الواقعية المتقاربة والتقارب الانعكاسي 2
ميشيل بيتبول
كلما كنا أبعد عن العالم بدا لنا أكثر واقعية. وكلما اقتربنا منه أكثر
تبدو لنا إمكانية رؤيته أقل، ويصبح بلا معالم مثل سراب.
ناغارجونا، الإكليل الثمين
1- 5 المراحل الثورية والاستمرارية الأنطولوجية
يتبدَّى التصوُّر الدلالي للنظريات، في شكله اللاواقعي (التجريبية
البنائية) أو الواقعي ("الواقعية السياسية")، أنه منذ الآن فصاعدًا
المسرح الجديد للنقاشات في فلسفة العلوم[1].
فهل هذا التوافق مبرر؟ وبداية، على ماذا يشتمل تحديدًا التصوُّر
الدلالي للنظريات؟
إن للتصوُّر الدلالي، من وجهة نظر التصوُّر الكلاسيكي (البديهي
axiomatique
والنحوي
syntaxique)
للنظريات، وعلى خلافه، سمة مميَّزة في إعطاء الأولوية للنماذج على
البيانات الرصدية كما وبالدرجة نفسها على البيانات البديهية. ولكن، ما
هو "النموذج"؟ إن النموذج بمعناه العام جدًا الذي يغطي عددًا كبيرًا من
المفاهيم المستخدمة في مختلف العلوم، ليس شيئًا آخر سوى بنية، مكوَّنة
من مجموعة من الأشياء والعلاقات والعمليات على هذه الأشياء. إن نموذج
نظرية هو بنية لهذا النمط الذي تكون بالنسبة له كافة البيانات
المشتقَّة من بديهيات النظرية مُرضية[2].
لهذا السبب فإن التصوُّر الدلالي للنظريات العلمية يسمى أيضًا
"التصوُّر البنائي للنظريات العلمية"[3].
إن الخصوصية الأكثر تميُّزًا للتصور الدلالي للنظريات هي أنه عوضًا عن
التركيز على انتخاب البديهيات وعدم الاهتمام إلا بعد فوات الأوان
بالتوافق بين النظرية والتجربة عبر "تفسيرها"، فإنه يعرِّف نظرية على
أنها صفُّ كافة النماذج التي تقدِّم مباشرة تفسيرًا بمصطلحات الأشياء
والعلاقات. وهكذا يتعدَّل بشكل عميق مغزى العنصرين اللذين يتدخلان في
التصوُّر الكلاسيكي للنظريات، وهما البيانات الرصدية والبيانات
البديهية للصورية النظرية. وفي الواقع، فإن البيانات الرصدية والبيانات
البديهية في التصوُّر الكلاسيكي هي عبارة عن سلسلتين منفصلتين ترتبطان
فقط من خلال التفسير. وعلى العكس، في التصور الدلالي للنظريات، فإن
البيانات الرصدية تعدُّ هي ذاتها غير منفصلة عن نموذج ما (وبالتالي عن
النظرية التي يسهم في تعريفها). إن السبب المذكور لصالح هذا التراكب هو
أنه ليس مجموع المحتوى الإدراكي للباحث في مختبره الذي يقارن مع
النظرية، بل فقط البقية البنيوية، المشكَّلة في جزء منها من خلال شكل
التوقعات المستقرأة بواسطة النموذج النظري الشامل الذي يجب أن يقابَل
بها. إن هذه البقية البنيوية، التي تسمى "نموذج المعطيات"، هي التي
تترجم فيما بعد بشيء ما نستمر في تسميته ببيان "رصدي"، حتى وإن كنا لم
نعد نطابقه مع تقرير "لا تشوبه شائبة" لرصد مفسَّر. وفي مدى آخر، فإن
ما يوافق أن نسميه الصورية النظرية لا يظهر في التصور الدلالي إلا
كنواة مشتركة محرَّرة بعد فوات الأوان من البنية الأغنى للنماذج التي
يعرِّف صفُّها الكامل النظرية.
وعلى العكس، فإنه من الممكن أيضًا وصف التصور الكلاسيكي (البديهي
والقواعدي) للنظريات من وجهة نظر التصور الدلالي، وبشكل معارض له.
وعلينا من أجل ذلك الانطلاق من فكرة خاصة بهذا التصور الأخير، أن نظرية
ما تكافئ صفًا
T
من البنى المجموعاتية التي تشتمل على أشياء وعلاقات وعمليات. بعد ذلك،
فإن كلا من هذه النماذج أو البنى المجموعاتية يمكن أن يُحلَّل إلى عدة
بنى تحتية بحيث تكون الأكثر أهمّية من بينها: (أ) البنى التحتية
التجريبية، التي تقارن بشكل مباشر مع نتائج مختلف التجارب المعبر عنها
على شكل "نماذج معطيات"، و(ب) البنية التحتية الأنطولوجية، التي تحدِّد
صفَّ الكيانات التي نعتبر أن التجارب تمارس عليها، كما والعلاقات
المفترض وجودها فيما بينها. عندها تُعرَّف المطابقة التجريبية لنظرية
ما كإمكانية لدمج كل بنية من أصل الظاهرات (أو نماذج المعطيات) في إحدى
البنى التحتية التجريبية للنماذج العامة من الصف
T.
إن المكافئ الأنطولوجي للنظريات المتتالية يعرَّف من جهته على أنه
التقابل بين البنى التحتية الأنطولوجية لنماذجه؛ تقابل داخل تاريخ
التجريبية العلمية الذي، بالنسبة لواقعي علمي، يوحي بالطبع (إذا كان
مؤكَّدًا) بتقابل ما خارجي بين البنية التحتية الأنطولوجية للنظريات
و"البنية الأنطولوجية للعالم".
وضمن هذا المنظور، يمكن من جهة أخرى أن يكون من المهم تحرير بنية صغرى
تسمح بربط البنى التحتية التجريبية لكافة نماذج الصف
T
في أداة تنبؤية موحَّدة. إن هذه البنية التحتية الصغرى المشتركة، التي
سنسميها البنية التنبؤية للنظرية لا تتضمَّن عمومًا البنى التحتية
الأنطولوجية، لأن هذه الأخيرة يمكن أن تتغيَّر من نموذج إلى آخر. فهي
تتوافق بشكل جيد مع ما كنا لنعتبره، في التصور الكلاسيكي للنظريات،
كجمع لـ "الصورية البحتة" للنظرية مع قواعدها الوحيدة في التوافق
التجريبي.
نفهم ابتداء من هذه النقطة لماذا تأسَّس توافق معيَّن حول مفهوم
التصوُّر الدلالي للنظريات. فبفضل التصوُّر الدلالي أصبح بإمكان
اللاواقعيين التلاقي، دون الرجوع عن رأيهم، مع النقد الواقعي للمواجهة
الإيجابية بين صورية غير مفسَّرة وبيانات رصدية مستقلِّة؛ وهكذا يمكن
للواقعيين الاستدلال وإقامة الحجَّة مع اللاواقعيين على أرضية التطبيق
المنمذِج للبحث، دون أن يفقد أبدًا مع ذلك عن ناظريه خط الهدف الناظم
باتجاه نموذج "صحيح" للطبيعة.
تكمن المشكلة في أن التفوُّق المعترف به للنماذج يجازف بتعطيل إدراك
المراحل الأكثر تميُّزًا في تاريخ الفيزياء، إلا إذا كان قد تم تقليصه
عمدًا إلى مجرَّد اعتبار البنية التنبؤية وحدها للنظريات[4].
لأن متابعة تراتبية الأنماط الأنطولوجية المدرجة ضمن متوالية من
النماذج لم تعتبر كقيمة من قبل جميع العلميين وفي كافة العصور. هذا من
جهة، ومن جهة ثانية، فإن ما يميز المراحل الحاسمة من تطوُّر العلوم
الفيزيائية، كما سوف نرى، هو انقطاع وقتي للسلسلة النمطية المدرجة في
البنية التحتية الأنطولوجية للنماذج، وليس نشاطًا مستمرًا في التحول؛
إنه انهيار لهذه البنى التحتية الأنطولوجية يليه إعادة بنائها البطيء،
بالأحرى من إعادة التوجيه البسيطة لنشاطات النمذجة التي تستتبعها. وما
يزعج أكثر في الأمر بالنسبة لتطبيق التصوُّر الدلالي للنظريات بكامل
اتساعه، في الفيزياء الكمومية، هو أن إعادة تشكيل النماذج العامة، غير
المجرَّدة من البنى التحتية الأنطولوجية والقادرة على أخذ مجمل
الظاهرات الصغائرية بعين الاعتبار، يظلُّ معرقلاً بشكل دائم بواسطة
حواجز يعتقد باحثون كثيرون أنه لا يمكن تخطِّيها. ويستمدُّ الصوريون من
هذا الأمر أهمية حاسمة، وتظل النماذج إما في حدِّها الأدنى أو مجزَّأة
أو نظرية فائقة. فلنبحث هذه النقاط حسب التسلسل المذكورة فيه.
بداية، ليس من المؤكَّد بشكل مطلق بالنسبة للباحثين العلميين ضرورة أن
يأخذوا على محمل الجدِّ المحتوى الأنطولوجي للنماذج، لا بل وأن يكونوا
واقعيين بشكل تلقائي[5].
فلا تنقصنا الأمثلة المعاكسة على الباحثين الجيدين الأداتيين بشكل
صارم، أكانوا من الوضعيين أم من التقليديين، مثل دوهيم
Duhem
وماخ
Mach
وبوانكاريه
Poincaré
والشاب باولي
Pauli.
فدوهيم[6]
P. Duhem
على سبيل المثال لم يقع في مطب السخرية من ذوق الفيزيائيين الإنكليز
فيما يتعلق بالنماذج (الميكانيكية)، ويقابلهم بتصوُّره المجرَّد
للنظرية التي تبدَّى أنها في بعض الحالات (مثل الديناميكا الحرارية
الجهارية) أكثر خصوبة.
بعد ذلك، وبشكل خاص، إذا حللنا تاريخ العلوم الفيزيائية، فإننا نلحظ أن
العلاقات التي كانت للباحثين مع نماذجهم لم تكن مشاركة ولا ثابتة غير
متبدلة. ويمكن للحظات الثورية بشكل خاص أن تقسم إلى ثلاث مراحل من وجهة
نظر هذه العلاقات:
مرحلة الإسقاط النهائي للنماذج السابقة، على حساب التغيُّرات العميقة
لمواصفاتها؛
مرحلة نقد جذري للنماذج السابقة، تكون أحيانًا مرحلة تشكيك فيما يخص
فائدة النماذج التي تذهب إلى ما وراء البنية التنبؤية؛
مرحلة تحـضير معايير جديدة لتشكيل النماذج ولإنشاء نماذج جديدة ليست في
حدها الأدنى مصمَّمة ضمن منظور استمـرارية جـزئية بواسـطة الأنماط
الأنطولوجية ما قبل الثورية.
يحفظ هذا التحليل بشكل جزئي مخطط "الواقعية السياسية"، طالما أنه يكون
علينا التعرُّف، من المرحلة ما قبل الثورية إلى المرحلة ما بعد
الثورية، على تدخل معيار لاستمرارية تراتبية الأنماط الأنطولوجية
وأنماط التفسير. غير أن الواقعية السياسية لا تُحفظ كاملة، لأن المرحلة
الثورية بحصر المعنى، منطقة الانهيار هذه التي يُبنى فوقها جسر الأنماط
الأنطولوجية، تغيب عن هذا التحليل وتفلت منه.
إن بعض الأمثلة على التحليل الثلاثي السابق ستكون مفيدة لنا. وأول
الأمثلة الذي أعتبره هامًا من بينها هو مثال الثورة النيوتونية. كانت
نظرية الجاذبية قبل نيوتن ميكانيكية (آلية) بالمعنى الأكثر ضيقًا
للكلمة، فكانت تستخدم معيارًا ديكارتيًا لتشكِّل النماذج ابتداء من
الصور والحركات وأفعال الاتصال. غير أن اعتماد نيوتن لقوانين كبلر بشكل
كمي قاده إلى تعليق استخدام النماذج من النمط التدوُّمي وإلى إدخال
التصوُّر الشكلي لقانون جاذبية كوني يتناسب طردًا مع كتل الأجسام
وعكسًا مع مربع المسافة بينها. وإلى جانب المحاولات المتأخِّرة في
تعليل هذا القانون بواسطة نماذج مستلهمة ديكارتيًا، اعتمدت مشاريع
علمية أخرى من النصف الأول من القرن الثامن عشر نسخة وافية من القاعدة
النيوتونية "بعدم طرح الفرضيات
hypotheses non fingo"
كخط موجِّه لها، والتزموا بالنتيجة ببناء فيزياء استقرائية بحتة، مجردة
من النماذج والكيانات المتعذَّر رصدها. وكانت أول ترجمة فلسفية لهذه
الميول الاستقرائية وضع النظريات التجريبية للمعرفة على يد كل من هيوم
Hume
وكونديلاك
Condillac.
أما الثانية (وجاءت كرد فعل جزئي على التجريبية، إنما متوافقة معها
فيما يتعلق بنقد "العقائدية" الديكارتية) فكانت إعداد كانط، في
"المبادئ الأولى لميتافيزياء علم الطبيعة"، لتبرير تجاوزي لثلاثة
قوانين في الميكانيك النيوتوني وفي دمج لقانون الجاذبية الكونية في
الإطار المحدّد على هذا النحو.
مع ذلك، عادت ممارسة العلوم تدريجيًا، بدءًا منذ منتصف القرن الثامن
عشر، إلى استخدام نماذج هي في الوقت نفسه متجدِّدة من خلال اعتمادها
لمفهوم الفعل عن بعد، ومع ذلك قريبة في أنطولوجيتها للنماذج الذرية
والديكارتية السابقة. وكان من دلالة ونتيجة استعادة الحظوة للنماذج
إعداد قانون للمنهج الافتراضي - الاستنتاجي مقابل للمنهج الاستقرائي
البحت، وذلك على يد مؤلفين مثل ويليام هرشل
William Herschel
وويليام ويويل[7]
William Whewell.
فضلاً عن ذلك، وعلى الرغم من شهرة مؤلفين مثل هلمهولتز
Helmholtz
أو هرتز
Hertz
اقترحوا أشكالاً متجدِّدة للكانطية، فقد مال العديد من فيزيائيي القرن
التاسع عشر عمليًا إلى تجاهل الأمثولة الرئيسية في الفلسفة النقدية،
ألا وهي حلول إشكالية في تشكيل الموضوعية محل إشكالية تحديد عناصر
أنطولوجية ما[8].
بعد ذلك كله كان يمكن الاعتقاد أن كانط نفسه قدَّم الإجراء الذي يسمح
في إطار ممارسة العلوم بألا نأخذ بعين الاعتبار لتحليل شروط إمكانية
التجربة. فعلى الرغم من الفترة الطويلة التي كانت تتمُّ فيها محاولة
استكشاف مجال كان يمكن للظاهرات فيه أن تكون مرتبطة بشكل مناسب مع
مبادئ ديمومة الجوهر والسببية والتبادلية، فإن شيئًا لم يكن يمنع من
إسقاط هذه المبادئ على الطبيعة، ومن التصرف بالضبط كما لو كنا نتعامل
مع خصائص لأشياء موجودة "بذاتها".
بالتالي، كانت الفترة الممتدة بين نهاية القرن الثامن عشر ونهاية القرن
التاسع عشر من جديد فترة إعداد النماذج والنسيان المتواتر لنظامها
الأساسي من النماذج، أي فترة أخذ مكوِّناتها وفق نمط واقعي على مأخذ
الجدِّ. أضيف إلى ذلك إعادة تحديث لنمط علائقي معروف جيدًا، هو نمط
أفعال الاتصال، وذلك عن طريق التغيير في مفهومي الأثير والحقل. وقد
حصلت مقاومات كثيرة شديدة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، من
أداتيين وظاهراتيين وطاقيين واصطلاحيين، لهذا الميل إلى العودة للنماذج
بكل غناها. وقد أقضَّت هذه الممانعات المذكورة، التي يمكن قراءتها في
معظم الأحيان كردّة فعل للمرحلة الثورية في إعداد الترموديناميك، مضجع
أكثر الفيزيائيين إبداعًا في بناء وتبرير النماذج، وقادتهم في أبسط
الأحوال إلى تقييم نقدي للمضمون الأنطولوجي للنماذج[9].
لكن سرعان ما تم استبعاد هذه الممانعات بدورها خلال السنوات الأولى من
القرن العشرين بواسطة ما كان يبدو في ذلك الحين الانتصار الذي لا منازع
فيه للنموذج الذري.
مع ذلك، كانت سنوات التوافق هذه حول النموذج الذري هي أيضًا سنوات ثورة
النظرية النسبية والثورة الكمومية، واللتين سنطبق عليهما الآن التحليل
الثلاثي المراحل السابق.
كانت إحدى المقدّمات الأولى للثورة النسبية هي النتيجة السلبية لتجربة
مايكلسون ومورلي
Michelson-Morley
حول هواء الأثير. وكان أول ردِّ فعل على هذه النتيجة هو ردُّ فعل
لورنتز
Lorentz
الذي حاول تعليلها باللجوء إلى كافة مصادر نموذج الأثير. وبيَّن لورنتز
معتبرًا القوى الكهربائية كحالات ضغط داخلية للأثير، أن هذه القوى كانت
تتغيَّر عندما يتحرَّك جسم مادي في هذا الوسط، وأن هذا التغيُّر كان
يؤدي إلى انضغاط الجسم في اتجاه الانتقال. وبالمثل، كانت الكتلة
الفعلية للجسم تزداد بسبب حدوث أثر المخر (مثل مخر سفينة لمياه البحر)
في الأثير، وكان ذلك يؤدي بدوره إلى تباطؤ للساعات المتحرِّكة[10].
وكان انضغاط الأجسام وتباطؤ الساعات ضمن التناسبات الصحيحة يفسِّر، في
إطار التمثيلات المقبولة وأنطولوجيا الأثير المعترف بها آنذاك، النتيجة
السلبية لتجربة مايكلسون ومورلي. والمشكلة أن هذا الاستخدام النهائي
للنماذج القديمة كان قد ظهر بوضوح بالنسبة لهذه النتيجة. لأنه كان لا
بد من استحضار نتائج حركة الأجسام عبر الأثير من أجل تفسير الاستحالة
الجذرية لكشف أقل أثر له.
كانت مسيرة أينشتين
Einstein
مختلفة بشكل عميق، طالما أنها ارتكزت محقَّة على المحو الكامل للنموذج
السابق والتركيز على أسئلة تعريف عملياتية للمقاييس المكانية والزمانية
والحركية المطبَّقة. وقادته هذه المسيرة إلى إثبات مجموعة تناظر، تسمى
مجموعة لورنتز، وهي تصحُّ بالنسبة لكل مجموعة إحداثيات قياس مستقلة عن
السياقات التي تطبق عليها وعن النماذج التي يمكن تصوُّرها من أجلها. إن
هذا الدور المسيطر لمجموعات التناظر، الذي أضرَّ بالنماذج المرتبطة
بها، اعتبر بشكل محقٍّ منذ كاسيرر
E. Cassirer
إلى بتيتو[11]
J. Petitot
ككاشف عن استخدام كامن لنسخة معمّمة، غير كانطية بشكل صارم، للمنهج
التجاوزي
transcendant.
منهج يرتكز على لفت الانتباه، المأسور في الأصل بموضوع البحث، باتجاه
القواعد المحدِّدة لهذا البحث نفسه.
مع ذلك، لم يتأخَّر نوع جديد من النماذج في الظهور انطلاقًا من
التعيينات والتحديدات التي وضعها أينشتين. يتعلَّق الأمر هنا بالزمكان
رباعي الأبعاد لمينكوفسكي
Minkowski،
المؤسَّس على الثابت الأساسي في مجموعة لورنتز وهو المسافة الزمكانية.
وقد تمَّ ضمُّ هذا النموذج في غالب الأحيان إلى أنماط نماذج سابقة، مثل
تلك التي أصبحت لا تنفصل عن حركة الأجسام المادية وتبادلات الطاقة. غير
أنه كان هناك ميل أيضًا في بعض الأحيان إلى اعتبار الزمكان رباعي
الأبعاد نفسه على أنه الموضوع الوحيد في الفيزياء[12].
وهكذا فقد أمكن تجاوز المرحلة الثورية للانعكاسية العملياتية وإتمام
المهمة ما بعد الثورية في إعادة بناء النماذج. ونشير في معرض حديثنا
هنا أنه بات من الواضح بشكل جيد، عبر مثال نظرية النسبية، ما هو المبدأ
المزدوج الذي يحكم إعادة تشكيل النماذج بعد انهيارها خلال المرحلة
الثورية. وهذا المبدأ المزدوج هو (1) الميل إلى أقنمة[13]
الثوابت، على حساب مجموعة التناظر التي تكون هذه الثوابت معرّفة
بالنسبة إليها؛ و(2) تسجيل الأنماط الأنطولوجية السابقة في الإطار
الجديد للثوابت الذي تمَّ إقراره.
وتدخل أخيرًا الثورة الكمومية بشكل تام في المخطط الثلاثي الذي
حدَّدتُه، لكنها تتميَّز بأن لها مرحلة ثالثة صعبة، متفجِّرة، غير
توافقية، يستمرُّ التشكيك فيها لتعاد من جديد. المرحلة الأولى هي كما
الحال دائمًا مرحلة تمديد النوع السابق للنموذج، لقاء إعدادات
وانقطاعات مضبوطة. وتمثِّل هذه المرحلة بالنموذج الذري لبور، بين عامي
1913 و1924. فهذا النموذج يُدخل تمثيلاً تقابليًا مع تمثيل المجموعة
الشمسية. وتلعب فيه النواة دور الشمس، والحقل الكهرمغنطيسي دور حقل
الجاذبية، بينما تدور الإلكترونات في مدارات حول النواة. مع ذلك، فإن
هذه المدارات كما والإشعاع الصادر عن الإلكترونات تخضع لقيود إضافية
تسمى شروط التكميم. ويندغم التطور اللاحق لهذا النموذج مع التاريخ
المشوِّق للدراسة المنهجية التي قام بها بور من أجل تحديد عناصر
الانقطاع وعناصر الاستمرارية بين النظرية الكمومية الوليدة والفيزياء
الكلاسيكية[14].
غير أن الصعوبات المتراكمة في بداية العشرينيات من القرن العشرين،
والسمة الأكثر فأكثر وضوحًا بشكل مناسب، و"التراجعية" وفق معنى لاكتوس[15]
Lakatos،
لبرنامج البحث المؤسس بواسطة نموذج ذرة بور، قادت مع ذلك إلى أزمة ثقة
بين الفيزيائيين تجاه هذا النموذج.
وفي هذه اللحظة بالذات، بين عامي 1925 و1926، إنما جرى الحدثان
المؤسسان للميكانيك الكمومي: فقد تمَّ وضع ميكانيك المصفوفات على يد
هايزنبرغ
Heisenberg
ووضع الميكانيك التموجي على يد شرودنغر
Schrodinger.
لقد شدَّد فلاسفة علم معاصرون[16]
على فكرة أنه، وفقًا للتصور الدلالي للنظريات العلمية، فإن النظريتين
المذكورتين أعلاه لم تكونا منفصلتين عن النموذج المجهَّز ببنية تحتية
أنطولوجية: فميكانيك المصفوفات له نموذج جسيمي ومتقطع غير مستمر،
والميكانيك التموجي له نموذج مستمر غير متقطع للوسط المهتز. مع ذلك،
إذا تابعنا ما آلت إليه النظريتان بدلاً بالأحرى من النظر إلى لحظة
نشوئهما حيث كانتا لا تزالان تتميزان بالخط الاستكشافي لمبدعيهما،
فإننا نلاحظ أن الأمور تصبح أكثر تعقيدًا.
إن الميكانيك المصفوفي لهايزنبرغ لا يرتبط بنموذج جسيمي ومتقطع إلا من
حيث أنه تم إعداده بالابتعاد المتتابع بالنسبة له، وبإفراغ لمحتواه
التمثيلي وبتجريد لبناه الجبرية. علينا ألا ننسى العبارة الآمرة
لهايزنبرغ في عام 1925 التي كانت تطلب "البقاء ضمن حدود المرصودات".
صحيح أن هايزنبرغ قد استمر يقوده "مبحث"[17]
الجسيمي والمتقطع على الرغم من الواقع الذي كان قد جعله "يدقِّق" في
السابق إلى درجة جعلِه غير قابل للمعرفة؛ ولكن تحت ضغط الميكانيك
الموجي المنافس وجد نفسه منذ عام 1926 منقادًا إلى إعادة بعث المجرى
الشكلي لنظريته (البنية التحتية التنبؤية) وتمييزها بشكل لا ريب فيه
بعناصر متبقية من نماذج كاملة كانت منذ ذلك الحين فصاعدًا تصنَّف تحت
عنوان "التفسير"[18].
وباعتبار صيرورة إعداد الميكانيك المصفوفي، فإن هذا التمييز المتأخر
بين الصورية و"التفسير" لا يجب أن يعتبر برأيي كإعادة بناء عقلية
بسيطة، بل كمرحلة نهائية لفهم هايزنبرغ لمعنى عمله في عام 1925.
أما بالنسبة للميكانيك الموجي فهو بلا أدنى شك يشكل جزءًا من نموذج
مستمرٍّ كان قد اقترحه دو بروغلي
de Broglie
لتفسير القيود التي كان قد وضعها بور في التكميم؛ وهكذا فقد تبيَّن
بسرعة كبيرة، انطلاقًا من الصعوبات التي صادفها شرودنغر[19]
Schrodinger
في منتصف عام 1926 والتفسير الاحتمالي للتابع الموجي المقترح من ماكس
بورن
Max Born،
أن هذا النوع من النماذج لا يجب أن يؤخذ بشكل حرفي وأنه لم يبق منه هنا
أيضًا سوى الهيكل الشكلي ذي الوظيفة التنبؤية. وكما بيَّن فون نيومن
von Neumann
فيما بعد، فإن "صورية " وحيدة تسمح بالمقابل بأن نجمع في مخطط واحد
القدرات التنبؤية المتقاربة للميكانيك المصفوفي وللميكانيك التموجي.
يمكن بالتالي اعتبار عامي 1925 و1926 كعامي انهيار آخر امتدادات
النماذج السابقة والتشكُّكية المتزايدة اتجاه كل إمكانية لتأكيد قيمتها
الكشفية البدئية. أما المرحلة التالية فقد انطلقت منذ عام 1927، وهي
مرحلة محاولات إعادة بناء حدٍّ أدنى من الاستمرارية مع الأنماط
الأنطولوجية للنماذج السابقة. ففي هذه السنة قدَّم هايزنبرغ علاقاته في
الريبة التي بيَّنت على الأقل، دون تكريس عودة تمثيل عنصر جسيمي مزود
بمسار، كيف تسمح الصورية الكمومية بالتنبؤ بمتتالية من الأحداث
التجريبية التي تتظاهر إلى حد ما كمسار. وفي الوقت نفسه قاد إدخال
مفهوم التكاملية على يد بور إلى توضيح الحدود التي كان يفرضها الوضع
الجديد على مساعي إعادة بناء النماذج. ونقول هذه الحدود، لأنه أيًا كان
نمط النموذج الزمكاني السابق الذي يراد تمديده بشكل تقريبي في المجال
الصغائري، فإن صحَّة هذا المدِّ يُحدُّ بتمثيل الظاهرات التي يتم
الحصول عليها في إطار تجريبي محدَّد تمامًا. إن سلسلة من الظاهرات
النقطية "المقاربة" لمسار، والميسَّرة بذلك الهدف القصدي للأجسام
الزمكانية المنتمية لنمط نموذج جسيمي، نصادفها في إطار صفٍّ خاص من
التجهيزات مثل الغرف ذات الفقاعات. وإن تجمعًا من الظاهرات النقطية
"المحاذية" لشكل تداخلي، والميسَّرة بذلك لهدف قصدي من الأجسام
الزمكانية المنتمية إلى نمط النموذج الموجي، نصادفه في إطار نوع مختلف
من التجهيزات، مثل شبكات الانحراف البلورية. إن ديمومة كل نموذج
زمكاني، وكل عنصر من البنية التحتية الأنطولوجية للنموذج، لا تتجاوز
حدود إطار تجريبي. ولما كنا نعلم من جهة أخرى أن هذه الأطر هي أطر غير
متوافقة، وأنه من المستحيل أن نتجاوز بشكل تسلسلي هذا التعارض بينها
إلا في أفضل الأحوال بريبة لا يمكن حصرها تقريبًا، فعلينا القبول أن كل
نموذج هو نموذج متحيِّز وجزئي، وأنه متعلِّق بعينة من الأوضاع
التجريبية، وأنه أيضًا غير متوافق كثيرًا مع نماذج أخرى الأطر المرتبطة
بها تحقِّق هذا التوافق فيما بينها. إن مثل هذه النماذج الجزئية، التي
يرتبط كل منها بوضع خاص، لا يمكن اعتبارها على أنها مظاهر لنموذج واحد
شامل.
كانت الجِدَّة الحاسمة في الوضع الذي واجهه الميكانيك الكمومي غياب
التوافق الكافي للأطر، والغياب الملازم للثابت الوحيد "عبر - السياقي"
للظاهرات التي يمكن أن تسمح بالإجراء النهائي لأقنمة الثوابت. ونتيجة
ذلك هو أنه حتى عندما يستخدم فيزيائيون نماذج مستلهمة من التراتبية
التقليدية للأنماط الأنطولوجية، فإنهم يقومون بذلك عمومًا إما بطريقة
مجزَّأة أو تقريبية، واضعين نصب أعينهم حدودهم في الصحة، وإما باستخدام
القواعد البليغة والتصويرية (مثل مخططات فاينمان
Feynman)
التي تسمح باحترام هذه الحدود بشكل شبه آلي.
إنه لمن الصحيح أن تصوُّر النماذج الموحَّدة من نمط سابق ليس ممنوعًا
منعًا باتًا. لكنه يأخذ شكل نوع من لعبة ذهنية: لعبة النظريات ذات
المتغيرات الخفية (غير المحلية) التي لا تزعم أنها تصف ثوابت ظاهراتية
بل صيرورة تقع بشكل أساسي خارج إمكانية التقصِّي التجريبي. يستمدُّ عدد
من فلاسفة الفيزياء المعاصرين حجَّة من ذلك (ذات طبيعة غير تجريبية
بشكل واضح) من أجل استبعاد النظريات ذات المتغيِّرات الخفيَّة من
مجموعة التفسيرات المقبولة في الميكانيك الكمومي[20].
من الصحيح أيضًا أنه إذا كان الميكانيك الكمومي المعياري لا يترك
المجال لانبثاق أي ثابت للظاهرات التي تتمُّ في المكان وفي الزمان،
فإنه يستخدم بشكل واسع ثوابت صورية في فضاءات مجردة مثل فضاء
هيلبرت
Hilbert.
وهكذا نفهم أن بعض المؤلفين استطاعوا اعتبار أن "فضاء هيلبرت هذا هو
فضاء الموضوعية الكمومية"، بدلاً
بالأحرى
من الزمكان العادي[21]؛
وأن كتَّابًا آخرين طوَّروا منهجية موازية بين التشكيل الزمكاني
للموضوعية الذي حلَّله كانط والتشكيل الهيلبرتي الجديد للموضوعية[22].
فإذا ما تقيَّدنا بهذا المنظور، فإن سؤالاً هامًا لا يمكن مع ذلك
تحاشيه. هل هناك وسيلة لكي نربط، حتى لو بطريقة مجزَّأة وغير مباشرة،
قانون الثابت لمثل هذه الكيانات الرياضية في فضاء مجرَّد مع عناصر
حسِّية هي الظاهرات التجريبية؟ إن ذلك ممكن ضمن حدٍّ معين، وفقًا
لطريقتين. فبالدرجة الأولى، إن الشعاع الموجَّه لحالة فضاء هيلبرت الذي
نقرنه عند كل تحضير يمكن أن يُعتبر كنوع من الثابت الترتيبي، طالما أنه
الرمز الوحيد الذي يسمح بحساب احتمالات النتائج لأي قياس يمكن أن يجرى
بعد عملية التحضير. وبالدرجة الثانية، فإن الشعاع الموجَّه لحالة فضاء
هيلبرت هو أيضًا الثابت التصنيفي لصف محدود من العمليات التجريبية
المسماة "قياسات ثبوتية الحرارة
adiabatique"،
التي يمكن أن نصل من خلالها إلى القيمة المتوسِّطة لمرصود ما بطريقة
مباشرة و"غير مخلخِلَة"، دون المرور بإحصائية القياسات النقطية
"المخلخِلة"[23].
لا تنقصنا الثوابت إذن في الميكانيك الكمومي، بل وهي تحفظ درجة معينة
من الاتصال مع الظاهرات؛ غير أن طابعها غير الطبيعي يظل ظاهرًا بشكل
جلي على الدوام لكي يسهِّل العملية العادية التي ترتكز على أقنمتها بعد
أن تكون قد أخفت مجموعة التحولات الموافقة. كبداية، كان كارل بوبر
K. Popper
يدعم بشدَّة فكرة ثابت ترتيبي في الميكانيك الكمومي[24]،
لكنها ظلَّت موضوع انتقادات فلسفية لا يمكننا الاستهانة بها. ووفق كوين
Quine
بشكل خاص، فإن الترتيبات لا يمكنها الاستفادة من أية استقلالية بالنسبة
للأحداث التي تحصل فعليًا والتي يفترض أنها تشكِّل كمونات لحدوث غير
متوقع[25].
أما بالنسبة للخيار الذي يرتكز على الحدِّ من أشعة الحالة الموجِّهة
بحيث لا تكون الثوابت التصنيفية إلا لصف محدود من المعالجات التجريبية
(قياسات " ثبوتية الحرارة")، فإنه يترك مسألة ثابت تصنيفي عام يغطِّي
كمية من صفوف تجريبية أخرى مسألة مفتوحة.
وفي المحصِّلة، فإن الوضع ما بعد الثوري للميكانيك الكمومي هو حالة
سلسلة من المحاولات المخفقة أو المبتورة أو المتفجِّرة أو التعسُّفية
أو المحدودة، لإعادة بناء التراتبية التقليدية من الأنماط الأنطولوجية
المقترنة بالنماذج. وكان السبب الرئيسي لهذا الإخفاق قد حُدِّد بوضوح
فيما سبق أن أوردناه: إنها سياقية الظاهرات التي يجعلها الحدَّ الكمومي
الذي تفرضه ثابتة بلانك على إمكانية الموازنة، إلا في حالة خاصة هي عدم
توافقية القرائن والسياقات التجريبية، أمرًا لا يمكن تجنُّبه.
إن هذه السياقية تغيِّر الملاحظات المعتادة للإبستمولوجيين حول ارتباط
الوقائع مع توجُّه إجراءات البحث بصلة مشكِّلة للنظرية الفيزيائية.
وبالتالي، فإننا لا نستطيع القول، كما لا يزال يقبل بذلك ولو بالإشارة
العديد من الفيزيائيين اللاواقعيين المعتدلين، بأن النظرية الكمومية
تخضع لضغط انتقائي مصدره طبيعة مسبقة التشكُّل. فهي خاضعة لضغط انتقائي
تمارسه عليها الظاهرات التي ترتبط بنيتها بالكلية التي لا تنفصم
والمشكَّلة بواسطة الوسط ووسائل البحث، حيث أن الوسائل تتشكَّل بدورها
بالمشروع النظري التي تجسده. إن صيرورة المفعول الرجعي في صيرورة
التطور، والتشكيل الذاتي للوسط البيئي الاصطفائي وللكيان الذي سيتم
اصطفاؤه، تبلغ هنا إحدى الذرى: الذروة التي يصبح فيها شكل العالم نفسه،
بناؤه في مجموعات من الحوادث الظاهراتية المانعة لبعضها بشكل متبادل،
جزءًا مما تشكِّله إجراءات البحث التي يتعلَّق الأمر أصلاً باختبار
خلفيَّتها النظرية.
علينا التذكير هنا بأن ذلك لا يتطلب أي تسهيل مثالي سطحي. لأنه ما أن
يبدأ العمل بمشروع البحث، وما أن يفرض المشروع نفسُه اللحمة البنيوية
للظاهرات الممكنة، فإن سؤال معرفة أيٌّ من ظاهرات مجموعة الممكنات التي
سوف تظهر إثر تطبيق كل تطبيق فردي لتجربة يظل، في الإطار اللاتحديدي
للفيزياء الكمومية، سؤالاً مفتوحًا بشكل كامل.
1- 6 الفيزياء الكمومية والفلسفة الصورية التجاوزية
ضمن هذه الظروف، فإن مطابقة اللحظات التجاوزية التي تجمعها صورية
الميكانيك الكمومي تكتسب أهمية غير مسبوقة. فلم يعد الأمر يتعلَّق فقط،
كما بالنسبة لعمل كانط على الفيزياء النيوتونية أو عمل كاسيرر على
نظرية النسبية، بوضع تأمُّل فلسفي مستقلٍّ حول شروط إمكانية المعرفة؛
إنه تأمُّل يعمل الفيزيائيون من جهة أخرى على تجاهله تمامًا في
ممارستهم اليومية لصالح العمل باللامتغيرات والنماذج. لأن أكثر
الفيزيائيين وضوحًا لم يعودوا يستطيعون هنا تجنُّب الارتياب بأن
النماذج الكشفية التي يستخدمونها ليست ربما سوى إسقاطات جزئية وذات
صحَّة محدودة للمعايير الناظمة للصفوف التحتية لنشاطاتهم. إن الكشف عن
شبكة الافتراضات المسبقة للصف الكامل من النشاطات التجريبية التي
تقدِّم نظريتهم الجامعة التنبؤات بخصوصها، وبيان كيف يمكن للنماذج
الجزئية أن تشتقَّ منها، يعطي عندها شكلاً لارتيابهم، ويسهِّل في الوقت
نفسه تحوُّل نظرتهم. وعندما لا تعود خلفية الافتراضات المسبقة التي
يتراكم عليها البحث قابلة للإسقاط دون تحايلات بشكل نموذج وحيد وقابل
للاختبار تجريبيًا، فإن أحدًا لن يستطيع تجنُّب الالتفاف مباشرة
باتجاهها.
ولكن كيف ننجز مثل هذه المهمة؟ وكيف نثبت العناصر التجاوزية المشكِّلة
للميكانيك الكمومي؟ يكفي من أجل ذلك برهان أن الميكانيك الكمومي يمكن
أن يكون مشتقًا ابتداء من قواعد التحديد التي تخصُّ الأعمال التجريبية
ونمط التنبّؤ بنتائجها. يكفي بعبارة أخرى إثبات ما يسميه بتيتو
J. Petitot
"الطبيعة الغالوازية" للنظرية، أي التحديد السلبي لما هو سهل البلوغ
للنظرية بما هو غير ممكن البلوغ بالنسبة لها من حيث بناؤها[26].
وهذا ما توصلت أجيال من الباحثين للقيام به عبر مراحل، وما سأحاول
تلخيصه بسرعة هنا[27].
بداية، يمكننا البرهان أن صورية الأشعة الموجِّهة للحالة في فضاء
هيلبرت، مرتبطة بالقاعدة الاحتمالية لبورن، هي الترجمة الأبسط لشرطين
حصريين. الشرط الأول هو استحالة فك سياقية
dé contextualiser
الظاهرات التي يعمل عليها التنبؤ الاحتمالي. والشرط الثاني هو لاتعددية
الأداة التنبؤية أيًا كان القياس الذي يلي تحضيرًا تجريبيًا معطى.
من الواضح أن الشرط الأول هو من رتبة تحديدية. فهو يجمع والحق يقال
الحدودية الرئيسية؛ أي التي جعلت الفيزياء الكلاسيكية فيزياء مزعزعة؛
بل وهي حتى التي جعلت تطبيق اللغة العادية وأساسها المنطقي على الكون
الصغائري أمرًا إشكاليًا، طالما أن اللغة تفترض مسبقًا، عبر استخدام
التنبؤ، إمكانية تجريد بعض جوانب الظاهرات من تبعيتها للأوضاع. وكما أن
مبدأ النسبية لغاليليه
Galilée
كان يشكِّل شرطًا تحديديًا، حيث كان يمنع التنبؤ بسرعة جسم بغض النظر
عن المرجع، فإن مبدأ السياقية لبور يشكل شرطًا تحديديًا عامًا، بحيث
يمنع التنبُّؤ بأية خاصية كانت لجسم ما بتجاهل الشروط الأداتية. وكما
أن مبدأ النسبية لغاليليه حلَّ محلَّ التساؤل حول وجود الحركة وهو سؤال
تجاوزي نموذجي حول شروط إمكانية التنبؤ بالسرعة في مرجعية ما، فإن مبدأ
السياقية لبور حل محل مسألة تلازم الخصائص، وهي مسألة تجاوزية حول شروط
إمكانية القياس لكل تحديدية في الظروف الأداتية المعينة. إن التعبير
الكمي لتحديدية بور، وهو القيمة (غير المعدومة) لثابتة بلانك، يمكن أن
يشتقَّ من جهة أخرى بدوره من حجة من نمط تجاوزي: وهو المبدأ الإنساني
الضعيف[28]،
ووفقه فإن حدودًا صارمة تُفرض على مجموعة القيم للثوابت الكونية
الرئيسية إذا كان يجب على الوجود البيولوجي للإنسان أن يكون ممكنًا
ببساطة.
أما الشرط الثاني، فإنه يعكس من جهته مشروع موازنة نقص الوحدة
التمثيلية (التي تفرضها استحالة فكّ السياقية)، باللجوء إلى وحدة
قطعية: أي وحدة رمز يسمح بحساب قدر ما نريد من قوائم الاحتمالية كما
ومن القياسات القابلة للإجراء إثر التحضير نفسه. إن هذا الشرط يفرض
حدًا على ما نعدّه مقبولاً بالنسبة لموضوع الصلة بين الصورية والتجربة،
هذا إذا أردنا على هذا المستوى أو ذاك (على المستوى الاحتمالي إذا لم
يكن ذلك ممكنًا على مستوى التحديدات)، أن تكون كافة المعلومات
المتوفّرة من أجل التنبؤ بالظاهرات محدّدة بشكل يشارك فيه تحضير
التجربة[29].
بعد الحصول على بنية متّجهات الحالة في فضاء هلبرت، كترجمة لقيدين
تحديديين سابقين، يجب أيضًا اشتقاق معادلة (أو معادلات) تطوِّر متّجهات
الحالة هذه (مثل معادلة شرودنغر). إن البرنامج الذي ألزمنا نفسنا به
يتطلب أن نستخدم هنا أيضًا إجراء تابعًا لصف واسع من المناهج
التجاوزية. غير أن ذلك ممكن تمامًا شرط تطبيق سلسلة مناسبة من مبادئ
اللاتغير والتناظر التي لن أدخل في تفاصيلها هنا[30]،
إنما حيث يجب ببساطة الإشارة من جديد إلى التوافق مع قواعد تحديد
النشاطات التجريبية والتنبؤ بنتائجها. وفي الواقع يمكن لمجموعة تناظر
أو لمبدأ لاتغيُّر أن يعتبرا كقواعد محدِّدة بما هي تخصُّص ما لا يجب
أن نستطيع رصده خلال تراجع هذا البحث. فوفق مبدأ اللاتغيُّر عبر
الانتقال في المكان على سبيل المثال، يجب ألا نستطيع رصد التغيُّر في
الترتيب القانوني للظاهرات من موضع إلى آخر؛ ووفق مجموعة تحويلات
لورنتز التناظرية، لا يمكننا رصد تغيُّرات شكل القوانين (بما في ذلك
قوانين الكهرمغنطيسية) من مرجع عطالي إلى آخر. وهكذا ينتقل التأكيد مرة
أخرى من تمييز الأشياء بواسطة مسندات جوهرية إلى تحليل شروط إمكانية
توضيح الاستنباط التنبؤي الصحيح من أجل أي من الأوضاع الخاصة التي تظهر
فيها الظاهرات.
هكذا تختتم النظرة الإجمالية السريعة لما يمكن أن نسمِّيه "الاستنتاج
البراغماتي - التجاوزي" للميكانيك الكمومي. تظهر لنا الصورية الكمومية
عند النظر إليها بهذه الطريقة أنها ليست بعيدة عن التبرير (كما يقبل
بذلك التجريبيون) وليست مبرَّرة بواسطة اتفاقها "اللامعقول" مع العالم
كما هو عليه (كما يميل إلى الاعتقاد الواقعيون). إن الصورية الكمومية
مبرَّرة في جزء كبير منها من خلال اتفاقها "المعقول" البنيوي مع
المشروع العلمي في توقّع ظاهرات محدَّدة تبعًا لإطار تجريبي.
1- 7 التلاقي الانعكاسي: مشروع آخر للفيزياء
إن هاتين السمتين للميكانيك الكمومي، أي إمكانية تبرير ما هو أساسي في
البنية من خلال شكل محدَّث ومعمَّم للاستنتاج التجاوزي، والصفة
المجزَّأة أو العشوائية للنماذج المرتبطة بها، تلقي ضوءًا هامًا راجعًا
في الماضي على تاريخ الفيزياء. فبداية، يجب التذكير أن مجرَّد تقديم
بديل واضح لتفسير نجاح النظريات بواسطة الواقعية المتقاربة يجعل هذا
التفسير بشكل آلي أقل جاذبية، طالما أن إحدى حججه الكبرى هي حصريَّته.
بالمقابل، فإن جاذبيته تتناقص أيضًا إذا أخذنا بعين الاعتبار الوضع
الحالي لأكثر النماذج غنى في المحتوى الأنطولوجي. فطالما كان من
الممكن، خلال الفترات التي تلت ثورة في العلوم الفيزيائية، صياغة نموذج
موحَّد يندرج ضمن تراتبية تقليدية من الأنماط الأنطولوجية، كان يمكن
الاعتقاد بأن اللحظة القصيرة التي كانت تجد فيها القاعدة التجاوزية
للنظريات نفسها معروضة لم تكن سوى لقطة عارضة من مسار، وأن ديناميكية
البحث كانت تظل في العموم مشدودة نحو النظرة التقاربية لنموذج صحيح
للطبيعة. ولكن بدءًا من اللحظة التي لم تعد تسمح فيها النماذج
المقترحة، كما هو الحال في الميكانيك الكمومي، بتقديم تمثيل موحَّد
وغير اعتباطي، وفي الوقت نفسه حيث الخلفية التجاوزية للنظرية تظل صريحة
واضحة، فإنه على العكس يحق لنا أن نتساءل إذا لم تكن الأولوية السابقة
الممنوحة للنماذج تعود لصدفة تاريخية بعيدة. ولم يكن هذا الحدث الطارئ
سوى ظرفِ بحثٍ ما كان لا يزال معهودًا بالنسبة لبيئة
umwelt
النوع الإنساني، لوسطنا البيئي المباشر، لهذا النوع من جزيرة الوسط
الباسكالي حيث لا تقود الافتراضات المسبقة البراغماتية للفعل واللغة،
كما على سبيل المثال فك السياقية، إلى أي طريق مسدود. وبسبب هذا الحدث
الطارئ إنما لم يكن ثمة شيء يمنع متابعة إعداد تراتبية لأنماط النماذج
التي كان نموذجها البدئي هو نموذج "الشيء" ومكان البيئة اليومية، هذا
على الرغم من اعتراضات الوضعيِّين ومن النظرة النقدية عند الكانطيين
الجدد.
وبالنتيجة، على ضوء دروس الميكانيك الكمومي، فإن إدراكنا ينقلب لما هو
طارئ ولما هو أساسي في تاريخ الفيزياء.
تظهر السلسلة الطويلة من سلسلة أنماط النماذج (على الأقل في حالة
النماذج المرتبطة بالنظريات - الإطار الكبرى) كنتيجة دائمة إنما ظرفية
لإسقاط للمعايير والافتراضات المسبقة لأفعالنا على الطبيعة. إنه إسقاط
يميل للتحقُّق على نمط قريب قدر الإمكان من الفهم المسبق الإدراكي
والمحفِّز لمهماتنا اليومية.
إن الكيان النظري، المشبَّه قليلاً بالموضوع الاجتماعي الذي حلَّله
سيرل[31]
J. Searle،
يشكِّل جزءًا من نموذج يظهر مثل موضع تمفصل للتطبيقات والممارسات[32]؛
موضع تفترض فعاليته ألا يكون معترفًا به على هذا النحو، وذلك ليس إلا
من أجل ألا تنعدم ثقتنا به من خلال وضوح زائد تجاهه[33].
يمكننا أن نتساءل انطلاقًا من هنا إذا كان الموقف الواقعي آنيًا
لأغلبية الفيزيائيين والسلسلة المدهشة من النجاحات الذي سمح بالتوصل
إليها لا يمكن تفسيرهما بملاحظة من النوع نفسه لتلك المعروفة في نظرية
الاحتمالات فيما يخص "مبرهنة الكتاب الألماني
Dutch book theorem".
وكما كتب جيمس لوغ
James Logue
في كتابه الحديث "الاحتمالية الإسقاطية
Projective probability"،
"[...] علينا، لكي نكون متجانسين (ولكي لا نفقد رهاناتنا بشكل مؤكَّد)،
أن نثق بشكل كامل بمسيرتنا الخاصة"[34].
إن هذه الثقة الخصبة بالمسيرة الخاصة، وتجانس المسيرات التي تنجم عنها،
هو ما يعبِّر عنه محقًا "قانون الإيمان" بالنسبة للواقعي المتلاقي.
ولكن، يتابع لوغ، "[...] لسنا بحاجة ليكون لدينا أي مستوى من الثقة
بواقع أن هذه الثقة في مسيرتها الخاصة هي ثقة مبرَّرة". يعطي ذلك الحق
للفيلسوف عندما لا يحاول الموافقة على الصورة الواثقة التي يعطيها
الفيزيائي عن عمله الخاص، وعندما يسمح لنفسه بالشكّ بالمبررات
المقدَّمة لصالح هذه الثقة، وعندما يبحث عن بيانات أخرى مقبولة
للنجاحات العملية المتزايدة للعلوم غير التلاقي باتجاه بيان مخلص
لواقعية مسبقة التشكُّل.
وعلى العكس، فإن ما يبدو بشكل استدلالي أساسيًا في تاريخ النظريات
الفيزيائية، هو هذه اللحظات التي كانت في البداية غير واضحة وعابرة ثم
أصبحت أكثر فأكثر وضوحًا، حيث نبش بعض أكبر ممثِّلي المراحل الثورية
الأساس البراغماتي - التجاوزي للمرحلة التي كانوا في طور اجتيازها.
وبالتركيز على هذه اللحظات بدلاً بالأحرى من التركيز على المراحل ما
بعد الثورية من إعادة إعداد النماذج، فإننا نوجَّه إلى فهم تاريخ
الفيزياء بطريقة معاكسة بشكل جذري بالتأكيد لطريقة الواقعية المتقاربة،
إنما هي أفضل هيكلة بكثير من طريقة التزايدات الفوضوية من المحاولات
والأخطاء على طريقة فايراباند[35].
نتوصل من ذلك إلى اعتبار هذا التاريخ كمتتالية من المراحل المتقطِّعة
لتوسعة المعايير التي تفترضها مسبقًا ديناميكية نشاطات البحث، يليها
تفسير هذه المعايير من خلال صورية نظرية متوافقة مع كل مرحلة من مراحل
تعميمها. وتتمّ توسعة هذه المعايير من جهتها خلال زمنين أساسيين. ففي
زمنها الأول تعمل نظرية فيزيائية سابقة كتنظيم ذي أساس استنباطي
للمعايير المفترضة مسبقًا بواسطة نمط تقليدي من النشاط التجريبي ومن
توقُّع نتائجه. وفي زمن ثان، فإن ظرف قيمة غير معدومة لثابتة كونية
(تترجم هي نفسها، وفق المبدأ الإنساني الضعيف، شيئًا من وضعنا في أن
نكون في العالم بالأحرى من كوننا شيئًا من العالم كما هو عليه بشكل
مستقل عن المكانة التي نشغلها فيه)، يقيد المجرِّب الذي يواجه مجالاً
لا يمكن فيه لهذه القيمة أن تُهمل في إعادة توجيه نشاطه، وفي توسيع
المعايير وفي صياغة نظرية أخرى تجمع هذه المعايير الجديدة.
باعتماد هذه الطريقة في فهم تاريخ الفيزياء فإننا نبلغ عدة مواضيع
إبستمولوجية هامة:
يقودنا ذلك إلى اعتبار تطوُّر النظريات كصيرورة إذا كانت تتميّز بشكل
جذري عن نمط مقاربة الواقع، فإنها تستعير شيئًا ما من عقلانية مناهج
البحث التي يجمعها المعتقد الواقعي. وفي الواقع، تميل هذه الصيرورة
بشكل منظَّم، تحت غطاء تناوب في التحضيرات، وإخضاع للتجربة وسحب
للنماذج، إلى اصطفاء معقوليات إجرائية أكثر فأكثر عمومية متوافقة مع كل
مرحلة من توسُّع البحث التجريبي.
نتجاوز مسألة التحديدية التحتية، طالما أن هذه الأخيرة تتعلَّق بالغنى
التمثيلي للنماذج وليس بالافتراضات المسبقة التجاوزية الدنيا لتطبيق ما
(التي يعبَّر عنها بالبنية التنبُّؤية التحتية للنظرية).
نعطي بذلك معنى جديدًا لأحادية البعد في العمل العلمي، بتجنُّب ربطه
بهذا الركود من البنى التحتية الأنطولوجية للنماذج الذي كان يميل إلى
دعم الواقعي في انطباعه بأن يتابع بنجاح بحثًا عن الحقيقة - التوافقية.
على ضوء مثل هذا التصوُّر، فإن الإجراء المعياري، الذي يُدخل متتالية
متكاثرة من المخمَّنات والتفنيدات للنماذج، يفسَّر بشكل جزئي بالصعوبة
في تحديد المعايير التي تكون متضمَّنة أحيانًا في بحث ما دون مساعدة من
ترجمتها الموضوعية على شكل نماذج. تتبدى مذَّاك أسطورة التلاقي نحو
الواقعي كإسقاط أنطولوجي أو كصورة في المرآة لتلاق آخر. وهذا التلاقي،
هو التلاقي الذي سمَّيته التلاقي الانعكاسي؛ أي التلاقي باتجاه أكثر
الأشكال عالمية في عمل توجُّه الكائن الفاعل في العالم.
وحول هذه النقطة الأخيرة، لست بعيدًا عن مشاركة التحليل الذي يقترحه
ميشيل سيرّ
M. Serres
حول تطوُّر الرياضيات، في كتابه بدايات الهندسة. فبالميل نحو
موضوع يبدو أكثر فأكثر تعقيدًا كما يشرح سيرّ، لا تكفّ الرياضيات عن
التعميم، أي عن إفقار مسلماتها، والكشف بذلك عن القيود المسبقة
للعمليات الأكثر فأكثر بدئية. لقد انتقل الرياضي على سبيل المثال من
تطبيقات المسح الهندسي بالنسبة للهندسة الإقليدية إلى تطبيقات النسَّاج
بالنسبة لطبولوجيا الغراف[36]،
أو إلى تطبيقات حديثي الولادة في "المرحلة الحسية - الحركية" بالنسبة
لنظرية المجموعات[37].
إن الأمر الأصيل كما يخلص سيرّ هو أن "الزمن الرياضي يتجه نحو أفقه غير
المتوقع ونحو بدايته"[38].
وفي الإطار نفسه لنا الحق بملاحظة أنه بميل الفيزيائي إلى دفع المعرفة
دائمًا بعيدًا عن موضوعها، فقد انتهى إلى تفجير القيود المسبقة العملية
لتعريفه، وإلى وضع معايير أكثر فأكثر عمومية وبدئية للعملية التجريبية
بشكل غير مقصود. لقد مررنا على سبيل المثال من المجال الذي تحكمه
الفيزياء الكلاسيكية إلى المجال الأوسع الذي تحكمه الفيزياء الكمومية
من نشاط تشغيل الأجسام المادية، الأمر الذي يفترض مسبقًا تحكُّمًا
كاملاً بالهوية وبديمومة الكيانات المشغول عليها، إلى نشاط ينتج
الظاهرات اللاعكوسة والنقطية والمرتبطة بإطار، حيث يكون العمل خلالها
على إعادة مطابقة ما يظهر هو مسألة مفتوحة بالأحرى منه خبرة ومكتسبًا.
إن القيود المولِّدة للتنبّؤ الاحتمالي في هذا الصف الواسع جدًا من
الظاهرات الأولية هي القيود التي تشكلها النظرية - الإطار في الفيزياء
الكمومية. وبالمضي مع أفكار سيرّ يمكننا التعجب معه: "إن تاريخ
الفيزياء، الفريد في نوعه، يتجه نحو خلفيته الضمنية وحركيته الأولية".
وبكلمة واحدة فإن تاريخ الفيزياء يتلاقى انعكاسيًا.
1- 8 ما بعد النظريات (ميتا نظريات) وما بعد المناهج
لا بدَّ مع ذلك من أخذ حذرنا ونحن نختم هذا الفصل. إن الفلسفة
الانعكاسية لها ماض؛ فهي لم تنفكّ تصطدم بانتقادات لا يمكننا ألا
نأخذها بعين الاعتبار. إن مصطلح "الانعكاسية
réflexivité"
نفسه يحمل دلالات ذاتية لا بد من التخلُّص منها في فلسفة العلوم. وسوف
أعتمد لكي أستطيع القيام بمهمة التوضيح هذه التي لا بد منها على تبادل
سريع لوجهات النظر بين فون ويزاكر
C. F. Von Weizsacker
وهابرماس
J. Habermas
فيما يخص الفيزياء الكمومية. فويزاكر لم يتردَّد في عدد كبير من نصوصه
بتشبيه الميكانيك الكمومي بـ "نظرية المعرفة البشرية"[39]،
الأمر الذي يمكن أن نقرأ فيه بيقين لا لبس فيه طبيعته الانعكاسية، إنما
مع إراداة كامنة بجعل موضوع المعرفة موضوعيًا. ويشتمل
رد
هابرماس على نقد محاولة ويزاكر التفكير بنظرية تكون في الوقت نفسه هي
ذاتها ميتا نظريتها[40]،
أو في الخلط بين الموضوعية الذاتية والانعكاسية الذاتية[41].
لأنه كما يلاحظ، في منظور جعل التجاوزي طبيعيًا الذي هو منظور فون
ويزاكر، فإن الاختلاف بين صنع نظرية العارف، وتبيُّن الخلفية الشكلية
المفترضة مسبقًا بواسطة المعرفة في بنى النظرية، أمر غير ملحوظ أبدًا.
مع ذلك فإن الدافع الفلسفي وراء مثل هذا التمييز دافع معروف. ألم يشتك
مرلو بونتي
M. Merleau-Ponty
عند الذين يمارسون الفلسفة
الانعكاسية ميلهم للاعتقاد أننا خلال حياة تعاش وفق "الموقف الطبيعي"
"[...] لم نكن يومًا متيقّنين إلا من أفعالنا، [و] أن الإدراك كان
دائمًا فحصًا للفكر"[42]؟
إن المكافئ الفلسفي لفيزياء هذه الالتباسات التي يشتكي منها مرلو -
بونتي هو القول للفيزيائين، على طريقة فون ويزاكر إلى حدٍّ ما، إن
علمَهم كان دائمًا إسقاطًا ذاتيًا، وتفحُّصًا لفكرهم الخاص وأعمالهم
الخاصة، وهو ما يرفضونه بشدة محقِّين. بالمقابل، يمكننا وعلينا الإشارة
إلى الفيزيائيين الذين، خلال تقدُّمهم فيما يتعلَّق بما يعتبرونه موضوع
العلم، كشفوا عن غير قصد تقريبًا بنى صُيِّرَت موضوعية، ألا وهي
الصوريات، يمكن لفكر فلسفي ممارس أن يتعرف انطلاقًا منها وبشكل أكثر
فأكثر وضوحًا على الخلفية التجاوزية لمتتالية تاريخية من الممارسات
التجريبية المعايرة.
إن هذا الإجراء المطبق على الفيزياء ليس، في العمق، سوى التتمة
المنطقية للعمل الذي بدأ منذ نحو قرنين فيما يخص اللغة. ولنلاحظ في
الواقع تقابلية المسائل التي تطرح في هذه الحالة كما في الأخرى. وسيكون
من العبث الزعم أن اللغة تهدف إلى معرفة إمكانياتنا اللغوية الخاصة،
بقدر ما سيكون من العبث التأكيد أن هدف الفيزياء هو البنى التناسقية
المنطقية والإدراكية لمجتمع الفيزيائيين. غير أن نظرة فلسفية موجَّهة
نحو شكل واستخدام اللغة تسمح بالتعرف فيها على رواسب الافتراضات
المسبقة الأولية للفعل وللتواصل البين - ذاتي، كما على سبيل المثال
هوية الكيانات المسماة أو لاتغيُّر المحمولات تجاه الصفوف الواسعة جدًا
من تغيرات السياق (القرائن)؛ تمامًا كما أن نظرة فلسفية متجهة نحو
الفيزياء الكمومية تسمح بالتعرُّف فيها على الافتراضات الأولية المسبقة
لتوقُّع الظاهرات غير القابلة لفك سياقيتها. وبالانتقال من اللغة إلى
صورية النظريات الفيزيائية المتتالية، لم تقم نظرة الفيلسوف بالنتيجة
سوى بتحريك وتوسيع تحليله الانعكاسي الخاص، بتبيانه أن عددًا كبيرًا من
الافتراضات المسبقة المرتبطة باللغة العادية، التي اعتمدت في البداية
من قبل الفيزياء الكلاسيكية، قد استُبعدت فيما بعد واستُبدلت بافتراضات
مسبقة أكثر عمومية في الفيزياء الكمومية.
كان جيل - غاستون غرانجر
Gilles-Gaston Granger
يقول إن ما سمِّيناه بطريقة مبهمة بعض الشيء "النظرة الفلسفية" على
اللغة وعلى الفيزياء يعود إلى مقاربة ميتا - منهجية بالأحرى منها ميتا
- نظرية[43]؛
ويكمن الاختلاف في أن الميتا - منهجية، على عكس الميتا - نظرية، لا
تقوم سوى بالكشف عن البنى الخلفية للمنهج المستكشَف، بالأحرى من
اعتبارها كموضوع وجعل النظرية في مستوى ثان من هذا الموضوع - النظرية.
علينا بالتالي فهم مفهوم "التلاقي الانعكاسي" الذي استخدمته على أنه
يشكل جزءًا من تحليل ميتا - منهجي لتاريخ الفيزياء. وهو يندرج مثله مثل
نتائج تحليل ميتا - نظري، إنما وفق نمط مختلف، ضمن توجُّه استعادي بشكل
أساسي. إن بعض الانتقادات تجازف عندها بالإشارة إلى أنه يأتي متأخرًا
جدًا، مشابهًا في ذلك للمسيرة الفلسفية بكاملها. مع ذلك، إذا أخذنا
الدور المحرّك الذي لعبته الاعتبارات النقدية والتجاوزية خلال المرحلة
المركزية من الثورات في العلوم الفيزيائية، فإنه ليس ممنوعًا الاعتقاد
أنه يمكن لفكرة تلاق انعكاسي التدخل يومًا بشكل صريح في مشروع هذه
العلوم نفسه.
ترجمة: موسى الخوري
*** *** ***