|
التحلي والتخلي عن الله: جلال الدين الرومي كونيًا
1. الحرية شرط الحياة
ولتحطم القيود، ولتكن حرًا يا بني٭. نفي العبودية الاستلابية للإنسان، وكسر القيود، والانطلاق نحو عوالم التحليق بالجسد والروح والعقل أهم محور في عقيدة العرفاء الكونين؛ فالحرية أهم محاور صناعة الإنسان والحياة، والحرية هي شرط الوجود وشرط الانتماء إلى الأحياء، فبدون الحرية سيكون كل شي حجاب ومانع عدمي. وفي عملية إزاحة موانع الحرية كالحجب والتراكمات التاريخية والأمراض النفسية قد تضيع المعتقدات وتتحطم الهويات والفراغ والخوف من التيه. لكن الحقيقة تقول، من خلال الاستمرار في الحياة وإزاحة كل هذا الخراب الوهمي والتاريخي المنغلق، يمكن أن تعثر على حريتك مدفونة تحت خرابك، وهذه أكبر كنوز الوجود والحياة والمعرفة. يقول الرومي: ما الذي يزعجني في أن يحل الخراب فيَّ إن كان تحت خرابي كنزٌ سلطاني؟٭ والحرية مفتاح الإبداع عند الرومي وكنزه السلطاني وبوابة العطاء والبناء الإنساني، لهذا سنحاول أن نكون أحرارًا في قراءة نصوص مولانا الرومي (30 سبتمبر 1207م، 17 ديسمبر 1273م) معلم الحب ومهندس ممالك العشق الكوني. وسنبين ما يمكن أن يقدمه للحياة المعاصرة بعد أكثر من 800 سنة مضت؟ وما هي ملامح هذا العطاء المعنوي الكبير؟ ولماذا يحافظ الرومي، كما يسمى في الغرب (مولانا الرومي)، على موقعه الإنساني والمعرفي والروحي، وفي معظم لغات العالم، وما زال يحيا في ضمائر الأفراد والمؤسسات والتجمعات الإنسانية وفي التكيات والمدارس؟ هذه القراءة هي محاولة لنبش خفايا عبارت مولانا الرومي، وما لم يصرح به بشكل واضح وبقي مستورًا بين السطور والأقوال. لهذا سنقوم بحفر بعض النصوص ونقدم منها ما يفيد حياتنا المعاصرة وما نحن بحاجة له ويساعدنا على تخفيف توحشنا وغربتنا وخوفنا من المجهول ووحشتنا من ضياع الحياة في متاهات الحروب المقدسة. 2. نفي الإثنينات قدَّم الرومي نماذج معرفية وسلوكية في مناهج تعتمد على بناء الذات الإنسانية وفق مبدأ العشق الإلهي والروحانية الكونية، وهو يعطينا درسًا كبيرًا في نفي كل الإثنينات الاستلابية لإنسانية الإنسان، والتي سجنت في مصطلحات العقائد والديانات وفق تصنيفات تاريخية مثل (المؤمن والكافر)، (المشرك والموحد). ويتعبر الرومي، في خصوص هذه التصنيفات، أن من التسافل الوجودي والإنساني أن نطلق على الإنسان تسميات تسلب غاية حضوره العشقي تحت عناوين عقائدية ودينية محلية، واعتبرها ظاهرة تاريخية طبيعية، فكل الأضداد والإثنينات تفنى في ذات الحقيقة الإلهية؛ فللإيمان والكفر أصل وروحانية واحدة، وهما من أصل وحقيقة واحدة تتكامل في ذات الخلق عبر الحق، وهو الله؛ فالمؤمن يمارس شوق إيمانه نحو الله، والكفر يقاوم هذا السحر والشوق تجاه الله؛ فكلاهما يطوفان في عالم الجذب والعشق الإلهي. وكذلك الجنة والنار، كلامهما مراتب لذاتية واحدة في حقيقة العشق، وممارسة الحب، وهما من العذوبة والعذاب؛ فمرة العذاب يمنح العذوبة التامة ومرة العذوبة تمنح العذاب التام، وكلاهما يدوران حول العطايا الإلهية من البياض والنقاوة، فالنار تسمى جنة البعد والجنة تسمى نار القرب، ولا قرب ولا بعد في الوصول إلى ذات المحبوب، ويسمى (فناء المراتب)، وهو النفي التام لكل إثنينة تحصر الإنسان في تراتبية استلابية لحضوره الرباني والإنساني. وهذه رسالة واضحة لكل الإنسانية في عدم الحكم على الإنسان تفصيلاً ومن خلال ظاهر مريض وهم استلابي مدون بتسميات تاريخية ودينية عامة. فالإنسان في تحولاته من القرب والبعد، والتيه والانفلات، يسعى إلى الوصول والتحقق في المعنى الإلهي والوجودي والإنساني الحق. وتأويل الرومي في نفي الأضداد في مقام الرؤية كي تحقق التوازن في رؤية الحق، كما بيَّنها النفري: (من لم يرني من وراء الأضداد لم يرني). فالتأويل لإزاحة المتنافيات والأضداد عند الرومي يمثل دعوة إلى إزاحة كل أنواع الكراهية والحقد والنظرة العدائية والتسلط الأعمى والاستحواذ على الكيانات والمعاني والعقد النفسية المتسلطة بتوارث العناوين مثل: المؤمن والكافر، والفاسق والفاجر، والصادق والكذاب، والمرتد والملحد والمشرك؛ وكلها تساهم في خراب الحياة وتنفي الحقيقة الإنسانية الكونية، فكل الحقائق ستصل في النهاية إلى المعنى الحق، والنهايات في عرف أهل الحق هي زمن الحياة الأزلية وولادة الكمال. 3. الموسيقى تقول أحبك أظهر ابن الرومي نماذج مدهشة للعشق الكوني والإلهي عبر ثلاثيته الطقسية والسلوكية المتمثلة في: الموسيقى، والغناء، والرقص. وجسَّدها بطقس رمزي وكوني كبير يعبر عن مراحل تكوين الاتحاد، ومراتبية الفناء للجسد والروح والنفس، وعلاقتهما بالطبيعة والحياة والكون؛ فالموسيقى كونها رسائل صوتية كونية تظهر شيفرات وأسرار الروح ورموز النفس وحنين الوجدان في عالم المعنى الإلهي. الموسيقى هي رسائل العشاق بأصوات الانقطاع عن الأصل والحنين إلى الاتصال والرجوع إلى حضرة الذات المقدسة التي يختفي فيها كل عنوان وتشخيص وتسمية. وإن الموسيقى، حسب تعبير الرومي، اللغة العابرة للأكوان والتي من خلالها تتحدث كل الكائنات الوجودية في تناغم وتناسق وانسجام وتفاهم، وتتفق على عهود التواصل لإصدار النغمات عشقًا للمحبوب الأول. الموسيقى العشقية والكونية الجاذبة لكل صوت ونغم وهمسة وحسرة ونفس متقطع، حسب تعبير الرومي، لم تتوقف لحظة واحدة في هذا الوجود؛ فلكل حقيقة إيقاعها الوجودي ونغماتها الكونية في هذا الكون اللامتناهي وفي تحولات أدوار الحياة عليه، وتطورها ونضوجها وفنائها ليس إلا عبارة عن معزوفات كونية هائلة وصوت واحد، وفي حال توقف الموسيقى الكونية عن العزف واطلاق أصواتها يحل العدم والظلام، فكل معزوفات الموسيقى تتجسد في كل الأحياء كحقائق وجودية وقيمية، وتري سريان المعنى الإلهي في الوجود ولا تفارقه أبدًا لأنهما أغنية واحدة في فم الوجود. عشق مولانا الرومي آلة الناي الموسيقية لأنها قصة وجودية حزينة ومؤلمة تشبة قصة الإنسان وحضوره على الأرض، وصوت الناي عبارة عن تأمل غريب يخترق العوالم. يقول الرومي:
اسمع الناي معربًا عن شكاته ويبعث الناي رسالة منغمة ومتناسقة الحضور تنادي العاشق للسعي في الفناء بمعشوقه لأنه خلاصه الأبدي، فخلاص المقطوعين من الجذور هو الفناء المطلق. وقد حاول الرومي أن يظهر من خلال الناي تأويله لرموز معرفية لها علاقة بالعاشق ورسائله إلى المعشوق منها: - الناي من خلال معزوفات يعبر عن إيصال رسالته لعالمه الذي قطع منه وحرم من الحياة مع من يحب فقطعوه وأحرقوه وثقبوه وأصبح كيانًا آخر، وابتعد عن أرضه ومائه وتنفسه، وعن كل حياته الخاصة، ومعزوفاته تمثل صراخه وصراعه وآلامه وحزنه الأبدي من أجل الرجوع إلى أصله. - هكذا حال الإنسان، كما يعبر عنه الرومي، الذي أنزل من عالمه الأزلي، وهو كان بقرب محبوبه وأصل وجوده السرمدي، إلى أرض الفناء والموت والخوف والتوحش، فهو يستخدم الموسيقى من أجل بعث رسائل إلى المحبوب أن يقبل رجوعه إلى الأصل والالتحاق بعالمه الأبدي والفناء بمحبوبه. - اعتبر الرومي أن كل صوت في هذا العالم هو رسالة إلى حقيقة ما، وأن اللغة والكلام والمعنى والمعرفة والوعي والحضور ليست إلا رسائل للكون والوجود والغيب من أجل الاتحاد والفناء والوصول إلى الحق، وأن كل اللغات هي ألم حضور الإنسان كي يعبر عن خشيته من البعد وتواصل التيه ومحاولة الالتحاق بالحقيقة المعشوقة الأولى وهي الله. ويقول الرومي، من خلال رسائله في الموسيقى، إن الرقص والدوران هما كمال الصوت الإلهي المقدس. حينما يتحد الجسد الراقص مع الموسيقى يتم التعبير عن عملية اكتمال ختم الرسائل ونثرها في هذا الكون؛ فالجسد يدور مثل أي كوكب حول شمس وجوده، وفي دوارنه تختفي سماته وملامحه وعناوينه، ولا ترى حدوده أبدًا إلا حضور نور الحق، ونار الخلق تلتف حوله وهو التعبير الحقيقي عن النور الأول للإنسان؛ فدوران الجسد مع الموسيقى هو اتحاد وفناء كل حقائق الإنسان ودروانها مع الكون في تناسق وتناغم كلي، لأنها أصل واحد، واطلاق صوت المنشد يعبرعن توحد الإيقاع وبث ولادة وتجديد المعاني والأسرار والحقائق في هذا الكون. كل هذه الفعاليات المقصودة بعناية تعبر عن احتفالية كبرى لتوزيع رسائل الحب والوصال والمعرفة والرغبة في الخلود لكل الوجود من خلال توزيع العاشق رسالته الكونية في كلمة واحدة فقط وهي: "أحبك في كل كون". وينتهي الطقس، ويبدأ الإنسان والكون من جديد، في كل يوم يكتب الرسالة "أحبك" نفسها بلذة جديدة لأنها تتجدد كل لحظة من خلال رقصته وموسيقاه واهتزاز جسده ورعشة حضوره الإنساني حتى الرجوع إلى الأصل الأول. ويمكن التعبير عن اتحاد وفناء تكوينات الرومي فيما يلي: الموسيقى والناي + فناء الكون ورسائل الإنسان من أجل الالتحاق بالأصل = "الموسيقى لغة الله". رقص الجسد ودورانه + فناء الحي في رعشة الوجود ودوارنهما نحو مركز الكون وركوب طائر الحب نحو المحبوب = موسيقى الإنسان "لغة الحب". الغناء + أسرار اللغات والأصوات والحركات والرموز وإزاحة الهواء = رسائل الوجود. وكل هذا الطقس = كلمة "أحبك" تمر وتتصل بـ(بالوجود)، بـ(الإنسان)، بـ(العالم)، بـ(الكون). وتعشق كل هذه الحقائق من أجل الوصول إلى المعشوق الأول "الله". فلا يمكن للعاشق إلا أن يمر بعشق كل شي في الكون، وإلا لن يصل إلى عنوان الحبيب الأول، وهي دعوة إلى المحبة وعشق الحياة والإنسان تتجلى بأمثل صورها عند الرومي العاشق الذي يريد أن يدعو الإنسان إلى إمساك هذه اللحظة الروحية المقدسة فقط، هي لحظة العشق إن ضيعها تحول إلى وحش. وهذه اللحظة الكونية والوجودية مودعة في خزانة القلب "بيت الله"، والتي يقول فيها الرومي:
خذ هذه اللحظة إلى قلبك فاللحظة الكونية هي كل هذا العشق والانتماء الكوني وحضور الذات، إن ضيعتها ضاع منك الإنسان. 4. من هو إنسان الرومي؟ بعث مملكة العشق الكوني للرومي أكبر الرسائل للعالم في ممارسة الحب وتداوله، كونه حقيقة الكون والطبيعة والحياة والإنسان والعالم، ومن دونه يتحطم كل شيء، ويتوحش كل العالم، وتتوقف الحياة عن العطاء، وهو يقول: ما كانت السماء لتصفو، لو لم تكن في حالة عشق. وما كان النهر ليجري، ولصمت، إن لم يكن في حالة عشق. وما كان لشيء أن ينمو، لو لم تكن الجبال والأرض في حالة عشق. فالعشق، كما وضحنا، لا بدَّ أن يمر في كل شيء حتى يصل إلى المحبوب الأول. فالحب هو المركز الكوني لكل أشكال الحياة، وهذا يعبر عنه في طقوس سلوكية ابتكرها الرومي: (الرقص، والغناء، والموسيقى الكونية)، ليقوم بأكبر عملية صوفية في تطوير وتنقية الذائقة الوجدانية، واستخدام كل ملكات الإنسان وقدراته المادية والمعنوية، كالحواس والمشاعر والمعاني والوجدان، وصياغتها في فناءات مختلفة معبرة عن حبها للحياة والذات والطبيعة والرب والوجود والكون. ويتميز الرومي في صناعة أكثر من فناء، فلكل (مقام فنائه الخاص) حتى الوصول إلى الفناء الكوني الشامل مرورًا بكل شيء، وأهمها الإنسان كونه مركز وجودي وكوني مهم، وصولاً إلى التلاشي بتجرد مطلق لا يحده حد ولا يسعه مكان ولا يستولي عليه زمان ويدور معه في كل الوجود، ففي مثنويته يقول:
جاء الحب وهنا يعبر الرومي عن مقام التجرُّد التام من كل تعلقات الجسد والروح والعقل والنفس، والتحقق في الـ"هو" للوصول إلى مقام الذات الإلهية، ولكنه لا يريد مغادرة عذوبة القلب وعوالمه؛ فالقلب يعتبر مكتب بريد ومحطة الاتصال بكل العوالم؛ فهو سكن الحقائق الإلهية؛ وهو الطريق الذي يؤدي إلى المحبوب. يقول الرومي: لتحرق كل شيء أملكه إلا قلبي لأنك تسكن فيه. فلا تنطفئ نار العشق في القلب، ولا يختفي لهب العشق، لأنه في النهاية يحترق كل شيء لأنه الفناء في المحبوب؛ هو السكن الأزلي الدائم والتلاشي التام. يقول: الحب هو ذاك اللهب الذي عندما يتأجج يحرق كلَّ شيء، ولا يبقى ثمة إلا الله. من كل هذه العقيدة العشقية التي عند الرومي نتعلَّم حبَّ الإنسان، وحبَّ العالم والحياة والطبيعة، وتحطيم حدود العقائد، وطرد كل العقد النفسية والسلوكية من قلب الإنسان، فهذا منهج الحب الإلهي الذي يفتح آفاق الروح الإنسانية ليحطم حدود الأديان؛ فالمحبوب واحد وإن تعددت أشكاله، وحصره في اسم ورسم وشريعه هو إعلان موته الأبدي. لهذا دعى الرومي للكل أن يأتوه بالحب فقط لأنه لغة الله. يقول: تعالَ وكلمني، ولا يهم من أنت، ولا إلى أي طريقة تنتمي، ولا من هو أستاذك، تعال لنتكلم عن الله. هذه دعوة إلى تدمير الهويات والعناوين، فالهدف هو الكلام عن الله، وفي الحديث عن الله تختفي الحدود وتسقط العناوين وتهرب التسميات، فالدعوة التي يطقلها الرومي للكلام عن الله هي دعوه تتجاوز الأديان كلها. يقول: أيها المسلمون! ليت شعري ما التدبير؟ أنا لا أدري من أنا! فلا أنا مسيحي ولا يهودي ولا زرادشتي ولا مسلم. فاختفاء المعرفة الدينية وسقوط حدود التسميات واجب في حضرة المحبوب الذي لا يحتاج الوسائط بكل أنواعها والمنقولات التاريخية بكل سلطاتها، فهو يستغرب من كيفية نقل الأخبار عن الله في الشريعة الظاهرة، فيقول: أما مِن أحد منكم ينطق بخبر فيه: "حدثني عن ربِّي"؟! وهذه المقولة تكررت في كل مدارس التصوف والعرفان في اتهام أهل الظاهر بأن معارفهم يأخذونها ميت عن ميت، وعلوم أهل التصوف يأخذونها من الحي الذي لا يموت. فيمكن أن نقول عما يريد أن يطلقه الرومي حول الإنسان إنه معزوفة الله في هذا الكون، وإن الإنسان عند الرومي مركز وجودي لا يمكن للعشاق إلا أن يمروا به ويعشقوه حقًا وإلا سيكون عشقهم خدعة وزيف متسرب من العدم؛ فحب الإنسان والحياة عنوان الحب الإلهي في الكون. 5. أسرار التخلي والتحلي عند الرومي التخلي والتحلي تعتبر من مقامات التصوف والعرفان، بل هي إحدى المراكز الجوهرية في التطبيق السلوكي لدى أهل الطريق الصوفي، وتمثل بشكل بسيط التخلي عن كل الذنوب بعد إعلان التوبة، والتخلص من كل الآثام والصفات الذميمة، وكذلك التخلص من الحجب الظلمانية والستائر المادية والكدورات المتبقية في ذاكرة السالك كمتعلقات الأمراض المعنوية والمادية الكثيفة وصولاً إلى انجاز شفافية مادية وطراوة روحية للإنسان السالك، وإحلال الصفات الحميدة، وتهذيب الأخلاق، وتنظيف النفس، وتطهير القلب حتى بلوغ روحانية نقية وصافية. وهذه المدارات السلوكية تختلف من طريقة إلى أخرى إلا أنها تتفق في مساراتها العامة. وقراءة الرومي المعلم لكل مناهج السلوك والعرفان أضافت لها المزيد، وفتحت آفاقًا في أكبر عملية أنسنة معرفية وسلوكية، وتطابق نماذج كل الكون والطبيعة والحياة والإنسان عبر شبكة متصلة ومتواصلة من الكونية، وترابطها بشبكة كبرى من تسليم واستلام رسائل الحب، وفي تناغم وجداني هائل؛ وهي نتيجة نستخلصها من رحلة الرومي في كونية فعلية مرتبطة بأنسنة الحياة على كل شي في هذا الوجود، وتوحيدها في العشق الإلهي. وفي ما يلي اختصار لأنساق التخلي والتحلي بتنزلات الإنسان في التجلي الإلهي، وظهورات الله في أشكال الوجود وفق قراءتي لرحلة مولانا الرومي في تحققات الإنسان والله: - التخلي عن الإنسان المستهلك من أجل التحلي بالإنسان العاشق. - التخلي عن الإنسان مريض العقل من أجل التحلي بالإنسان متعافي الروح. - التخلي عن الإنسان العنيف والعسكري من أجل التحلي بإنسان مسالم ومدني. - التخلي عن الإنسان الكاره لكل شيء من أجل التحلي بإنسان محب كل شي. - التخلي عن الإنسان عابد الله في النصوص من أجل التحلي بإنسان متكامل الحضور وحر. - التخلي عن الإنسان الذي يكفِّر حتى نفسه من أجل التحلي بإنسان يتعايش مع الجميع. - التخلي عن الإنسان الأناني المحدود بالهويات من أجل التحلي بإنسان حر ومبدع. - وأخيرًا التخلي عن الإنسان المحلي المنغلق من أجل التحلي بالإنسان الكوني. وأخيرًا تتم وتتكامل عملية التخلي والتحلي على تشكلات الاسم الجامع "الله"، واستخدامه في اثبات ونفي ذاته عن أي تعلق: - التخلي عن الله الظاهر من أجل التحلي بالله الباطن. - التخلي عن الله الميت وطرق الوصول إليه بالتوحش والأضاحي والتحلي بالله الحي وطرق الوصول إليه بالحياة والعطاء. - التخلي عن الله وتجارة الغيب والتحلي بالله والعطاء بلا شرط. - التخلي عن الله المعنون لشعب ما والتحلي بالله الذي هو من أجل الجميع. - التخلي عن الله العسكري من أجل التحلي بالله المدني. - التخلي عن الله الوهمي والصنمي من أجل التحلي بالله الحقيقي والمحبوب الأول. - التخلي عن الله المحلي المحدود من أجل التحلي بالله الحر والفعال. - التخلي عن الله في الخيال التسافلي من أجل التحلي بالله في الخيال الخلاق. - التخلي عن الله القهاري من أجل التحلي بالله الجمالي. - التخلي عن الله المستلط والسيد الانتقامي من أجل التحلي بالله العشقي والمتسامح والمطلق الحر. - التخلي عن الله الديني من أجل الله الكوني. - ومن ثم، التخلي عن كل هذه التسميات من أجل التحلي بالحب الكوني الأسمى. أخيرًا جسَّدت مدرسة الرومي، كونها مملكة عشقية متكاملة الحضور، تقديم أكبر غذاء وجداني وروحي للإنسان وفي كل زمان ومكان. ويمكن تلخيص أهم النقاط المحورية لمدرسة الرومي وما يمكن أن نستفيد منها على صعيد سلوكنا الكوني والإنساني والحياتي في هذا العالم الذي ينتشر فيه العنف باسم الله والدين تارة وباسم الإنسان والحضارة تارة أخرى: 1. قدَّم الرومي رسائل ذوقية وتربوية سلوكية في استخدام ثلاثية الموسيقى والإنشاد والرقص، وهي عناصر تدخل لأول مرة، بشكل متكامل ومنظم ووفق منهجية معرفية وتحمل قيم رمزية وذوقية متطورة، في الدين الإسلامي. وهي رسالة واضحة في تحديث واستثمار الإبداع الإنساني واستخدامه من أجل كسر جمود الأديان وتحجر وسائل اتصالها مع الغيب. 2. الدعوة إلى التجرد من ثقل العناوين والأديان والهويات والتسميات الدينية وغيرها في حضرة المحبوب كعنوان كوني لكل إنسان. وهي دعوة تعلن عن موت الأديان إذا تحولت وهمًا كبيرًا وحجابًا بين العاشق ومعشوقه. 3. فتح أبوب التأويل العميق، وتجديد قراءة الكتب المقدسة والأحاديث النبوية، وبناء منهاج عشقي إنساني، وتوفير مناخات لمدارس الحب والتسامح والأخوة الكونية. 4. السعي إلى تطوير الذائقة الدينية وتجديد قنوات الاتصال مع الحياة بما يتلائم مع مبادئ السلام العالمية، ونبذ العنف والحرب والتوحش والتدمير للطبيعة والحياة والإنسان والعالم. 5. تأسيس الدعوة للحب الكوني، على اعتبار أنه من خلال الإنسان تمر كل رسائل الحب للسماء والحياة. 6. احترام التعليم والمعلم كقيمة أخلاقية معرفية وتربوية وتجلٍّ إلهي كامل في الحياة، واعتبار المعلم سببًا مهمًا في موت الجهل وولادة النور الذي يزيح ظلمات العقل والنفس والروح، ومثله الرومي من خلال عشقه لمعلمه الإلهي حافظ الشيرازي، وقد كتب عنه أشعاره العشقية في شمس تبريز. ويمكن تسمية هذا الحب من أعظم ما مر في تاريخ الإنسانية. 7. اعتمدت معارف جلال الدين الرومي على نفي الثنائيات والأضداد الوجودية كالإيمان والكفر، الشريعة والطريقة، شكلانية الخطايا، الحب والكره، الموت والحياة، والألم واللذة، بل اعتبرهما حقائق كونية وعشقية، وعذوبة كلية تقربك من قصدك الأول ومن كمالك الأزلي. 8. تواصلت مدرسة الرومي العشقية في الحياة على يدي طلابه، وفتحت كتبه وأشعاره وخطاباته آفاقًا كبيرة في العالم. وكم نحن اليوم في حاجة إلى مثل مناخات وأجواء وحقائق الرومي كي يعلمنا سلوك الحب والعشق والتآخي والمحبة، ونبذ العنف والتكفير والتدمير للحياة والطبيعة والإنسان، والسعي نحو عشق كوني خالص، ونشر رسالة الكونية من خلال حقيقة وكلمة واحدة نغنيها نحن دائمًا بلذة الكون الأبدي هي: (أحبك) لكل كائن في الوجود. ٭ من ترجمة الشاعر محمد الفراتي، والقصيدة مأخوذة من الجزء الأول والثاني من (مثنوي) الذي ترجمه عن الفارسية وجاء في ستة مجلدات. ٭ في أحاديث مولانا جلال الدين الرومي، ترجمة د. عيسى علي، دار الفكر، بيروت. [1] أي الابتعاد عن الأصل والصحابة. يرى الرومي أن أصل الإنسان من حقيقة الربوبية الكامنة في جوهر الوجود. والعمل على الرجوع إلى الحقيقة الأولى مهمة الإنسان للتكامل الأكبر والحضور الأمثل في حضرة القرب الإلهي. [2] مفارقة الإنسان لأصله الأزلي بجوار ملكوت أنوار ربه.
|
|
|