|
قيم خالدة
على مرِّ التاريخ الإنساني، منذ أقدم العصور وإلى يومنا هذا، كان العرفان أصدق تعبير عن العلاقة الحقيقية بين الإنسان وبين ذلك السرُّ العظيم الذي يحتضنه والمتواجد في قلبه – أقصد ذاته الداخلية الخاصة أو الألوهة. على مرِّ التاريخ الإنساني، كان هناك أناس تفاعلوا مع الحياة بعمق أكبر من سواهم، فأقاموا مع ذواتهم ومع العالم المحيط علاقةً تكاد أن تقارب حدَّ الكمال. وقد توصَّل هؤلاء البشر العاديين والخارقين معًا، بعقولهم وبقلوبهم، إلى فهم أعمق لأنفسهم وللسرِّ الكبير لهذا العالم، فهمٍ سرعان ما انعكس على من حولهم عرفانًا ما زلنا نعيشه بأشكال مختلفة حتى يومنا هذا.
1. الحرية شرط الحياة
ولتحطم القيود، ولتكن حرًا يا بني. نفي العبودية الاستلابية للإنسان، وكسر القيود، والانطلاق نحو عوالم التحليق بالجسد والروح والعقل أهم محور في عقيدة العرفاء الكونين؛ فالحرية أهم محاور صناعة الإنسان والحياة، والحرية هي شرط الوجود وشرط الانتماء إلى الأحياء، فبدون الحرية سيكون كل شي حجاب ومانع عدمي. وفي عملية إزاحة موانع الحرية كالحجب والتراكمات التاريخية والأمراض النفسية قد تضيع المعتقدات وتتحطم الهويات والفراغ والخوف من التيه. لكن الحقيقة تقول، من خلال الاستمرار في الحياة وإزاحة كل هذا الخراب الوهمي والتاريخي المنغلق، يمكن أن تعثر على حريتك مدفونة تحت خرابك، وهذه أكبر كنوز الوجود والحياة والمعرفة. يقول الرومي: ما الذي يزعجني في أن يحل الخراب فيَّ إن كان تحت خرابي كنزٌ سلطاني؟
الصداقة ارتباطك بآخر على وجه التخصيص، وهي متبادلة في الصدق وموفورة المودة بلا منفعة في هذه الأرض. وهي سرٌّ، أي لا تعرف كيف حلت، وقد جاء في الأدب الفرنسي: هذا صديقي لأنه هو هو وأنا أنا. وهي متسعة للمحبة الإلهية عند الاثنين، وليس إلا شرط الفضيلة المستمرة عند الصديقين، وما فيها إلا الصدق، فهي تحمل قوة ديمومتها. بهذا المعنى وإن بدت ثنائية إلا ان الله، سميته أم لم تسمه، هو في وسطها ويعززها ويغذيها حتى يبلغ الاثنان بلورية كاملة. وهي قائمة في البشر لأن أحدًا منا لا يعيش في العزلة لكونه يحتاج إلى التكامل، إلى مشاركة تقويه فيلحظ أنه موجود ليس فقط بصفاته ولكن بصفات الآخر الذي يقويه. هي مشاركة حياة وتعاون. أنت تحتاج إلى أن يرعاك أحد وأن يقوِّيك ويصفيك ويقيمك من الموت الروحي إذا انتابك. هي إذًا قوة قيامية بسبب من الفرح وذاك الذي تتقبَّله. الفرح من الكيان الفصحي الكامن في كل إنسان.
يتمثَّل هذا البحث في تأمل ودراسة المقولتين التاليتين بوعي وحكمة: 1. مفهوم الحكم والسلطة. 2. ثقافة الحوار والتسامح. أولاً: مفهوم الحكم والسلطة عندما تُقحَم سياسة التسلُّط أو شهوة التحكُّم في إدارة الأمَّة على نحو ما تقتضي ضرورة تطبيق القيم الروحية والعقلية المستنيرة والمفاهيم السامية في نطاق سلطة تتميَّز بالحكمة والوعي، تتراجع المبادئ الروحية الماثلة في إيمان يعتمد علة تفسير الشريعة بظاهرها وباطنها، وتندحر القيم والمفاهيم الأخلاقية والاجتماعية التي تتأسَّس عليها الأمَّة، وتحياها وتحقِّقها في ظل سلطة أو حكم يسعى إلى تطبيق المبدأ الإلهي في عالم الأرض لكي يستعيد الإنسان تأسيس الفردوس الذي فقده وأضاعه يوم انحرف عن سبيل معرفة الحقيقة والحفاظ عليها.
24 تشرين الأول [1961] كان القمر موشكًا على الصعود فوق التلال، عالقًا في غيمة متلوية طويلة تضفي عليه هيئة خرافية. كان ضخمًا، يقزِّم التلال والأرض والمراعي الخضراء؛ الفضاء حيث يصعد كان أصفى، مع عدد أقل من الغيمات، لكنه سرعان ما توارى بين السحائب القاتمة المحملة بالمطر. ثم بدأت السماء تمطر رذاذًا وكانت الأرض مسرورة؛ إذ قلما يهطل المطر هنا وكل قطرة يُحسَب لها حساب. بوسع [شجرات] البَنْيان الكبيرة والتمر الهندي والمنگة أن تناضل للبقاء، أما صغار النباتات ومحصول الرز فكانت مبتهجة حتى بمطر شحيح. لسوء الحظ، حتى القطرات القليلة توقفت، والقمر الآن كان يسطع في سماء صافية. كان المطر يهطل غزيرًا على الساحل، لكنْ هنا، حيث الحاجة إليه ماسة، ترى السحائب المحملة بالمطر قد ولَّت. كان مساءً جميلاً، وكانت ثمة ظلالٌ داكنةُ القتامة ذات أشكال عديدة. كان القمر شديد البريق والظلال ساكنة للغاية، وأوراق الشجر، وقد اغتسلت، تتلألأ.
|
|
|