلال بيانه التأسيسي لـ "واقعية مفتوحة": "ثمة
شيء ما [...] لا يتأتى وجوده من الفكر الإنساني"[38]،
والذي يسمّى بعبارة أخرى "الشيء" الذي يقول "لا". فطالما بقينا عند هذه
النقطة،
سيبدو مع ذلك أننا حاولنا إيجاد التعاريف الأكثر تمركزًا للشيء في ذاته
التي أعطاها كانط في نهاية "تحليله التجاوزي"، والتي أخذ بها حصرًا
المفكرون الكانطيون الجدد من مدرسة مربورغ
Marbourg:
فمفهوم الشيء بذاته هو فقط هنا مفهوم تحديدي يقلّص مزاعم
الحساسية ولا يؤسس بالتالي شيئًا إيجابيًا خارج حقله[39].
غير أن دسبانيا يرفض بالضبط أن يتقيد بهذه الدرجة القصوى والفائقة من
التحفظ الميتافيزيائي. وعلى الرغم من أنه كان في السابق قد طعن بنظريات
ذات متغيرات خفية يُحكم عليها بأنها "[...] تأملية جدًا" لأنها بلجوئها
إلى نماذج هي من حيث البناء بعيدة المنال على كل اختبار تجريبي
تمييزي، فإنه لا يستطيع أكثر القبول بأن هذا "الشيء ما [...] الذي لا
يتعلق وجوده بوجودنا" هو عبارة عن متحول س بحت مجهول تمامًا لا تستطيع
الفيزياء أن تفيدنا بشيء فيما يخصه أو يتعلق به[40].
وهكذا فإن دسبانيا ينطلق عندها في محاولة توصيف للواقع حيث أن بنيته
المجازية (وهي بنية حجاب، مع فصلها لنا عن خلفية العالم، تترك لدوائر
واسعة منه أن تشف وتظهر لنا) تسعى لكي تقود بشكل آلي المخطط الثنوي
لنظرية المعرفة في وضع لم تنفك فيه إشارات فرص إعادة النظر فيها
تتراكم؛ وهي إشارات لم يستطع دسبانيا نفسه أيضًا عدم الاعتراف بها[41].
ولا شك أنه انبرى على هذا النحو، وهو محق في ذلك، لتنفيذ عمل
إبستمولوجي نهائي ووضع استراتيجية بيّن من جهة أخرى أهميتها في العلوم:
إنها الاستراتيجية التي تشتمل على الظهور بشكل منهجي كمحافظ، والتقيد
بإطار تصوري كان قد وضع براهينه طالما لم يأت شيء ليزعزعه بشكل حرفي،
أو أيضًا كما يقول فان فراسين، والحفاظ على الثقة المفترضة للنماذج
والتمثيلات.
ولكن، إذا كانت صورة الواقع المحجوب قابلة للنقاش، فإنني أعتقد أنه يجب
معرفة كيف نعترف بأهمية ما يحاول أن يعبر من خلاله عن نفسه. إن النقاش
المحكم الذي يقود إلى اعتماد هذه الصورة يقودنا في الواقع إلى عتبة
إشكالية فلسفية مختلفة جدًا: إشكالية امحاء للحدود التقليدية بين حقول
الاستقصاء والتحقق الناشئة على التوالي من المقاربة التأويلية ومن
المقاربة التحليلية، وإشكالية منهجية الفهم ما بين هذه الحقول وإشكالية
عملية تحويلها إلى حقول وضعية. وعلى الرغم من أن دسبانيا لم يشرح
المسألة على هذا النحو، لكن لم يغب عنه خلال مسيرته في الفكر المعمّق
من الاقتراب منها بدرجة كبيرًا جدًا وجعلها ملحوظة ومدركة لمن كانوا قد
شعروا بها مسبقًا من بين قرّائه. إن هذا الأثر الجانبي بتحرّره من
التوترات، التي لم يتجنبها أبدًا، والتي تسكن محاولته في إعادة الصياغة
الميتافيزيائية، هي ما سيكون علينا أن نحلله فيما يلي.
التوتر الأول: عندما حاول دسبانيا التحدث عن نوع المعلومة التي يمدّنا
بها الميكانيك الكمومي حول موضوع "الواقع المستقل"، وجد نفسه منقادًا
إلى صياغة نوع من الأنطولوجية السلبية لا ينتج عنها سوى ما ليست
عليه[42].
إن الواقع المستقل ليس مغمورًا
في
الزمكان؛ وهو ليس متعدّدًا، وليس منظَّمًا في كثرة من الجواهر المشخصنة
والحاملة بشكل مستقرّ لتحديدات متغيرة. نجد أنفسنا هكذا وقد وصلنا إلى
قرب شديد[43]
من حاجة المفهوم التحديدي الذي يشتمل عليه الشيء بذاته؛ شيء بذاته غير
موصوف متوضع بالنظر إلى الأشكال بشكل سابق للحساسية وهي أشكال المكان
والزمان، وبالنظر إلى المفاهيم البحتة للتفاهم التي هي فئة الجوهر
والفئات الناشئة عن الكمية وعن الكيفية. لا شك أن الفيزيائي - الفيلسوف
سيريد الدفاع عن أصالة نتيجته بالإشارة إلى أن الطرح القريب في هذه
المرة من طرح كانط يستفيد من الدعم المباشر والمحسوس لعلم فيزيائي
تجريبي (هو الميكانيك الكمومي)، في حين أن هذا الطرح لم يكن ينتج في
نسخته الأولى إلا من مجرد استنكار للوهم التجاوزي الذي يشتمل على إسقاط
سمات على الأجسام، سمات تنشأ عن الإطار القطعي لتصورها وفهمها. غير أن
هذه الحجة ليست مقنعة تمامًا. ذلك أن استنتاجات دسبانيا لا تنتج عن
الميكانيك الكمومي بما هو ميكانيك كمومي، بل عن نتائج تفسيراته التي
تظل بمتناولنا عندما نكون قد قدمنا نسخة حديثة من الوهم التجاوزي: ألا
وهي عبارة عن النظريات ذات المتغيرات الخفية. وإن كان هذا النمط الأخير
من الإسقاط الأنطولوجي يبدو أكثر اصطناعية من الإسقاطات القديمة، بسبب
سمات عدم إمكانيات الوصول التجريبية، واللامحلية والسياقية، المرتبطة
به، فإن ذلك لا يغير شيئًا في أنه من حيث المبدأ متوفّر وأن استبعاده
يفرض بالتالي اعتبارات ترهق حقل الفيزياء.
في إجابته على المقالة التي أخذت هذا الفصل منها[44]،
يقبل دسبانيا بأن أسباب استبعاد النظريات ذات المتغيرات الخفية "تفوق
مجال الفيزياء"، إذا أخذنا لفظة فيزياء في إطار معنى ضيّق، استنتاجي
حصرًا. لكنه يعتبر أن قرار استبعاد مثل هذه النظريات بحجة طابعها
"الاصطناعي" المفرط ينتمي إلى مجموعة واسعة جدًا من الخيارات الجوهرية
والتي غالبًا ما تكون ضمنية التوجّه والتي تسمح للمشروع العلمي بكامله
ألا يحيد ويضلّ على مفترق الطرق. وبالنتيجة، فإن نقد استبعاد النظريات
ذات المتغيرات الخفية ليس نقدًا تجريبيًا ولا استنتاجيًا، بل ينتمي إلى
صف "الانتقادات التوضيحية"[45]،
الذي لا يمكن للعمل في مجال العلوم تجاوزه. تقودنا مع ذلك هذه
الملاحظة، ذات الصلة الوثيقة بالموضوع، لأن نفهم بشكل واقعي تمامًا كيف
أن الأنطولوجيا التي يتم تفضيلها وتيسيرها في مرحلة معطاة من قبل
الباحثين العلميين تتعلق بطريقة حاسمة بنقد توضيحي، بل وبالسلسلة
التاريخية للانتقادات التوضيحية المتضمنة التي استخدمت في كل مرحلة من
الاستقصاء، وليس فقط بالإشارات وحدها ذات الأصل التجريبي. لا يمكن
للفيزيائي أن يجيب على السؤال: "ماذا يمكن أن يشبه الكون لكي يكون
محكومًا بقوانين مثل هذه النظرية الفيزيائية؟" إلا تحت الشرط المسبق في
تفعيل مجموعة من الانتقادات التي تتجاوز من حيث البناء المعلومة
التجريبية التي نفترض أن هذا "العالم" يزودنا بها. وكما سوف نرى بتفصيل
أكبر في الفصل الخامس، فإن الأنطولوجيا الكليانية لدسبانيا (لبوم
الأخير) هي التي تفرض نفسها تحت شروط مسبقة معينة توضيحية؛ أما تحت
شروط مسبقة توضيحية أخرى فإن الأنطولوجيا التعددية لبوم الأول هي التي
تبدو مفضّلة.
ينطلق دسبانيا، مثل كانط، من المخطط الثنائي لنظرية المعرفة: الشيء
والأنا، المُدرَك والمدرِك؛ وكما مسيرة كانط فإن مسيرة دسبانيا النقدية
تصل إلى إفراغ البديل من كل محتوى جوهري. وبالمقابل، فإن دسبانيا يرث
جوانب من سوء الفهم التي استقرت في الأثر الذي تركه عمل كانط. إن مفهوم
الشيء بذاته كان قد تغيّر خلال "نقد العقل الخالص"، ولم يُفهم
ويُردّ عليه من قبل تيار المثالية الألمانية[46]
إلا ضمن معناه التقليدي للكينونة المتجاوزة المؤثرة على المعاني.
وبالمثل فإن مفهوم الواقعية المستقلة قُلّص فعلًا إلى أبسط تعبير
تحديدي له (الواقعية المنفتحة)، وقد استمر في إثارة التمثيل لـ "شيء
بالنسبة إلى" الذي يؤثر على الأجهزة التجريبية، والذي تحاول الفيزياء
الكشف عنه بقدر ما يسمح بذلك "الحجاب" الذي يفصلنا عنه. وإنه لمن
الصحيح، وفق دسبانيا، أن ثبات واستمرار هذا الميتا - تمثيل لا يشكل
أبدًا صعوبة في تصوره؛ ذلك أننا لا نرى، هنا أيضًا، ما هو السبب الذي
سيدفعنا لكي نتخلى دون مناقشة عن ميتا - تمثيل (ثنائي) مكرّس بواسطة
الزمن ومفيد في الكثير من المجالات المألوفة إذا لم يظهر شيء ما يجعله
غير مقبول بشكل صريح. لهذا اخترت في هذا الفصل أن أتكلم عن توترات وليس
عن صعوبات: التوترات التي تظهر عندما نترجم سمة معينة للوضع الناشئ من
خلال الميكانيك الكمومي في إطار النظرية الكلاسيكية للمعرفة، والتي سوف
تنحلّ في جزء كبير منها من خلال التخلي عن هذا الإطار.
التوتر الثاني: إن مفردات المعرفة هي مفردات علاقة بين قطبين، بل
ومفردات توجّه من أحدهما باتجاه الآخر. إن المعرفة هي معرفة شيء ما،
فهي تتصل بشيء ما، أو هي متعلقة بشيء ما، وهي تخص شيئًا ما، وهي
ترتكز على موضوع أو على ما يخص شيئًا ما (حيث الارتباط بشيء هو عبارة
عن قصد أو غاية). والحال أن دسبانيا عندما يستخدم هذه المجموعة
المعجمية من المفردات، فإنه يدفع بها إلى تخوم حقل تطبيقها ويبدي
أحيانًا شعورًا بعدم الراحة تجاهها. فالتأكيد بأن الفيزياء تزودنا
"[...] بمعرفة معينة بالنسبة إلى هذا الشيء"[47]،
يعني تمامًا إدخال فكرة العلاقة وتدخلها، إنما مع تمييز دقيق غامض
عمدًا، يعود إلى استخدام الشكل الظرفي للصفة "النسبية" بدلًا بالأحرى
من استخدام هذه الصفة نفسها. والكشف إلى أبعد قليلًا من ذلك أن "[...]
ما يعلمنا إياه العلم له دون أي ريب صلة مع الواقعي[48]"،
يعني البدء بتحديد
مفهوم العلاقة، إنما مع تجنب القول بشكل فج إن العلم يتصل أو يتعلق
بالواقع. لأنه إذا كان العلم يتعلق بالواقع، فإن موضوعه المباشر هو
"واقع تجريبي"[49]
حيث لا تسمح بنيته (أو على الأقل ليس دون مراجعات جذرية) بالتعبير كما
لو كان موضوعه غير المباشر هو "الواقعية المستقلة". وقد وجد دسبانيا
نفسه مضطرًا بمواجهة هذه الملاحظات لإعادة التمييز بين علاقة التوافق
وعلاقة الموضوع، بين "أن تكون ثمة علاقة مع" و "الاتصال بـ": ما أعلمني
إياه دليلي السياحي في سينتونج
Saintonge
له بلا أدنى شك علاقة مع تاريخ العمارة، لكنني أتجنب أن أقول
("بفظاظة") إن الدليل "يتصل بـ "تاريخ العمارة"[50].
وبالطريقة نفسها، فإن الفيزياء المعاصرة، من خلال قابليتها للانسجام مع
بعض خطوط القوة للواقع المستقل، لها علاقة مع الواقعية المستقلة، دون
أن تكون متصلة مباشرة بها. "إن الواقعية المستقلة لا تشكل [...] موضوع
الفيزياء، كما أن العمارة لا تشكل موضوع الدليل السياحي، لكن الفيزياء
تستدعي (بشكل غامض) سمات معينة عامة للواقعية المستقلة"[51].
إن أهمية هذه التحديدات أهمية كبيرة جدًا، لأن برنار دسبانيا يدخلنا
هنا إلى كون مجازي ليس هو كون "المكاشفة وجهًا لوجه" بين الفاعل
الفيزيائي وموضوعه "الواقعية المستقلة". إن صورة الدليل السياحي توحي
(خاصة إذا لم تكن تتضمن أية خارطة جغرافية) بأنه حتى دون أن نتأمل
العالم من الخارج، ودون أن نأخذ به كـ موضوع (ob-jet)،
فإن الفيزيائي يستطيع أن يتعلّم التوجّه فيه وإيجاد طريقه في قلب هذا
العالم. وهكذا لا يعود على النظرية أن تكون مذاك تمثيلًا للعالم، بل
فقط بيانًا وجردًا منهجيين للطرق التي يسهل السيطرة عليها أكثر من
غيرها في السلوك والتصرف في هذا العالم. وطالما كنا نعترف مع ذلك (كما
يفعل دسبانيا) بأن هذا العالم هو في درجة معينة سابق التشكّل والهيكلة،
فإن مسردًا أو بيانًا بالطرق للعيش والسلوك فيه لا يمكن إلا أن يفيدنا
ويعلمنا بشكل غير مباشر حول هذا العالم نفسه. وهذا هو السبب في أنه
يُفترض بـ "الدليل" الذي تشكّله النظرية الفيزيائية أن "يستدعي بطريقة
غامضة" بعض سمات الواقعية المستقلة. وهكذا نرى بأن الفرضية الحاسمة من
أجل الحفاظ مهما كلف الأمر على المخطط الثنوي لنظرية المعرفة هي فرضية
التشكل المسبق الجزئي على الأقل للعالم المستكشَف. ومع حفاظنا على
استخدام صورة "الدليل"، لكن مع عدم اعتبارنا أن الدليل يسمح بالتوجه في
عالم متشكل جزئيًا بشكل مسبق؛ وإذا اعتبرنا أن الدليل مثل مجلد من
المعلومات التي تتعلق بالإجابات المشكَّلة التي يجابه بها نشاطاتنا
المشكَّلة وسطٌ لا يملك بالضرورة بنى بشكل مسبق، فعندها سيختفي الباعث
الأخير الذي كان بحوزتنا للحفاظ على شيء ما من المخطط الكلاسيكي لنظرية
المعرفة.
التوتر الثالث: خلال مناقشته لمفهوم "النظام المتضمَّن" الذي أدخله
بوم، يقترح دسبانيا أن نُفقِد التحديدات المكانية والحركية الميزة التي
اكتسبتها خلال القرن السابع عشر (والتي كانت موجودة فيها منذ النظرية
الذرية لديمقريطس). ووفقه، فإن الموضع والاتجاه وحدّة السرعة، التي
أصبح تعريفها من الآن فصاعدًا لا ينفصل عن الإطار التجريبي لتقديرها،
لها هي أيضًا القليل من الأسباب في أن تُعتَبَر كصفات "أولية" ليس
لدينا لونها. وكان هايزنبرغ قد عبّر عن الفكرة بوضوح منذ بداية
الثلاثينيات من القرن الماضي: "في الفيزياء الحديثة، تفقد الذرات هذه
الخصائص الأخيرة؛ فهي لا تملك الصفات الهندسية على مستوى درجة أعلى مثل
اللون والذوق إلخ. [...]. ذلك أن كافة صفات ذرة ما في الفيزياء الحديثة
هي صفات مشتقة، وليس لهذه الذرة أية خاصية فيزيائية فورية ومباشرة"[52].
غير أن هذا التخلي عن أرضية صفات أولية لصالح تعميم المفهوم العلائقي
للصفة الثانوية له ثمن. وكما يشير لوك
Locke
بعد ديكارت
Descartes،
"[...] فإن أفكار الصفات الأولية للأجسام تكون على مثالها، وتوجد صورها
فعليًا في الأجسام نفسها؛ غير أن الأفكار الناتجة المنتَجة فينا بواسطة
هذه الصفات الثانوية لا تشبه هذه الأجسام أبدًا في شيء"[53].
فإذا وحدها الصفات الثانوية استمرت بالوجود، فإن منظور المعرفة عندها،
الذي لا يكون مقبولًا فقط بشكل ما بين - ذاتي بل وأيضًا على صورة
الموضوع المراد معرفته (مأخوذًا بمعناه ما قبل النقدي)، يفقد آخر نقطة
ارتكاز له. وإذا لم يبق سوى الصفات الثانوية، فإننا لا نعود نرى حتى
لماذا سنستمر في تسميتها "ثانوية" بمقابل عددي للـ "أولية". وحدها
المرجعية التاريخية التي لا غنى عنها خلال فترة معينة من تطور العلوم
حيث كانت تمثيلات الصفات الثانوية، على الرغم من أنها لم تكن تشبه
أصلها، يمكن أن تكون "مفسَّرة" بطريقة معينة من خلال التفاعل بين
الصفات الأولية للأجسام والصفات الأولية لأعضاء الحواس أو لأجهزة
الاستقبال تبرّر لنا الاستمرار (إنما ليس دون حذر وحيطة) في التعبير
على هذا النحو.
يرى دسبانيا ذلك كله ويفسّره بوضوح كبير، لكنه لم يمض ربما حتى نهاية
الاستنتاجات التي تنجم عن ذلك. وهو يرى أنه "[...] من المعقول تمامًا
أن يكون «الاتجاه الذي يوجد فيه القمر» مرتبطًا بالواقعية التحتية بشكل
غير مباشر بقدر (من خلال بنانا الحسية والعقلية) ما هو الأمر
بالنسبة لطعم ثمرة ما"[54].
وضمن هذه الشروط ليس ثمة أي باعث للاعتقاد بأن الاتفاق ما بين - الذاتي
فيما يخص موضوع اتجاه القمر يُفسَّر بالوجود الفعلي و"المستقلّ" لجسم
سماوي في هذا الاتجاه؛ فليس ثمة أي حجة تجعلنا نعتقد أن "[...] آنا
وبونوا يريان كلاهما إبريق شاي على الطاولة لأنه يوجد فعليًا
إبريق شاي هناك"[55].
ويتساءل المؤلف هنا هل علينا لهذا السبب التخلي عن تفسير الإمكانية
المؤكَّدة لإقامة توافقات ما بين - ذاتية؟ إن الإجابة على هذا السؤال
تتعلق بنمط التفسير الذي نكون مهيَّئين لاعتماده كتفسير مقبول. فإذا
حاولنا القبول بأن "التفسير" يعني تبيان أن وقائع مختلفة تنشأ عن
القانون العام نفسه" فإن الصورية الوحيدة للميكانيك الكمومي المطبقة
بشكل عالمي (كما في تفسير الحالات النسبية لإيفيريت
Everet)
تكفي لكي ندرك :[...] بشكل مرضٍ التوافق ما بين - الذاتي"[56].
يضع برنار دسبانيا بالنتيجة هذا الشكل من التفسير، مع القبول بأن تضمين
التوافق ما بين - الذاتي ضمن نظام شرعي يكفي لكي نفهمه. المشكلة
الوحيدة هنا هي أن هذا المستوى الأول من التفسير يستدعي مستويًا ثانيًا
للفهم: فالقوانين "تفسر" النظام ما بين - الذاتي، لكن ما الذي يفسّر
القوانين؟ ومن هنا وفق دسبانيا اللجوء الذي لا غنى عنه إلى واقعية
مستقلة سابقة التشكل، "السبب الموسَّع" للانتظامات الظاهراتية التي
نترجمها بواسطة القوانين.
تكمن عقدة التوتر مرة أخرى في فكرة التشكّل المسبق للواقع، المصمَّمة
كتفسير وحيد قابل للإدراك للإنتظامات المرصودة. إنها فكرة تقود، كما
سبق ورأينا، إلى إدامةواستمرار شيئ من الإطار الثنوي لنظرية المعرفة
على الرغم من التعديلات العميقة التي فرضت عليه. إن مثال اتجاه القمر
يضع جانبًا في المشهد الواقعية مسبقة التشكل، ومن الجهة الأخرى منه
البنى الحسية والعقلية، وفيما بين المشهدين ثمة رابط لا بد من كشفه. إن
توافقات ما بين - ذاتية تتأسس على الظاهرات، وهي منظمة ويتم توقعها
بواسطة قوانين فيزيائية لا علاقة لها أبدًا بنزوات الإنسان، حيث أن
غياب الاعتباطية هنا هو مؤشر في صالح وجود "واقعية مستقلة"، و"بالتالي"
يجب أن يكون ثمة رابط سببي بين هذه الواقعية المستقلة
والظاهرات[57].
ولا يتجاهل دسبانيا الاعتراضات التي تثيرها عملية نقل فئة سببية
مصمَّمة للعمل في مستوى الظاهرات إلى المسافة الفاصلة التي يفترض أن
تفصل بين ظاهرات "الواقعية المستقلة" (سوف نناقش ذلك في الفصل الثالث)؛
غير أنه لا يقوم بشيء في هذا الصدد، لأن إمكانية تفسير نظام التجليات
الواقعية التي يمكن التعرف عليها ما بين - ذاتيًا تستحق هذا الثمن كما
يبدو له.
وبما أن الأمر لم يعد من الآن فصاعدًا بعيدًا عن إمكانية القبول به فإن
دسبانيا يمكن أن يساعد (راجع المقطع 3 - 2)، في ظل التخلي الكامل عن
خرافة المواجهة بين الموضوع وعالم محدَّد مسبقًا، وهي الترجمة
الميتافيزيائية للعلاقة المكانية بين الجسم المعني وأجسام محيطة، في حل
هذا الرابطة من التوترات المضطَّلَع بها والتي لا يزال يتباحث ويتجادل
بها أفضل فلاسفة الفيزياء المعاصرة. إن أكثر الطرق مناسبة للوصول إلى
ذلك تشتمل على الاستعانة بتفكّر داخلي مستوعِب حول حدود استخدام اللغة،
أو بشبكة من مفاهيم فلسفة الاتصالات[58].
لكن من الأسرع (وإن كان ليس من الأكثر تشددًا) التذكير بخرافة مقابلة[59]
قابلة لأن تُضعف رسوخ البنية الثقافية للخرافة الأكثر شيوعًا. لنتخيل
إذن ما يلي: نحن لسنا بمواجهة الواقع ولا حتى منعزلين فيه مثل جسم في
مسكن
ذي عمارة مسبقة التحديد؛ إننا مرتبطون بهذا الواقع بحيث لا يمكن فصلنا
عنه، بحيث أن "[...] التوصيف الوحيد لهذا الواقع هو أنه قابل للتوصيف"[60]،
ونحن نشارك في صيرورته في التوصيف - الذاتي، بل وفي التشكيل البنيوي
الذاتي له.
إن قابلية حياة وبقاء هذا النوع من التصوّر الذي يتضمّن المفاهيم ذات
الأصل البيولوجي للتنظيم الذاتي ولإنبثاقية البنى المحافظة على نفسها
ذاتيًا تبقى بالطبع قابلية يجب اختبارها، أكان في مجال فلسفة العلوم أو
أيضًا في العلوم الإدراكية التي تشهد انطلاقة مميزة. ويجب بشكل خاص
تقدير قدرتها من خلال مسيرتها التاريخية على فهم ظاهرية التنظيم المسبق
والارتباط الذي تمثله بيئتنا
Umwelt
(أو بيئتنا المألوفة من الأجسام المادية الجهارية)؛ إن ظاهرية التنظيم
المسبق والانفصال تجاه أجسامنا الخاصة هو أحد أكثر الأسباب يقينية
للمصداقية المستمرة للنظرية الثنوية في المعرفة. ولكن بمواجهة التحدي
المزدوج الذي تحرّضه التقدّمات المقاوِمة للتوجّه التمثيلي للذكاء
الصنعي، ومن خلال التوترات الداخلية في تفسيرات الميكانيك الكمومي
المصمَّمة وفق نمط تمثيلي، فإن المواضيعية غير التمثيلية للتنظيم
الذاتي تفرض نفسها على الأقل كبرنامج بحث له الأولوية.
وهكذا فإن التوافقات ما بين الذاتية التي تنظمها وتتوقعها النظريات
تُفسّر في هذا المنظور ذاتي - التنظيم ليس من خلال هوية الأجسام (أو
الجسم - العالَم) التي تواجه المواضيع، بل من خلال جملة التزامات هذه
المواضيع في قلب العالم[61]،
ومن خلال قدرتها (التي تترجم في اللغة بواسطة تبادلية استخدام الضمائر)
على تغيير وضعياتها وأنماط فعلها فيه. إن الإسناد إلى أجسام لا يمكن
استبعاده مع ذلك، لأنه يشكل المركب الأول للتفاهم. وببساطة، فإن
العلاقة بين التفاهم والجسم تفقد عكوسيتها: إننا نتفاهم ونتفق فيما
يتعلق بجسم، حتى ولو لم يكن "وجوده" ما يفسِّر التفاهم؛ ونتفق حول هدف
ناظم حتى وإن كان ما هو مستهدف لا يمكن أن يكون معتبرًا على أنه السبب
التجاوزي للاتفاق. إن الوظيفة الدلالية (الإسنادية أو المرجعية) هي
وظيفة مفصولة عن الشحنة الميتافيزيائية، ولهذا فهي تجد نفسها مجيّشة،
مع الإلزام الوحيد بأن تكون متوافقة عمومًا مع النظرية الأكثر ملاءمة
لمجال التقصي الإدراكي أو التجريبي الذي يطبّق عليه الخطاب[62].
يبقى أن نواجه الصراع الواضح بين اليقين بأن الفيزياء "على صلة مع
الواقع" والاستنتاج، الذي نحصل عليه عبر مسيرة نقدية، بأن الفيزياء لا
تصف "الواقع المستقل". كانت وظيفة "الحجاب" الذي لا يمرِّر أو يرشح سوى
بعض المعارف ذات الطبيعة "العامة أو المجازية"[63]
حول "الواقع المستقل" أن يفصل مجازيًا في مثل هذا الصراع دون الخروج من
المخطط الثنوي لنظرية المعرفة. ولكن ما أن نضع الثنائية جانبًا، فإن
استعارات أخرى تصبح متوفرة. كما على سبيل المثال الاستعارة التالية،
التي تعود إلى ويتغنشتاين: "إن الموضوع لا ينبثق من التجربة، بل هو
متضمن فيها بحيث أن التجربة تكون غير قابلة للوصف"[64].
إن فعل الإنجاز الجاري لا يمكن أن يوضع على مسافة وصفية من قبل الذي
ينجزه. إن تفسيرًا متعلقًا بالموضوع سيعطي ما يلي: إن الموضوع ليس
في مواجهة الواقع، بل هو متضمن فيه بحيث أن الواقع لا يدع مجالًا لكي
يوصف. أو على الأقل، فإن الموضوع يكون متضمنًا كفاية في الواقع،
وبطريقة متعذر حلها بدرجة كافية، بحيث أن المجال الوحيد المحدد حيث
يجري نشاطه الجسماني (أي البيئة الجهارية المألوفة) يكون قابلًا للوصف
بواسطة العلم الكلاسيكي لقاء تقريبية مقعولة. إن الحاجز الذي كان
يصوَّر في السابق كـ "حجاب" أو كفصل زائد ومفرط (لنتذكر عبارة أو صيغة
"الواقعية البعيدة"[65])،
هو الآن مثل إفراط في القرب مُعْمٍ حيث تكون منطقة تعويضه
محدودة بالبيئة
Umwelt
الجهارية.
وبدلًا بالأحرى من أن نختم هذا الفصل، سأنهي بملاحظة وبسؤالين. يعلن
هبرماس
J. Habermas:
"يوافق [امتيازات] وجهة نظر المراقِب في العلوم الطبيعية ووجهة نظر
المشارك في العلوم الإنسانية، فصلٌ لمجالات الموضوع"[66].
وبشكل أكثر جوهرية
علينا
الحديث هنا عن فصل للمناهج: المنفذ الذي يجعل الشيء موضوعيًا من جهة،
والمنفذ الترميزي والتأويلي من جهة ثانية. فما الذي يحصل لخطوط القسمة[67]
هذه إذا بدأت وجهة النظر المشاركة بالتغلب في بعض علوم الطبيعة، مثل
الفيزياء الكمومية؟ وما الذي سيحدث ابتداء من ذلك للخيار الجوهري الذي
ارتكزت عليه ولادة العلم الغربي وفقًا لمارلو بونتي[68]:
خيار الإنسان بالتخلي عن العيش بين الأشياء لكي يتحكم بها بشكل أفضل؟
ترجمة: موسى الخوري
*** *** ***